هرقل يتخلف
لما كان هرقل لا يميل إلى أي لون من ألوان الترف ويعُدُّه مفسَدةً للرجل، فقد ترك رفاقه ينعمون بالوليمة، وأخذ يضرب وسط الغابة الكثيفة ليصنع لنفسه من أخشابها مجدافًا أقوى من المجاديف التي بالسفينة؛ استعدادًا للعمل الذي ينتظره في صباح الغد، فصار يتفحص أشجار الغابة حتى عثر على شجرة صنوبر خشبها صلب قوي، كانت عينَ ما يصبو إليه ويبغي؛ فلم تكن غليظة جدًّا ولا كثيرة الأغصان، وكانت في حجم شجرة حور رفيعة، وكانت مستقيمةً مستويةً كأنما قد نمت وكبرت وأخذت ذلك الشكلَ لمثل الغرض الذي يريدها هرقلُ من أجله.
وضع هرقل قوسه وجَعبتَه جانبًا، وخلع عنه جلد الأسد، وألقى هِراوته إلى جانبه، ثم أمسك بجذع الشجرة بكلتا يديه، وجذبها جذبةً قويةً انتزعتها من منبِتها هي وجذورها؛ والطين لا یزال عالقًا بها، حتى لَيُخيَّلُ إلى الرائي أن عاصفةً قد اقتلعتها من التربة.
ترك هولاس الوليمة أيضًا، وأخذ جرَّةً من البرنز ليملأها ماءً لسيده وصديقه إذا احتاج إلى الماء عند عودته، فلما بلغ الصبي الجميل البئر، وكان القمر بدرًا، انحنی فوق الماء والجرَّةُ في يده، فأبصرته حورية البئر؛ أبصرت شابًّا يافعًا طويل القامة صلب العود ساطع الطلعة حلو القَسِمات، ذهبي الشعر، فسَحَرها جماله الفتَّانُ، حتى لقد طوقته بذراعها اليسرى؛ على حين أمسكت مرفقه بیمناها وجذبته إلى أعماق البئر.
ما إن سمع هرقل ذلك النبأ حتى تميز غضبًا، واتَّقد غيظًا، وجاش قلبه حزنًا وكمدًا، فتدفق العرق غزيرًا من جبينه، واندفعت الدماء تغلي في عروقه، وبَخَعه الألمُ بلواعجه … وفي سَورة الغضب ألقى بشجرة الصنوبر جانبًا، واندفع كثور هائج لدغته النُّعَرة فترك القطيع والرعاة، وأخذ يعدو خلال الأحراج والغابات حتى بلغ البئر وهو يصيح صيحاتِ الحزن والألم والجزع.
أصبح الصباح الوردي، وأشرق نجمه فوق ذؤابة الجبل، فهبَّت رياح مواتية، وعندئذٍ حثَّ مدير الدفة الأبطال على أن يهتبلوا فرصة هذه الرياح ويُقلعوا في الحال، فتسابق البحارة إلى السفينة يصعدون على ظهرها، ويتخذ كل منهم مكانه فيها في ضوء الفجر الأحمر، وبينما هم ينزلقون في غبطة وسرور على صفحة الماء، والريح رُخاءٌ تملأ الشراع وتدفع السفينة قُدُمًا إلى الأمام بسرعة فائقة؛ إذ تذكروا بعد فوات الأوان أنهم تركوا اثنين من خيرة الأبطال على الشاطئ، وهما هرقل وبولوفیموس.
«لا يَدِبَّنَّ الخلاف والنزاع بينكم أيها الأبطال الأمجاد، ولا تتراشقوا بجارح الألفاظ، فلن تأخذوا معكم هرقل، الذي لا يخشى بأسًا، إلى بلاد أييتيس ضد إرادة زوس … إن القدر لَيحتفظُ به لمهامَّ أخرى غير مهمتكم، لقد أبصرت إحدى الحوريات الشابَّ الجميل هولاس، فهامت بحبه وبرح بها الهوى حتى إنها خطِفته، ولما كان هذا الفتى صديقًا لهرقل، ولا يستطيع أن يرجع بدونه، فقد تخلف عنكم من شدة شوقه إليه.»
فلما أماط رب البحر اللثام عن هذه الحقائق، وأنبأ بها الأبطال حتى لا تنفصم عُرى الصداقة بينهم، وينشقَّ بعضهم على بعض، وربما تسوء العاقبة فيُفني بعضُهم البعض الآخر، غطس ثانيةً في البحر، وابتلعته المياه الزرقاء كما جاء. عند ذلك احمرَّ وجه تیلامون خجلًا، ثم ذهب إلى جاسون واعتذر له عما بدر منه، ووضع يده في يده وقال: «لا تحنَقْ عليَّ یا جاسون، فقد أفقدني الحزن العميق صوابي، وأطار لُبِّي، ودفعني إلى التسرع في الكلام، فلم أعِ ما كنت أقول، بل خرجت الألفاظ من فمي دون وعيٍ ولا إدراك .. فلتذهب غلطتي هذه مع الرياح، ودعْنا يتمنى كل منا لأخيه أطيب الأماني كما كنا نفعل من قبل، وعفا الله عما سلف.»
سُرَّ جاسون سرورًا بالغًا لعودة السلام بينه وبين تيلامون، وانتشار الهدوء والطمأنينة بين الأبطال على ظهر السفينة ثانيةً. ثم أبحروا بعد ذلك عبر الأمواج الهادئة وقد خيَّمت عليهم ريحٌ معتدلة نقية.
هذا ما حدث على ظهر السفينة، أما من بقي على الشاطئ، فإن بولوفيموس أقام مع الموسيين وشيَّد لهم مدينة عظيمة، على حين استمر هرقل في سيره وتَجواله إلى حيث استدعته مشيئة الإله زوس.