المنهاج التعليمي في نظام الأسرار المصري
(١) تعليم الكهنة المصريين حسب مراتبهم
عرفنا من ديودور وهيرودوت وكليمنت السكندري أنه كانت هناك ست مراتب للكهنة المصريين، وأن كل مرتبة عليها أن تمتلك ناصية عدد معين من كتب هرمس. وقد وصف كليمنت موكبًا للكهنة، وسمَّاهم — حسب مراتبهم — موضحًا صفات كل منهم على النحو التالي:
جاء في المقدمة أودوس حاملًا آلة موسيقية، كان لزامًا عليه أن يستظهر كتابين من كتب هرمس، أحدهما يشتمل على تسابيح للإله، والثاني خاص بحياة الملك. وجاء بعده المنجم حاملًا — في إحدى يديه — جهازًا لقياس الوقت أو مزولة شمسية وسعفة نخيل، وهي رموز على الفلك، وكان لزامًا عليه أن يعرف خمسة من كتب هرمس الخاصة بالفلك.
ويلي هذين حامل الرموز السرية، وقد غطى رأسه بالريش، وفي يديه كتاب وحقيبة مستطيلة الشكل مع أدوات الكتابة أي الحبر والقصبة، وهذا عليه أن يتعلم اللغة الهيروغليفية ووصف معالم الكون «الكوزمولوجيا» والجغرافيا والفلك وطوبوغرافيا مصر، أي وصف مصر ورسم أماكنها، والأواني المقدسة وأدوات القياس وأثاث المعبد والأراضي.
يأتي، عقب هؤلاء، الكهنة بأرواب مزركشة، حاملين ذراع العدالة وأواني السائل المقدس، وهؤلاء عليهم الإحاطة بكتب هرمس التي تتناول موضوع ذبح الحيوانات.
يأتي من بعدهم المتنبئ، حاملًا إناء الماء المقدس، وفي أعقابه حملة أرغفة القربان.
والمتنبئ هو رئيس المعبد، وعليه أن يحيط — علمًا — بعشرة كتب تُسمَّى الكهانة، وتحتوي على القوانين والمبادئ المتعلقة بالآلهة (فقه الإلهيات السري)، وكل مناهج التعليم الخاصة بالكهنة. وكتب هرمس عددها ٤٢ كتابًا، وجميعها ضرورية ضرورة مطلقة، ويتعين على المراتب السابقة على مرتبة المتنبئ أن تعرف ٣٦ من هذه الكتب، وتشتمل على كل الفلسفة المصرية، أما الكتب الستة الباقية فيجب أن يعرفها إخوة مرتبة الباستوفوري، وهذه هي كتب طبية، وتتناول وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، وأمراض الذكور والإناث، والتشريح والعقاقير والأدوات. ولقد كانت كتب هرمس معروفة جيدًا للعالم القديم، وكان يعرفها كليمنت السكندري الذي عاش في بداية القرن الثالث الميلادي.
وعلاوة على التعليم المتضمن في كتب هرمس اﻟ ٤٢، كان الكهنة يحصلون على معارف هامة من خلال عمليات الانتقاء بين أضحيات القرابين ودراستها، وعمليات التطهر البدني الصارمة التي يفرضها عليهم نظامهم الكهنوتي.
وبالإضافة إلى المنجم، وإلى حامل الرموز السرية، وكلاهما بارعان في فقه الإلهيات وفي اللغة الهيروغليفية المقدسة، كان الكاهن يعمل — أيضًا — قاضيًا ومفسرًا للقانون. وأفضى هذا إلى نظام المحكمة المختارة، وهو نظام جعل من الكاهن المصري مستودع كل أنواع الأدب، وقيل — أيضًا — إن علم الإحصاء كان موضوعًا حقق فيه الكهنة المصريون أعظم قدر من الكمال في مستوى العصر (انظر [٧]، ك١، ص۸۰؛ [٦٤]، ٦، ٤، ص٧٥٦؛ [٢٤]، ك١، ص۳۷۸-٣٧٩، ك۲، ص٨٥–٨٧، ص٣١–٣٣).
(٢) تعليم الكهنة المصريين
-
(أ)
الفنون السبعة العقلية.
-
(ب)
النظم السرية للغات والرموز الرياضية.
-
(جـ)
السحر.
(أ) تعليم الكهنة المصريين الفنون السبعة العقلية
كما سبق أن أوضحنا، خلال حديثنا عن أفلاطون والفضائل الأساسية، فقد كانت نظم الأسرار المصرية هي مركز الثقافة المنظمة، ومصدر التعليم المعتمد في العالم القديم. وكان المريدون الجدد يتدرجون، حسب كفاءتهم المعنوية وأهليتهم العقلية، ويتعين عليهم الخضوع — سنوات طويلة — لاختبارات وامتحانات قاسية، حتى يمكن تحديد صلاحيتهم للتقدم. واشتمل تعليمهم على الفنون السبعة العقلية والفضائل، ولم تكن الفضائل تجريدات أو أفكار أخلاقية عاطفية فحسب، بل المظاهر الإيجابية لشجاعة وحيوية النفس، ويدخل الكهنة بعد هذا لدراسة مناهج للتخصص.
(ب) تعليم الكهنة المصريين اشتمل أيضًا على التخصص في النظم السرية للغة والرموز الرياضية
-
(١)
سيظهر — بوضوحٍ — أن المصريين كانوا يستخدمون صورتين للكتابة:
- (أ)
الديموطيقية، والتي كانوا يعتقدون أن الفرعون بسماتيك هو الذي أدخلها لأغراض تجارية.
- (ب)
الهيروغليفية، وكان منها شكلان للكتابة: الهيروغليفية الخالصة، والهيرية أو الكهنوتية وهي ذات شكل طولي. وهذان الشكلان قاصران على الكهنة وحدهم بغية إخفاء المعنى السري والرمزي لهذه المبادئ (انظر [٦٤]، ك٥، ف٤، ص٦٥٧؛ [۳۲]، ك٢، ص٣٧٤؛ [٢٤]، ك٢، ص٨٤، ۱۱۹، ٣٣٦، ٢٤٥).
- (أ)
-
(٢)
وعرفنا — أيضًا — أن نظام الأسرار المصري استخدم أساليب للغة المنطوقة التي لا يفهمها سوى المبتدئين من المريدين، ولم تكن هذه الأساليب تشتمل على الأساطير والأمثال، بل اشتملت، كذلك، على لغة سرية اسمها سنزار Senzar (انظر [۱۲]، ص۲۳).
-
(٣)
ونفهم كذلك أن المصريين عزوا قيمًا عددية لأحرف الكلمات ولأشكالها الهندسية، وذلك لأغراض تتطابق مع أغراضهم من استخدام اللغة الهيروغليفية، أي لإخفاء تعاليمهم. وفهمنا، علاوة على هذا، أن الرمزية العددية والهندسية عند المصريين متضمنة في كتب هرمس اﻟ ٤٢؛ وقد كان نظامها هو النظام الأقدم، والمستودع — الأكثر شمولًا — للرمزية الرياضية. وهنا نتذكر مرة أخرى مصدر فلسفة العدد عند فيثاغورس (انظر [۱۲]، ص٢٢-٢٣؛ [٦٤] ك٥، ف۷، ۹).
(ﺟ) تعليم الكهنة المصريين اشتمل أيضًا على التخصص في السحر
حسب رواية هيرودوت، فقد كان الكهنة المصريون يتمتعون بقوى خارقة للطبيعة لأنهم تدربوا على فلسفة قاصرة على عدد محدود من الصفوة هي الأسرار الأعظم، مثلما كانوا خبراء في السحر، وكانوا يتمتعون بقدرة على التحكم في عقول الناس (التنويم)، والقدرة على التنبؤ بالمستقبل، والقدرة على السيطرة على الطبيعة (قدرات إلهية)، وذلك بإعطاء أوامر باسم الإله؛ وبذا يأتون أفعالًا عظيمة. ويرى هيرودوت كذلك أن مصر موطن أشهر عمليات الوحي الإلهي التي عرفها العالم القديم: مينيرفا في سايس، وديانا في بوبسطة، ومارس في بابريميس، وجوبيتر في طيبة وأمونيوم، ويرى أن أحداث الوحي اليونانية إنما كانت محاكاة لما يجري في مصر.
وحري بنا أن نذكر هنا أن الكهنة المصريين هم أول كهنة حقيقيين في التاريخ مارسوا، حسب الزعم السائد، السيطرة على قوانين الطبيعة. ولعل مما يجدر ذكره هنا، أن كتاب الموتى المصري هو كتاب وصفات وتعاليم سحرية استهدف توجيه قَدَر النفس الراحلة. لقد كان كتاب الصلوات الخاص بنظام الأسرار المصري، وقد تدرب الكاهن المصري على ظروف ما بعد الوفاة، وطرق التحقق منها، ويجب أن نلاحظ أن السحر هو دين تطبيقي، أو منهج علمي بدائي (انظر كتاب الموتى المصري، [۳۱] ك ٢، ص۱۰۹، ۱۱۷؛ [۱]، ص۲۷، ٥٠٧؛ [٥٧] تعريف السحر).
(٣) مقارنة المنهاج التعليمي لنظام الأسرار المصري بقوائم الكتب المنسوبة إلى أرسطو
(أ) المنهاج التعليمي
كان المنهاج التعليمي لنظام الأسرار المصري مؤلفًا من الموضوعات التالية:
-
(١)
الفنون العقلية السبعة، التي تشكِّل أساس التثقيف لجميع المبتدئين، وتشمل قواعد النحو والصرف والحساب والخطابة والجدل (أي الرباعية) والهندسة والفلك والموسيقى (أي الثلاثية).
-
(٢)
علوم كتب هرمس اﻟ ٤٢؛ إذ علاوة على التثقيف الأساسي المخصص لجميع المريدين المبتدئين، فإن من يلتمسون المراتب القدسية عليهم استظهار كتب هرمس، ويقول كلمنت السكندري إن نظمها وموضوعاتها كالآتي:
(أ) المرتل أو أودوس، ويتعيَّن عليه الإحاطة بكتابين من كتب هرمس خاصة بالموسيقى، أي التسابيح للآلهة.
(ب) المنجِّم ويتعيَّن عليه الإحاطة بأربعة من كتب هرمس خاصة بالفلك.
(ﺟ) حامل الرموز السرية، ويتعين عليه أن يجيد اللغة الهيروغليفية و«الكوزموجرافيا»، أي وصف معالم الكون والجغرافيا والفلك وطوبوغرافيا مصر ومساحة الأراضي.
(د) حاملو الأرواب المزركشة، ويتعين عليهم معرفة كتب هرمس بشأن ذبح الحيوانات وعملية التحنيط.
(ﻫ) المتنبئ وهو رئيس المعبد، ويتعين عليه الإحاطة بكتب هرمس الخاصة بالمستوى الأرفع من فقه الإلهيات للنخبة، فضلًا عن كل ما يتعلمه الكهنة.
(و) الباستوفوري Bastophori ولا بد له أن يعرف ستة من كتب هرمس وهي كتب الطب، والتي تتناول وظائف الأعضاء وأمراض الذكور والإناث والتشريح والعقاقير والآلات الطبية. -
(٣)
علوم الآثار (الأهرامات – المعابد – المكتبات – المسلات – تماثيل سفنكس أو أبو الهول – الأوثان)، العمارة – البناء – النجارة – الهندسة – النحت – علم المعادن – الزراعة – التعدين أو استخراج المعادن – الجراحة – الفنون (الرسم والتلوين).
-
(٤)
العلوم السرية:
الرموز العددية، الرمزية الهندسية، السحر، كتاب الموتى، الأساطير، الحكم والأمثال.
-
(٥)
النظام الاجتماعي وحمايته.
كان الكهنة المصريون، علاوة على هذا، محامين وقضاة وموظفي دولة، ورجال أعمال وتجارة وقباطنة. ومن ثَم، فلا بد وأنهم تثقفوا في مجالات الاقتصاد والتربية المدنية والقانون والحكم والإحصاء والتعداد والملاحة وبناء السفن والعلم العسكري، وصناعة العربات وتربية الخيول.
واذا قارنا بين ٣ أو ٣ب التي تليها مباشرة سوف نكتشف أن المنهاج التعليمي لنظام الأسرار المصري يشمل نطاقًا واسعًا جدًّا من الموضوعات العلمية، تفوق — كثيرًا — الموضوعات الواردة في قائمة أرسطو.
ملحوظة:
نلاحظ أن الفنون العقلية السبعة: الرباعية والثلاثية نشأت بداية في نظم الأسرار المصرية (انظر [٧٦]؛ [۷۷]؛ [۷۸]؛ [۷۹]؛ [۸۰]؛ [۸۱]).
(ب) قائمة كتب أرسطو التي أعدَّها بنفسه
أعد أرسطو قائمة بالكتب، حسب الترتيب التالي (انظر [٥]، ص۹۷؛ [۳]، ص۱۲۹).
-
(١)
العلوم النظرية، وهدفها الحقيقة، وتضمنت:
- (أ)
الرياضيات.
- (ب)
الطبيعيات.
- (جـ)
الإلهيات.
- (أ)
-
(٢)
العلوم العملية، وهدفها النفع، وتضمنت:
- (أ)
الأخلاق.
- (ب)
الاقتصاد.
- (جـ)
السياسة.
- (أ)
-
(٣)
علوم الشعر أو الإبداع، وهدفها الجمال، وتضمنت:
- (أ)
الشعر.
- (ب)
الفن.
- (جـ)
الخطابة.
- (أ)
وإن دراسة ومقارنة ١أ و٣ب توضحان:
-
(أ)
المنهاج التعليمي لنظام الأسرار المصري اشتمل على جميع الموضوعات العلمية والفلسفية المنسوب إلى أفلاطون تأليفها.
-
(ب)
الكتب المنسوبة إلى أرسطو، وقيل إنه هو مؤلفها، لا يمكن فصلها عن أصلها المصري على نحو ما أشرنا — في موقع سابق — سواء عن طريق نهب المكتبة الملكية بالإسكندرية، أو عن طريق البحث الذي أجراه أرسطو بنفسه هناك. وكما أشرنا — أيضًا في السابق — فإن كتابات أرسطو موضع خلاف ونزاع بين الباحثين المحدثين (انظر [۳]، ص۱۲۷). وإني أشعر بأن لدينا مبررًا واضحًا يدعونا إلى المقارنة بين المنهاج التعليمي لنظام الأسرار المصري وبين القائمة التي قيل إن أرسطو أعدَّها بنفسه، وقال إنه صاحبها، فضلًا عن القائمة المشبوهة التي تضم ألف كتاب، فإن موضوعاتها — على الرغم من ذلك — متضمنة أيضًا في المنهاج التعليمي لنظام الأسرار المصري (انظر [۲]، ص۱۷۳).