الإصلاح الاجتماعي من خلال فلسفة جديدة لتحرير أفريقيا
الآن، وقد وضح أن الفلسفة والفنون والعلوم إنما ورثتها الحضارة عن شعب شمال أفريقيا، وليس عن شعب اليونان، أصبح لزامًا — تصحيحًا للوضع — أن يتحوَّل بندول الثناء والتكريم من شعب اليونان إلى شعب القارة الأفريقية، الورثة الحقيقيين والجديرين بهذا الثناء والتكريم.
وسوف يعني هذا تحولًا مهولًا في رأي العالم وفي موقفه؛ إذ يتعين على كل الشعوب والأعراق الذين قبلوا فلسفة الوفاء والانعتاق لأفريقيا الجديدة، أي قبول حقيقة أن الإغريق ليسوا أصحاب الفلسفة اليونانية، وإنما أصحابها شعب شمال أفريقيا. وهذا من شأنه أن يغيِّر رأي العالم ليتحول من تحقير إلى احترام للشعوب السوداء، في جميع أنحاء العالم، وأن يعاملوهم على هذا الأساس.
وسوف يعني — أيضًا — تحولًا — هو الأخطر شأنًا — في عقلية الشعوب السوداء؛ تحوُّل من عقدة النقص إلى إدراك ووعي بأنهم أنداد لشعوب العالم العظيمة الأخرى الذين شيدوا حضارات عظيمة، وإن هذا التحول في عقلية الشعوب السوداء والبيضاء سيفضي إلى تحولات هامة عظيمة في مواقف كل تجاه بعضهم البعض، وفي المجتمع إجمالًا.
شهدت دراما الفلسفة الإغريقية ثلاثة ممثلين أو عناصر فاعلة، أدوا — جميعًا — أدوارًا متمايزة، ونعني بهم الإسكندر الأكبر، الذي شنَّ عدوانًا غزا به مصر عام ٣٣٣ق.م. ونهب المكتبة الملكية بالإسكندرية، هو ورفاقه وأخذوها غنيمة حرب، واستولى هو ورفاقه على كنوز من الكتب العلمية والفلسفية والدينية. وهكذا سرقوا مصر وضمُّوها إلى إمبراطورية الإسكندر ولاية تابعة، ولكن خطة الغزو تضمنت ما هو أكثر — كثيرًا — من مجرد التوسع الإقليمي؛ ذلك لأنه مهَّد ويسَّر سبل الاستيلاء على ثقافة القارة الأفريقية. وينقلنا هذا إلى الفاعل الثاني، ونعني به مدرسة أرسطو التي انتقل تلامذتها من أثينا إلى مصر، وحوَّلوا المكتبة الملكية — أول الأمر — إلى مركز أبحاث، ثم بعد ذلك إلى جامعة، وأخيرًا، وفي المرة الثالثة، جمعوا كم المعارف العلمية الهائلة التي اكتسبوها عن طريق البحث، هي والتعاليم الشفاهية التي تلقاها التلاميذ اليونانيون على أيدي الكهنة المصريين، وصنَّفوا حصاد هذا كله فيما سمَّوه تاريخ الفلسفة اليونانية.
وهكذا سرق الإغريق تراث القارة الأفريقية، وادَّعوه لأنفسهم. وكما أشرنا — آنفًا — أسفرت هذه الخيانة للأمانة عن اختلاق رأي عالمي خاطئ، وخلاصة هذا الرأي أن القارة الأفريقية لم تسهم بنصيب في الحضارة لأن شعوبها متخلفة ومنحطو الذكاء والثقافة.
هذا الرأي الخاطئ عن الشعوب السوداء قد أساء إليهم إساءة خطيرة على مدى القرون الماضية حتى عصرنا الراهن؛ حيث بلغت هذه الإساءة ذروتها في تاريخ العلاقات البشرية. وننتقل الآن إلى العامل الثالث، ونعني به روما القديمة التي ألغت نظام الأسرار السائد في القارة الأفريقية عن طريق مرسوم الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس، في القرن الرابع الميلادي، ومرسوم الإمبراطور جوستنيان في القرن السادس الميلادي. ولقد كان نظام الأسرار هو النظام الثقافي في العالم القديم. إن المبادئ الميتافيزيقية الأسمى لنظم الأسرار تلك ليس بالإمكان استيعابها وفهمها، وتفيد أن الكهنة كانوا يتمتعون بقوًى روحية خارقة، هذا فضلًا عن أن السحر المقترن بالشعائر والاحتفالات ملأ نفوس الناس رهبة. ولقد كانت مصر الأرض المقدسة في العالم القديم، وكان نظام الأسرار المصري هو العقيدة الدينية القديمة العالمية والمقدسة وصاحب السلطان والهيمنة العليا. وإن هذا النظام الثقافي الرفيع للشعب الأسود ملأ روما حقدًا. وبناء على هذا، شرَّعت المسيحية، التي ظلَّت تضطهدها طوال خمسة قرون، وفرضتها — باعتبارها دين الدولة والمنافس لنظام الأسرار — على الرغم من أنه هو الأم. وهذا هو السبب في نظرة الازدراء لنظام الأسرار. ولهذا السبب — أيضًا — ينظرون بازدراء إلى الديانات القديمة الأخرى للشعوب السوداء؛ حيث إنهم — جميعًا — من ذرية نظام الأسرار الأفريقي، الذي لم يفهمه — أبدًا وبوضوحٍ — الأوروبيون، واستثار هذا في الأوروبيين حقدهم واحتقارهم.
وأعتقد أن إصلاحًا من هذا النوع ممكن إذا ما تعاونت خيرة العقول من أبناء الفريقين العرقيين في سبيل إنجاز هذا الهدف. لقد كان كلا الفريقين ضحية معًا لتعليم شائه نابع من تراث زائف عن قارة أفريقيا، أفضى إلى تولد مواقف واتجاهات تتسق مع هذا الاعتقاد المشترك؛ الشعوب البيضاء وعقدة التفوق، والشعوب السوداء وعقدة النقص المقابلة لتلك. وإذا شئنا إنجاز إصلاح في العلاقات بين الأعراق، فمن الواضح أنه سيكون لزامًا على كل من العرقين — الأسود والأبيض — حشد جهودهما في سبيل التخلي عن هذه العقلية وتدميرها، وهي العقلية التي أودت بالشعوب السوداء إلى مهاوي الأزمة الاجتماعية التي يعانون منها .
وأرى أن يتم هذا من خلال غرس ونشر الحقيقة في كل أنحاء العالم، عن طريق نظام لإعادة التعليم، يستحث ويشجع على تغيير اتجاهات ومواقف كل من العرقين تجاه الآخر، ثم، وفي سبيل حشد الجهود يتعين على كلا العرقين ألَّا يقنعا بالمواعظ وتعليم الحقيقة، التي تؤكد أن نظام الأسرار في القارة الأفريقية وَهَبَ العالم الفلسفة والدين والفنون والعلوم، بل والسعي جاهدين من أجل محو كل مظاهر الثناء — الزائفة — للإغريق من الكتب الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا؛ إذ إن هذا الأسلوب — في الممارسة — هو الذي طمس الحقيقة، وأخفاها عن العالم، ووضع الأسس للعلاقات المؤسفة بين الأعراق في العالم الحديث.
-
(أ)
إذ يجب — على سبيل المثال — شطب اسم فيثاغورس من كتب الرياضيات المدرسية، فالشائع في هذه الكتب أن نظرية المربع القائم على وتر المثلث قائم الزاوية توصف بأنها نظرية فيثاغورس، وهو قول غير صحيح.
-
(ب)
يجب أن توضح للعالم الخداع الماثل في القول إن سقراط صاحب شعار «أيها الإنسان اعرف نفسك»، أو كذلك في القول إن أفلاطون صاحب فكرة الفضائل الأربع الرئيسية هذا طالما وأن سقراط عرف شعار اعرف نفسك من المعابد المصرية الذي كان منقوشًا على جدرانها، وأفلاطون اختزل الفضائل العشر إلى أربع، وهي الفضائل التي كان يدعو لها نظام الأسرار في شمال أفريقيا.
-
(جـ)
ويجب أن نبرهن للعالم أن مبادئ ما يسمى الفلسفة اليونانية إنما نشأت في أحضان نظام الأسرار القديم في شمال أفريقيا، هذا البرهان عرضناه في الفصول ٥، ٦، ٧، ٨ من كتاب «التراث المسروق».
وحتى نضطلع بحربنا الصليبية على اتساع العالم كله نوصي بإقرار كتاب «التراث المسروق» وتدريسه في المدارس والجامعات لجميع الشعوب، التي تضم العرقين، الأبيض والأسود، وإشاعته بين الجماعات؛ حتى يتسنى لجميع أبناء جيلنا — شبابًا وشيوخًا — معرفة الحقيقة، ومن ثم يستطيعون نقله إلى أجيال المستقبل. وأعتقد أن هذه الطريقة ذات فائدة جمة؛ إذ تساعد على جعل عملية إعادة التربية والتعليم عملية عالمية وفعالة في سبيل إنجاز الإصلاح اللازم بإلحاح في العلاقات بين العرقين. إن الشعوب البيضاء — في عصرنا الحديث — لا يمكن اعتبارها وحدها المسئولة — جميعها وبالكامل — عن الأوضاع الاجتماعية الناجمة عن التراث العرقي الزائف، فإن هذا هو ما يجعل العلاقات العرقية تحديًا يواجه أفضل العقول لدى الجماعات العرقية من الجانبين بغية حشد الجهود وصولًا إلى حل للمشكلة.
ولكن ثمة علة أخرى وراء علاقاتنا العرقية المضطربة والمتردية، وأود أن أقرر هنا أن هذه علة تكميلية ومؤكِّدة لما ذهبنا إليه؛ ذلك لأن التراث الزائف عن تخلف القارة الأفريقية، وهو التراث الذي اختلقه الإسكندر الأكبر ومدرسة أرسطو، قد ضخمته الآداب والبعثات التبشيرية، مثلما ضاعفت منه إرادة أباطرة الرومان، واتخذوه — جميعًا — مصدرًا للسخرية والازدراء، وليس ثمة شك في أن هذه السياسة خلقت مرارة واستياءً في عقول المواطنين الذين اضطروا إلى الشك في إخلاص البعثات التبشيرية يم، واكتسب — في هذه الأثناء — المشروع التبشيري تعاطفًا ودعمًا من عالم تعلَّم تعليمًا شائهًا ومضللًا بغية المضي — قُدمًا — في برنامجه.
وما الذي يمكن أن نعمله من أجل استئصال هذا الشر الثاني والأكثر خبثًا؛ التهويل من تراث زائف ليبدو وكأنه حقيقة واقعة؟ أقترح ما دام التبشير يعمد إلى التهويل من شأن تراث زائف حتى يتسنى له أن يقتنع به هو نفسه أيضًا، لذلك يتعين أن تتضافر جهودنا، أولًا، من أجل إعادة تعليم القائمين به حتى يعرفون هم الحقيقة، ويغيرون من مشاعر عقدة التفوق في نفوسهم، والمسئولة عن تلك السياسة الخاطئة التي انتهجوها. وإعادة التربية والتعليم هنا لن تقوم فقط على أساس دراسة شاملة للأفكار والحجج الواردة في كتاب «التراث المسروق»، بل تقوم كذلك على التثقيف تثقيفًا خاصًّا على لغة وأعراف وعادات الأفريقيين ومُثُلهم العليا، حتى نغرس فيهم موقف الاحترام لثقافة القارة الأفريقية باعتبارها الثقافة الأقدم للبشرية، وباعتبار تلك القارة مهد ومهبط نظم الأسرار القديمة. وحين يتهيأ عالم مستنير إزاء الحقيقة الواقعة بشأن مكانة القارة الأفريقية في تاريخ الحضارات فسوف ينتفي دور التراث الزائف، وينتهي الإيمان به، وتختفي مشاعر الازدراء والانحياز، وتنزع العلاقات العرقية إلى أن تكون علاقات سوية وسلمية.
يقودنا هذا إلى المشكلة الأخيرة، وهي مشكلة الوفاء والانعتاق لأفريقيا. إن هدف كتاب «التراث المسروق» ليس فقط الحث على إصلاح العلاقات بين العرقين الأبيض والأسود، وتصحيح وضع البحث العلمي، بل هدفه — أيضًا — غرس مشاعر كبرياء عرقي في نفوس السود أنفسهم، وأن يقدم لهم فلسفة جديدة مرتكزها الوفاء والتحرير لأفريقيا، باعتبارها نموذجًا للعمل المنشود من أجل إنجاز الإصلاح بين الأعراق.
وفلسفة الوفاء والتحرير الجديدة هذه قوامها فرض بسيط هو ما يلي:
«الإغريق ليسوا هم أصحاب الفلسفة اليونانية، وإنما أصحابها الشعب الأسود في شمال أفريقيا وهم المصريون.»
والآن، لكي نوضح قيمة هذا الطرح، يتعين أن نسأل ثلاثة أسئلة، وأن نجيب عليها:
(أ) من حيث هو طرح بسيط ما هي أهميته ودلالته؟
تكمن أهميته في أنه بيان يقرر حقيقة هامة، هي فضح التضليل الإغريقي.
(ب) لماذا نسمي هذا الطرح فلسفة؟
الفلسفة اعتقاد مقبول، وهذا الطرح فلسفة لأنه معروض باعتباره اعتقادًا جديرًا بأن يكون موضع قبول.
(ﺟ) ما هي فلسفة الوفاء والتحرير؟
فلسفة الوفاء والتحرير ليست مجرد قبول اعتقاد، بل هي اعتقاد يحيا — أيضًا — ابتغاء الاستمتاع بمنافع تعلُّمه.
وهذا الطرح سبيله إلى أن يكون فلسفة وفاء وتحرير لجميع أبناء الشعوب السوداء حين يرتضونها اعتقادًا، ويحيا لتحقيق موضوعه وهدفه، ويسلمنا هذا إلى سؤالنا الأخير، وهو كيف نضطلع بفلسفة الوفاء والتحرير هذه؟ أو بعبارة أخرى، كيف سيعمل الشعب الأسود وصولًا إلى خلاصه؟
ويتعين منذ البداية تذكرة قرائي ومعاوني في سبيل حل مشكلة عامة، أن فلسفة الوفاء والتحرير التي نقترحها هي عملية سيكولوجية تنطوي على تغير الاعتقاد أو الذهنية، لكي يعقبها تغيير مطابق في السلوك. إنها تعني — حقًّا وصدقًا — تحريرًا عقليًّا يتحرر فيه الشعب الأسود من أغلال الزيف التقليدي، الذي أبقاهم — قرونًا طويلة — أسرى سجن عقدة النقص والمرذلة والاحتقار، ويجب ألَّا ننسى أن هذا التحرير أو الانعتاق الذهني له وظيفتان، أنه من ناحية تحرير عام عندما ننظر إلى ظاهرة علاقاتنا العرقية الضارة باعتبارها مشكلة عامة بحاجة إلى تحرر كلا العرقين بغية الوصول إلى حل. وحسب هذا المعنى العام يتجاوز التحرير حدود ومعالم العرق، ومن ثَم يتسع مداه ليشمل العالم كله، شعوبًا بيضاء وسوداء معًا، ما دمنا جميعًا ضحايا نفس أغلال الزيف التقليدي، الذي وضع العالم الحديث أسيرًا له. والتحرير أو الانعتاق هو، من ناحية أخرى، عملية خاصة ونوعية، وذلك عندما نشير إلى النتائج المترتبة على ظاهرة العلاقات العرقية الضارة، وأثرها على الشعوب السوداء، إنه حرية أو تحرر من قيود هذه الأوضاع، وهذه الحرية هي قوام الوظيفة النوعية والخاصة بالتحرير أو الانعتاق.
لقد استطردنا قليلًا في حديثنا بهدف بيان معنى مصطلحي فلسفة وفلسفة التحرير اعتقادًا منَّا بضرورة ذلك قبل الشروع في الإجابة على السؤال التالي: كيف نضطلع بفلسفة التحرير والوفاء الجديدة هذه؟ وكيف يتعيَّن إنجازها؟
يتعين بداية تحرير الشعوب السوداء من عقدة النقص الحاكمة لهم عن طريق فلسفة جديدة هي فلسفة التحرير والوفاء، والتي استهدفت تحطيم أغلال التراث الزائف الذي وضعهم أسرى له، بعد ذلك يجب أن يواجهوا ويفسروا العالم وفقًا لرؤيتهم وفلسفتهم الجديدة. إن الملاحظ على مدى القرون الماضية، وحتى عصرنا الحديث، أن الظروف العالمية تأثرت بظاهرتين، أثَّرتا — بدورهما — على العلاقات الإنسانية:
-
(١)
توجيه ثناء زائف إلى الإغريق: وهذه عادة أو تقليد يبدو أنه سياسة تعليمية تربوية أحكمتها ووجَّهتها المؤسسات التعليمية، وأفضى هذا إلى عبادة زائفة وخادعة لكل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، باعتبارهم أرباب الفكر والعقل في جميع الجامعات الكبرى في العالم. وفي سبيل دعم هذه العبادة الفكرية عمدت تلك المؤسسات — أيضًا — إلى تنظيم ما يُعرف باسم جماعات الأُخوَّة والأخوات اليونانية المثقفة، باعتبارها رموزًا لتفوق العقل والثقافة اليونانيين.
-
(٢)
الظاهرة الثانية هي المشروع التبشيري الذي أفضى إلى صياغة ثقافة الشعب الأسود صياغة ساخرة في الآداب وفي المعارض، على نحوٍ يستثير الازدراء والسخرية، ودعونا لا ننسى — أبدًا — أن اثنين من أباطرة الرومان، هما ثيودوسيوس وجوستنيان، مسئولان عن إلغاء نظم الأسرار المصرية، أي القضاء على النظام الثقافي للشعب الأسود، ومسئولان — كذلك — عن التدعيم الرسمي للمسيحية؛ لضمان قهر تلك الثقافة إلى الأبد.
-
(أ)
يجب الكف عن عادة الاقتباس من سقراط وأفلاطون وأرسطو باعتبارهم نماذج للتفكير العقلي، بعد أن عرفنا أن فلسفاتهم فلسفات مسروقة.
-
(ب)
يجب التخلي عن العضوية في كل جمعيات الأُخوَّة والأخوات اليونانية الثقافية.
-
(جـ)
يجب إلغاء كل جمعيات الأُخوَّة والأخوات اليونانية الثقافية من معاهد الملونين؛ لأنها كانت أحد مصادر دعم عقدة النقص، وتعليم أبناء الشعب الأسود ما يناقض تاريخهم ويعارض مصلحتهم.
ونصل الآن إلى مناهضة مجموعة الظواهر الثانية، وهي النشاط التبشيري في الآداب الشائه، وفي المعارض سيئة السمعة، التي تستثير الازدراء والسخرية من الشعوب السوداء.
إن ما حدث للمجموعة الأولى من الظواهر هو عينة بالنسبة للمجموعة الثانية؛ حيث يجب على أبناء الشعب الأسود اتخاذ موقف سالب في محاولتهم الاضطلاع بفلسفة التحرر والوفاء هذه. وطبيعي أنهم يدركون — تمامًا — أن أنشطة الإرساليات التبشيرية هي نتاج تعليمهم الشائه عن تراث زائف خاص بالشعب الأسود.
ولكن حيث إن مشكلتهم هي — أيضًا — مشكلة تحرر من شرور اجتماعية معينة؛ لذلك فإن أبناء الشعب الأسود منوط بهم تغيير سياسة التبشير. ولهذه الأسباب أقترح أن يقوم الموقف السالب لأبناء الشعب الأسود على أساس؛ أولًا مقاطعة الآداب التبشيرية ومعارضتها، وثانيًا، المعارضة — دائمًا وأبدًا — ضد أشكال السياسة التبشيرية إلى أن يحدث تغيير فيها. إذ ما دام المشروع التبشيري مبقيًا على سياسة الاشتباك القتالي ضد الثقافة الأفريقية؛ سيظل الشعب الأسود موضع ازدراء. وإن أقل ما يستحقه أبناء الشعب الأسود؛ معاملة محترمة لأنهم ممثِّلو أقدم حضارة في العالم، والتي استعارت منها جميع الثقافات الأخرى. ولكم شاهدت وطالعت في مجلات لأبرشيات تابعة لبعض الكنائس الأوروبية صورًا تتضمن الوصف التالي: رئيسًا أفريقيًّا غطى رأسه بقبعة جديدة من الحرير، ولكنه لا يرتدي سروالًا أو معطفًا وحافي القدمين. ولعل الهدف من ذلك إدخال السرور على نفوس أعضاء الأبرشية، واستثارة عطفهم ورثائهم، وهذا هو ما يجب، على أبناء الشعب الأسود، أن يناهضوه ويحتجُّوا عليه، وهذا ما يجب عليهم أن يفعلوه للنهوض بفلسفة التحرير والوفاء وإنجازها.
صفوة القول إن علينا أن نتذكر أن الوضع التعس للكنيسة الحديثة في ارتباطها بدراما الفلسفة اليونانية ممكن اغتفاره؛ لأن وظيفتها التبشيرية قامت بناء على أوامر ومراسيم خاطئة للسلطة الأمنية، ممثَّلة في الأمراء والأباطرة الذين كانت لهم السيادة على الكنيسة وقتما كانت إحدى إدارات الدولة. وهذه الفترة القصيرة من التاريخ الكنسي كانت — ولا ريب — معروفة لدى الأفرع الأولى للكنيسة المسيحية؛ ومن ثَم كانوا هم العناصر الذين توقع منهم، عصرنا التنويري، أن يشرعوا في إحداث تغيير في السياسة التبشيرية، التي يمكن أن تحررهم من الخطأ والخرافة في العلاقات البشرية.
وحري بأن تقتدي البروتستانتية بمسيرة الأفرع المختلفة للكاثوليكية في هذا الاتجاه، وهو ما يعني أن تتوحد جميع الكنائس في بقاع الأرض، وتنضم إلى هذه الحركة الإصلاحية لإصلاح الوضع بين الأعراق، وتنقل إلى مجال التبشير إنجيلًا عمليًّا يستهدف السعادة البشرية هنا على الأرض … إنجيلًا يعنيه الرفاه الكامل لكل الشعوب. إن كتابًا مقدسًا ينكر على المواطنين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، ويؤكد السعادة فقط في عالم آخر، إنما هو أحادي الجانب ومناهض للمسيحية، عقيدة فكرية وممارسة عملية. إن المسيحية الأولى هي التي أقامت نظامًا يستهدف — صراحة — حل المشكلات الاقتصادية لأنصارها؛ حتى يمكنهم أن يبدءوا في حياتهم على الأرض تجربة السعادة بمعناها الحق.
ومن الواضح أن المستهدف أن يتسع نطاق الدين ليتطابق مع حاجات الإنسان، وما لم تغير العقيدة المسيحية من سياستها التبشيرية إزاء ثقافة الشعوب السوداء ذات الأصالة التاريخية؛ سيكون عسيرًا عليهم التحرر — كاملًا — من المضار الاجتماعية التي خلَّفتها لهم روما القديمة.