مطاردة بحارة الأرجو
انبثق الفجر نحيلًا في صدر السماء يترقرق كالسحر، وبدأت الشمس تتدرج من خِدرها، وكان أيیتیس لا يزال متيقظًا لم ينم تلك الليلة؛ إذ استمر اجتماعه بالشيوخ النبلاء حتى الصباح، واستيقظ كل من في القصر، فعلم بما زاده همًّا على هم، وانقباضًا على انقباض؛ لقد علم هو وجميع الكولخيين بقصة غرام میدیا مع جاسون كاملة؛ كما علموا بما قامت به من مساعدة مكَّنته من الانتصار في اليوم السابق، ثم بما هو أمرُّ وأدهی؛ بهروبها مع الغريب بعد سرقة الجِزَّة الذهبية، فجُن جنون الملك واضطرب میزانه، وملأت سورة الغضب أوداجه فعصف بلُبِّه وأطار عقله، واجتمع برؤساء قومه في السوق العامة، وأمر بتسلُّح جميع الفرسان، فحضروا على عجَل بكامل أسلحتهم، وساروا جميعًا بعد ذلك إلى شاطئ البحر في جيش لَجِبٍ مثيرًا الغبار حتى أعالي الفضاء، وضوضاؤهم تصم الآذان، يتوسطهم أييتيس وقد امتطى عربته المتينة تجرُّها الجياد السريعة التي أهداها إليه رب الشمس، وحمل في يسراه درعًا مستديرة، وفي يمناه مشعلًا طويلًا، وكانت ترتكز إلى جانبه حربته الطويلة الثقيلة، وقد ركب إلى جانبه ابنه أبسورتوس ممسكًا بأعنة الخيول …
وما إن وصل القوم إلى مصب النهر، حتى كانت السفينة قد بلغت البحر الفسيح، منطلقةً بمجاديفها القوية في أقصى سرعة، تحركها السواعد الفتية، فسقطت الشعلة والدرع من أصابع الملك، ورفع يديه نحو السماء مناديًا زوس وأبولو؛ ليكونا شاهدَين على الجريمة التي اقتُرفت في حقه، ثم أنذر رعاياه بأنهم إن لم يلحقوا بابنته في البحر ويحضروها إليه صاغرةً؛ لكي يشفي غليله بالانتقام منها، فإنه سوف يقطع رءوسهم أجمعين.
خاف الكولخيون تهديد مليكهم ووعيده، فجمعوا عددًا كبيرًا من السفن على وجه السرعة، وحملوها بالمؤن والأسلحة، وأقلعوا بحرًا ليلحقوا بسفينة الأرجو مقتفين أثر میدیا، وكان أسطولهم هذا تحت قيادة أبسورتوس بن أييتيس؛ البطل الشاب والمحارب المدرب.
تحرك أسطول الكولخيين في البحر كأنه قطيع من الطيور لا نهاية له، فملأ البحر حتى ضاق عنه، وقد أعمل أبطالهم المجاديف ونشروا الأشرعة لتزيد من سرعته.
برغم ذلك لم يكُفَّ الكولخيون عن المطاردة، ولما كانت سفنهم خفيفة تستطيع الإبحار بسرعة تزيد على سرعة الأرجو، فقد وصلوا إلى مصب نهر إستير قبل بحارة الأرجو، وتفرقوا بين الخلجان والجُزر المختلفة ينتظرون قدوم الأبطال؛ حتى يباغتوهم على حين غِرَّة ويسدوا عليهم طريق العبور إلى البحر، بعد أن أرسوا في دلتا النهر.
علمت میدیا بما اتفق عليه الفريقان، فثارت ثائرتها ورُوِّعت نفسها من الخوف، وانتحت جانبًا مع حبيبها في مكان لا يسمعهما فيه أحد من زملائه، وتوسلت إليه ودموعها تنحدر على وجنتيها وقالت له: «حبيبي جاسون! ماذا أنت فاعل بي؟ هل أنستْك نشوة الظفر والحظ السعيد ما أقسمت به لي عندما كنت في مسيس الحاجة إلى معونتي؟ آه! كم كنت عديمة التبصر والتفكير في العواقب عندما وضعت كل آمالي فيك، وعندما استرخصت شرفي وتركت أرض أجدادي وبيتي ووالديَّ وجميع ما كنت أحب وأعِزُّ! إنه لمن جرَّاء ما فعلتُ لك أنني أُحمل بعيدًا عن البحر المترامي الأطراف … إن حماقتي هي التي أنالتك الجِزَّة الذهبية … ولك استسلمت وقدَّمت بكارتي! ها أنا ذي أتبعك إلى بلاد الإغريق كتابعة لك، كزوجتك، فيجب عليك إزاء كل هذا أن تحميَني وتدافع عني، فلا تتركني هنا وحدي، ولا تجعل الملوك يتحكمون في مصيري، فلو أُرجعت إلى بيت أبي، لكان في ذلك الرجوع نهایتي … وبعد ذلك كيف يتسنى أن تهنأ في عودتك؟ وكيف تستطيع هيرا زوجة زوس التي تتباهى بأنها نصيرتك وحليفتك وحاميتك أن توافق على مثل هذا الإجراء؟ فلئن هجرتني لسوف يأتي وقت تصبح فيه في محنة شديدة، فتفكر عندئذٍ في ميديا عندما تؤخذ منك الجِزَّة الذهبية كما لو كنت في حلم … عندئذٍ تبتعد بك أرواح الانتقام عن وطنك، كما أنا بعيدة الآن عن وطني؛ بسبب دهائك وخبثك.»
هكذا تكلمت میدیا، وقد عصَف الحب بقلبها، وبرَّح بها الجوى، وكم كان يُسعدها لو أن النيران تشبُّ في السفينة، وتُحرق كل شيء فيها، ثم تلقي هي بنفسها في ألسنة اللهب إلى غير رجعة، فتستريح من ذلك العذاب الذي يَمُضُّ نفسها ويحزُّ في فؤادها فيهز كِیانها هزًّا عنيفًا تكاد تزهق معه روحها …! فنظر إليها جاسون وهو حيرانُ لا يدري ماذا يفعل، فقد كان ضميره يؤنبه، ثم قال لها مستعطفًا: «املكي زمام نفسك يا حبيبتي، وسيطري على أعصابك! فإنني لم أكن جادًّا في إبرام ذلك الاتفاق، إنه من أجلك فقط، إننا نحاول تأجيل القتال؛ لأن عدونا يفوقنا عددًا وعُدة؛ فإنه في عداد الحصى أو بعدد الجراد في فصل الصيف القائظ، وفضلًا عن ذلك فإن جميع سكان هذه البلاد أصدقاء للكولخيين، وطبيعي جدًّا أنهم يساعدون أخاك أبسورتوس في القبض عليك والذهاب بكِ ثانيةً إلى والدكِ؛ حيث ينتظرك تعذيب وانتقام ما بعدهما تعذیب وانتقام، وبصرف النظر عن كل هذا، فإننا إذا قاتلنا الآن، فسوف نهلِك جميعًا أسوأ هلاك، وعندئذٍ يصبح مصيرك في مهب الريح تعصِف به كیف شاءت، ومن البديهي أنكِ بعد موتنا ستسقطين في يد العدو فريسةً سائغة … دعيني أقول لكِ إننا لم نبرم ذلك الاتفاقَ إلا كحيلة نأمَل بها تحطيم أبسورتوس، ويومَ نقضي على قائدهم يمتنع جيرانهم عن معونتهم.»
قال جاسون ذلك القول ليهدئ من روع ميديا الثائرة، ويبعث في روحها الأمل … عندئذٍ قدمت میدیا نصيحتها إلى جاسون؛ باتباع خطة يشيب لها الوِلدان في عهد الرضاع؛ فقالت: «لقد حدث ذات يوم أنني تخليت عن واجباتی، وإذ أعماني الحب الذي يطمِس البصيرة، أقدمت على عمل شریر كانت نتيجته أنني لا أستطيع العودة، إذن فلابد من الاستمرار في إجرامی مهما كلفني؛ ومن ثَم فسألاطف أخي حتى يضع نفسه بين يديك … أعد له وليمةً فاخرة، وأسرف له في الطعام والشراب، ولسوف أحاول إغراء الحراس بأن يتركوه وحده معي، وعندئذٍ تستطيع أن تقتله، فيصبح الكولخيون بدون قائد، فيمكن القضاء عليهم في سهولة ويسر.»
هكذا وضع الحبيبان خطة الفتك بأبسورتوس، فأرسلا إليه الهدايا الكثيرة، وكان من بينها رداء نادر الوجود كانت ملكة ليمنوس قد أهدته ذات مرة لجاسون، وكانت ربات الحسن قد نسَجْنه لدیونیسوس بأيديهن من خيوط الأرجوان الرقيقة المشربة بروائح السموات العطرية؛ لأن دیونیسوس، إله الخمر نفسه، كان ثملًا دائمًا بشراب الآلهة، فنام في طيات ذلك الرداء.
حثَّت میدیا بمكرها ودهائها رسل أخيها على إحضار أبسورتوس إلى الجزيرة الأخرى عند معبد أرتيميس في منتصف الليل، وأخبرتهم أنها قد وضعت خطة سرية ليحصل أخوها على الجِزَّة الذهبية، دون علم الأبطال الأغارقة، ويعود بها إلى الملك أييتيس، واعتذرت لهم بأن الذي ساعد بحارة الأرجو في الحصول عليها هم أبناء فريسكوس، الذين كانوا يعرفون مكان الجِزَّة.
بعد أن أفلحت میدیا في خداع رسل السلام، نثرت في الفضاء مقدارًا كبيرًا من مسحوقها السحري؛ حتى إن رائحته القوية جذبت أكثر الحيوانات من أعالي الجبال، وبذا كان لها ما أرادت، فقد ركب أبسورتوس سفينة، مخدوعًا بوعود شقيقته، وتوجَّه إلى الجزيرة المقدسة، ولما التقى بميديا، حاول بمفرده أن يَسبُر غور مكنونات صدرها؛ ليعرف: هل كانت حقًّا ستدبر معه كمینًا للأغراب … ولكن هيهات له أن يصل إلى قرارة نفسها، فكان في الأمر أشبه بصبي حدَثٍ يخوض مجرًی جبليًّا من المياه المتدفقة بقوة يتعذر على الرجل الكبير اجتيازه، وبينما كان الشقيقان منهمكين في الحديث، خرج جاسون من كمين أُعدَّ من قبل، وهجم على أبسورتوس بسيفه البتار المسلول، فأطاح رأسه عن جسده، وكانت ميديا قد خبَّأت عينيها بخمارها؛ حتى لا ترى أخاها وهو يُقتل، وهكذا كان مصرع ابن الملك أييتيس بضربة واحدة جادت بها يد جاسون؛ كما لو كان ذبیحة فوق المذبح. فتلطَّخ رداء میدیا بدم أخيها، ولكن ربات الانتقام اللواتي لا تخفى عليهن خافية، كُنَّ لها بالمرصاد، فتطلعن من مسكنهن السري، بعيون مِلْؤها الحَنَق والغضب، وشاهدن ما جرى من عمل فظيع في ذلك المكان المنعزل.
نظَّف جاسون نفسه من دماء أبسورتوس، ودفن الجثة وغطاها بالثرى، ثم أعطت میدیا إشارةً بوساطة الشعلة إلى بحارة الأرجو؛ تبعًا لخطة موضوعة، فجاء هؤلاء بسفينتهم إلى جوار المركب الذي حضر فيه أبسورتوس إلى تلك الجزيرة، فانقضُّوا على أعوانه انقضاض البازي على أسراب اليمام، أو الأسود على الخراف، فأبادوهم على بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم رجل واحد، وعندما أقبل جاسون لمساعدة رفقائه لم تكن هناك حاجة إليه، فقد انتهت المعركة وبان مصيرها.