جاسون ينفذ أوامر أيیتیس
هكذا افترق الحبيبان وكان بودِّهما ألا يفترقا، لولا أن الموعد كان قد أزف وخشیا أن يضيع مفعول الزيت فتضيع معه آمالهما، فرضخا لما لا بُدَّ منه، فعاد جاسون إلى السفينة فتلقاه رفاقه متلهفين، وكأنه تبدو على وجهه سيماء الغبطة والمرح .. وذهبت میدیا لتنضم إلى خادماتها اللواتي كن ينتظرنها على أحر من الجمر، فما إن رأينها حتى أسرعن نحوها، ولكنها لم تلاحظ جزعهن لأن روحها كانت تحوم في السحب، وبأقدام رشيقة اعتلت ظهر عربتها، وحثت البغال على السير، فعادت أدراجَها إلى القصر من تلقاء نفسها … وكانت خالكيوبي قد طال بها انتظار شقيقتها، حتى إن قلبها امتلأ جزعًا على أولادها، وكانت تجلس فوق مقعد، وقد نكست رأسها واغرورقت عيناها بالدموع التي كانت تتساقط كحبات اللؤلؤ من بين جفونها المسترخية؛ إذ كانت تفكر في المؤامرة الخطيرة التي اشتركت فيها.
في تلك الآونة كان جاسون يشرح لزملائه كیف أعطته میدیا الدهان السحري العجيب، ثم أخرجه لهم، فاجتاح الجميع موجةٌ من السرور والجَذَل ما عدا إیداس، الذي انتحى جانبًا يطحن أسنانه من شدة الغيظ والحنق؛ لأنه كان توَّاقًا إلى القتال واختبار قوته، فجلس ولسان حاله يقول:
انسلخ النهار ومالت الشمس إلى المغيب، وانسكب الليل قطرةً قطرةً في حواشي السماء، حتى ضرب سرادقه على الكون، فاغتسل جاسون وقدَّم ذبيحة لهيكاتي كما أمرته ميديا، وسمعت الربة نفسها صلاته، فخرجت من أعماق كهفها ورأسُها الدميم تلفُّه الثعابين الملتوية وأغصان البلوط المشتعلة، وكانت تجري في أعقابها كلاب العالم السفلي، تعوي حولها عواءً شديدًا … اهتز الحقل تحت وقع أقدامها، كما راح نهر فاسيس يئن ويتأوَّه من شدة الخوف والهلع، لقد اضطرب جاسون نفسه عندما كان يتأهب للعودة إلى السفينة، ولكنه إطاعةً لأوامر محبوبته لم يتطلع إلى الخلف … وما هي إلا سويعات حتى تألق الفجر الوردي، فأضفى على ذؤابات جبال القوقاز المغطاة بالثلوج ضوءًا وردیًّا جميلًا.
ما كاد جاسون يدهن جسده بالزيت، حتى تدفقت في أوصاله قوةٌ خارقة، كما انتفخت شرايين يديه وأحس بالشوق الجارف والرغبة الملحة في القتال، وكجوادِ حربٍ يصهل وينبِش الأرض بحوافره قبل القتال، ثم يرفع رأسه عالیًا ویُرهِف آذانه إلى فوق؛ هكذا بسط ابن أيسون قامته استعدادًا للقتال، وقرع الأرض بأقدام متوثبة حاملًا الدرع والرمح في يديه.
جدَّف الأبطال حتى وصلوا بقائدهم إلى حقل آريس؛ حيث وجدوا أییتیس وشعبه الكولخيين ينتظرونهم، وكان الملك يجلس على الشاطئ على حين انتشر أفراد الشعب هنا وهناك على سلسلة صخور جبال القوقاز الناتئة في البحر، فلما رست السفينة، قفز جاسون إلى الشاطئ حاملًا رمحه ودرعه، وفي الحال تسلَّم خوذة لامعة مملوءة بأسنان مدبَّبة … فعلَّق سيفه على كتفه وتقدم إلى الأمام؛ وهو يلمع في أشعة الشمس الذهبية الوهاجة كأنه آريس أو أبولو. وما إن ألقى نظرة إلى الحقل، حتى اكتشف سريعًا النير موضوعًا فوق التربة وإلى جانبه المحراث وسلاحُه، وكانت كلها مصنوعةً من الحديد المطروق. وبعد أن فحص هذه الأدوات جيدًا، ثبَّت السِّن الحديدية في نصل رمحه الصلب، ولبِس الخوذة فوق رأسه …
بعد ذلك تقدم إلى الأمام يقي نفسه بدرعه، باحثًا عن آثار الثيران، ولكن سرعان ما هجم عليه فجأة، وعلى حين غِرَّة، ثوران أقبلا من الجانب الآخر، وقد خرجا من كهف تحت الأرض كانا محبوسين فيه، وكلاهما ينفُث النيران مستعرةً من أنفه، كما كانت سحب كثيفةٌ من الدخان تحوم حولهما في دائرة، فارتعدت فرائص أصدقاء جاسون لمرأى هذين الوحشين، بيد أن جاسون نفسه وقف بساقيه متباعدتين يرفع درعه أمامه؛ منتظرًا هجومهما كصخرة حطَّها السيل من علٍ. فلما وصلا إليه مسددَين قرونهما، لم تستطع هجمتهما أن تزحزحه عن مكانه قِيدَ أنمُلة، وكما يحدث في مصنع الحداد عندما يزأر الكير وتندلع النيران، تارةً في شرر متطاير، وتارةً أخرى تكُفُّ عن ألسنتها القوية، هكذا زأر الثوران بصوتٍ دونه زئيرُ الأسود، وضاعفا من الهجمات؛ نافثين نيرانهما طول الوقت في ألسنة تتراقص في الهواء لمسافة بعيدة. وكان وهَج اللهب المتقطع يلعب حول البطل كأنه البرق اللامع، ولكن السحر حفِظه من كل سوء وأذًى، وأخيرًا تقدم وأمسك بالثور الذي عن يمينه من قرنه الخارجي، وجذبه إليه بكل ما أوتي من قوة حتى سحبه إلى حيث النيرُ الحديدي، وهنا ضرب الأقدام البرُنزية، وأجبر الثور على افتراش الأرض وقد ثنى قوائمه، وبنفس الطريقة أخضع الثور الآخر الذي انقضَّ عليه في عنف وقوة، ثم رمى درعه الكبيرة بعيدًا، ومع أن النيران كانت تندلع ألسنتُها حوله وتتراقص في الهواء من مَنخِرَيهما، فقد أمسك بالثورين بكلتا يديه وقد خرَّا ساجدَین، وهنا وجد أییتیس نفسه مرغمًا على الإعجاب بقوة البطل الخارقة … وعلى حسب خطة سابقة، قدم له كاستور وبولودیوكیس النير، فربطه إلى عنقَي الثورین بیدین ثابتتين كأنه فلاح ماهر، وأخيرًا التقط النصل الحديدي وثبَّته في حلقة النير، عندئذٍ أسرع الشقيقان التوءمان بالابتعاد عن ذلك المكان؛ لأنهما لم يكونا محصَّنَين ضد النيران مثل جاسون، ثم أخذ البطل درعه ثانيةً وألقى بها خلف ظهره متدليةً من كتفه برباطها الجلدي المتين.
ذهب جاسون بعد ذلك إلى حيث الخوذةً التي بها أسنان الأفعوان، وأمسك برمحه واستخدمه مِهمازًا ينخُس به الثورین، فاستطاع أن يجبرهما، وهما يزمجران غضبًا، على جر المحراث، فإذا بقوتهما الهائلة مضافًا إليها قوةُ المحراث، تُحدث بالأرض أخاديد عميقة، وتفتت كُتل الطين الضخمة، ثم سار بخطوات وئيدة ثابتة، وأخذ يبذِر الأرض المحروثة بالأسنان، وكان بين الفينة والفينة يتطلع إلى الوراء ليرى: هل قد نبت حصاد رجال التنين؟ وهل هم يلحقون به …؟ فظل الثوران يتهادیان بالمحراث إلى الأمام بحوافرهما البرُنزية، وقد سيطر البطل عليهما سيطرة تامةً فلم يستطيعا فِكاكًا، واستسلما إليه في خضوع تام.
انسلخ من النهار ثلثاه، وكان الحقل كله في العصر البراق قد تم حرثه، مع أن مساحته كانت تزيد على أربعة أفدنة … فلما انتهى جاسون من الحرث، رفع النير عن رقبتَي الثورین، ولوَّح لهما بأسلحته مهددًا، فجریا مذعورَین عائدين من حيث أتیا … وعندئذٍ رجع البطل نفسه إلى السفينة؛ إذ إن الأخاديد لم تكن قد دبَّت فيها الحياة بالحصاد بعد.
أحاط الأبطال بزميلهم، يهتفون بصوت جَهْوري هتافات النصر والظفر، معجبين بشجاعته ومهارته، ولكنه لم يقل شيئًا واكتفى بأنْ ملأ خوذته بماء من النهر، وأطفأ أَوَار ظمئه المستعر في جوفه، فأحس النشاط يدبُّ من جديد في مفاصله وعضلاته، وبرغبة جديدة في القتال، فأخذ يعَضُّ على شفتيه بأسنانه؛ كما يفعل الخنزير البري وهو يستعد لمصارعة الصيادين.
امتلأ الحقل جميعُه بالمحصول المطلوب … فإذا بحقل آريس كله يتلألأ بالدروع والرماح، ويتألق بالخوذات في بريق يخطَف بالأبصار، وتصل أشعته إلى عنان السماء، عندئذٍ تذكر جاسون حيلة میدیا، فأمسك بصخرة ضخمة، لا يستطيع أربعة من الرجال الأشداء أولي القوة أن يرفعوها من الأرض، ولكنه التقطها بكلتا يديه دون أي مجهود، وقذف بها بعيدًا وسط المحاربين النابتين من الأرض، وبجسارة يحوطها الحذر، ركع على إحدى ركبتيه، وغطى نفسه بدرعه، فصاح الكولخيون عاليًا كما تزمجر الأمواج العاتية وهي ترتطم بالصخور الناتئة، عندئذٍ فغَر أيیتیس فاه مدهوشًا من تلك القذفة العجيبة التي تنمُّ عن قوة ليست من قوة البشر.
تكالب المحاربون الذين نبتوا من حقل آريس على الصخرة؛ كما تتعارك الكلاب على عظْمة كبيرة، وأخذ كل منهم يقتل زميله غاضبًا هائجًا في صيحات بالغة، ومن شدة ما أصابهم من الرماح، كانوا يتساقطون فوق الأرض؛ كما تسقط أشجار الزان أو البلوط، وقد نزعتها من جذورها زلزلةٌ عاتية أو ريح عاصفة هوجاء … ولما بلغ القتال أشُدَّه، هجم جاسون وسطهم كالشهاب الساقط في بھيم الليل الداجي، كأنه نذیر مرسَل من لدن الآلهة، واستل سيفه من غمده، وراح يضرب ذات اليمين وذات الشمال، يطعن هذا تارةً، ويُجندِلُ ذاك تارةً أخرى، ويضرب فريقًا قد همَّ بالنهوض لملاقاته، فيحصدهم حصدًا كما يقطع الحصاد عيدان القمح بمِنجَله، ويصرَع فريقًا آخر قد ظهر من أجسامهم ما لا يزيد على ما تحت الكتفين بقليل، فيتردَّون وهم في منابتهم، ثم ينبري فيقطع رءوس فئة أخرى قد جرت لتنضم إلى القتال الطاحن الدائر في تلك الحلبة، التي امتلأت أخاديدُها بالدماء، وغُطيت أرضها بجثت القتلى والجرحى المسجَّاة في كل جانب؛ على حين انغرس نفر عديد منهم في الأرض بنفس العمق الذي بذرهم به جاسون تقریبًا …
رأى أییتیس نجاح جاسون الباهر، فغلی مِرْجل غيظه وتجهَّم وجهه، وصار يَزفِر زفَراتٍ قوية؛ كالبحر المائج المضطرب وقد عصفت رياحه وتواثبت أمواجه، ولكنه لم يشأ أن يُظهر حَنَقه أمام شعبه الذي كان يتحمس للبطل المغوار، ويصفق له إعجابًا واستحسانًا؛ حتى علا صوت الهتافات إلى ما فوق السحاب، فكظَم أييتيس غيظه الدفين الذي كاد يقطع نياط قلبه ويُشعل النار في صدره، وترك الشاطئ دون أن ينبِس ببنت شفة، وعاد إلى المدينة وهو لا يفكر إلا في طريق الخلاص من جاسون وفي إیذائه أيَّما إيذاء.
استغرقت هذه الأحداث النهار بأكمله … وأقبل الغسق يتهادى بطيئًا، فخرج جاسون من ساحة الوغى وقد انتصر على الثورین وجیشِ المحاربين انتصارًا مبينًا، لم تشهد البلاد له مثيلًا منذ أن عرَفت الحياة، ثم خلع درعه ورجع إلى السفينة يحيط به رفاقُه الأبطال وهم يوسِعونه عناقًا وتقبيلًا، وقد عم الفرح والسرور جميع الطرقات، واختلطت هُتافات البحارة بهتافات الكولخيين.