آخر مغامرات بحارة الأرجو
أخذت السفينة تقترب من الشاطئ حتى انغرس قاعها في الساحل الرملي، فنزل الأبطال إلى اليابسة وهم في غاية الفزع؛ إذ رأوا الأرض المترامية تمتد أمامهم من كل جانب إلى ما لا نهاية، وكان الفَلا الواسع خاويًا كالفضاء … لم يكن هناك ينبوع ماء يروي ظمأهم، ولا طريقٌ يدلُّهم على وجود الحياة في تلك البقاع، ولا مأوًى يُظلهم، بل كان يخيم على المكان صمت مُطبِق دونه صمتُ القبور.
دبَّ الهلع في قلوب الأبطال، فراحوا يبكون وينتحبون، وهم يقولون: «يا ويلنا، ما هذا المكان؟ وما اسم هذا البلد؟ وإلى أين قذفت بنا الرياح؟ هل بعد كل ذلك العناء وتكبُّدِ المشاقِّ نصل إلى هذا المكان المقفر الموحش؛ لنلقى حتفنا جوعًا وظمأً في حرارة الشمس اللافحة؟ يا ليت سفينتنا كانت تحطمت وسط الصخور الطافية! ليتنا كنا فعلنا شيئًا واحدًا ضد إرادة زوس ثم هلكنا في مغامرة واحدة مجيدة!»
فقال مدير الدفة: «نعم، لقد تركنا التيار بعيدًا، ولن يعود أدراجَه إلينا ثانية، لقد ضاع كل أمل في الإبحار والعودة إلى الوطن، فليحاول أي واحد منكم أن يدير الدفة لو استطاع!» قال هذا ثم رفع يده عن الدفة، وجلس في السفينة يبكي. وكقوم في مدينة تفشَّى فيها الطاعون وصار ينهَش فيها الأبدان، غمرهم حزن عميق، وظلوا كذلك في انتظار الموت المحقق، هكذا أيضًا حزِن الأبطال وتسللوا عبر الشاطئ المجدِب المقفِر، فلما أقبل المساء بظلامه، أمسك كل واحد منهم بيد زميله مودعًا، ثم رقدوا فوق الرمال على الطَّوى، وقد التفوا جيدًا بعباءاتهم وانتظروا أن يهبط إليهم الموت إبان الليل الطويل المؤرِّق، وبالقرب منهم التفت الخادمات الفياكیات — اللواتي أهداهن ألكينوس إلى ميديا بمناسبة زواجها — حول سيدتهن وأخذن في الأنين كأنهن بَجَعاتٌ تلفظ النفَس الأخير، وتبعث في الفضاء آخر صوت لها في الحياة. ومما لا شك فيه، أن الجميع، رجالًا ونساءً، كادوا يموتون دون أن يبكيهم أحد، لولا أن أشفقت عليهم أنصافُ الرَّبَّات الثلاث اللواتي يحكمن ليبيا.
حضرت أنصاف الرَّبَّات في لَظَى الظهيرة القائظ، متدثِّرات بجلد الماعز من العنق حتى العقب، وأمسكن بعباءة جاسون التي غطى بها رأسه، وسحبْنها من فوق صُدْغيه، فانتصب قائمًا مذعورًا، وما إن وقع بصره على الرَّبَّات حتى انحني أمامهن في احترام وإجلال، فخاطبنه بقولهن: «أيها الرجل السيئ الحظ، المنكود الطالع، إننا نعلم جميع ما أصابك وما يُتعبك، والآن نخبرُك أن متاعبك قد وقفت عند هذا الحد، ولن تلقى مخاطرَ بعد اليوم. فعندما تُخلِّي ربة البحر الجيادَ عن عربة بوسايدون، قدِّمْ قرابين الشكر لأمك التي حملتك طويلًا في بطنها … ومن ثَم تعود سالمًا إلى بلاد الإغريق السعيدة المتلألئة، وتهنأ بعد ذلك بحياة هادئة.»
قالت الرَّبَّات هذا ثم اختفين، فوقف جاسون مبهوتًا فترةً من الوقت لا يدري أطالت أم قصرت، وبعد أن أفاق من غَشيته، ذهب إلى رفاقه وأعلمهم بالأنباء السارة برغم ما فيها من ألغاز … وبينما هم يَجوسون هنا وهناك، ظهرت لهم معجزة أخرى لا تقل عن سابقتها غرابة … فقد انبثق من البحر جواد جميل، قد انسدلت مَعرَفتُه الذهبية على جانب عنقه، وراح ينفُض الزَّبد عن جنبيه، ثم اندفع في الفضاء كما لو كان ينقل الرياح … عندئذٍ صاح بیلیوس في غبطة وسرور، وقال: «لقد حُل الجزء الأول من اللغز؛ فإن ربة البحر قد خلَّت جوادها عن عربتها، أما الأم التي حملتنا طويلًا في بطنها فهي سفينتنا، فيجب علينا إذن أن نقدم لها قرابين الشكر التي فرضتها علينا أنصافُ الرَّبَّات، هيا إذن نُخرج الأرجو من البحر ونحملها على أكتافنا فوق الرمال، في طريق الجواد البحري؛ لأنه لن يختفي في الأرض، بل سيدلُّنا على الطريق إلى بقعة صالحة لتعويم السفينة.»
هكذا أخبرت أيجلي أورفيوس بوجود عين ماء تتدفق من الصخر الجلمود، وأشارت إلى مكانها، فجرى الأبطال نحوها يتزاحمون حولها، فألِفوا المياه تتدفق منها عذبة باردة صافية، فأخذوا يرْوون ظمأهم كما شربت النساء أيضًا، فلما روَوا، عاد إليهم السرور والمرح من جديد.
ثم تقدم أحد الأبطال وشرب جَرعةً أخيرة من الماء يبرد بها شفتيه الملتهبتين، وقال: «ما هذا الرجل الذي تتكلم عنه الحورية سوى زميلنا هرقل، وبالرغم من أنه كان قد فارقنا منذ زمان طويل، فإنه أنقذ حياتنا، ليتنا نستطيع مقابلته في أي مكان في رحلتنا المقبلة!» ومنذ تلك اللحظة أخذوا يبحثون عنه وسط الفيافي والقفار، وقد تفرقوا إلى جماعات؛ كل جماعة ذهبت تبحث عنه في جهة، فلما اجتمع شملهم ثانية، لم يكن أحد منهم قد عثر عليه أو رآه، ما عدا لونكیوس الحاد البصر الذي أعلن أنه لمح هرقل من بعيد، في صورة فلاح يعتقد أنه قد أبصر القمر الجديد من خلف السحب المتراكمة، وأكد لزملائه أنه من المستحيل عليهم أن يلحقوا به.
قال رب البحر: «لقد أرسلني أبي لحراسة مياه هذه المناطق، انظروا؛ هل ترون تلك البقعة التي بدا فيها الخليج معتمًا وعميقًا وراكدًا؟ جدِّفوا إلى هناك، تجدوا ممرًّا ضيقًا بين الخليج والبحر الفسيح، وسأبعث لكم بريح مواتية تدفعكم بسرعة إلى شبه جزيرة البليبونیز.»
أردفت میدیا تقول: «إنني أعرف كيف أُخضع هذا الوحش، وما عليكم إلا أن تبتعدوا بالسفينة عن مرمى صخوره.» ثم رفعت طيَّاتِ ثوبها القرمزي إلى فوق، وسارت بطول السفينة يقودها جاسون، وأخذت تتلو تعويذةً سحرية بصوت خافت مناديةً ثلاث مرات رباتِ القدر اللواتي يقطعن خيط الحياة، وكلابَ العالم السفلي التي تعدو بسرعة خلال الفضاء فتقتنص الأحياء.
أجبرت میدیا، بتعاويذها السحرية، جفون تالوس على أن تظل مغمضة، كما بعثت إلى روحه بأحلام سوداء؛ فكان يترنح من شدة وطأة النوم، وهو ينحني ليرفع صخرة يدافع بها عن الميناء، ولكن عَقِبَه اللحمي أُصيب من صخرة ذات نتوءات، فتدفق الدم من الجرح كأنه رصاص مصهور، وكإحدى أشجار الزان قطعها الحطَّاب من منتصفها فسقطت على الأرض عند أول هبَّة من الريح؛ هكذا ترنَّح تالوس فوق قدميه، ثم قفز إلى البحر يزأر كالرعد.
استطاع بحارة الأرجو أن يرسوا سفينتَهم بعد ذلك بسلام آمنين، ونزلوا إلى البر فألِفوا الجزيرة كثيرة الثمار، يانعة الأزهار، تجري في أنحائها جداول الماء الفرات، وهي غنية بالخيرات. فسار الأبطال في طرقاتها، وروَوْا ظمأهم من مياهها العذبة، وتناولوا طعامهم من الفاكهة الطازجة، ومكثوا في الجزيرة يمرحون حتى الصباح، فلما انبثق الفجر الوردي في جنبات السماء، وشق حجب الظلام بسيفه اللامع، أخذ الأبطال يملئون أوعيتهم من ماء الجزيرة، وينقلونه إلى السفينة استعدادًا للرحيل، وما إن بزغ قرص الشمس الذهبي من تحت الأفق، حتى اعتلوا ظهر مركبهم الميمون، وأقلعوا في عرض البحر بالمجاديف والشراع، وما كادوا يتركون جزيرة كريت، حتى قابلتهم مغامرة جديدة خطيرة … فقد وجدوا أنفسهم وسط ظلام دامس يخيِّم على الكون، لا أثر فيه للقمر، ولا يتلألأ فيه نجم واحد فيبعث ولو ضوءًا خافيًا ينير الطريق أمامهم، بل كان الفضاء حالكًا كما لو كانت جميع ظُلمة الدنيا قد تركزت في ذلك المكان، أو كأنما نشر زَنجي الظلام أجنحته على البسيطة فلفَّها في كِلَّةٍ سوداء قائمة.