میدیا وأیيتيس
كان الملك أييتيس في مَخدَعه مع زوجته إیدیا
Idyia، فسمع الضوضاء والجلَبة في
البهو، سمع أصوات الفرح والبكاء، فخرج مع زوجته يستطلعان الأمر،
فألْفيا الساحة الأمامية قد امتلأت بالهياج والصخب دفعةً واحدة، فهنا
الخدم يذبحون ثورًا سمينًا للضيوف الجدد، وهناك آخرون يغذون النار
بالأخشاب؛ على حين غيرهم يغلي الماء في مراجلَ ضخمة، لم يكن هناك أحد
غير مشغول، بل كان الجميع في حركة دائمة دائبة، فبدا المكان كخلية نحل
كبيرة.
ارتفع إروس Eros عاليًا في الجو دون
أن يراه أحد، وانتقی سهمًا جلابًا للآلام والأوجاع من جَعبته، ثم هبط
إلى الأرض وجثَم خلف جاسون، وأعد قوسه جيدًا، وصوَّب السهم إلى میدیا …
فانطلق يطير في الفضاء بسرعة البرق دون أن يراه أحد، حتى ولا میدیا
نفسها، واخترق صدرها، فاستعرَ كما تستعرُ النيران، وكانت من وقت إلى
آخر تأخذ نفسها عميقًا كمن يعاني آلام مرض مبرِّح .. وصارت بعد ذلك
تسدِّد نظرات جانبية إلى جاسون الذي بدا لهما شابًّا يافعًا، طويل
القامة، صُلب العود، أنيق الهندام، حلو القَسِمات، مفتول الساعدين،
عريض المنكبين، تشع عيناه الواسعتان بنور الذكاء، وتسطع فوق رأسه هالةٌ
من الجمال وقبَسٌ من الجلال، فأحست عينيها تغرقان في صفاء عينيه،
ونفسها تترقرق في عذوبة قَسِماته الحلوة، وأن ذهنها قد خلا من كل شيء
آخر … لقد برَّح بها الهيام في لحظات، واستولى ذلك الفتى على فؤادها
وجِنانها، كان الحزن الجميل يملأ روحها فشحَب لونها، ثم عادت الحُمرة
إلى وجهها من جديد، وصارت تعتمل في صدرها مجموعة من العواطف المتناقضة
والمؤثرات المتباينة.
وسط كل هذه الفوضى التي سادت الساحة، لم يلحظ أحد ما كان يجري في
أعماق قلب میدیا، ولو التفت إليها امرؤ لأدرك لتوِّه التغيُّر الذي طرأ
على محيَّاها، ولكن الجميع كانوا مشغولين؛ فقد كان الخدم يجيئون بصِحاف
الطعام ثم يروحون لإحضار غيرها، وبحارة الأرجو يغتسلون بعد أعمال
التجديف الشاقة، ثم يجلسون إلى المائدة ليروِّحوا عن أنفسهم بطعام شهي
وشراب لذيذ.
جلس حفَدةُ الملك أييتيس إلى جانبه على المائدة، وإبان الوليمة أخذوا
يقصون عليه كيف تحطمت سفينتهم، وماذا ألمَّ بهم من مصائب ومتاعب وجوع
وعُري، وكیف ساعدهم هؤلاء الأبطال الأمجاد. ثم جرَّهم الحديث، وهو ذو
شجون يجر بعضه بعضًا، إلى التعرض لشخصيات الأغراب، فبدأ الملك يتحرى من
يكون هؤلاء، فخفض أرجوس صوته وهمس إلى جده قائلًا: «لن أخفي عنك الأمر
يا جدي، فقد جاء هؤلاء الأبطال من بلاد الإغريق البعيدة، وقاسوا
المتاعب والأهوال، وتعرضوا للمخاطرة عدة مرات؛ ليطلبوا منك الجِزَّة
الذهبية التي لفريكسوس أبينا … إن ملكًا يريد أن يسلبهم ممتلكاتهم،
وينفيهم خارج بلادهم؛ قد بعثهم في هذه المخاطرة الجسيمة آملًا ألا
ينجوا من غضب زوس وانتقام فریكسوس، إن بالاس أثينا
Pallas Athena نفسها قد ساعدتهم في
بناء سفينتهم التي من النوع الذي لا يُستخدم في كولخيس، إننا حفَدَتك،
فدعنا نقول لك إننا كنا نملك سفينة لم تكن شيئًا يُذكر بجانب سفينتهم،
لقد تحطمت سفينتنا إرْبًا إربًا أمام أول هبة من الريح، ولكن لهؤلاء
الأغراب سفينة في غاية المتانة والقوة؛ حتى إنها لتتحدى أعنف الأعاصير،
إنها بحق أعجوبة الأعاجيب، وخير ما أبدعته يدُ أمهر بنَّائي السفن، كما
أن هؤلاء الأبطال أنفسهم من أشجع من عرَفت بلاد الإغريق كلها من
الصناديد المغاوير؛ فهم يجدِّفون ليل نهار دون انقطاع، لا تكِلُّ
سواعدهم، ولا يتطرق الضجر أو السأم إلى نفوسهم، ولا تهِنُ عزائمهم، فقد
اجتمع على ظهر تلك السفينة عددٌ غفير من أبطال الأغارقة الأفذاذ.» ثم
ذكر لأييتيس أسماء البحَّارة واحدًا واحدًا، مع نبذة قصيرة عن منشأ كل
منهم ومركزه في المجتمع وما يمتاز به من صفات ليست لغيره، ولما جاء دور
جاسون، ذكر له سلسلة نسبه والأصل الذي ينحدر منه.
فلما سمع الملك هذه الأنباء، غلى مِرْجلُ غضبه، وأرغى وأزبد وارتعدت
فرائصه، وحنِق على حفدته لأنه اعتقد أنه بوساطتهم جاء هؤلاء الأغراب
إلى ساحة قصره … كانت النيران تشتعل في عينيه فيتطاير الشرر كثيفًا، ثم
انفجر بصوت مرتفع: «إليكم عني، واغربوا من أمام وجهي أيها الكذابون
المنافقون، والأنذال المتآمرون، إنكم لم تحضروا إلى هنا بحثًا عن
الجِزَّة، ولكن سعيًا وراء عرشي وصولجاني، لولا أنكم ضيوفي وعلى
مائدتي، لنكَّلت بكم شر منكَّل، ولأمرت بقطع ألسنتكم وأيديكم، وأبقيت
لكم أقدامكم فحسب؛ لترحلوا بها من بلادي التي ينجِّسها وطء
أقدامكم.»
كان تیلامون Telamon بن أياكوس
Aecacus أقرب الجالسين إلى الملك بعد
حفدته، فسمع كلامه، فاستشاط غضبًا ونهض من مكانه ليرد على الملك بألفاظ
أشدَّ عنفًا مما سمع، ولكن جاسون أمسك به وأخذ هو شخصيًّا يجيب في صوت
رقيق ناعم: «هوِّن عليك واملكْ زمام نفسك يا أييتيس؛ فإننا لم نجئ إلى
مدينتك وإلى قصرك لنسلبك مُلكك أو ننهب منك ما هو لك، فمَن مِن الناس
یكابد مشاقَّ مثل هذه الرحلة عبر البحار المملوءة بالأخطار الجسام من
أجل الاستحواذ على ممتلكات فرد آخر؟ إن ما أرغب فيه قد أملاه عليَّ
القدرُ بأمر من ملك شرير، فلتمنحنا ما نطلب؛ أعطنا الجِزَّة الذهبية
ليس غير، وإزاء ذلك ستعترف لك جميعُ بلاد الإغريق بالفضل الجم والأيادي
البيضاء؛ كما ستعترف بك ملكًا على بلادك هذه لا ينازعك فيها منازع،
وفضلًا عن ذلك فإننا على استعداد لأن نرد لك هذا الجميل بأحسن منه، فلو
قامت هناك حرب في أي مكان، أو أردت إخضاع أي شعب مجاور، فاتخِذْنا
حلفاء لك، ولسوف نقاتل من أجلك بشجاعة وإقدام لن يخطرا على
بالك.»
هكذا تكلم جاسون لكي يرضي أييتيس الثائر، ويهدئ من روعه، ولكن الملك
لم يكن قد وصل بعدُ إلى قرار؛ هل يأمر بقتلهم فورًا أو يطلب منهم أولًا
إظهار قواهم؟ وبعد بعض التفكير تراءت له الفكرة الأخيرة خيرًا وأحكم
وأفضل، فأجاب برباطة جأش وهدوء: «لِمَ كل هذه العروض التي أعُدها ضربًا
من الجبن أيها الغريب؟ إذا كنتم حقًّا أبناء الآلهة، أو كنتم لا تقلون
عني عراقة وكرم محتِدٍ، ولا تطمعون حقًّا في ممتلكات الغير، فخذوا
الجِزَّة الذهبية، فأنا لا أمنع عن الأبطال الشجعان شيئًا، ولكن أولًا
وقبل كل شيء، يجب عليكم أن تنجزوا مهمةً أقوم أنا بها عادة برغم أنها
تتضمن خطرًا بالغًا؛ فلديَّ ثوران يرعيان في حقل آريس، حوافرهما من
البرُنز، وتنبعث من أنفيهما ألسنةٌ من اللهب، إنني أستخدمهما في حرث
الأرض الصُّلبة، وبعد تقليب تربتها لا أبذِر حبوب ديميتير
Demeter الصفراء في الأخاديد، بل أبذر
أنياب أفعوان ضخم، فينبت منها محصول من الرجال يخرج لمهاجمتي من كل
جانب، بيد أنني أقتلهم جميعًا بمِزْراقي، إنني أضع النير على رقبة
الثورين في الفجر الباكر، فلا يأتي المساء المتأخر حتى أكون قد استرحت
من حصادي، فيومَ تقومون بما أقوم أنا به، تستطيع أيها القائد أن تأخذ
الجِزَّة الذهبية معك إلى مملكتك، ولكنك لن تستطيع الحصول عليها قبل
ذلك؛ إذ ليس من العدل أن يرضخ القوي لمن هو أضعف منه وأقل قوة.»
جلس جاسون صامتًا في مكانه دون أن يكون قد قطع برأي؛ لأنه لم يجرؤ
على أن يَعِد بمثل هذه المهمة الخطرة من فوره، ثم أعْملَ فكره بسرعة
وأجاب: «حقًّا أنها لَمُهمةٌ جِدُّ شاقةٍ أيها الملك، ومع ذلك فسأقوم
بها مع علمي بأنني سوف ألقى حتفي أثناء إنجازها .. ولكن المرء لا
يستطيع أن يلتقي بما هو أسوأ من الموت؛ وعليه فسأطيع القضاء الذي
أرسلني إلى هذا المكان.»
فأجاب الملك: «حسنًا أيها الشاب، اذهب الآن إلى رجالك وفكر مليًّا في
الأمر، فإن أردت التنحي عن هذه المهمة، فاتركھا لي وارحل مع رفقائك عن
بلادي.»