قصة الجِزَّة الذهبية
بدء رحلة بحارة الأرجو
كانت إینو Ino مَحظيَّةَ أثاماس والد
فریكسوس وعشيقتَه، وكانت خارقة الأنوثة بارعة الجمال، في عينيها لمعة
آسرة، وفي طلعتها جاذبية عاتية تلين لها أصلدُ القلوب، وكانت ذات أنف
أقنى وجِيدٍ أتلع وقَدٍّ ممشوق وجسم بَضٍّ ریَّان، إلا أنها كانت شديدة
القسوة جافَّة الطباع، لا تقيم للإنسانية وزنًا، ولا تعرف للرحمة معنًى
.. فكانت تعامل فریكسوس ابن زوجها معاملةً قاسية، وتذيقه ألوان العذاب،
ولا يجرؤ أحد على أن يخبر زوجها — أو بمعنًى أصحَّ أسيرَ هواها المتيم
في غرامها — بما يعانيه ولدُه على يد تلك الحية الرَّقطاء
الداهية.
لم تُطِق نیفیلي Nephele والدةُ
فریكسوس أن تری فلذة كبدها يُسام العذاب هو وأخته هيلي
Helle؛ فقامت، بمساعدة ابنتها هذه،
بخطف الطفل من منزل أبيه، ووضعت طفليها على ظهر كبش مجنَّح؛ صوفه من
خيوط العسجد النضار، كانت تلقته هديةً من الإله هيرميس
Hermes .. فحملهما الكبش وحلَّق بهما
في الجو طائرًا فوق الأراضي والبحار، وظل يجوب أجواز الفضاء في سرعة
بالغة، فأُصيبت الفتاة بدُوار شدید، وقفزت من على ظهر المطيَّة الذهبية
لتلقى مصرعها في البحر، الذي أصبح منذ تلك اللحظة يُسمى هیللي أو
هیللیسبونت Hellespont؛ نسبةً إلى تلك
الفتاة.
أما فریكسوس فقد وصل سالمًا إلى بلاد كولخيس على شاطئ البحر الأسود،
حيث استقبله الملك أييتيس أعظم استقبال، وأكرم وفادته، وزوجه إحدى
بناته، وهي فتاة مدلَّلة اجتمعت فيها الحكمة المُثلى والأنوثة الكاملة؛
كأنها الزهرة اليانعة تسكُب البهجة والفتنة والسحر على كل ما يقع عليه
ناظراها، واعترافًا بجميل الكبش كرَّسه فریكسوس لزوس Zeus
أبي الآلهة، الذي أطال في طيرانه،
وقدَّم الجِزَّة للملك أييتيس الذي كرَّسها بدوره للرب آريس، وسمرها في
شجرة في كهف مقدس لهذا الرب، وجعلها في حراسة أفعوان ضخم؛ لأن هناك
نبوءة تقول إن حياة الملك نفسه تتوقف على امتلاكه لتلك الجِزَّة
الذهبية.
ذاع صيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسمع بها القاصي والداني،
وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كنز ثمين لا يُقدر بثمن، وحمل أخبار
تلك الجِزَّة الفرسان والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقت نفس أبطال
عديدين وأمراء كثيرين وملوك عظام إلى امتلاك هذه الجِزَّة. إذن فلم یكن
بیلیاس مخطئًا حين طلب من ابن أخيه أن يحضر له هذه الجِزَّة الثمينة،
وكان جاسون دون أدنى شك على استعداد تام للذهاب بنية صادقة وعزيمة
ثابتة لإحضار تلك الهدية الرائعة، ولم تخامره قط الفكرةُ الحقيقية التي
جعلت عمه يطلب منه هذا الطلب الوعر المنال؛ إذ إن القصد الحقيقي
لبيلياس كان هو التخلص من جاسون تمامًا بإرساله في هذه المهمة التي كان
بیلیاس على يقين من أن ابن أخيه لن يعود منها سالمًا … لذلك وعد جاسون
عمه وعدًا صادقًا وقطع على نفسه عهدًا بإنجاز تلك المهمة، مهما كلفته
من متاعبَ وعرضته لأخطار.
طلب جاسون من أشهر أبطال الأغارقة وأعظمِهم ذيوعَ صيت أن يُسهموا في
تلك المغامرة الخطرة الخطيرة … فبدأ أمهر الصُّناع في بلاد الإغريق
ببناء سفينة ضخمة عند سفح جبل بیلیون، تحت رعاية الربة أثينا،
واستعملوا في صُنعها أجود أنواع الخشب الصلب الذي لا يتأثر بماء
البحر.
كانت السفينة تتسع لخمسين مجدافًا، وأُطلق عليها اسم أرجو نسبةً إلى
بانيها أرجوس بن أریستور Arestor ..
لقد كانت أطول سفينة قام الإغريق بصنعها، حتى ذلك الوقت، للإبحار عبر
المحيطات الواسعة، وقد رُوعي عند بناء حيزوم السفينة أن تُوضع فيه
قطعةٌ من الخشب أُخذت من شجرة دودونا البلُّوطية التنبُّئية هديةً من
الربة أثينا، وقد زُينت جوانب السفينة بالنقوش البديعة، ومع ذلك فقد
كانت غايةً في الخفة؛ لدرجة أن الأبطال استطاعوا أن يحملوها على
أكتافهم اثني عشر يومًا متوالية.
ظل الصناع يواصلون العمل ليلَ نهارٍ في بناء تلك السفينة؛ حتى غدت
آيةً في الروعة والإتقان وجودة الصنعة، فلما أتموا بناءها، التف
البحارة حولها، واقترعوا على الأماكن التي سيحتلها كل واحد منهم فوق
ظهرها، فكان على جاسون أن يتولى قيادة الحملة بأسرها، وأن يقوم تیفوس
Tiphys بقيادة الدفة، ويتولى لونكیوس
Lynceus الحادُّ البصر إرشاد السفينة
في الأماكن الخطرة، وأن يجلس البطل المغوار هرقل في مقدم السفينة، وفي
مؤخرها بیلیوس Peleus والد أخيل
Achilles وتیلامون
Telamon والد أجاكس
Ajax العظيم. وكان من ضمن بحارتها
كاستور وبولودیوكس ابنا زوس، ونیلیوس
Neleus والد نستور
Nestor، وأدميتوس
Admetus، زوج ألكیستیس
Alcestis الوَرِعة، ومیلیاجر
Meleager الذي قتل الخنزيرالكالدوني
Caledonian Boar، وأورفيوس
Orpheus المغني ذو الصوت الرخيم،
ومينويتيوس Menoetius والد باتروكلوس
Patroclus، وثیسیوس
Theseus الذي صار فيما بعدُ ملكَ
أثينا، وصديقه بيريثوس Pirithous
وهولاس Hylas الصديق الأصغر لهرقل،
ويوفيموس Euphemus بن بوسايدون،
وأویلیوس oileus والد أجاكس الأصغر
Ajax the Less. وقد كرَّس جاسون سفينته
لبوسايدون إله البحر، وقبل قيام الحملة بالرحلة المشهورة، قدَّم جميع
الأبطال ذبائحهم وصلواتهم المقدسة إلى هذا الرب وإلى غيره من آلهة
البحر الآخرين.
اتخذ كل بطل مكانه المخصص له على ظهر السفينة، ورفعوا المرساة وتحركت
السفينة بعيدًا عن الشاطئ، وأخذ الخمسون مجدِّفًا يحركون مجاديفهم في
نظام بديع؛ بحيث كانت تهبط جميعها معًا إلى الماء، ثم ترتفع معًا على
وتيرة واحدة، وامتلأت الأشرعة بريح مواتية، وسرعان ما خلَّفوا وراءهم
ميناء أيولكوس. وكان أورفيوس يثير الحماس في قلوب البحارة بأنغامه
الشجيَّة التي كانت تنبعث من قيثارته، ومن صوته العذب الرقيق، وكان
المرح يملأ قلوب الأبطال وهم يمرون بجانب الجبال الشامخة الناتئة في
البحر والجزائر المختلفة .. غير أنه في اليوم التالي هبَّت عليهم ريح
عاتية، فساقتهم إلى ميناء جزيرة ليمنوس
Lemnos.