نصیحة أرجوس
نهض جاسون والبطلان اللذان رافقاه من مقاعدهم، ولم يتبعه سوی واحد فقط من أبناء فریكسوس؛ وهو أرجوس الذي أشار إلى أشقائه بالتخلف، ولكنهم تركوا القصر كذلك، وكانت تحيط بجاسون هالة من الحسن والبهاء، وكانت میدیا تلاحقه بنظراتها الوالهة من خلال نقابها، وأحلامها تتابع كل حركة من حركاته، وقلبها ينبِض شوقًا وهيامًا، ولكنها كانت تضطرب في قرارة نفسها عندما تتصور ذلك المصير السيئ الذي ينتظر من استولى على فؤادها بهذه السرعة ودون سابق إنذار.
رحل جاسون وغاب عن أنظار میدیا، فذهبت إلى حجرتها وانطوت على نفسها تذرف الدمع سخينًا من مآقيها، وتتنهد تنهُّد المحموم، دون أن تدري كيف حدث لها ذلك، وهي بالذات التي لم يسبق لها أن نظرت إلى أي رجل نظرة حب أو إعجاب، وأخيرًا أخذت تسائل نفسها: «لِمَ أدَعُ الحزن يسري في أنحائي، ويقطع نیاط قلبي، ويعكر عليَّ صفائي، وينغص عيشي؟ ما أهمية هذا البطل لي؟ فسواء أكان أول أم آخر أشباه الآلهة، فليمُت لو كان هذا مصيره، ومع ذلك ليته يستطيع أن ينجو من الهلاك! أيْ هیكاتي! أيتها الربة المقدسة، دعيه يعود أدراجه إلى وطنه! وإذا كان من المقرر أن تفتك به الثيران، فدعيه يعلم قبل أن يذهب لملاقاتها أنني، على الأقل، لا أُسَرُّ كثيرًا، بل يحزنني مصيره المؤلم.»
وبينما كانت ميديا تقاسي ذلك العذاب في فراشها، كان الأبطال في طريقهم إلى السفينة، وقد أخذ أرجوس يتحدث إلى جاسون بقوله: «رفيقي العزيز، ومنقذي الأَجَلَّ، ربما ترفض نصیحتي التي سأسديها إليك مخلصًا، ولكن لا بُدَّ لي من إبدائها؛ إنني أعرف فتاة ذات خبرة واسعة ومهارة فائقة في صناعة السحر، وتحضير الجرعات السحرية، وقد تعلمت ذلك الفن عن هیكاتي ربة العالم السفلي، فلو استطعنا أن نستميلها إلى جانبنا، فإني على يقين من أنك ستخرج من المعركة ظافرًا، فإن وافقتني على هذا الرأي، ذهبت إليها وحاولت الحصول على رضاها بما فيه مصلحتنا.»
فقال جاسون: «لك أن تذهب إذا شئت، فلا أمنعك من ذلك … ولكن ما أمضَّ رحلتنا وأشقاها لو كانت تعتمد على النساء!»
أخذ أرجوس يقنع جاسون بأنْ لا ضير عليهم إذا استعملوا طرقًا غير طرق القوة والشجاعة في نيل مأربهم، وبينما هما في أخذ ورد، كانا قد وصلا إلى رفاقهما في السفينة، فقص عليهم جاسون ما عرضه عليه الملك، وكیف وعده بإنجاز تلك المهمة، فجلس الأصدقاء مدة وجيزة يتبادلون وجهات النظر، وأخيرًا نهض بیلیوس وقال: «لو كنت تعتقد أنك قادر على إنجاز ما وعدت به، فأعِدَّ نفسك للأمر، أما إذا لم تكن واثقًا كلَّ الثقة من النتيجة فابتعد، ولا تتوقع من هؤلاء الرجال أن يساعدوك؛ فلن يُدخر لهم غير الموت.»
عندئذٍ هب تیلامون وأربعة آخرون من الشبان الأقوياء الذين تفيض روحهم جرأة وشجاعة، ويبتهجون لمجرد فكرة اشتباكهم في قتال أو عمل يتطلب القوة والبسالة، أو لأية مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولكن أرجوس هدَّأهم قائلًا: «لا حاجة بنا إلى خوض غمار الأخطار؛ فإنني أعرف شخصًا خبيرًا بالسحر؛ إنها خالتي شقيقة والدتي، دعوني أذهب إلى أمي وأطلب إليها أن تحث شقيقتها على أن تنضم إلينا؛ حتى يكون النصر في جانبنا، وإلا فلا فائدة من قيام جاسون بالمهمة الملقاة على عاتقه والتي وعد بإنجازها.»
هكذا تكلم إیداس في حنَق وغضب، ووافقه كثير من الأبطال ولم يؤيدوا خطة أرجوس، ولكن بالرغم من ذلك عضَد جاسون اقتراح أرجوس ومشورته، فربطوا السفينة إلى الشاطئ، وانتظروا عودة رسولهم.
وبينما كان الأبطال في نقاشهم هذا، كان الملك أييتيس في الوقت نفسه قد جمع شعبه الكولخيين في حشد عظیم خارج القصر، وشرح لهم الموقف من حيث مجيء الأغراب؛ أعظم أبطال الأغارقة، والسبب في مجيئهم، وما بيَّته لهم من مصير مشئوم، وأمرهم أن يكونوا على استعداد … فبمجرد ما يصرع الثوران القائد الشاب، يقوم الكولخيون بقطع أشجار غابة كاملة ويُحرقون السفينة بمن فيها … وفي نفس الوقت، كان الملك الجبار القاسي القلب يفكر في إنزال عقوبة أشدَّ هولًا وأبشع مآلًا بحفدته الذين قادوا هؤلاء المغامرين إلى بلاده.
ذهب أرجوس إلى أمه، وأخذ يتوسل إليها بحق بنوَّته وإخلاصه لها، وأمومتها ومحبتها له، وبحق الآلهة الذين حفظوا حياتهم وأرسلوا إليهم أولئك الأبطال لمعاونتهم وإنقاذهم من هلاك كان محققًا؛ أن تحث شقيقتها بكل ما أوتيت من ألفاظ معسولة وروعة بيان؛ على أن تقوم بمساعدة جاسون ضد كيد أییتیس؛ حتى يكون أبناء فریكوس قد ردوا، على الأقل، جمیل الأبطال بمثله. فامتلأ قلب خالكيوبي بالشفقة نحو الأغراب، ولكنها لم تجرؤ على مواجهة غضب أبيها الجامح الذي لو علم بما تحيكه في الخفاء، لمزَّق جسدها بالسياط شر ممزَّق … وأخيرًا رحبت بمطلب ابنها، ووعدت بالتوسط لدى میدیا لمساعدة الأغراب.
كانت ميديا مستلقية في فراشها تستعيد صورة ما حل بقلبها، وقد برَّح بها الهوى وأَقَضَّ مضجعها، وأطار الكَرى عن عيونها، فلم يغمض لها جفن، بل ظلت تتقلب في الفراش تطوي جوانحها على نار الغرام، لا تستريح وتهجع بل تشقى وتسهَد، تزفِر زفَراتٍ حادة ملتاعة من فرط الحب وسَورة وطأته. وقد بدا لها أنها ترى جاسون يُعدُّ العُدة لمقاتلة الثورین، وأنه لم يُقدم على هذه المهمة الخطرة من أجل الجِزَّة الذهبية، وإنما من أجل أن يطلب يدها هي، ويأخذها إلى بلاده زوجةً وحليلة، وتراءى لها في حُلمها اليقظان أنها فازت من الثورين بأفضل ما يمكن أن تنال، بيد أن والدها نقض وعده وخان عهده، ولم يبَرَّ بكلماته، فمنع عن جاسون المكافأة المتفق عليها بحجة أن میدیا هي التي وضعت النِّير على الثورین وليس البطل نفسه. فبدأ أبوها والأغراب يتشاجرون ويتناقشون حول هذه النقطة واحتد النقاش بينهم، وأخيرًا وقع اختيارهم عليها هي لتكون حكَمًا … وفي حلمها حكمت في صالح الغريب، فصاح والداها یعنِّفانها ويصبان عليها اللعنات، ويتوعدانها شرًّا جزاء العقوق. ثم استيقظت میدیا من حلمها الذي مر بمخيِّلتها في إغفاءة وجيزة عابرة، واستأنفت سهادها وآلامها.
لم تقوَ ميديا على احتمال هذه الآلام المبرِّحة والحالة المروعة التي اجتاحتها بعد ذلك الحلم، فهبَّت واقفةً من غير وعي، واندفعت تجري من مخدعها إلى جناح شقيقتها … ولكنها تلكأت مدة طويلة في الساحة الأمامية؛ من شدة الخجل وعدم استقرارها على قرار؛ كیف تصارح أختها بما يعتمل في صدرها؟ هل تبوح لها بهواها أو تكتمه دفينًا في صدرها؟ هل تقضي لها بمخاوفها؟ هل …؟ هل …؟ فتقدمت إلى الأمام ثلاث مرات، وارتدَّت على أعقابها ثلاثًا مثلها … وأخيرًا رجعت أدراجها إلى حجرتها، وارتمت على فراشها تبلله بدموعها الغزيرة.
تصادف في ذلك الوقت مرور إحدى خادمات ميديا الصغيرات في الساحة، دون أن تراها سيدتها، فتسمرت في مكانها إذ رأت میدیا شاردة الفكر مأخوذة اللُّب، تتردد بين إقدام وإحجام على أمر لا تعرفه، فأدركت لتوها أن سيدتها تطوي صدرها على سر دفين وأمر جلَل، فامتلأ قلب الفتاة إشفاقًا على میدیا، وأسرعت في الحال إلى خالكيوبي تخبرها بما شاهدت.
لما علمت خالكيوبي بقصة میدیا وشرودها، وكانت وقت ذاك جالسة بين أولادها تناقشهم في الوسيلة التي يجب اتباعها؛ لتكسب عطف میدیا وانضمامها إلى جانبهم .. أسرعت إلى شقيقتها فوجدتها تضع كفيها على وجنتيها، والدموع تنهمر غزيرةً من عينيها، وصدرها يهتز اهتزازًا عنيفًا من شدة البكاء والنشيج، فهالها أن ترى أختها ميديا على تلك الحال، وسألتها باهتمام بالغ: «ماذا حدث يا أختاه؟ أيُّ حزن هذا الذي يعذب روحك كل هذا العذاب؟ لقد تركتكِ مرحة مسرورة، فأي شيء بدَّل بهجتك وجومًا وابتسامتك شرودًا وتقطيبًا؟ هل أصابك رب من الأرباب بأحد الأمراض؟ هل وشى أبونا بي وبأولادي عندك؟ ما سبب هذا الحزن الذي برَّح بك وسلب ماء الحياة من وجنتيك؟ أوَّاه! ليتني كنت بعيدة عن بیت آبائي في بلاد لا يُلفظ فيها اسم كولخيس مطلقًا! فإنني لا أقوى على احتمال أن أراكِ على تلك الصورة من الكآبة والحزن.»