فينيوس والطيور الملعونة
أقبل الفجر يُطلُّ من نافذة السماء، فوضع نهاية لوليمتهم، وصعِد
الأبطال على ظهر السفينة يحملون إليها قطعان الماشية والأغنام والأطعمة
الأخرى التي غنموها، وما إن تنفَّس الصبح واختال السحاب في جنبات
السماء، حتى كانت الأرجو تشق عُبابَ اليمِّ بقوة سواعد الأبطال التي لم
تعرف الكَلال ولا التعب، وكانت الرياح تعبث بالسفينة حينًا وتهادنها
حينًا آخر، والأمواج الصاخبة ترتفع بها تارةً وتنخفض أخرى، واستمروا
كذلك في طريقهم، فإذا لاحت لهم أرض رسوا عليها وقاموا فيها بمغامرات،
حتى بلغوا بلاد بيثونيا التي كان يقطن فيها فينيوس
Phinius ابن البطل أجينور
Agenor، وكان فينيوس هذا قد حلَّت به
مصيبة ما بعدها مصيبة؛ وسببها أنه سخِر من هدية النبوءة التي منحه
إياها أبولو، فأصابه العمى في شيخوخته، ولو وقفت المصيبة عند هذا الحد
لهانت ولأمكنه أن يطيقها في غير تذمر ولا تأفف، ولكن الأدهى والأمرَّ
أنه كلما أراد أن يتناول طعامه، كانت تنقضُّ عليه طیور متوحشة شريرة
شبيهة بالساحرات، وكانت تُدعى باسم هاربییس، فكانت تلتهم ما أمامه من
طعام في شراهة ونَهَمٍ فلا تُبقي له إلا النَّزْر اليسير، ويا ليتها
تتركه صالحًا للأكل! بل تلوِّثه وتدنِّسه بطريقة تجعل النفس تَعافُ
تناوله.
ظل فينيوس يعاني الأمرَّين من العمى والطيور الملعونة؛ حتى وهَن
جسمُه ونحَل عودُه وأصبح هيكلًا من العظام لا قوة له ولا حول، ولم يكن
له في الدنيا سوى أمل واحد، فقد كانت نبوءةٌ من زوس تقول إن فينيوس
يستطيع أن يتناول طعامه في هدوء لا يعكِّر صفوه معكِّر، ولا تقرَبه تلك
الطيور اللعينة؛ إذا أقبل أبناء بوریاس مع المجدِّفين الأغارقة؛ ومن
ثَم، عندما سمع ذلك الهرِم المسنِّ بوصول سفينة الأرجو، غادر غرفته وقد
جعل الجوعُ منه محضَ شبح، ترتعد أطرافه من الضعف، ولا يستطيع السير إلا
متكئًا على عصًا غليظة؛ لأنه كان يترنح في مشيته من شدة الوهن، فما إن
وصل إلى بحارة الأرجو حتى سقط من الإعياء والتعب على الأرض
الصماء.
عندما أبصر الأبطال ما حل بزائرهم، التفُّوا حوله وقد هالهم منظرُه،
فلما سمعهم حوله، استجمع ما بقي من قواه، وتحدث إليهم متوسلًا بقوله:
«أيها الأبطال الأشراف، أستحلفكم بالآلهة العظام، وبكل عزیز لدیكم؛ أن
تساعدوني لو كنتم حقًّا أولئك الذين تنبأَت بهم النبوءة، إن ربة
الانتقام لم تجرِّدْني من ناظري فحسب، بل سلطت عليَّ كذلك طيورًا لعينة
تحرمني طعامي، واعلموا أنكم لن تقدموا معونتكم لأجنبي، فأنا إغريقي
مثلُكم ومِن مواطنيكم .. أنا فينيوس بن أجينور، وكنت فيما مضى ملكًا
على تراقيا، وابنا یوریاس اللذان يجب أن يكونا شريكين لكم في ذلك
المسعى، واللذان يتحتم عليهما إنقاذي؛ هما شقيقا كليوباترا
Cleopatra الصغيران، وكانت تلك السيدة
زوجتي عندما كنت ملكًا على تراقيا.»
وما إن أتم فينيوس كلامه حتى ارتمی زیتیس بن بوریاس بين ذراعيه، وأخذ
يقبِّله في شوق وحنان زائدین، ووعده بأن يقوم هو وشقيقُه بتخليصه من
الطيور التي تنغِّص عليه عيشه وتوشك أن تقضي على حياته، ثم أعد الأبطال
له وليمةً حافلةً بشتى صنوف الطعام؛ بيد أنه ما كاد يلمس الطعام حتى
انقضَّت الهاربییس هابطةً من السماء، وهجمت على الطعام تلتهمه في جشع
زائد؛ حتى أتت على ما في الصِّحاف، فصاح الأبطال صياحًا عاليًا، ولكنها
لم تُعِرْ هذا الصياح التفاتًا، ولم تنزعج له، بل ظلت تأكل كأنْ لا شيء
يحدث .. ثم طارت من حيث أتت بعد أن خلَّفت وراءها رائحةً جِدَّ
كريهة.
اقتفی زیتیس وكالیس ابنا بوریاس أثر الطيور شاهرین سیفیهما، وقد
أعارهما زوس أجنحة كبيرة قوية، وقوةً لا تعرف التعب ولا الملل، وهذا ما
كان في مسيس الحاجة إليه؛ لأن الهاربییس كانت تطير في سرعة دونها سرعةُ
الريح الغربية.
فظلَّا يتعقبانها، وكادا يمسكان بها ويقضيان عليها، لو لم تظهر في
الجو فجأةً أیرس Iris رسولةُ زوس،
وخاطبت البطلين قائلةً: «أيْ ولدَي بوریاس.. يجب ألا تُقتل الهاربييس
المرسلة من لدن زوس .. ولكني أقسم لكما بالاستوكس
Styx الذي يُقسم به الآلهة؛ إن هذه
الطيور لن تزعج ابن أجينور أبدًا منذ هذه اللحظة.»
عندئذٍ كفَّ زیتیس وكالیس عن مطاردة الطيور، وعادا أدراجهما إلى
السفينة.
في نفس تلك الفترة كان أبطال الأغارقة يبذِلون جُلَّ اهتمامهم نحو
فينيوس العجوز، فأعدوا له وليمةً من الذبائح ودعَوْه إليها حيث الطيور
مشغولة بمُطارديها، فراح الشيخ الهَرِمُ الذي كان لا يزال على الطَّوى،
يأكل في نهَمٍ زائد من الطعام النظيف الوافر، فخُيل إليه أنه في حلم
وليس في يقظة؛ فهذه أولُ مرة منذ سنين عدة يأكل فيها كفايته.
أقبل الليل ونشر قبَّتَه الدكناء على المكان، فأوقد الأبطال المشاعل
يهتكون بها تلك القبة، وجلسوا يتحادثون مع الملك المسنِّ؛ انتظارًا
لرجوع ابني بوریاس، واعترافًا بفضل الأبطال، أخذ فينيوس يتنبأ لهم
بنبوءة ويسدي إليهم النصح بما يجب عليهم أن يفعلوه، فقال:
«ستصلون أولًا وقبل كل شيء إلى سومبلیجادیس
Symplegades في مضایق بحر يوكسیني
Euxine؛ إنهما جزيرتان صخريتان لا
ترتكزان إلى قاع المحيط، بل طافيتان على مياهه، وكثيرًا ما يجرفهما
التيار فتقتربان بعضهما من بعض، وعندئذٍ يرتفع تيار الماء بينهما إلى
ارتفاع شاهق في قوة جارفة. فإذا أردتم أن تتجنبوا تحطيم سفينتكم
وهلاكَكم، فعليكم أن تجدِّفوا خلالهما بسرعة اليمام .. ثم تصلوا إلى
بلاد الماریاندوني Mariandyne التي
تفخر على جميع البلاد بأنها مدخل العالم السفلي، ولسوف تمرون بجبال
كثيرة داخلة في البحر، وبأنهار وسواحل عدة، وبأمة الأمازونيات وبلاد
الخالوبیس Chalybes الذين يستخرجون
الحديد من باطن الأرض بعرق جبينهم، وأخيرًا ستذهبون إلى ساحل خولكيس
حيث يصب نهر فاسيس الواسع في البحر. وسترون معقل الملك أييتيس حيث
تجدون الأفعوان الضخم الذي لا يغمض له جفن، والذي يسهر ليل نهار على
الجِزَّة الذهبية المعلقة على أغصان إحدى أشجار البلوط؛ ليحرسها من
أيدي المعتدين وطمع الطامعين.»
لم يستطع الأبطال إخفاء رعبهم وهم يُصغون إلى الهرِم المسن، وما
كادوا يوجهون إليه بعض الأسئلة حتى هبط ابنا بوریاس بينهم، فأشاعا
السرور في قلب الملك والأبطالِ بإعلانهما رسالةَ إیریس الجميلة.