فلاسفة أثينا
(١) سقراط
-
(أ)
حياته.
-
(ب)
مبادئه.
-
(جـ)
موجز الاستنتاجات.
(أ) حياة سقراط
(١) تاريخ ومكان الميلاد
وُلِد سقراط في أثينا عام ٤٦٩ق.م. من أب يُدعى سوفرونيسكس، ويعمل نحاتًا، وأم تُدعى فايناريت وتعمل قابلة.
لا نعرف عن حياته الباكرة سوى النزر اليسير جدًّا، وإن قيل إنه نشأ على مهنة أبيه، ولم يقل عن نفسه فقط إنه تلميذ بروديكوس وأبازيا (وهي عبارة توحي بأنه ربما تعلم منهما الموسيقى والهندسة والرياضيات)، وإنما قال — أيضًا — إنه فيلسوف علَّم نفسه بنفسه، حسب ما قاله أكزينوفون في المائدة. وتبدو حياته، حتى سن الأربعين، فارغة تمامًا، ولا شيء يميزها. ولعل أول ذكر له جاء عندما كان يعمل جنديًّا عاديًّا أثناء حصار مدينتي بوتيداي ودليوم، فيما بين عامي ٤٣٢، ٤٢٩ق.م. (انظر [٦٠]، المقدمة، ص١٥، بقلم إف جي شيرش).
(٢) شخصيته ومكانته الاقتصادية
لم يقبل سقراط تلقي مصروفات مقابل تعليمه للناس، واشتد به الفقر حتى إن زوجته — خانتيب — اشتد بها الضيق بسبب سوء الأوضاع المنزلية.
اعتقد أنه ممسوس، أي تلبَّسه كيان إلهي؛ حيث ظن أن ثمة صوتًا إلهيًّا يوحي إليه بالمشورة والهداية إذا ألمَّت به — في حياته — أزمة شديدة الوطأة (انظر [۳]، ص۷۸-٧٩؛ [١٩]):
(٣) إدانته وموته عام ٣٩٩ق.م.
بعد الأحاديث المألوفة للمدعين ضده (ميليتوس وأنيتوس وليكون) أتبعها سقراط بدفاعه. وعند ختام كلمته صوَّت القضاء بنسبة ٢٨١ ضده مقابل ۲۲۰، وصدر ضده حكم بالإعدام.
وقال كلمة وداع أخيرة خاطب بها كلًّا ممن صوتوا ضده أو صوتوا معه، وبالنسبة للفريق الأول عنَّفهم في كلمته؛ إذ تنبأ بأن الشر سوف يحل بهم بسبب جريمتهم ضده إذ أدانوه.
وبالنسبة للفريق الآخر لم يكتفِ بمواساتهم حين أكد لهم أن الشر لا يمس إنسانًا خيِّرًا، سواء في حياته أو في مماته، بل عبَّر لهم عن رأيه في الخلود؛ إذ قال: «الموت نوم، قد يكون نومًا أبديًّا، أو نومًا بغير أحلام؛ حيث ينعدم الإحساس تمامًا، أو أنه رحلة إلى عالم آخر أفضل؛ حيث مشاهير الزمن السالف.» وأيًّا كان أحد البديلين هو الصادق؛ فإن الموت ليس شرًّا بل خيرًا؛ إن موته إرادة الآلهة، وهو راضٍ بذلك» (انظر [۱۹]، فصل ٢٥–٢٨).
وتأجل إعدامه بسبب احتفال ديني للدولة؛ ومن ثَم بقي في سجنه ثلاثين يومًا.
ورُوي أنه خلال هذه الفترة زاره أصدقاؤه ممن يمثِّلون الدائرة الضيقة، كما زارته زوجته خانتيب، وكانت هذه هي الفرصة التي أدلى فيها بخطابه عن خلود النفس؛ مثلما كانت فرصة للهرب من الموت لو أراد؛ ذلك أن أصدقاءه زاروه قبل انبلاج الصبح، وعرضوا عليه إطلاق سراحه، بَيْدَ أنه رفض العرض، وبناءً عليه تجرع سقراط السم، ولقي حتفه ([۳۸]؛ [٥٢]، ف٤، ص۸، ۲).
(٤) حساب كريتو
رُوي أنه، في الليلة السابقة على إعدام سقراط، وبينما كان في السجن، ناشده كريتو مناشدة أخيرة، باسم رفاقه الزائرين، بأن يسمح لهم بتأمين هربه، وقال ما يلي:
عزيزي سقراط، أتوسل إليك، للمرة الأخيرة، أن تنصت إلى كلماتي وتنقذ نفسك؛ ذلك أن موتك سيكون بالنسبة لي أكثر من كارثة؛ لن يقتصر الأمر على أن أفقد صديقًا لن أجد مثله أبدًا، بل سأفقد أشخاصًا كثيرين لا يعرفون كلينا، أنت وأنا، معرفة جيدة؛ إذ سيظنون أن كان بإمكاني أن أنقذك لو رضيت أن أنفق بعض المال، ولكنني تغافلت عن ذلك. وأي صفة أدعى إلى الشعور بالعار من صفة الحرص على المال أكثر من الحرص على الأصدقاء؟ لن يصدق العالم — أبدًا — أننا كنا متلهفين من أجل إنقاذك، ولكنك — أنت نفسك — الذي أبيت الهرب.
قل لي يا سقراط، يقينًا، إنك لست قلقًا عليَّ وعلى أصدقائك الآخرين، وإنك خائف — تحسبًا — من أنك إذا ما هربت سيقول الواشون إننا فررنا بك خلسة؛ وبذا نقع في مشكلة، ونورط أنفسنا في نفقات تفوق الطاقة، أو ربما نفقد كل ما نملك، وربما نقع تحت طائلة المزيد من العقاب؟ إذا كانت تساورك أي مخاوف من هذا النوع اطردها من ذهنك.
ذلك لأننا ملتزمون بأن نخاطر هذه المخاطر، بل وأن نعرض أنفسنا لمخاطر أشد عند الضرورة من أجل إنقاذك، لهذا أتوسل إليك بألا ترفض الإنصات إلى كلامي.
وهنا أجاب سقراط: «إنني قلق لهذا يا كريتو، ولما هو أكثر من هذا .»
وواصل كريتو مناشدته، قائلًا: «إذن لا تخش من هذه الناحية؛ هناك رجال، ودون مبالغ من المال مرهقة، على استعداد لإخراجك من السجن آمنًا. ثم إن هؤلاء الوشاة، كما تعرف، يمكن شراؤهم بثمن زهيد، ولن تكون هناك حاجة لإنفاق مبالغ طائلة عليهم.»
«إن ثروتي تحت أمرك، وأحسب أنها كافية، وإذا كانت في نفسك غضاضة من أن تستخدم أموالي؛ فإن في أثينا غرباء نعرفهم، وعلى استعداد لاستخدام أموالهم، ومن بينهم سيمياس الطيبي، الذي أحضر — بالفعل — مالًا كافيًا لهذا الغرض، ثم إن سيبيس — وآخرين كثيرين — على استعداد أيضًا.
لهذا أكرر: لا تتردد عن إنقاذ نفسك، بناء على هذا الأساس.
ولا تدع ما قلته في المحكمة (من أنك لو ذهبت إلى المنفى فإنك لا تدري ماذا عساك أن تفعل بنفسك) يقف حائلًا في طريقك: ذلك لأن هناك أماكن كثيرة يمكنك الذهاب إليها، وتكون موضع ترحيب.»
إذا اخترت الذهاب إلى ثيسالي فإن لي أصدقاء هناك سوف يقدمون لك الكثير، وسوف يحمونك من أي مضايقات من أهل ثيسالي.
«فكر مليًّا يا سقراط قبل فوات الأوان، لا بد وأن نحسم أمرنا، وليست هناك سوى خطة واحدة هي الممكنة، كل شيء لا بد وأن يتم الليلة، إذا تأخرنا أكثر فقد ضاع كل شيء.»
«آه يا سقراط، أتضرع إليك ألا ترفض الإصغاء إلى كلماتي» (انظر [٦١]، ف٣، ٥).
(٤) رواية فيدو عن المشهد الأخير قبيل وفاة سقراط
وفي إجابة على سؤال آخر من أشيكراتيس أجاب فيدو قائلًا: سأحاول أن أروي لك القصة كاملة:
على مدى الأيام السابقة، اعتدت — أنا وآخرين — أن نلتقي — دائمًا، كل صباح — في المحكمة، حيث تنعقد المحاكمة، قريبًا من السجن، ثم ندخل حيث يوجد سقراط .
واعتدنا الانتظار — كل صباح — نقضي وقتنا في الحديث إلى أن يُفتَح باب السجن الذي لم يكن يُفتَح باكرًا. وما أن يُفتَح باب السجن حتى نتجه إلى سقراط ونقضي سحابة النهار معه.
ولكننا، في ذلك اليوم الموعود، التقينا مبكرًا عن المألوف لأننا علمنا عشية هذا اليوم ونحن نغادر السجن أن السفينة قد وصلت من ديلوس. لهذا رتَّبنا أمورنا على أن نلتقي مبكرًا جدًّا قدر المستطاع، وما إن بلغنا — في الصباح التالي — باب السجن حتى خرج إلينا حارس البوابة، الذي كان من المعتاد أن يسمح لنا بالدخول فورًا، ولكنه — هذه المرة — أمهلنا، ورجانا الانتظار قليلًا، وألا ندخل إلا حين يدعونا هو بنفسه، ذلك لأن مجموعة الأحد عشر تفك قيود سقراط، وتعطيه توجيهات قبل إعدامه. ولم يمضِ طويل وقت حتى عاد إلينا، وطلب منا الدخول، وهكذا دخلنا ورأينا سقراط وقد تحرَّر من القيود، وعندما رأتنا خانتيب ولولت، وصاحت بطريقتها النسائية:
«هذه هي المرة الأخيرة يا سقراط التي ستتكلم فيها يا سقراط مع أصدقائك أو يتكلمون هم معك.» ورمق سقراط كريتو بنظرة، وقال له: «كريتو، دعهم يأخذونها إلى البيت» ولهذا قادها بعض خدم كريتو وخرجوا بها وهي تنتحب بمرارة وتلطم صدرها بيديها … وما إن قاربت الشمس المغيب حتى اقترب خدم فريق الأحد عشر وودَّعوا سقراط وأعطوه تعليماتهم بشأن كيفية تجرع السم، ثم ناولوه السم، أمسك سقراط الكأس وتجرع السم بوجه باش، وسار على قدميه خطوات إلى أن خانتاه، وأحس بهما ثقيلتين. وحين رقد على الأرض أبلغ كريتو آخر رجاء له في كلماته التالية «أنا مدين لأسكليبوس بديك فلا تنس أن تسدده له، وعند ذلك كان السم قد سرى في جسده، وأحدث مفعوله ولفظ أنفاسه» (انظر [۳۸]، ف٦، ٦٥).
(ب) مبادئ سقراط
(١) مبدأ العقل الكلي Nous أو العلة العقلانية لتفسير الله والخلق، منسوب إليه القول بالمسلَّمة الغائية
كل ما هو موجود، ولغرض مفيد هو من نتاج عقل (انظر [٥٢]،۱،٤؛ [۳]، ص۸۳).
(٢) مبدأ الخير الأقصى
الخير الأقصى يتكافأ مع كل من السعادة والمعرفة. وليس هذا فقط رهن الظروف الخارجية وعوارض الحظ، وإنما هو رفاه رهن سلوك حسن. إنه تحقُّق وضع يغدو فيه الإنسان شبيهًا بالإله، عن طريق إنكار ذاتي للمتطلبات الخارجية ومع تثقيف العقل؛ ذلك لأن السعادة لا تتحصل بواسطة الموجودات الفانية في العالم الآخر، بل من خلال الموجودات الباقية والمعمرة في داخل نفوسنا (انظر [٥٢]، ۱، ٥، ٤؛ [۳]، ص۸۳).
(٣) مبدأ الأضداد والتناغم
-
(أ)
الفردي والزوجي عنصرا الأعداد. أحدهما محدود، والآخر غير محدود، والوحدة نتاج كليهما الزوجي والفردي، ومن ثَم فإن الكون قوامه أضداد: المتناهي أو اللامتناهي، الذكر والأنثى، الفردي والزوجي، اليسار واليمين.
-
(ب)
التناغم هو وحدة الأضداد.
(انظر [۳۸]، ف١٥؛ [۳] ص٤٧،٤١؛ [٢]، ص٦١).
(٤) مبادئ سقراط عن النفس
-
(أ)
خلود النفس.
-
(ب)
تناسخ النفس.
-
(جـ)
خلاص النفس.
غرض الفلسفة خلاص النفس، والذي تغتذي به على الحقيقة التي هي من جنس طبيعتها الإلهية، وبذا تهرب من عجلة إعادة الميلاد، وتبلغ في النهاية الوحدة مع الله. (انظر [۲]، ص٥٠–٥٦؛ [٤]، ص۲۹، ٦٠؛ [٣] ص٤١، ٤٨).
-
(د)
البدن مقبرة النفس.
-
(هـ)
طموحات النفس.
ثم مملكة للحقيقة الصادقة التي تعلو على عالم الحس، وهذا هو ما تطمح إليه النفس.
(٥) مبدأ معرفة الذات
معرفة النفس أساس المعرفة الحقة، اشترطت نظم الأسرار المصرية — كخطوة أولى — التحكم في الانفعالات؛ لأن هذا يتيح مجالًا لهيمنة القوى غير المحدودة. ومن ثَم فإن الخطوة التالية مطالبة المريد المبتدئ بالبحث داخل ذاته عن القوى التي كانت مستحوذة عليه. واعتاد المصريون القدماء أن يكتبوا على جدران معابدهم عبارة «أيها الإنسان اعرف نفسك» (انظر [۲]، ص١٠٥؛ [٦٢]، ص۲۰۳).
(٦) التنجيم والجيولوجيا
ساد شك بأن سقراط اشتغل — أيضًا — بدراسة التنجيم والجيولوجيا، وأنه كان معلمًا يعلم هذه الموضوعات، ذلك لأنه، في دفاعه أمام قضاة أثينا، قرر أن أشدَّ متهميه هولًا حاولوا إقناعهم بأكاذيب، تقول إن سقراط، الرجل الحكيم، كان يرجم بالغيب بشأن السموات وأشياء في باطن الأرض، وأنه قادر على أن يجعل أسوأ الحجج تبدو وكأنها الأفضل (انظر [۱۹]، ف۲).
وتأكد هذا الشك أكثر بسبب الاتهام الموجه ضد سقراط، ونصُّه كما يلي: ميليتوس، ابن ميليتوس، من حي بيتيس، بعد أن حلف اليمين يوجه الاتهام التالي ضد سقراط بن سوفرونيسكس من أبناء حي ألوبيكي.
«ارتكب سقراط جريمة عدم الإيمان بآلهة المدينة، وإدخال آلهة جديدة، واقترف — أيضًا — جريمة إفساد الشباب؛ العقوبة هي الإعدام» (انظر [۱۹]، ف٢٤، ۱۸، ۱۹). وهناك أيضًا مصدر ثالث تولَّد عنه الشك في أن سقراط اشتغل، كذلك، بالتنجيم والجيولوجيا، ونعني به الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها له أرستوفان في ملهاته «السحاب»، وهي كالآتي:
«سقراط ناسك بائس يتحدث كثيرًا عن الطبيعيات حديثًا باطلًا وهراء مسليًا، ويعلن أن زيوس أقيل عن العرش، وأن هناك دورة تناوب بدلًا منه، وأن الآلهة الجدد هم الهواء الذي يحتفظ بالأرض معلقة والتراب والسحاب واللسان.»
موجز الاستنتاجات
(١) حياة سقراط وشخصيته
هناك ملابستان في حياة سقراط يلزم الالتفات إليهما:
-
(أ)
قيل إنه لم يكن معروفًا — البتة — حتى بلغ الأربعين من عمره.
-
(ب)
أنه عاش حياة الفقر.
هاتان الملابستان تشيران إلى السرية في التثقيف، وإلى الفقر كشرطين في حياته، وهما يتطابقان مع متطلبات نظام الأسرار المصري ومدارسه السرية، سواء على أرض مصر أم في الخارج. وهو نظام يستلزم أخذ عهد على جميع المبتدئين والمريدين بالسرية والفقر. والمعروف أن جميع الطامحين إلى الالتحاق بنظم الأسرار كانوا يتلقَّون تثقيفًا وإعدادًا تكتنفها السرية، ولم يكن سقراط استثناءً من هذا، وأنه الوحيد — من بين فلاسفة أثينا الثلاثة — الجدير بلقب المعلم البناء حقًّا. هذا بينما اتسم أفلاطون بالجبن الشديد، وأرسطو أشد منه جبنًا. والمعروف أنه عند إعدام سقراط لاذ أفلاطون بالفرار إلى ميجارا حيث بيت إقليدس؛ ولاذ أرسطو — أيضًا — بالفرار إثر اتهامه، واتخذ لنفسه منفى في كالكيس (انظر [٦٤]، ك٥، ف۷، ۹؛ [۳۲] إيزيس وأوزيريس ف۹–۱۱؛ [۱۹]، ف۸؛ [۳۸]، ف۱۰، ۱۳، ۳۲، ٦٣).
(٢) المبادئ
(أ) مبدأ العقل الكلي Nous أو العلة العاقلة
بالإشارة إلى هذا المبدأ نجد أنه منسوب أيضًا إلى أناكساجوراس، الذي قيل إنه عاش فيما بين عامي ٥٠٠ و٤٣٠.ق.م. ومن ثَم كان سابقًا على سقراط (٤٦٩–۳۹۹ق.م.) في الدعوة إليه (انظر [٣]، ص٦٣–۸۲).
ثانيًا: إن مزيدًا من الفحص يوضح لنا أن مبدأ العقل الكلي هو استدلال مباشر عن مبدأ المعرفة المنسوب إلى ديمقريطس (٤٦٠–٣٦٠ق.م.)، والذي يُعزى إليه أنه قرر أن الذرات النارية موزعة في كل أنحاء الكون، وأن العقل مؤلف من ذرات نارية.
وبذلك يمكن أن نستنتج:
-
(أ)
أن العقل يملأ الكون، أو موزع في كل أنحاء الكون.
-
(ب)
حيث إن الأشباه تتجاذب إلى بعضها؛ فإن العقل في الكون لا بد وأنه نتج عن عقل هو مصدره (انظر [۳]، ص٦٨؛ [٢]، ص۸۰).
(ب) مبدأ الخير الأسمى
مبدأ الخير الأسمى هو — بالمثل — مبدأ قديم جدًّا، يعود بنا إلى نظم الأسرار المصرية القديمة. إنه، حسب الصورة المبينة في كتب الفلسفة اليونانية، وكذلك على لسان سقراط، يمثِّل جزءًا من المبدأ الأصلي، ومن ثَم يُعَد مفهومًا خاطئًا عن هذا المبدأ. إننا حين نقول إن الخير الأسمى هو السعادة، والسعادة هي الرفاه، والرفاه هو المعرفة، والمعرفة هي الفضيلة، فهذا هو عين قولنا إن الخير الأسمى هو الفضيلة (انظر [٥٢]، ١، ٤، ٥؛ [۳]، ص٨١–٨٣).
ولكن مفهوم الخير الأقصى عبَّرت عنه نظم الأسرار المصرية القديمة بأنه غرض الفضيلة، وأنه خلاص النفس؛ إذ يحرر النفس من أغلال البدن العشرة. وعملية التحرير هذه هي عملية تطهر، تشمل تطهير العقل والبدن:
تطهير العقل عن طريق دراسة الفلسفة والعلم، وتطهير البدن عن طريق المجاهدات وقواعد الزهد للتحكم في البدن. واستمر هذا التثقيف منذ التعميد بالماء، ثم تلاه التعميد بالنار، بعد أن يحقق المريد التقدُّم المرحلي اللازم، وتفضي هذه العملية إلى تحوُّل الإنسان وجعله شبيهًا بالإله وتهيِّئه للاتحاد به.
إن مفهوم الخير الأسمى، الذي ظهر — أصلًا — على أيدي نظم الأسرار المصرية القديمة هو أقدم نظريات الخلاص؛ ولا بد وأن سقراط استمدَّ مبدأه من هذا المصدر مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة من الفيثاغوريين (انظر [۳۸]، ف۳۱، ۳۳، ٣٤؛ [۱۲]، ص٢٤-٢٥، [٦٢]، ص١٩، ٧٤، ۸٠).
(ﺟ) المبادئ التالية مستمدة من الفيثاغوريين
حسبما هو مسلَّم به بوجه عام:
-
(١)
تناسخ النفس.
-
(٢)
خلود النفس.
-
(٣)
الجسد مقبرة النفس.
-
(٤)
مبدأ الأضداد والتناغم.
وحيث إن ۱، ۲، ٣، ٤ مأخوذة — أصلًا — عن الفيثاغوريين، ونظرًا لأن الفيثاغوريين أخذوها عن المصريين، إذن من الواضح أنها مصرية الأصل والمنشأ مباشرة أو بصورة غير مباشرة (انظر [٤]، ص۲۹، ٦٠؛ [۳]، ص ٤١، ٤٨،[۳۸]).
(د) التنجيم والجيولوجيا
من ١ – الاتهام، و۲ – دفاعه أمام قضاة أثينا، و٣ – الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها عنه أرستوفان في السحاب، نكتشف أن سقراط اتُّهم بأنه دارس للطبيعة، وعمل على إدخال آلهة جديدة إلى أثينا.
ونعود لنقرر أن دراسة الطبيعة — بمقتضى نظام الأسرار المصري — كان شرطًا مسبقًا، وحيث إن الأثينيين اضطهدوا وأدانوا سقراط ونشْره المعارف بشأنها؛ فلا بد وأنهم اعتبروا الأفكار الجديدة أجنبية دخيلة أو مصرية المصدر (انظر [١٩]، ف٢٤–۲۸؛ [۱۲]، ص٢٤-٢٥).
(ﻫ) مبدأ معرفة النفس
مبدأ معرفة النفس منسوب — منذ قرون — إلى سقراط، ولكن أصبح اليوم معروفًا، عن يقين، أنه ظهر — أصلًا — في المعابد المصرية التي كان ينقش على جدرانها الخارجية كلمات: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.»
وواضح أن سقراط لم يكن يعلِّم جديدًا؛ لأن مبادئه مبادئ تلفيقية جمعت عناصر من كل من أناكساجوراس، وديمقريطس، وهيراقليطس، وبارمينيديس، وفيثاغورس. ثم إن هذا المبدأ ثبت أنه مستمد — تاريخيًّا — من تعاليم نظم الأسرار المصرية (انظر [٦٢]، ص۲۰۳).
(و) أهمية أحاديث وداع سقراط لتلامذته وأصدقائه في السجن
إذا دققنا فيما جرى أثناء محادثات وداع سقراط لتلامذته وأصدقائه تجدر الإشارة إلى خمس نقاط على الأقل:
-
(أ)
موضوع المحادثات.
-
(ب)
تصميم أصدقائه على تهريبه.
-
(جـ)
رفضه إطلاق سراحه.
-
(د)
وصيته — قبيل وفاته — إلى صديقه كريتو، حين طلب أن يسدد عنه دينًا هامًّا.
-
(هـ)
قيمة هذه المحادثات في صورتها الراهنة في الأدب.
هنا يبرز سؤال: ما معنى وأهمية هذه النقاط الخمس؟ إجابتنا واستنتاجاتنا هي الآتي:
-
(أ)
حيث إن موضوع المحادثات انصبَّ على خلود وخلاص النفس، فإننا نسلم — على الفور — أن هذه هي القضية الرئيسية في نظم الأسرار المصرية القديمة، ومن ثَم فإن سقراط على دراية بهذه المبادئ.
علاوة على هذا، فإننا حين نقرأ محاورة فيدو، وكذلك مبدأي الأضداد والتذكر اللذين قدمهما برهانًا على الخلود؛ فإننا نقتنع بأنه تلقَّى تثقيفه داخل نظام الأسرار المصري الذي كان مرتبطًا به فقهاء شراح، ومعلمين أكفاء.
-
(ب)
ثانيًا إننا إذ نتناول سلوك أصدقائه حين عقدوا العزم على تهريبه، فإنما نتناول محاولتهم تقديم مساعدة إلى أخ لهم في محنة.
وكانت هذه هي الحياة التي من المتوقع أن يحياها المريدون المبتدئون، وذلك لأن الأخوَّة تمثِّل عندهم مبدأ آخر هامًّا، أرست دعائمه نظم الأسرار المصرية، وواضح أن سقراط كان «أخًا مريدًا» في نظم الأسرار المصرية ما دام أنها تؤلف أخوَّة عالمية.
-
(جـ)
ثالثًا إننا إذ نتناول رفض سقراط تحريره، فإننا — مرة ثانية — نتناول نمطًا سلوكيًّا يميزه باعتباره مريدًا متقدمًا في نظم الأسرار المصرية. ذلك أن نظم الأسرار المصرية إذ ترسم طرق السالكين إلى التميز والانتصار إنما كانت تعتبر البعد عن الأنانية، أو التضحية، مرحلة متقدمة من مراحل بلوغ الهدف الذي لا بد وأن يكتمل لكي ينعم المريد بسلطان غير محدود. حقًّا إن أناكساجوراس هرب إنقاذًا لحياته، وكذلك فعل أفلاطون وأرسطو. بيد أن هذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن سقراط قد بلغ مرتبة أسمى منهم جميعًا في نظم الأسرار المصرية، واستلزم هذا تثقيفًا وتدريبًا، وكانت مصر هي مركز التثقيف والتدريب.
-
(د)
رابعًا، إننا حين نشير إلى وصية سقراط، قبيل وفاته، إلى كريتو، والتي سأله فيها سداد دين عليه، فإننا نلتقي— ثانية — مع أحد المثل العليا العظيمة المميزة لحياة المريد. وهذا المثل ضمن تعاليم نظم الأسرار، ويشتمل على ممارسة فضيلة أساسية وهي فضيلة العدالة، ويتعين على المرشح لهذه النظم أن يلتزم بممارستها حتى يرتقي — أيضًا — حسُّه القيمي.
وهنا يكشف سلوك سقراط — مرة أخرى — عن أنه كان أخًا مريدًا تحلى بحسٍّ مرهف بالعدالة والأمانة؛ إذ لم يشأ أن يلقى الموت دون الوفاء بكل التزاماته؛ إن وصية سقراط، قبيل وفاته، تكشف — يقينًا — عن أنه عضو وفيٌّ مخلص في نظام الأسرار المصري .
-
(هـ)
خامسًا وأخيرًا، ما هي القيمة التي يمكن أن نعزوها إلى الأدب المعني بأحاديث الوداع بين سقراط وأصدقائه وتلامذته؟ طالما وأن هذا الأدب عن إنسان تتطابق معتقداته وممارساته مع معتقدات وممارسات مريدي نظم الأسرار القديمة في مصر، إذن يمكننا أن نعتبر دراسة أكزينوفان، وعنوانها سجل الذكريات Memorabilia ودراسات أفلاطون، وفيدو، وأيوثيفرو، وكريتو، وطيماوس، أمثلة قيِّمة لأدب نظم الأسرار المصرية (انظر [۱۲]، ف٢٤، ٢٥، ۳۲؛ [۳۸]؛ [۲۱]؛ [٦٢]، ف٤٤، ٤٩، ٦٧، ٧٥).
(٢) أفلاطون
-
(١)
الحياة الباكرة.
-
(٢)
الأسفار.
-
(٣)
الكتابات المتنازع بشأنها.
-
(٤)
مبادئه.
-
(٥)
موجز الاستنتاجات.
الحياة الباكرة
قيل إن أفلاطون من مواليد أثينا، في عام ٤٢٧ق.م. واسم أبيه أرسطو، واسم أمه بريكتيوني، وهي إحدى قريبات سولون.
المعلومات المتوفرة قليلة عن حياته الباكرة وعن تثقيفه، ولكن ثمة افتراض يقول إنه من أبوين ثريين، لذلك فلا بد وأن توفرت له فرص التعليم التي يحظى بها شباب الأثرياء، ورُوي أنه درس مبادئ هيرقليطس على يد كراتيلوس، فضلًا عن كونه تلميذًا لسقراط ثماني سنوات، وقيل — أيضًا — إنه كان جنديًّا (انظر [٤]، ص٧٦؛ [۳]، ص۹۳؛[٦٥]).
(أ) أسفاره
كان قد ناهز الثامنة والعشرين من العمر وقت وفاة سقراط، (أي عام ٣٩٩ق.م.). وفرَّ — هاربًا — هو وتلامذة سقراط من أثينا إلى إقليدس في ميجارا التماسًا للأمان. وظل بعيدًا عن أثينا ١٢ عامًا، قيل إنه قام، خلالها، علاوة على إقامته مع إقليدس، بأسفار عديدة إلى:
-
(أ)
جنوب إيطاليا حيث التقى العناصر الباقية من الفيثاغوريين.
-
(ب)
إلى سيراقوزه في صقلية حيث التقى، عن طريق ديون، مع ديونيسيوس الذي عمل معلمًا له، والذي كان — فيما بعد — سببًا في بيعه في سوق النخاسة.
-
(جـ)
إلى مصر.
(انظر [٤٣]؛ [٤]؛ [۳]؛ [٣٤]).
(ب) دراسته الأكاديمية
رُوي أن أفلاطون عاد إلى أثينا عام ۳۸۷ق.م. وقد بلغ الأربعين من العمر، وافتتح أكاديمية في جيمنازيوم تقع في الأحياء القريبة من أثينا، وظل رئيسًا لها عشرين عامًا، وقيل إنه علَّم هناك المواد التالية:
-
(أ)
العلوم السياسية.
-
(ب)
فن الحكم.
-
(جـ)
الرياضيات.
-
(د)
الجدل.
وقيل كذلك إن المنهاج التعليمي ارتكز على المبادئ التعليمية، التي دعا إليها في كتابه الجمهورية ([٤٣]؛ [٥]، ص٦٨؛ [٤]، ص۷۲؛ [۳]، ص۱۲۲، ۱۲۳).
قيل إن الباحثين متنازعون بشأن كتاباته، ويشككون فيها
إذ هناك ٣٦ محاورة، وعدد من الرسائل، التي من المفترض أن أفلاطون كاتبها، ولكنها موضع تنازعٍ وشكٍّ من قِبَل الباحثين المحدثين.
-
(أ)
يقرر جروت أن أفلاطون ألَّف فقط تلك المحاورات التي تحمل اسمه.
-
(ب)
يقرر شارشميدت أن تسع محاورات فقط، من بين ٣٦، هي المحاورات الأصلية.
-
(جـ)
هذا بينما اعتبر أرسطو المحاورات الأفلاطونية عددها تسع، وهي: القوانين – طيماوس – فيدو – المائدة – فيدر – جورجياس – ثياتوس – فليبوس – الجمهورية؛ وهي المحاورات التي رأى أنها أصيلة.
-
(د)
وعن المحاورات الباقية، وعددها ٢٧، يؤكد بعض الباحثين ضرورة إدراج المحاورات الشبابية ضمن المحاورات الأصلية، وهي الدفاع – كريتو – أنثيديموس – لاكيس – ليزيس – بروتاجوراس.
-
(هـ)
وعن المحاورات اﻟ ٢١ الباقية، يرى الباحثون أن ما لم يكتبه أفلاطون منها لا بد وأن كتبها تلامذته (انظر [٥]، ص٦٨).
مبادئ أفلاطون
المبادئ المنسوبة إلى أفلاطون متناثرة في مساحة عريضة من الأدب؛ إذ نجدها مجزَّأة بين ثنايا ما عُرِف باسم المحاورات، ولكن نخص بالذكر منها:
-
(أ)
نظرية المثل وتطبيقاتها على الظواهر الطبيعية، التي تشتمل على:
- (١)
الواقعي وغير الواقعي.
- (٢)
العقل الكوني.
- (٣)
الخلق.
- (١)
-
(ب)
المبادئ الأخلاقية، وتتناول:
- (١)
الخير الأسمى.
- (٢)
تعريف الفضيلة.
- (٣)
الفضائل الأساسية.
- (١)
-
(جـ)
مبدأ الدولة المثالية، أو المدينة الفاضلة، التي يقارن بين صفاتها وصفات النفس والعدالة. واتساقًا مع هذا الترتيب، نقول إن مبادئ أفلاطون كما يلي:
(أ) نظرية المثل
-
(أ)
تعريف المثل، يمكن التعبير عن ذلك في ضوء القياس التالي: المثل الأعلى (محتفظًا بوحدته وعدم قابليته للتغيُّر وكماله)، هو العنصر الأول للحقيقة لأيٍّ من الموجودات.
-
(ب)
المثل الأعلى مفهوم نعرف به الشيء، لذلك فإن المفهوم الذي نعرف به الشيء هو عنصر الواقعية في أي موجود.
-
(جـ)
يلزم عن هذا أيضًا، حيث إن المفهوم، أو المثل الأعلى للشيء، واقعي إذن فإن الشيء المحسوس ذاته غير واقعي (انظر [۲۱]، [٦٦]).
(ب) تطبيق نظرية المثل على الظواهر الطبيعية
تأسيسًا على تعريف المثل الأعلى، نصل إلى ثلاثة مبادئ:
(١) مبدأ الواقعي وغير الواقعي
ولكن ثمة شيئًا مشتركًا بينهما؛ ذلك لأن الظواهر تشاطر المثل الأعلى. هذه المشاطرة هي محاكاة، بيد أنها ناقصة لأن الظواهر الطبيعية تقصر — بعيدًا جدًّا — دون المثل العليا (بارمينيديس ۱۳۲؛ [٤٤]، ۱، ٦، ۹۸۷ ب).
(٢) مبدأ العقل الكوني nous أو النفس العالمية
يعلمنا هذا المبدأ أن الكون حيوانات حية، وأنها تنعم بأكمل النفوس العاقلة. ذلك أن الله خلق العالم كاملًا بقدر ما تسمح به طبيعة المادة، وأنه — سبحانه — أنعم على العالم بنفس كاملة، وهذه النفس بمثابة وسيط بين المثل العليا والظواهر الطبيعية؛ وهي علة الحياة والحركة والنظام والمعرفة في الكون (انظر [۲۱]، ص۳۰، ٣٥).
(٣) مبدأ الصانع الأول في الخلق Demiurgos
(الكوزمولوجيا أو نشوء الكون ونواميسه).
في أسطورة الخلق، الواردة في محاورة طيماوس، نجد مبدأ الخلق المنسوب إلى أفلاطون، وأنه هو مؤلفه كالآتي:
في البدء كان العماء الأول هو السائد بالضرورة، وفرض الله — المحرك أو الخالق — النظامَ بأن صور أو صاغ ظواهر المادة، حسب أصولها الأولى (أي المثل العليا) الخالدة في أكمل صورة، بقدر ما تسمح به المادة الناقصة. ثم خلق الأرباب، وأمرهم أن يصوروا جسم الإنسان، بينما صور الله — سبحانه — نفس الإنسان من نفس مادة روح العالم.
ونفس الإنسان مبدأ متحرك بذاته، ومسئول عن الحياة والحركة والوعي في الجسم (انظر [۲۱]، أسطورة الخلق؛ [۳]، ص١٠٩-١١٠).
(ب) المبادئ الأخلاقية
المبادئ الأخلاقية المنسوبة إلى أفلاطون هي:
-
(١)
مبدأ الخير الأسمى The Summum Bonum.
-
(٢)
دلالة الفضيلة.
-
(٣)
رد الفضائل إلى أربع، ومكانة الحكمة بينها.
(١) الخير الأسمى هو السعادة، باعتبارها أمرًا ذاتيًّا وخبرة دنيوية، ولكنه هو المثل الأعلى للخير، من حيث هو إنجاز موضوعي، ومن ثَم فإنه هنا يتطابق مع الله.
لذلك فإن غرض حياة الإنسان هو التحرر من أغلال البدن، سجن النفس، وممارسة الفضيلة والحكمة ليكون شبيهًا بالإله حتى وهو على الأرض.
(٢، ٣) الفضيلة هي نظام وصحة وتناغم النفس.
وهناك فضائل كثيرة، ولكن أعظمها قدرًا، الحكمة. ويمكن رد جميع الفضائل إلى أربع فضائل رئيسية: الحكمة – الجَلَد – الاعتدال – العدالة (انظر ٥٤، ٢٠٤؛ [٦٦]، ١٧٦؛ [۳۸]، ٦٤، [۱۱]، ف٤، ٤٤١–٤٤٣).
(ﺟ) الدولة المثالية أو الدولة الفاضلة (الجمهورية)
المذهب المنسوب إلى أفلاطون في مجال علم التربية المدنية هو مذهب الدولة الفاضلة، التي تناظر صفاتها صفات النفس والعدالة.
يتعين أن تكون الفضيلة — في الدولة — هي الهدف الأساسي، وما لم يكن الفلاسفة حكامًا، أو يصبح الحكام — بفضل الدراسة — فلاسفة، ستظل المشاكل تترى؛ وتواجه الدولة والإنسانية بعامة دون انقطاع. والدولة الفاضلة هي على نموذج نفس الفرد وعادلة شأن النفس المؤلَّفة من ثلاث قوًى، كذلك يجب أن تتألف الدولة من ثلاث قوًى: الحكام، والمحاربون، والعمال (انظر [۱۱۰]).
ومثلما أن تناغم النفس رهن التحكم السديد في قواها، كذلك الدولة رهن التحكم السديد في أجزائها وقواها من أجل أن تحظى بالسلام.
هنا يقدم أفلاطون صورة مجازية لسائق العربة، ذات الجوادين المجنحين، لكي يصور لنا أن الفضيلة — بالنسبة للنفس — شأنها شأن العدالة، بالنسبة للدولة.
أحد الجوادين من أصل نبيل، بينما الآخر وضيع، ومن ثَم يتعذر التواؤم والتوافق بينهما؛ إذ بينما يناضل الجواد النبيل للصعود إلى طبقات السماء التي تلائم طبيعته، نجد الآخر يحاول جذبه إلى الأرض. كذلك الحال عند التعامل مع النفس، فإن الإخضاع السديد لقواها هو ما يمكِّن العنصر النبيل في الإنسان من بلوغ كماله. وكذلك الحال — أيضًا — عند التعامل مع الدولة؛ فإن العدالة، أو الإخضاع الكامل للفئات المختلفة هو ما يجعلها دولة فاضلة (انظر [٤]، ص۸۳؛ [۱۱]).
(٢-١) موجز الاستنتاجات
(١) مبادئ أفلاطون تلفيقية، وتشير إلى منشئها الأصلي
إن مبدأ الواقعي وغير الواقعي، تعبيرًا عن المقارنة بين الظواهر الطبيعية والمثل العليا، ليس إلا مثالًا لتطبيق مبدأ الأضداد. هنا نجد جميع الموجودات — في عالمنا الأرضي — لها نماذج مطابقة لها في عالم السماء؛ وهنا تتطابق المثل العليا مع الوجود، بينما تتطابق الظواهر مع اللاوجود. ولكن مبدأ الأضداد يمكن تتبُّع جذوره، ليس فقط عند سقراط وديمقريطس وبارمينيديس، والفيثاغوريين، بل إلى أبعد من ذلك، حيث مصدره الأصلي، أعني نظام الأسرار المصري، حيث كان مبدأ الأضداد، لا تمثله — فقط — أزواج الآلهة — ذكورًا وإناثًا، على نحو ما نجد في أوزيريس وإيزيس — بل، وأيضًا، أزواج الأعمدة في واجهة جميع المعابد المصرية (انظر [٥٠]، ف٣، ص٢٥-٢٦، ٣٥؛ [۳۱]، ۱، ٦ – ٢٦؛ [٢٤]، ك١، ص۳۳۹؛ [٥٦]، ص٦٤، ۷۳، ۸۸؛ [۲]، ص٦١؛ [٣٨]).
(٢) مبدأ العقل الكوني nous أو نفس العالم، أحد مبادئ السحر في مصر القديمة
منسوب إلى أفلاطون القول بهذا المبدأ على سبيل التشبيه البلاغي، والذي يمثَّل فيه العالم بحيوان حي، وأنه مؤلَّف من نفوس، وإن إحداها كاملة ومسئولة عن الحياة والمعرفة بالنسبة للحيوان أو الكون.
وهذا المبدأ يمكن تتبُّع تاريخه، والرجوع به ليس فقط إلى:
(أ) ديمقريطس الذي بنى تعاليمه، عن الذرات النارية للنفس والمعرفة، على أساس مبدأ السحر عند المصريين: «أن كيفيات الحيوان موزعة في كل أنحاء جسمه» ([٥٧]؛ [٥٠]، ص٤٠).
وأن مبدأ العقل الكوني نشأ في الواقع عن (ج) نظام الأسرار المصري الذي ارتبط بتمثيل الإله أوزيريس في جميع المعابد المصرية برمز العين المبصرة، وهو ما سبق أن أشرنا إليه.
والرمز هنا لا يدل على البصر فحسب، الذي تجاوز الزمان والمكان، أي البصيرة، بل يدل — أيضًا — على المعرفة الإلهية، التي تحيط بالكون كله باعتباره العقل الأعظم الذي خلق الكون، ولا يزال يهديه ويوجِّهه. ويشكِّل هذا الرمز — أيضًا — جزءًا من الزخارف التي تزين جميع المحافل الماسونية في العالم الحديث، والتي يرجع تاريخها إلى عبادة أوزير، أو الشمس، عند المصريين القدماء، منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وهذه الفكرة — ذاتها — عبَّر عنها المصريون في صورة إله، له عيون تحيط به، وسمَّوه «العين المحيطة — علمًا — بكل الوجود» (انظر [۲]، ص۸۰۹؛ [۱۲]، ص۱۸۹؛ [٢٥]).
(٣) مبدأ الصانع الأول في الخلق
هذا المبدأ، الذي يقال إن أفلاطون صاحبه، لم يبدأ — على الإطلاق — على يدي أفلاطون، إنه لم يكن فقط مبدأ سائدًا، ومعروفًا في زمن أفلاطون؛ بل كان أيضًا ذائعًا بين بلدان الشرق القديم، ويعلمونه قبل هذا التاريخ بقرون عديدة (٤٢٧–٣٤٧ق.م.).
يروي التاريخ أن الفرس كانوا يعلمون هذا المبدأ منذ أكثر من ستة قرون ق.م. على يدي زعيمهم زرادشت، ويروي التاريخ — أيضًا — أن فيثاغورس (٥٠٠ق.م.) علَّم المبدأ ذاته، والذي عبَّر عنه بمصطلح «الجواهر الفردة» فالكون قوامه وحدتان أي:
ويروي التاريخ، علاوة على هذا، أن مصر هي المصدر الأول لمبدأ الأول في الخلق أو الصانع الأول، ويرجع تاريخه إلى قصة الخلق في مصر منذ ٤٠٠٠ق.م. والتي نجدها ضمن فقه الإلهيات في مدرسة ممفيس (نقش على حجر محفوظ الآن في المتحف البريطاني). ويشتمل هذا النقش على آراء في فقه الإلهيات، وفي تفسير نشأة نواميس الكون (الكوزمولوجيا) عند المصريين القدماء، وهي آراء يرجع تاريخها إلى البدايات الأولى للتاريخ المصري وقتما شيدت الأسرات الأولى عاصمة جديدة لهم في ممفيس، مدينة الإله بتاح، أي منذ حوالي ٤٠٠٠ سنة أو يزيد.
(ج) يلي هذا وصف للكيفيات الأخرى في العماء البدائي: هناك أربعة أزواج من الأرباب الذكور والإناث في صورة ضفادع وحيات، وأسماؤها:
(۱) نون ونونيت محيط الماء الأزلي والمادة الأزلية. (٢) هوه وهوهيت اللامتناهي واللامحدود. (۳) كوك وكوكيت أو الظلمة والغموض. (٤) آمون وآمونيت أو الخفي والمحجوب (انظر [٥٠]، ص۱۰، ۲۱؛ [٦٨]، ص۱۰، ۲۱، ٥٢).
وفي الجزء ۲ نجد عرض أرباب النظام والترتيب على النحو التالي:
أول زوج لأرباب ما قبل الخلق موجودان هما أنفسهما، أي الإله بتاح والتل البدائي، وهما فكر وكلمة جميع الأرباب، بمن فيهم الإله أتوم الذي استوى واستقر فوق بتاح.
إن أتوم تمثَّل فكر بتاح وقدرته الخالقة، وبعدها بدأ عمل الخلق. ويعين بفكره أسماء أربعة أزواج من أعضاء جسده، والتي تصبح — بدورها — أربابًا.
وبهذا يتم خلق ثمانية أرباب، وبذلك يؤلفون — في مجموعهم — مع أتوم نفسه تسعة أرباب من أسرة واحدة أو ألوهية موحدة تُسمى التاسوع.
ملحوظة
السحر مفتاح تفسير الديانات والفلسفة القديمة:
-
(أ)
الجزء ٣ يحدِّثنا عن القوى المميزة للإله بتاح التي تمثَّلها الإله أتوم، ولكنه لم يحدثنا كيف تمثَّلها الإله.
-
(ب)
الجزء ١ يحدِّثنا كيف حدث هذا؛ إذ يصف لنا حركة أتوم وقد ظهر من بين المحيط الأزلي، وقد استوى فوق بتاح (الأرض المرتفعة أو التل).
ولكنه لا يقدم لنا سببًا لحركة أتوم، وهو سلوك يمكن فهمه فقط إذا ما طبَّقنا عنده تفسيره دليل مبادئ السحر.
-
(جـ)
المبدأ الأساسي للسحر:
والآن ما هو المبدأ الأساسي للسحر المتضمن في سلوك أتوم؟ إنه ما يلي:
إن كيفيات أو صفات الموجودات البشرية أو الإلهية موزَّعة في كل أنحاء كياناتهم، وإن الاتصال أو التماس بين هذه الموجودات يُطلِق تلك الكيفيات.
-
(د)
يبدو واضحًا الآن أنه حين تماس أتوم مع بتاح، تلقَّى أتوم — مباشرة — صفات بتاح، وهي الفكر الخالق والكلام والقدرة الكلية، وأصبح الأداة واللوجوس أو العقل والصانع الأول (Demiurge)؛ ومن ثَم أُنجِزت واكتملت من خلاله مهمة الخلق [٥٧].
-
(هـ)
واضح — أيضًا، حسب فقه إلهيات مدرسة ممفيس — أن مبادئ وجود صانع أول Demiurge وأرباب مخلوقين نشأت — أصلًا — في الديانة المصرية ونظام الأسرار المصري، وليس عند أفلاطون الذي عاش من ٤٢٧ و٣٤٧ق.م. (انظر [ ٥٠]، ص۲۰، ۲۳).
ملحوظة
سوف نتناول فقه إلهيات ممفيس في فصل مستقل لبيان منشأ الفلسفة اليونانية.
(١) مبادئ. (أ) الخير الأسمى. (ب) الفضيلة. (ج) الفضائل الأساسية.
ملحوظة
هذه — حقًّا — أول نظرية عن الخلاص، وقد نشأت — أصلًا — مع نظم الأسرار المصرية، وليس على يد أفلاطون.
(أ) الهدف الرئيسي لنظم الأسرار المصرية — قديمًا — هو خلاص النفس الإنسانية؛ إذ كان المصريون القدماء يعتقدون أن جسم الإنسان سجن، تحيا في داخله النفس مقيدة بعشرة أغلال، وأن هذا الوضع لم يؤدِّ فقط إلى بقاء الإنسان منفصلًا عن الله؛ بل جعله خاضعًا لعجلة إعادة الميلاد أو إعادة التناسخ.
وابتغاء الهرب من هذا الوضع، يتعين على المريد المبتدئ أن يفي بشرطين:
(١) ضرورة الحفاظ على الوصايا العشر التي تعلمها في نظم الأسرار، إنه، بفضل الالتزام بهذا الانضباط، يمكنه الانتصار على أغلال النفس، وأن يحررها؛ وبذا ييسر لها تطورها.
(۲) وبذلك، يصبح مؤهلًا — بشكلٍ جيدٍ — ومستعدًّا — على نحو ملائم — للمضي في الطريق.
وهنا يتعين عليه أداء بعض الشعائر لكي يطور نفسه من المرحلة البشرية إلى مرحلة التشبُّه بالإله. وعرف هذا التحول باسم الخلاص؛ إنه يضع المريد المبتدئ في تناغم مع الطبيعة والإنسان والإله. إنه تأليه للإنسان بمعنى جعل الإنسان شبيهًا بالإله، وكان هذا الهدف إذا ما تحقق يُعرَف بالخير الأسمى.
وحسب نظرية الخلاص هذه، من المتوقع أن يجاهد المرء ابتغاء خلاصه، دون وسيط بينه وبين الله.
(ب) يعرِّف أفلاطون الفضيلة بأنها نظام أو انضباط النفس، ونحن نقبل هذا المعنى ما دام يتفق مع غرض الوصايا العشر لنظم الأسرار.
إن مبادئ الفضائل العشر والأغلال العشرة قديمة قِدم التاريخ المصري ذاته، وإن كل وصية أو مبدأ تنظيمي يمثِّل مبدأ لإحدى الفضائل، ومهمة كل فضيلة إزالة قيد من القيود. ومن ثَم فإن حياة الفضيلة مقدمة وتمهيد للخبرات التالية، أي الطقوس والشعائر التي تفضي إلى الكمال التدريجي، وإلى تأليه المريد أي تشبُّهه بالإله.
(ج) منسوب — أيضًا — إلى أفلاطون أنه اختزل جميع الفضائل وردَّها إلى أربع فضائل أساسية، وأنه اعتبر الحكمة أرفعها مكانة، حسب الترتيب التالي: الحكمة – الجلد – الاعتدال – العدالة.
وعرفنا — أيضًا من خلال تاريخ الفلسفة — أن سقراط معلم أفلاطون المزعوم كان يعلِّم أن الحكمة مكافئ لجميع الفضائل، وهذا التباين — في الرأي — بين التلميذ ومعلِّمه هام جدًّا؛ إذ يبرز أن كليهما قنعا بتأمُّل نظام أخلاقي كان سائدًا في العالم القديم، ولم يكن نتاج أي منها.
وهذا النظام الأخلاقي، كما ذكرنا آنفًا، خاص بنظام الأسرار المصري الذي يشترط على المريدين المبتدئين، الذين يتهيَّئون للانضمام، أن يلتزموا بهذه الوصايا العشر التالية التي تركز على عشرة مبادئ أساسية للفضيلة:
إذ يتعين على المريد المبتدئ أن:
-
(١)
يسيطر على أفكاره.
-
(٢)
يتحكم في أفعاله.
-
(٣)
يتفانى لهدفه.
-
(٤)
يؤمن بقدرة معلمه على تعليمه الحقيقة.
-
(٥)
يثق في قدرته على استيعاب الحقيقة.
-
(٦)
يثق في قدرته على تطويع الحقيقة.
-
(٧)
التحرر من مشاعر الاستياء إذا ما عانى اضطهادًا.
-
(٨)
التحرر من مشاعر الاستياء إذا ما وقع عليه خطأ.
-
(٩)
غرس القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب.
-
(١٠)
غرس القدرة على التمييز بين ما هو واقعي، وما هو غير واقعي؛ إذ يجب أن يتحلى بحسٍّ مميز يدرك به الفضائل.
إذا قارنَّا — الآن — بين النظام المبيَّن في الموجز السابق، ونظام الفضائل الأساسية التي قيل إنه تم ترتيبها، سندرك — على الفور — أن أولية مكانة الفضيلة بين الفضائل الأخرى إنما حددته لها نظم الأسرار المصرية وليس أفلاطون. وبناء على هذا، يمكن أن نستخلص فضيلة الحكمة من ۱، ۲ اللذين يوصيان بالسيطرة على الأفكار والأفعال، ويمكن أن نستخلص فضيلة الجَلَد من ٦ التي توصي بالتحرر من مشاعر الاستياء عند الاضطهاد. ويمكن أن نستخلص فضيلتي العدالة والاعتدال من ٩، ١٠ اللذين يوحيان بالقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين ما هو واقعي، وبين ما هو غير واقعي، (انظر [١١]، ف ٤، ص٤٤، ٤٤٣؛ [١٢]، ص٢٥، ۱۰۹–۱۱۲؛ [۳]، ص١١٥؛ [۲] ص١٥٥–١٥٧).
(أ) مبدأ الدولة المثالية
فيما يتعلق بتأليف هذا المبدأ ومصدره الأول، ثمة استنتاجان: الأول، أن أفلاطون ليس مؤلف الجمهورية، والثاني أن الصورة المجازية لسائق العربة والجوادين المجنَّحين ليست من عند أفلاطون، وإنما مأخوذة عن كتاب الموتى المصري في روايته لمشهد يوم الحساب في الآخرة.
أما عن الاستنتاج الأول، فإنه يتعين — بالضرورة — أن نؤكد ما سبق أن قيل بشأن كتابات أفلاطون، وأن ثمة تنازعًا — في الرأي — بشأنها، ليس فقط من جانب الباحثين المحدثين من أمثال جروت، وشارشميدث، بل ومن جانب المؤرخين القدماء — أيضًا — من أمثال ديوجين لايريتس، وأرسطوخينوس، وفافورينوس (۸۰–١٥٠م)؛ إذ يصرح هؤلاء أن موضوع كتاب الجمهورية موجود في كتاب المناظرات تأليف بروتاجوراس (٤٨١–٤١١ق.م.) وقد كان أفلاطون لا يزال صبيًّا وقت وفاته.
علاوة على هذا، فإن القول بأن أفلاطون هو المؤلف إنما يعتمد — فقط — على آراء أرسطو وثيوفراستوس، وكلاهما استهدفا تصنيف الفلسفة اليونانية تأسيسًا على مادة مصرية (انظر[٣٤]، ص٣١١، ٣٢٧؛ [٤٤] ك١؛ [۲]، ص٨ من المقدمة، وص۱۳؛ [۳]، ٩٥).
وفيما يتعلق بالاستنتاج الثاني يتعين الإشارة إلى أن الصورة المجازية عن «سائق العربة والجوادين المجنحين»، هي وصف لخاصية النفس ومصيرها، على نحو ما تظهر في ساحة العدالة خلال مشهد يوم الحساب في الآخرة، في كتاب الموتى المصري القديم. ففي هذه الدراما نجد بيثيمبامنتيس أو أوزيريس رئيس العدالة الأعظم ورئيس العالم غير المرئي مستويًا على العرش، وفي رفقته كلا من إيزيس ونفتيس، بينما جلس من حوله ٤٢ قاضيًا مساعدًا.
وثمة بالقرب من أوزيريس أربعة من الأرواح الحارسة أو أقران أمينتي العالَم غير المرئي، تمثِّلهم أوانٍ فخارية قصيرة معروفة باسم كانوبي، والتي يحتَفظ فيها بأحشاء المرء محنَّطة باعتبارها رمزًا لسجايا الفرد الأخلاقية المكنونة، والمعروف أن الأحشاء لها رابطة هامة جدًّا بالسجايا الأخلاقية للفرد؛ إذ يقع عليها اللوم بسبب أي خطيئة يقترفها المرء، وعلى الطرف المقابل حورس يقدم الميت، بينما ينتصب في وسط الساحة ميزان العدالة الذي أقامه الإله أنوبيس. ويظهر على أحد جانبي الميزان إناء يشبه القلب، بداخله السجايا الأخلاقية للميت، بينما على الجانب الآخر من الميزان صورة إلهة الحقيقة، ويمسك توت الكاتب لفافة من ورق البردي، وهو واقف قرب الميزان يسجل عملية الوزن. وبعد أن تكتمل هذه العملية يتلقى حورس السجل من توت، ويتقدم نحو أوزيريس ليطلعه على النتائج. ينصت إليه أوزيريس، وعند نهاية التقرير ينطق الحكم بالثواب أو العقاب، وفي هذه الأثناء، تكمن وحوش مروعة متربصة حول الساحة للفتك بالنفس، إذا كان الحكم ضدها.
وحري بنا أن نلاحظ ما يلي:
-
(١)
حركة ميزان مشهد يوم الحساب تتطابق مع حركة الجوادين المجنَّحين، صعودًا وهبوطًا في الصورة المجازية.
-
(٢)
الكيفيات المناقضة التي تم وزنها على الميزان تتطابق مع الكيفيات المناقضة التي لدى الجوادين النبيل والخسيس، في الصورة المجازية.
-
(٣)
مثال العدالة الذي يرمز إليه ميزان مشهد يوم الحساب يتطابق مع فكرة العدالة التي رسمتها الصورة المجازية.
-
(٤)
الجوادان المجنَّحان يتطابقان مع الوحوش الممسوخة المروعة في مشهد يوم الحساب.
(ب) تأليف كتاب الجمهورية
حسب ما ورد في الكتاب الثالث من كتاب ديوجين لايرتيوس ص۳۱۰، ص۳۲۷، يؤكد كلٌّ من أرسطوخينوس وفافورينوس أن كل موضوع كتاب الجمهورية — لأفلاطون — موجود برمته — تقريبًا — في مناظرات بروتاجوراس. زِد على ذلك، يوضح روجر في كتابه تاريخ الفلسفة للطلاب، ص٧٨، أن أفلاطون وإن كان قد اعتمد اعتمادًا كبيرًا على ذكريات سقراط الذي استمع إلى محاضراته إلا أن موضوع كتاب الجمهورية يمثل مذهبًا في الفلسفة اعتمد على قدرٍ من الاستدلال العقلي يفوق كثيرًا، بحيث لا يمكن أن نعزوه بسهولة إلى سقراط، وإن الكتاب — بأكمله — حجة متراكبة اشتملت على آراء متشابكة، في حذق وبراعة، تتناول — تقريبًا — كل موضوع له أهمية فلسفية.
ومن الواضح أن الدراسات الحديثة تشك في أن أفلاطون استمد موضوع كتاب الجمهورية من سقراط، وتميل إلى أن تنسب تأليف الكتاب إلى أفلاطون نفسه، ولكننا، إذا ما وضعنا في الحسبان حقيقة أن موضوع كتاب الجمهورية كان ذائعًا قبل أفلاطون بزمن طويل؛ إذ من المفترض أن بروتاجوراس عاش من ٤٨١–٤١١ق.م، بينما عاش أفلاطون من ٤٢٧–٣٤٧ق.م. فإن العقل يحُول دون أن نعزو تأليف الكتاب إلى أفلاطون.
ولكن يظل السؤال الهام باقيًا: من أي مصدر استقى بروتاجوراس أفكار كتاب الجمهورية المتداوَلة في المناظرات؟
تُحدِّثنا مراجع كتب الفلسفة اليونانية عن أن بروتاجوراس كان تلميذًا لديمقريطس، ولكن، إذا ما التفتنا إلى كتابات ديمقريطس لن نستطيع اكتشاف أي رابطة بينها وبين: (أ) النظام التعليمي. (ب) الحكم الأبوي الذي يدعو له كتاب الجمهورية. هذه الحقيقة تدفعنا إلى استنتاج أن موضوع كتاب الجمهورية لأفلاطون لم يكن صاحبه أفلاطون، ولا أي فيلسوف يوناني آخر.
(ﺟ) تأليف محاورة طيماوس
حسبما جاء — أيضًا — في الكتاب الثامن لديوجين لايرتيوس، ص۳۹۹–٤٠١، نعرف أن أفلاطون حين زار ديونسيوس — في صقلية — دفع لفيلولاوس وهوفيثاغوري ٤٠ مينا إسكندريًّا من الفضة مقابل كتاب، نسخَ منه كل محتويات محاورة طيماوس.
ويبدو واضحًا، في ضوء هذه الظروف، أن أفلاطون لم يؤلف لا كتاب الجمهورية ولا محاورة طيماوس اللذين يتطابق موضوعاهما مع هدف نظم الأسرار المصرية (انظر [٤]، ص٧٦، ۷۸، ١٠٤؛ [۲]، ص۱۳، ۱۰۳؛ [۳] ص۷۹، ٩٥؛ [۱۹]؛ [٦١]؛ [۳۸]؛ [٥٢]؛ [۹]؛ [۱۲]؛ [٦٤]).
(٦) لم تكن العربة نمطًا ثقافيًّا عن اليونانيين القدماء في زمن أفلاطون، ولم يكونوا يستخدمونها في شئون الحرب.
الثقافة والتراث اليونانيان لم يزوِّدا أفلاطون بفكرة العربة ذات الجوادين المجنحين؛ ذلك لأننا لا نجد في تاريخ اليونان العسكري القصير (حتى زمن أفلاطون) أي استخدام لمثل هذا الآلة الحربية من قِبَل اليونانيين.
إن الأمة الوحيدة المجاورة لليونان، والتي تخصَّصت في صناعة العربات وتربية الخيول هم المصريون. فعندما كان يوسف وزيرًا في مصر كانت مصر تستخدم الحصان والعربة الحربية، وعندما لاذ الإسرائيليون بالفرار من البلاد تعقَّبهم فرعون حتى البحر الأحمر في عربات حربية. وأكثر من هذا، أن هومير وديودور اللذين زارا مصر يشهدان بأنهما رأيا أعدادًا كبيرة جدًّا من العربات الحربية، والعديد من الإسطبلات، على طول ضفتي النيل من ممفيس وحتى طيبة.
وحيث إن مشهد يوم الحساب، في كتاب الموتى المصري القديم، يكشف عن كل الفلسفة المتضمنة في الصورة المجازية؛ فإننا — لذلك — لا يمكن أن نقول إن أفلاطون هو مؤلفها.
ويبين العرض الموجز التالي لتاريخ اليونان أن العربة الحربية لم تكن مستخدمة عندهم، ولا كانت ضمن ثقافتهم:
(أ) الحروب الخارجية أو الحروب ضد الفرس
-
(١)
ثورة الأيونيين ضد الحكم الفارسي ٤٩٩–٤٩٤ق.م. بلغت ذروتها في اشتباك بحري عند ليد، حيث مُني الأسطول الأيوني بالهزيمة.
-
(٢)
معركة خليج ماراثون ٤٩٠ق.م.
في صيف ٤٩٠ق.م. التقى الإغريق والفرس عند خليج ماراثون، وبعد قتال قصير بالأقواس والسهام انسحب الفريقان المتحاربان إلى حين الاستعداد لاشتباكات أكثر حسمًا.
-
(٣)
معركة ثيرموبيلاي ٤٨٠ق.م.
بعد مرور عشر سنوات على معركة خليج ماراثون التقى الفرس والإغريق — مرة ثانية — لحسم مشاكلهما. رسا الأسطول الفارسي في خليج باجاساي بينما رسا الأسطول اليوناني قرب رأس أرتيميزيوم، ودارت معركة سقطت بعدها ثيرموبيلاي في أيدي الفرس.
-
(٤)
معركة سالاميس. عند سالاميس عام ٤٧٩ق.م. التقى الفرس والإغريق مرة ثانية، ووقع اشتباك بحري مُني فيه الطرفان بخسائر فادحة في السفن، وانسحب الجانبان المتحاربان دون حسم المعركة لصالح أي منهما.
-
(٥)
حلف ديلوس وحروبهم مع الفرس ٤٧٨-٤٤٨ق.م.
استهدف الحلف الدفاع ضد العدوان الفارسي، ودارت معركتان بريَّتان: إحداهما عند نهر بورميدون في تمام ٤٦٧ق.م. حقق خلالها اليونانيون نصرًا متواضعًا، ودارت الأخرى عند قبرص عام ٤٤٩ق.م. وقتما كانت في أيدي الفرس:
ملحوظة
لم تُستخدم العربات الحربية في أي من هذه الاشتباكات.
(ب) الحروب الداخلية أي حروب البليبونيز
٤٦٠–٤٤٥ق.م. و٤٣١–٤٢١ق.م.
هذه الحروب خاضتها الدول-المدينة اليونانية المختلفة، وكانت أهم الاشتباكات هي اشتباكات بحرية.
في عام ٤٣٢ق.م. حاصر الأثينيون بوتيدايا؛ واستبعدت ميجارا من الأسواق اليونانية. وفي عام ٤٣١ق.م. هاجمت طِيبة بلاتايا، وبينما كان جيش البليبونيز يحتل أتيكا؛ شنَّ أسطول أثيني غارة ضد بيلوبونيسوس.
أشرف بريكليس على عملية إجلاء أتيكا، وذبح أعضاء حكومة كورسيرا، وعقب الاستيلاء على أمنيبوليس توسَّل نيكياس لعقد سلم عام ٤٢٢ق.م.
ملحوظة
واضح أن ثقافة الإغريق الاجتماعية وتراثهم لم يزودا أفلاطون بفكرة سائق العربة والجوادين المجنحين؛ إذ لا نجد في تاريخهم العسكري القصير (أي حتى وقت أفلاطون) أي ذكر بأن اليونانيين استخدموا آلة حرب تُسمَّى العربة الحربية. ونعرف أن مصر هي البلد الوحيد المجاور الذي تخصص في صناعة العربات الحربية، وفي تربية الخيل على نحو ما أسلفنا.
وحيث إن مشهد يوم الحساب في الآخرة، الوارد في كتاب الموتى عند المصريين القدماء، يعرض صورة مجازية لسائق العربة والجوادين المجنَّحين؛ فإننا لا ننسب تأليف القصة إلى أفلاطون، بل إلى المصريين (انظر [۱]، ف۱۲، ص۱۹۷، ۲۰۲، ۲۰۳، ٢٠٥، ف۱۳، ص٢٢٠-٢٢١؛ [٦٩]، إصحاح ٤٥، ۲۷، ٤٧، ۱۷؛ [۷۰]، ف۲، ص٣٨١؛ [۷]؛ [٤]، ص٨٣-٨٤؛ [٢٤] ج۱، ص١٦٦؛ [٧]).
(٣) أرسطو
(١/أ) حياته الباكرة وثقافته.
(ب) قائمة كتبه كما كتبها هو.
(ﺟ) قوائم أخرى بكتبه.
(٢) المبادئ.
-
مبادئه.
-
مكتبة الإسكندرية.
-
المصدر الحقيقي لكتبه بأعدادها الضخمة غير المألوفة.
-
تناقضات وشكوك في حياته.
(أ) الميلاد وحياته الباكرة وثقافته
حسب مراجع تاريخ الفلسفة اليونانية، وُلِد أرسطو عام ٣٨٤ق.م. في «ستاجيرا» إحدى مدن تراقيا. وقيل إن أباه نيوماخوس عمل طبيبًا لملك مقدونيا أمينتاس. ولا تذكر الكتب شيئًا عن تعليمه في حياته الباكرة، وكل ما قيل إنه أصبح يتيمًا، وإنه ذهب إلى أثينا وعمره ١٩ عامًا، حيث قضى ۲۰ سنة تلميذًا على يدي أفلاطون.
وقيل — أيضًا — إنه بعد وفاة أفلاطون، ابن أخته، أصبح معلم مدرسته، وأن أرسطو سافر مباشرة إلى ميسيا حيث التقى ابنة أخته هيرميا، وتزوج بها.
وبعد وفاة أمينتاس — ملك مقدونيا — سار ابنه فيليب على سنة أبيه، واتخذ أرسطو معلمًا لابنه الإسكندر، وهو لا يزال صبيًّا في الثامنة عشرة من العمر (والذي عُرِف فيما بعد باسم الإسكندر الأكبر نتيجة غزوه مصر).
وعقب اغتيال الملك فيليب — عام ٣٣٦ق.م. — أصبح الإسكندر ملكًا، وقيل إنه — على الفور — شرع يخطط لحملة آسيوية شملت مصر، وقيل إن أرسطو — أثناء ذلك — عاد إلى أثينا وأسس مدرسة في جيمنازيوم كانت تسمى لوكيوم. وعرفنا — زيادة على ذلك — أن أرسطو تولى إدارة هذه المدرسة لمدة اثني عشر عامًا فقط، وأن الإسكندر الأكبر قدم له الأموال اللازمة لشراء عدد كبير من الكتب، وأن تلامذته أصبحوا يُسَمون المشائين. وعرفنا — أيضًا — أن كاهنًا، يُدعى أيوريميدون، اتهمه بالفسوق مما اضطر أرسطو، بسبب ذلك، إلى الفرار من أثينا إلى كالكيس في إيوبويا، حيث بقي في منفاه إلى أن وافته المنية عام ۳۲۲ق.م. (انظر [٤]، ص١٠٤؛ [۲]، ص١٧١-١٧٢؛ [٤٣] حياة أرسطو؛ [٥]، ص٩١-٩٢؛ [٣٤]، ك٥، ص٤٤٩).
(ب) قائمة كتبه كما كتبها هو
يُعزى إلى أرسطو أنه صنَّف كتبه على النحو التالي:
-
(١)
النظري، وموضوعه الحقيقة، ويشتمل على:
- (أ)
الرياضيات.
- (ب)
الطبيعيات.
- (جـ)
الإلهيات.
- (أ)
-
(٢)
العملي، وموضوعه ما هو مفيد، ويشتمل على:
- (أ)
الأخلاق.
- (ب)
الاقتصاد.
- (جـ)
السياسة.
- (أ)
-
(٣)
المنتج أو الشعري، وموضوعه الجميل، ويشتمل على:
- (أ)
الشعر.
- (ب)
الفن.
- (جـ)
الخطابة.
- (أ)
ملحوظة
لم تتضمن هذه القائمة المنطق والميتافيزيقا.
(انظر [٥]، ص۹۲).
(ﺟ) قوائم أخرى بكتبه
ثمة قائمتان بالكتب وصلت إلى العصر الحديث من مصادر سكندرية وعربية.
-
(١)
القائمة الأقدم، مأخوذة من هيرمبوس السكندري (۲۰۰ق.م.) والذي قدَّر عدد كتب أرسطو٤٠٠ عنوان. ويؤكد تسلر في كتابه «تاريخ الفلسفة» أن هذا العدد لا بد وأنه كان في مكتبة الإسكندرية وقت تصنيف القائمة ما دامت لم تتضمن الأعمال التي قيل إنها من تأليف أرسطو.
-
(٢)
القائمة الأخرى مأخوذة عن مصادر عربية، وجمعها بطليموس في القرن الأول أو الثاني الميلادي، وتتضمن هذه القائمة أغلب الأعمال الواردة في المجموعة الحديثة، ويصل مجموعها إلى ألف كتاب (انظر [۲]، ص١٧٢-١٧٣؛ [٥]، ص٩٢-٩٣).
مبادئ أرسطو
(١) الميتافيزيقا أو المبادئ الأساسية في مجال ما بعد الطبيعة
-
(أ)
يعرِّف أرسطو الميتافيزيقا بأنها علم الوجود من حيث هو وجود.
-
(ب)
يحدد كيفيات الوجود بأنها:
- (١)
الوجود بالفعل «إنتلخيا» أي الكمال.
- (٢)
الوجود بالقوة: أي الاستعداد للكمال.
- (١)
-
(جـ)
يؤكد أن جميع الموجودات تشتمل على حالتيْ الوجود بالفعل والوجود بالقوة، وهذان المبدآن موجودان ومتمازجان في جميع الموجودات ما عدا واحدًا، وجوده فعل أو تحقق محض، وقوامه مؤلف من:
- (١)
مادة وصورة.
- (٢)
جوهر وعرض.
- (٣)
النفس وملكاتها.
- (٤)
عقل مقال وعقل منفعل.
- (١)
(٢) مبادئ الوجود في عالم الطبيعيات
ثمة مبادئ أربعة للوجود في عالم الطبيعة، والتي يسميها العلل:
-
(١)
المادة أو العلة المادية، وهي الإمكان أو الاستعداد للوجود، وهي ما يُصنَع منها الوجود.
-
(٢)
الصورة أو الماهية أو العلة الصورية، علة تحقق الوجود بالفعل. إنها ذلك الذي يصاغ فيه الوجود. وحين تتحد المادة مع الصورة ينتج عنهما وجود منتظم أو متحقق في الواقع، والذي يصدر إلى الوجود في عمليات الطبيعة.
-
(٣)
العلة الغائية، وهي الغاية التي يوجد من أجلها كل شيء، فكل موجود له غرض وُجِد من أجله، وهذا الغرض هو علته الغائية، وتنطوي العلة الغائية — دائمًا — على عقل أو ذكاء؛ بيد أن هذا ليس صحيحًا دائمًا في حالة العلة الكافية.
بناءً عليه، فكل موجود أو كل كائن عضوي حي، في مملكة الطبيعة، هو ناتج معقد لعللٍ أربعة:
-
(١)
الجوهر الذي منه يُصنَع الموجود (أي العلة المادية).
-
(٢)
النمط أو المثل، والذي ينزع الجنين إلى التطور وفقًا له (أي العلة الصورية).
-
(٣)
عملية الخلق أو التولُّد أو النشوء (أي العلة الكافية).
-
(٤)
الغرض أو الغاية، التي من أجلها خلق الكائن الحي (أي العلة الغائية)، أو لنقل — بعبارة أخرى — إن المادة والنمط والخلق والغرض هي المبادئ الأساسية الأربعة لكل الموجودات (انظر [٥]، ص۹۷–۱۰۰؛ [٤٤]، ۱، ۳؛ [۳]، ص١٤٠،١٣٦؛ [٧٢] ص٨٠، ٨٤).
(٣) مبادئه عن وجود الله
-
(أ)
على الرغم من أن الحركة أبدية، إلا أنه لا يمكن أن تكون هناك سلسلة لا متناهية من القوى المحرِّكة والقوى المتحركة؛ لذلك لا بد وأن يكون هناك الواحد أو الأول في هذه السلسلة، وهو غير متحرك. أعني لا بد من وجود المحرك غير المتحرك أو المحرك الأول.
-
(ب)
الموجود بالفعل سابق على الموجود بالقوة؛ ذلك لأنه، وإن كان الأخير من حيث الظهور إلى الوجود، إلا أنه الأول من حيث الطبيعة، لذلك لا بد وأن الوجود بالفعل كان موجودًا قبل كل مادة، وقبل تآلف الموجود بالفعل مع الموجود بالقوة. ومن ثَم فإن الوجود بالفعل هو علة جميع الأشياء الموجودة. وحيث إنه وجود فعلي محض فإن حياته — بالضرورة — خلو من كل الشروط المادية. إنه فكر الفكر، أو الروح المطلق القائم في سلامٍ أبدي وبهجة ذاتية، ويعرف نفسه، وهو حقيقة مطلقة، ثم إنه بغير حاجة إلى فعل أو إلى فضيلة.
-
(جـ)
الله واحد؛ لأن المادة هي أساس الكثرة، والعقل الأول بريء من كل الظروف المادية، وحياته فكر تأملي، وإن التدبير والإرادة لا يشبهان — في شيء — الراحة الأبدية التي يقيم فيها؛ فالله غير معني بالعالم.
(٤) مبدؤه عن نشأة العالم
العالم خالد لخلود المادة والحركة والزمان.
(٥) مبدؤه عن الطبيعة
الطبيعة هي كل ما تأسس على الحركة من السكون، إنها تلقائية، أو تحدد ذاتها من داخلها. الطبيعة لا تفعل شيئًا عبثًا، ولكن حسب قانون محدد. إنها تكابد دائمًا من أجل الأفضل، حسب خطة للنمو والتطور، والتي لا يعيقها شيء سوى المادة فقط، واتجاه مكابدة الطبيعة، من الأقل كمالًا إلى الأكثر كمالًا.
(٦) مبدؤه عن الكون
العالم شبه كرة؛ دائري، وشكله على أكمل صورة. والسماء المكونة من أثير في موضع يجعلها على اتصال مباشر بالعلة الأولى. والنجوم، وهي خالدة، تأتي في المرتبة التالية لها. والكرة الأرضية في الوسط، وهي في أبعد نقطة بالنسبة إلى المحرك الأول، وأقل نصيبًا — من حيث المشاركة — في الألوهية (انظر [۳]، ص١٤١–١٤٣؛ [٥]، ص١٠٢-١٠٣؛ [۲]، ص۲۲۱؛ [٤] ص۱۰۹؛ [۷۳] ج۲، ۱، ح٤؛ [٥]، ص١٠٤).
(٧) مبدؤه عن النفس
النفس ليست مجرد تناغم الجسد أو امتزاج الأضداد، إنها ليست العناصر الأربعة ولا مركب منها، ذلك لأنها تعلو جميع الشروط المادية.
والنفس والجسم ليسا شيئين متمايزين، ولكنهما وجهان مختلفان لواحدٍ، أي مثل علاقة الصورة بالمادة.
النفس هي القوة التي يمتلكها الجسم الحي، وهي الغاية، التي من أجلها يوجد الجسم، أي هي العلة الغائية لوجودها.
وبينما تكون النفس، وهي المبدأ الجذري للحياة، واحدًا، إلا أن لها ملكات متعددة، هذه الملكات هي: (١) الحسية (٢) العقلانية (٣) الغذوية (٤) الشهوية (٥) الحركية.
ومَلَكتا الحس والعقل، هما الأهم — شأنًا — من بين هذه الملكات. فالحس هو المَلَكة التي ندرك بها صورة الموجودات الحسية، تمامًا مثل الطبعة بواسطة الخاتم؛ والمعرفة العقلانية هي المَلَكة التي نكتسب بها المعرفة الذهنية، إنها موطن الأفكار فقط، ولكنها لا تخلقها؛ حيث المعرفة تأتي عن طريق الحواس (انظر [٥]، ص١٠٥، ١٠٦؛ [۳]، ص١٤٧–١٥٣؛ [۲]، ص۲۰۱–٢٠٤).
(٣) موجز الاستنتاجات
(أ) مبادئه
يعلن أن صفات الوجود:
-
(أ)
التحقق أو الوجود بالفعل بمعنى المبدأ المحدد.
-
(ب)
الوجود بالقوة أو المبدأ غير المحدد: إذ حاول أرسطو بذلك تفسير الواقع في ضوء مبدأ الأضداد.
غير أن هذا المبدأ لم يستخدمه فقط الفيثاغوريون وبارمينيديس وديمقريطس بنفس الطريقة؛ بل استخدمه — أيضًا — سقراط في محاولة للبرهنة على خلود النفس، كما استخدمه أفلاطون الذي رأى الحقيقة هي مفهومنا عن الأشياء في تمايزها عن الأشياء ذاتها: الوجود في ذاته أو الجوهر الباطن متمايزًا عن الظاهر؛ أو لنقل الواقع في تمايزه عن غير الواقعي.
ولكن مبدأ الأضداد نشأ — أصلًا — في نظام الأسرار المصري الذي رأى الأرباب أزواجًا، ذكورًا وإناثًا، وتميزت المعابد بوجود أزواج من الأعمدة عند الواجهة كرمزٍ لمبدأ الأضداد؛ وبذا يتضح أن أرسطو لم يكن هو صاحب هذا المبدأ، بل المصريين (انظر [٤٤]؛ [۳۸]؛ [٧٤]؛ [٥٠]، ص٦٤، ۷۳، ۸۸).
أ- المفهوم الغائي لم يعتنقه فقط سقراط وأفلاطون وأرسطو، بل كان عقيدة الشعوب منذ أقدم العصور، فإذا طالعنا روايات الإصحاح الأول من سفر التكوين، أو طالعنا فقه إلهيات مدرسة ممفيس، وهما موجودان في الفصلين ۲۰، ۲۳ من كتاب فرانكفورت وعنوانه «الديانة المصرية القديمة» نجد أن الخلق بدأ بعملية تحول من العماء البدائي إلى النظام، حسب خطوات محددة وتدريجية، تكشف عن تخطيط وغرض في الطبيعة، مما يوحي أن هذا — بالضرورة — عمل عقل إلهي، وتاريخ هذه النصوص يعود بنا إلى عصور ضاربة في القِدم قبل أرسطو بقرون طويلة، فيما بين ۲۰۰۰ و٥٠٠٠ق.م.
ملحوظة
يمكن أن نذكر، بطريقة عارضة، وإن كان هذا لا يقلل من أهمية الموضوع، أن قصة الخلق هذه، التي توضح كيف خلق أتوم، أو إله الشمس، بقية الأرباب ليؤلف عائلة ربوبية من تسعة آلهة يُسمون التاسوع، إنما تشير إلى المصدر الرئيسي لفرضيْن علميين هامين في العصر الحديث.
-
(١)
القول بوجود تسعة كواكب كبرى.
-
(٢)
والشمس هي الأب بالنسبة للكواكب الأخرى (وقد وجد هذا التصور دعمًا من الفرض السديمي القائل إن النظام الشمسي ناشئ عن سديم غازي).
-
(أ)
إن عبادة الكواكب بدأت في مصر.
-
(ب)
وإن المعابد المصرية كانت أول مراصد فلكية في التاريخ.
-
(جـ)
في محاولة إثبات وجود الله أو علة أولى بالإشارة إلى الوجود بالقوة، والوجود بالفعل، إنما اتَّبع أرسطو — ببساطة — العرف التقليدي عند القدماء، الذين استخدموا مبدأ الأضداد لتفسير وظائف الطبيعة.
-
(د)
استخدم أفلاطون هذا المبدأ من خلال نظرية المثل ليفسر الواقعي وغير الواقعي في ظواهر الطبيعة.
-
(هـ)
واستخدمه سقراط ليؤكد فكرة الخلود، حين قال إن موت إحدى صور حياة الموجودات ليس إلا بداية لصورة أخرى لحياتها، أو لنقل، بعبارة أخرى، إن الحياة خالدة، وإن التغير هو تغير يطرأ فقط على الشكل في مساره المرحلي.
وطبَّق ديمقريطس مبدأ الأضداد في تفسير حالة خاصة من حالات الواقع، ومن ثَم لا يمكن اعتبار استخدام أرسطو لمصطلحي القوة والفعل — في مشكلة وجود الله — منهجًا جديدًا في التفسير.
علاوة على هذا، فإن استعراض أرسطو لمبادئ جميع الفلاسفة السابقين عليه، بمن فيهم أفلاطون، وكذلك فضحه لأخطائهم وتهافتهم؛ إنما يبين أنه أصبح واثقًا، ليس فقط من أنه حائز على معارف جديدة صحيحة لم تكن متاحة لمن سبقه من اليونانيين، وإنما متأكد — أيضًا — من أنه أصبح قادرًا على أن يتكلم عن ثقة كبيرة وسلطان معرفي. وأجد لزامًا عليَّ — هنا — أن أؤكد اقتناعي بأن أرسطو يمثِّل هوة ثقافية مداها خمسة آلاف عام، أو أكثر، بين إبداعه، وبين مستوى حضارة اليونان القديمة؛ إذ يستحيل عليه الإفلات من الإيمان الراسخ بأنه اكتسب تعليمه وكتبه من أمة غير اليونان، أعني المصريين الذين كانوا متقدمين، في ثقافتهم، بمسافة كبيرة عن اليونانيين في عصرهم (انظر [٥٠]؛ [٧٥]؛ [۳۱]، ك١، ص٦–٢٦؛ [٧٦] ص٦٤، ۷۳، ۸۸؛ [۳۸]؛ [۲]، ص٦١؛ [٥٥]؛ [۲]، ص۲۲۱؛ [۳]، ص١٤١–١٤٣؛ [٥]، ص١٠٢-١٠٣؛ [٥]، ص۹۲، ۹۳؛ [٤]، ص١٠٤؛ [۳]، ص١٢٦-۱۲۷، ١٣٥؛ [۲]، ص۱۷۱–۱۷۳).
يقضي المبدأ المنسوب إلى أرسطو أن أبدية المادة والحركة والزمان يعني — أيضًا — أبدية العالم، ويقرر ويكرر مبدأ منسوبًا — أيضًا — إلى ديمقريطس (٤٠٠ق.م.)، وهو اعتقاد مألوف لدينا عنه؛ إذ يقول «لا شيء يصدر عن العدم»، ومن ثَم فإن المادة، أو العالم، كان موجودًا — دائمًا — بالضرورة.
وعلاوة على زيف الادعاء بأن أرسطو هو صاحب هذا المبدأ، فإنه يناقض نفسه في كتابه «الطبيعيات» ﺟ ٨ حين يتحدث أيضًا عن العالم باعتباره معلولًا؛ إذ لا يمكن أن يكون الشيء أبديًّا ولا نهائيًّا، ويكون في الوقت — ذاته — متناهيًا (انظر [٥٠]، ص۲۰؛ [٦٨]، ص۱۰، ۲۱، ٥٢).
يعرِّف أرسطو الطبيعة بأنها ذلك الذي ينطبق عليه مبدأ الحركة والسكون، ويضيف — أيضًا — أن الحركة جهد للتحرك مما هو أقل كمالًا إلى ما هو أكثر كمالًا، حسب قانون محدد، مثل ما نقوله اليوم باسم قانون التطور.
إذا دققنا في هذا التعريف، نجد أن أرسطو طبَّق فقط مبدأ الأضداد ليفسر أحد الأنماط التي تتجلى فيها الطبيعة، وهو يفعل هنا — تمامًا — ما فعله في محاولته تفسير الوجود في ضوء مصطلحي القوة والفعل.
بيد أن التغير والحركة، الدوام والسكون، لم تكن — بحال من الأحوال — مشكلات جديدة على زمن أرسطو؛ إذ سبق بحثها، ليس فقط على أيدي بارمينيديس، وزينو، ومليسوس، بل، وأيضًا، على يد ديمقريطس، الذي شدَّد على مفهوم الدوام في مقولته الشهيرة (لا يصدر وجود من عدم)، مما يفيد — ضمنًا — أن الطبيعة وجود دائم أبدي.
وبالمثل، فإن إشارته إلى حركة الطبيعة، من الأقل كمالًا إلى الأكثر كمالًا لم يكن اكتشافًا جديدًا — على الإطلاق — لمبدأ من مبادئ الطبيعة.
هاتان القصتان تسبقان زمن أرسطو بآلاف السنين؛ إذ الأولى منذ حوالي ۲۰۰۰ سنة ق.م، بينما الثانية منذ ٤٠٠٠ق.م. وحيث أوضحنا أن مبدأ الأضداد نشأ — أصلًا — على أيدي المصريين القدماء، مثلما قالوا — أيضًا — بالتطور التدريجي للحياة؛ إذن يبين بجلاء أن هذا المبدأ، بشأن صفات الطبيعة، لم ينشأ بداية على يد أرسطو (انظر [۲]، ص٦٠-٦٥؛ [۳]، ص٤٤–٥٢؛ سفر التكوين إصحاح ١؛ [٤]، ص۲۸–۳۲؛ [٦٨]، ص۲۱، ٥١–٦٠؛ [٧٦]، ص۲۰، ۳۰).
يرى أرسطو أن النفس لها الصفات التالية:
-
(١)
الاتحاد بالبدن، شأن اتحاد الصورة بالمادة.
-
(٢)
القوة التي يتمتع بها الجسم الحي، أي المبدأ الأساسي للحياة، والذي يتجلى في الصفات التالية:
- (أ)
الحساسية.
- (ب)
العقلانية.
- (جـ)
الغذوية.
- (د)
الشهوية.
- (هـ)
الحركية.
- (أ)
هذا الوصف الذي قدمه أرسطو للنفس ينطوي، من ناحية على قدر بسيط من التغير بالقياس إلى الأفكار الأكثر شيوعًا وذيوعًا، على أيدي أصحاب مذهب الذرة. وينطوي من ناحية ثانية على قدر بسيط من الاختلاف عن أفكار سقراط وأفلاطون والفيثاغوريين؛ إذ كان الفريق الأول يعتقد أن النفس مادية وتتألف من ذرات نارية، ورأى الفريق الثاني أن النفس تناغم البدن وامتزاج أضداد (انظر [۳]، ص٤٢، ٦٧-٦٨؛ [۳۸]، ف١٥؛ [۲]، ص٦١).
وطبيعيًّا أن نجد أنفسنا هنا مضطرين إلى أن نسأل السؤال التالي: هل نشأ مبدأ النفس هذا — أصلًا — على يد أرسطو؟ واضح أنه لم يأخذه عن معلمه أفلاطون، ولا عن الفيثاغوريين أو أصحاب مذهب الذرة، ولكن عن مصدر آخر خارج اليونان.
وتؤكد قصة الخلق في سفر التكوين أن الله صوَّر الإنسان من المادة (أي من تراب الأرض أو الطين) ونفخ فيه الحياة؛ إذ نفخ فيه من روحه من خلال منخاريه؛ وبذا أصبح الإنسان نفسًا حية، «وهنا نطالع صورة واضحة لوحدة الجسم والنفس» حسبما وردت في وثيقة (سفر التكوين)، وتسبق زمن أرسطو بعدة قرون طويلة.
وتطالع في كتاب الموتى المصري أن النفس البشرية تتألف من تسعة أجزاء غير قابلة للانفصال:
-
(١)
الكا Ka وهي شخصية مجردة للإنسان الخاص بها، وتمتلك صورة وصفات الإنسان، ولها قدرة على الحركة والوجود الكلي، والقدرة على تلقي الغذاء مثل الإنسان، إنها معادل المثال Eidelon.
-
(٢)
الخات Khat وهي الشخصية المجسدة، أي الجسد الطبيعي الفاني.
-
(٣)
البا Ba النفس القلبية أو الكامنة في القلب وتسكن الكا Ka وتكون أحيانًا بمحاذاته كي تمده بالهواء والطعام، ولها قدرة على التحوُّل والتشكل؛ بحيث تغيِّر صورتها حسب الإرادة.
-
(٤)
الأب Ab أو القلب، الحياة الحيوانية في الإنسان، وهي عقلانية وروحية وأخلاقية. وهي مرتبطة بالبا Ba (النفس القلبية). وحسب مشهد يوم الحساب في الآخرة، طبقًا للرواية المصرية القديمة، فإن القلب Ab هو الذي يواجه الحساب في حضرة أوزيريس القاضي الأعظم في العالم الخفي.
-
(٥)
الكيبيت Kaibit بمعنى الظل أو الخيال. ويرتبط بالبا Ba (النفس القلبية)؛ إذ يتلقى منه، مثل ما يتلقى الكا غذاءه، وله قدرة على الحركة والوجود في الكل.
-
(٦)
الخو Khu أو النفس الروحية، وهي خالدة أبدية، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبا Ba (النفس القلبية)، وهي وجود أثيري.
-
(٧)
الساهو Sahu أو الجسد الروحي، وتسكنه الخو أو النفس الروحية، وتتحد فيه الصفات العقلية والروحية للجسم الطبيعي بالقوى الجديدة المميزة لطبيعته.
-
(٨)
السيخيم Sekhem أو القوة، أو التجسد الروحي للقوة الحيوية للإنسان، وموطنها في السموات، مع الأرواح أو الخو Khu.
-
(٩)
الرين Ren أي الاسم أو الصفة الجوهرية للحفاظ على الفرد؛ إذ كان يعتقد المصريون القدماء أن غياب الاسم غياب أو موت لوجود الفرد.
ملحوظة
يجب ملاحظة أنه، وفقًا للمفهوم المصري القديم:
-
(١)
النفس لها تسعة أجزاء، تكتمل باتحادها ببعضها، حتى إن الرين Ren أي الاسم صفة جوهرية؛ إذ بدونه لا يمكن أن يكون للنفس وجود.
-
(٢)
البا Ba أو (النفس القلبية) مرتبطة بكل من الكا KA والكيبيت Kaibit والأب Ab (أو الشخصية المجردة والظل والحياة الحيوانية)، هذا من ناحية، ومرتبطة أيضًا بالخو Khu والسيخيم Sekhem (النفس الروحية والتجسد الروحي للقوة الحيوية) من ناحية أخرى باعتبارها قوة التغذية.
-
(٣)
الساهو Sahu جسم روحي يستخدمه كلٌّ من الخو Khu والسيخيم Sekhem.
-
(٤)
الخات Khat الجسد العضوي، وهو عنصر جوهري للروح عند تجليها على المستوى الطبيعي.
-
(٥)
والنفس لها الصفات الأخرى التالية:
-
(أ)
الحضور الكلي أو الحضور في الكل.
-
(ب)
التحوُّل.
-
(جـ)
الحركة.
-
(د)
الغذوية.
-
(هـ)
الفناء (في حالة الخات Khat).
-
(و)
الخلود.
-
(ز)
العقلانية.
-
(ﺣ)
الروحية.
-
(ط)
الأخلاقية.
-
(ي)
الأثيرية.
-
(ك)
الخيالية أو الظلية.
-
(أ)
-
(٦)
لذلك يبدو واضحًا — من مثل هذه المقارنة — أن مبدأ أرسطو عن النفس متطابق ومتوافق مع جزء بسيط جدًّا فقط من الفلسفة المصرية عن النفس، والذي يقف منها موقف الجزء من الكل. ومن ثَم نخلص إلى أن أرسطو أخذ مبدأه عن النفس من كتاب الموتى المصري، سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
(ب) مكتبة الإسكندرية هي المصدر الحقيقي لهذا العدد الضخم من كتب أرسطو
لنا أن نتوقع أن مكتبة الإسكندرية سرعان ما نقب فيها الإسكندر ونهبها، هو وفريقه. وشارك في ذلك أرسطو وآخرون، الذين لم يقنعوا بما أخذوه، عنوة واقتدارًا، من كميات ضخمة من الكتب العلمية، بل عادوا — مرارًا وتكرارًا — إلى الإسكندرية بغرض البحث، ومثلما حدث، عندما استولى جيش الإسكندر على هذه الكتب في مصر، ووقعت بذلك في يد أرسطو، كذلك بعد وفاة أرسطو؛ كان مصير هذه الكتب ذاتها أن تقع في أيدي جيش الرومان، ويستولي عليها وينقلها إلى روما. وهذا حسب القصة التالية المأخوذة عن كتب التاريخ التي كتبها سترابو وبلوتارك.
«وقعت كتب أرسطو في يدي ثيوفراسطوس الذي خلفه رئيسًا لمدرسته، وعند وفاة ثيوفراسطوس ورثها عنه نليوس من سكيبيس، وعقب وفاة نليوس تم إخفاء الكتب في قبوٍ، حيث بقيت مخبَّأة في هذا المكان نحو قرنين من الزمان.
وبعد أن سقطت أثينا في أيدي الرومان عام ٨٤ق.م. استولى صولا على الكتب، وأرسلها إلى روما؛ حيث استنسخها تيرانيو عالم اللغات؛ وخوَّل أندرونيكوس الروديسي حق نشرها (انظر [۹]؛ [۳۲] في [۳]، ص۱۲۸ هامش).
إن كتابات أرسطو، وهي كتابات مقطعة الأوصال، لا تربطها وحدة واحدة، إنما تكشف عن حقيقة أنه — هو نفسه — أخذ ملاحظات — على عجلٍ — من كتب عديدة، أثناء بحثه في المكتبة المصرية الكبرى. ونعرف أن المنهج القديم في التعلُّم كان شفاهيًّا، وليس عن طريق محاضرات أو كتابة مذكرات وحواشٍ.
وأجد لزامًا — هنا — أن أكرر اقتناعي بأن أرسطو يمثِّل هوة ثقافية مداها ٥٠٠٠ سنة، هي المسافة الزمنية الفاصلة بين إبداعه، وبين مستوى الحضارة اليونانية في زمانه؛ إذ من المستحيل أن نتخلص من الاقتناع بأنه اكتسب تعليمه، وحصل على كتبه من بلد آخر غير اليونان، بلد متقدم — بمسافة كبيرة — على ثقافة اليونان آنذاك، وأن هذا البلد هو مصر والمصريين (انظر [٥]، ص۹۲، ۹۳؛ [٤]، ص١٠٤؛ [۱۳] ص۷۷، ۷۸؛ [۳] ص١٢٦، ١٢٧، ١٣٥؛ [۲] ص۱۷۱–۱۷۳؛ بلوتارك في [٥]، ف۸؛ [٤٤]؛ [۳]، ۱۲۸).
إن الكتب المنسوبة إلى أرسطو تتناول معارف علمية لم تكن متداولة بين الإغريق، ومن ثَم، يغدو من رابع المستحيلات بالنسبة له، كما سبق أن أوضحنا، الزعم بأنه اشتراها من آخرين، ممن قيل عنهم إنهم فلاسفة يونانيون.
ورغبة في إخفاء المصدر الحقيقي لكتبه وتعليمه، يروي التاريخ قصصًا شديدة الغرابة عن أرسطو: (أ) أنه قضى ۲۰ عامًا تلميذًا لأفلاطون، الذي نعرف أنه لم يكن أهلًا لتعليمه. (ب) أن الإسكندر الأكبر منحه أيضًا أموالًا لشراء عدد كبير من الكتب ارتبط اسمه بها، ولكنه — في الوقت نفسه — لم يذكر لنا متى؟ ومن أين؟ ومِن مَن اشترى أرسطو هذه الكتب؟
علاوة على هذا، وكما سبق أن أوضحنا، أن استعراض أرسطو لمبادئ الفلاسفة السابقين عليه، بمن فيهم أفلاطون، علاوة على كشفه لأخطائهم وتهافتهم، إنما يبين أنه أصبح على يقين من أنه ليس — فقط — مالكًا للمعرفة الصحيحة، التي لم تكن متاحة قبل ذلك التاريخ للإغريق، بل، وأيضًا، أصبح قادرًا على التحدث عنها بثقة كبيرة.
(ب-٢) عدم تطابق قوائم الكتب يوحي بالارتياب في تأليفها
-
(١)
هناك — على الأقل — ثلاث قوائم بالكتب، إحداها هي، كما قيل، تصنيف أرسطو — نفسه — لكتاباته. وطبيعيًّا أن تاريخها يرجع بالضرورة إلى فترة حياته (٣٨٤–۳۲۲ق.م.) وأفاد أرسطو، في هذه القائمة، أنه كتب مؤلفات في:
- (أ)
الرياضيات والطبيعيات والإلهيات.
- (ب)
الأخلاق والاقتصاد والسياسة.
- (جـ)
الشعر والفن والخطابة.
والآن فإن من يؤلف هذه الكتب لا بد وأن يكون قد تلقى تعليمه وثقافته وتدريبه في الموضوعات المؤلَّف عنها. وعرفنا من تاريخ فلسفة اليونان أن سقراط علَّم أفلاطون، وأن أفلاطون علَّم أرسطو، ولكن ليست — لدينا — أي بيِّنة على أن سقراط علَّم أحدًا على الإطلاق الرياضيات أو الاقتصاد أو السياسة.
وبناءً عليه، يستحيل عليه أن يعلِّم أفلاطون هذه الموضوعات، كما يستحيل — بالتالي — على أفلاطون أن يعلِّم أرسطو هذه الموضوعات وفقًا لنظام الأسرار المصري، الذي كان نظامًا متدرجًا، ويستلزم برهانًا على الكفاءة قبل التأسيس.
لهذا، فإننا لا نستطيع قبول الزعم بأن أرسطو مؤلِّف هذه الكتب.
- (أ)
-
(٢)
هناك قائمتان مأخوذتان عن مصدرين مختلفين، وكلتاهما تختلفان عن بعضهما اختلافًا بيِّنًا من حيث: (أ) العدد. (ب) الموضوع. (ج) التاريخ.
قائمة هيرمبوس السكندري (۲۰۰ق.م.)، وتحتوي على ٤٠٠ كتاب، والقائمة التي جمعها بطليموس، فيما بين القرنين الأول والثاني الميلاديين، وتحتوي على ۱۰۰۰ كتاب. وأن مجرد عدم التماثل بين القائمتين يثير الشك في تأليفها. كذلك لو قلنا إن أرسطو لم يكن لديه سوى ٤٠٠ كتاب عام ۲۰۰ق.م. إذن نسأل ما هي المعجزة التي أدت إلى زيادة عددهم إلى ۱۰۰۰ في القرن الثاني الميلادي؟ أم أن الأمر ينطوي على تزييف؟
(ﺟ) التناقضات والشكوك في حياته
-
(١)
أضاع ۲۰ عامًا من حياته تلميذًا لأفلاطون.
قيل بأنه قصد أفلاطون، وسنه ١٩ عامًا، وأمضى ٢٠ عامًا تلميذًا على يديه. بيد أن هذا مشكوك فيه وغير معقول؛ إنه قول مشكوك فيه؛ وذلك لأن أفلاطون كان ينظر إليه باعتباره فيلسوفًا، أما أرسطو، فكان يُنظَر إليه باعتباره عالمًا، وعُزِي إليه تأليف المعارف العلمية للعالم القديم، ومن المستحيل أن يعلِّم أستاذ تلميذًا ما لا يعرفه المعلم نفسه.
وهو أيضًا قول غير معقول أن نتوقع من إنسان، منسوب إليه معارف مثل معارف أرسطو أن يضيع ٢٠ عامًا، من أفضل سنوات العمر، على يدي معلم غير أهل لأن يلقِّنه العلم (انظر [٥]، ص۹۲؛ [٤]، ص١٠٤).
-
(٢)
تشويه الحقائق بشأن كيفية حصوله على هذا العدد الكبير من الكتب.
قيل إنه تلقى مساعدة مالية من الإسكندر الأكبر، ومن ثَم استطاع أن يشتري عددًا كبيرًا من الكتب بغية تطوير دراساته (انظر [۲]، ص۱۷۱؛ [۳]، ص۱۲۷).
بيد أن هذا حديث أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة؛ إذ إن التعليم اليوناني — حتى عهد أرسطو — كان يمثِّله السوفسطائيون الذين كانوا يعلمون الخطابة والجدل. أما دراسة العلوم الأولية فقد كانت قاصرة على عدد قليل غير معروف من الفلاسفة. وكان هذا هو مستوى التعليم اليوناني؛ حيث كان السوفسطائيون هم وحدهم المنوط بهم التعليم.
ولكن أرسطو هذا منسوب إليه إنتاج ألف كتاب مختلفة الموضوعات، تتناول جميع فروع المعرفة العلمية عند القدماء، والشيء اليقيني أنه ما كان بإمكانه تحصيل هذه العلوم من اليونانيين؛ ذلك لأن هذا القدر الهائل من المعارف، الذي يحمل اسمه، والذي جرى عرضه باعتباره معارف جديدة، كان — في الواقع — ملكية شائعة تقليدية لدى جميع من كانوا أعضاء في مدارس الفلسفة اليونانية؛ لأنهم هم وحدهم الأشخاص المأذون لهم — داخل اليونان — بامتلاك هذه الكتب، إذ كانت المعرفة محمية باعتبارها من الأسرار.
يبين — بوضوح — في مثل هذه الظروف، أن القسط الأكبر من المعارف العلمية المنسوبة إلى أرسطو لم تكن في حوزة اليونانيين آنذاك، ولم يكن ثمة مَن هو أهل، وله صلاحية لتعليم هذه العلوم في اليونان، أو على الأقل، تعليمها على نطاق واسع.
-
(٣)
حصل على الكتب عن طريق نهب مكتبة الإسكندرية.
بقي الآن سؤال، لا مناص من أن نسأله: كيف إذن أمكن لأرسطو، وهو فرد مستقل، أن يحوز مثل هذا العدد الضخم من المؤلفات العلمية، وهي تراث علمي لمعارف استغرق العالم القديم، في سبيل جمعها، خمسة آلاف عام أو يزيد؟ واضح أن شهرة أرسطو كمفكرٍ صادفت قدرًا هائلًا من المبالغة، ذلك لأن مثل هذا الإنجاز مستحيل بدنيًّا وعقليًّا. ولقد شهد العالم كثيرين من العباقرة، على مدى تاريخ التقدم الفكري للإنسان، بيد أن هؤلاء كانوا متخصصين في مجالات بذاتها، وليسوا متخصصين في جميع أفرع العلم.
والعالم الحديث ليس استثناء من هذا؛ وذلك لأن رجال العلم العِظام — في عصرنا — ليسوا متخصصين في جميع أفرع العلم، بل في فرع بذاته، وهذا هو الطريق الذي يتفق مع طبيعة الأمور.
واقع الحال أن التناقضات والشكوك الكثيرة التي تزخر بها حياة أرسطو وأنشطته تفضي بنا إلى الحل المعقول والوحيد للمشكلة، بدلًا من الحكايات والأقاصيص التي تزعم:- (أ)
أن الإسكندر الأكبر منحه مالًا لشراء الكتب.
- (ب)
أنه قضى ٢٠ عامًا من حياته تلميذًا لأفلاطون.
- (جـ)
أنه ترك قصر الإسكندر إلى أثينا عندما بدأ الإسكندر غزوه مصر، بل على العكس، لا بد وأنه قضى قسطًا كبيًرا من العشرين عامًا تلميذًا على أيدي كهنة مصر. ولا بد بالضرورة وأنه صاحب الإسكندر عند غزوه مصر، مما أتاح له فرصة، ليس فقط ليأخذ ما يشاء من كتب مكتبة الإسكندرية، وهي ذلك العدد الهائل من الكتب التي يقال إنه صاحبها ومؤلفها. بل أتاح له — أيضًا — فرصة لاستنساخ هوامش وحواشٍ خاصة بعددٍ كبير من المجلدات. والحقيقة أن الدراسات الحديثة أثبتت أن كتابات أرسطو تحمل العلامات الدالة على استنساخ هوامش على عجلٍ، مما يوحي بأن أرسطو — نفسه — استنسخ هذه الهوامش من كتب مكتبة الإسكندرية؛ صفوة القول إن الرؤية التاريخية لحياة أرسطو ليست موضع تصديق.
- (أ)
-
(٤)
كانت عادة الجيوش — قديمًا — الاستيلاء على الكتب باعتبارها غنيمة حرب قيمة.
كانت العادة — قديمًا — حين تستولي الجيوش المظفرة على بلدٍ ما، أن تتولى مجموعات خاصة البحث عن غنائم الحرب والاستيلاء عليها؛ أي أن يتولَّوا — هم بأنفسهم — أمر الاستيلاء على كل ما يرونه قيمًا. وكان الإغريق — من بين جميع البلدان المحيطة — الأكثر لهفة للحصول على الأسرار القيمة للمصريين في العلوم القديمة. ويبدو واضحًا أن أعظم فرصة سنحت لهم لتحقيق رغبتهم وقت أن غزا الإسكندر الأكبر مصر. وكما أسلفنا فإن الجيوش الغازية اعتادت أن تغتنم المكتبات بسبب القيمة العظيمة التي تُعزى لها. كذلك تم الاستيلاء على محتويات المعابد باعتبارها غنيمة، ليس فقط بغية الحصول على الكتب، بل وأيضًا للحصول على الذهب والفضة التي كانت مادة صناعة الآلهة ومواكب الاحتفالات.