الكولخيون يواصلون المطاردة
استقبل ألكينوس بحارة الأرجو بالترحاب، وأكرم وِفادتهم، وأعد لهم جناحًا خاصًّا يستريحون فيه في قصره المنيف، وأمر بتقديم أسمى فروض الضيافة لهم … وبينما كان الأبطال يمرحون في قصر الضيافة، إذ ظهر فجأةً أسطول كولخي، قادمًا من طريق آخر، وما إن رسا على شاطئ الجزيرة حتى أنزل جيشًا من المحاربين، يطلب من الملك ألكينوس أن يسلمهم میدیا ابنة مليكهم ليعيدوها إلى أبيها … أما إذا رفض مطلبهم، فإنهم سيقاتلون الأغارقة في الحال، وهددوا الأبطال بأنه في حالة الرفض، سيحضر الملك أيیتیس نفسُه على رأس جيش لَجِبٍ، يفوق جيشهم عددًا وعُدة … وكاد الكولخيون يشتبكون مع الإغريق في القتال، لولا أن الملك الحكيم ألكينوس ساس الأمر بحكمته، وتمكن من كبح جماح الكولخيين، قائلًا إنه يريد فض النزاع بالطرق السلمية، ولا حاجة مطلقًا لإراقة الدماء.
ركعت میدیا تحت قدمَي أريتي زوجة ألكینوس، وأمسكت بركبتيها متضرعةً وقالت: «إنني أتوسل إليك أيتها الملكة الطيبة ألا تدعيهم يعيدونني إلى أبي، إنك أيضًا تَمُتِّين إلى الجنس البشري؛ ذلك الجنس الذي ينحرف إلى الخطيئة بمنتهى البساطة، وينغمس في المآسي الفجائية دون وعي، لقد تصرفتُ بلا بصيرة ولا تفكير … ومع كلٍّ، فإنه لم يكن من الطيش أني هربت مع هذا الرجل، بل لمحض خوفي من أبي، إن جاسون سيأخذني معه إلى بلاده ليتزوجني، ومن ثَم أرجو أن ترحميني، ولعل الآلهة تهَبُ لكِ الحياة الطويلة الهانئة، والأطفالَ الكثيرين السعداء الذين تقَرُّ بهم عينك، وتضفي على مدينتك هذه جمالًا رائعًا يبقى ملازمًا لها أبدَ الدهر.»
ثم نهضت میدیا وأخذت تسجد عند أقدام الأبطال، واحدًا بعد واحد، وكان كل بطل يُطمئنها ويطلب منها أن تتشجع، ثم يلوح برمحه وسيفه ويَعِد بمساعدتها لآخر قطرة من دمه؛ فيما لو حاول ألكينوس تسليمها إلى أعدائها.
أقبل الليل بجحافله الزَّنجية، فأوى ألكينوس وزوجته إلى مخدعهما، وتشاورا في أمر فتاة كولخيس، فتوسلت أریتي من أجلها، وأخبرت زوجها أن جاسون قد عزم على الزواج من الفتاة زواجًا شرعيًّا، وكان ألكينوس رجلًا طيب القلب، فازداد قلبه رقَّةً وعطفًا عندما سمع هذا الحديث، فأجاب زوجته بقوله: «سأسعى لإنصاف هذه الفتاة بكل ما أوتيت من قوة وسلطان، وبنفس راضية، أستطيع إبعاد هؤلاء الكولخيين بحد السيف وأُقصيهم بعيدًا عن الجزيرة، من أجل هذه الفتاة، ولكني مع ذلك أرفض أن أكسر قانون زوس للضيافة؛ هذا فضلًا على أنه ليس من الحكمة والحزم أن أغضب وأعكِّر صفو السلام مع أييتيس القوي الشكيمة، الشديد البأس، حتى ولو كان يعيش نائيًا عني … إنه قادر على شن الحرب على جميع بلاد الإغريق ودحْرِهم والاستيلاء على مدنهم … وقد استقر رأیي على أنه إذا كانت الفتاة لا تزال عذراء، وجب إعادتها إلى أبيها، أما إذا كانت زوجة جاسون، فلن أقصيَها عن زوجها بأية حال من الأحوال؛ لأنها في هذه الحالة تَمُتُّ إلى زوجها أكثرَ مما تَمُتُّ إلى أبيها؛ هذا رأيي وقراري، وسأعمل على تنفيذه بجميع الوسائل، رضي الطرفان أم رفضا.»
رُوِّعت أريتي عندما سمعت قرار زوجها، ولما كانت ترغب في مساعدة الفتاة المسكينة التي استجارت بها، فقد أرسلت في نفس تلك الليلة رسولًا إلى جاسون، يفضي إليه بمضمون هذا القرار، وينصحه بالزواج من میدیا قبل شروق شمس اليوم التالي … فذهب جاسون إلى رفقائه، وعرض الأمر عليهم، وطلب رأيهم في ذلك الاقتراح المفاجئ، فأيدوه بالإجماع قائلين إنه عين الحكمة، وإنه من تدبير السماء لا من تدبير البشر، ولما علمت میدیا بما أقره الجميع، سُرَّت أيَّما سرور. وفي مغارة مقدسة، وسط أنغام الموسيقى التي عزفها أورفيوس على قيثارته، وبحضور جميع الأبطال كشهود، تم زواج جاسون بمیدیا …
تنفس الصبح بالسعادة واليُمن، وصحا كل راقد في المدينة وهَبَّ إلى استقبال اليوم الجديد، وأترع الصباح كل قلب بالأمل والتفاؤل، وأصبحت الحياة في هذه المدينة تدبُّ دبيب الفرح، وتعِجُّ عجيجًا صاخبًا، وتدرجت الشمس من خدر أمها، فتلألأت شواطئ الجزيرة والحقول، وكان الفياكيون يملئون شوارع مدينتهم، كما وقف الكولخيون عند الطرف الآخر من الجزيرة مدجَّجين بالسلاح، على أتم استعداد للقتال.
أقبل ألكينوس من قصره، على حسب وعده، يحمل في يده صولجانه الذهبي؛ كي يدلي بحكمه على الفتاة، وكان يرافقه أنبل رعاياه … وأقبلت النساء أيضًا يُظهرن إعجابهن بأبطال الإغريق، كما احتشد جمع عظيم من الشعب؛ لأن زوس كان قد نشر النبأ في جميع أرجاء المعمورة … استعد الجميع عند حوائط المدينة، وكان الدخان يتصاعد من الذبائح فيصل إلى عنان السماء، وكان الأبطال واقفين ينتظرون منذ مدة طويلة، فلما استوى الملك على عرشه، تقدم جاسون وأقسم على صحة أقواله، معلنًا أن میدیا ابنة الملك أيیتیس كانت زوجته الشرعية، كما شهد جميع الأبطال بذلك، فلما سمع ألكينوس هذا الإقرار وشهادةَ جميع من حضر حفل الزواج، أقسم قسمًا لا حِنثَ فيه، إنه لن يسلم ميديا إلى الكولخيين، وأنه سيحميها ويحمى ضيوفه. وعبثًا حاول الكولخيون الاعتراض، فقد خيَّرهم الملك إما بالبقاء في بلاده كمواطنين مسالمين وإما بالرحيل في سفنهم إلى وطنهم.
ولما كان الكولخيون يخشون العودة إلى أييتيس بدون میدیا، فقد آثروا الاقتراح الأول … وفي اليوم السابع، غادر بحارة الأرجو الجزيرة، فودَّعهم ألكينوس، وقدم إليهم هدایا سخية، فتقدم جاسون ومیدیا، وشكرَا لألكينوس حمایته لهما، ثم اعتلوا جميعًا ظهرَ السفينة، وضربوا في عرض اليم ليُتموا رحلتهم إلى بلادهم.