الفصل الثاني
في السجن
المشهد الأول
(حارس وحده)
حارس
(جالس على إفريز وفي يده رغيف خبز يأكله، يتوقَّف عن الأكل
فجأةً ويُمِرُّ يده على جبينه، ثم يرمي اللقمة متمتمًا، ثم يقول)
:
ما أَرْدَأَ هذا الخبز! (ينهض ويخطو ثلاث خطوات في
الغرفة ويصيح قائلًا) ما هذا الظلم؟ أأبقى بين هذه الجدران
السوداء إلى الأبد؟
(يعود إلى الأكل كعادته ثم ينطرح على الأرض وينام في زاوية السجن.)
المشهد الثاني
(السجَّان – حارس)
السجان
(وهو داخل)
:
مسكين هذا السَّجين، لا هَمَّ له إلا الأكل والنوم. (يبحث عنه فلا يجده فيصرخ) لقد هرب، ويلاه لقد هرب. (يلتفت إلى إحدى الزوايا فيسمع زمجرته المخيفة فيرتد إلى
الوراء مذعورًا قائلًا) لقد أصبح جنونه مُطْبِقًا، إن منظره لمخيف.
(يخرج ويغلق الباب الحديدي قائلًا)
نَمْ واسترح أيها الأمير.
(حارس يهجم على الباب محاولًا كسره.)
السجَّان
:
ما أصعب هذه الوظيفة! (إلى حارس) عبثًا
تتعب يا أميري، فكم تحطَّم على هذه الجدران من ساعِدٍ شديد!
حارس
(يقرفص قرب باب السجن قائلًا)
:
رحمةً أيها السجَّان، أشفِق عليَّ.
السجَّان
:
ماذا تريد يا مولاي؟
حارس
:
ارحمني، أطلق سراحي.
السجَّان
:
ألمثلي يُقال هذا الكلام؟ لا رحمة ولا شفقة، ومَنْ سُجِنَ في هذا المكان؛ فلن
يخرج إلى الأبد.
حارس
:
إذن أموت هنا.
السجَّان
:
وقد مات قبلك كثيرون، انظر ألا تقرأ على هذه الجدران السوداء ما كُتِبَ
بالدم: هنا مدفن الأحياء وجهنم الأرض.
حارس
:
وأنتم شياطينها.
السجَّان
:
وعمُّك أركوننا١ الأعظم.
حارس
:
عمِّي؟!
السجَّان
:
نعم عمُّك، ألم تسمع ما قاله الشاعر:
أقارب كالعقارب في أذاهم
فلا تركن إلى عمٍ وخالِ
فكم عمٍّ أتاك الغَمُّ منه
وكم خالٍ من الخيرات خالِ
حارس
:
وماذا فعلت حتى أَودعَني السجن؟
السجَّان
:
هذا ما أجهلُه.
حارس
:
إنك لا تجهل شيئًا يا مولاي ولكنك تكتم عني ما تعلمه، يا جواد هذا خاتمي
أقدِّمه لك تذكارًا، ولم أَعُد أملك سواه فاقبله مني، وقل لي مَنْ سجنني هنا؟ وماذا
فعلتُ حتى سُجِنْت؟
السجَّان
:
خلِّ لك خاتمك، وما حاجة السجَّان إلى خاتم الأمير؟ أتحاول إغرائي، فوظيفتي خير
لي وأبقى من خاتمك.
حارس
:
إنه قاسٍ لا يلين … أليس لك أبناء؟
السجَّان
:
نعم.
حارس
:
ولِمَ لا تشفق على أبناء الناس؟
السجَّان
:
إن شفقتي على بنيَّ تتولَّد من قسوتي هنا، ولولا ذلك لمَا أنقدني الأمير أُجْرتي
لقاء هذه المهمة القاسية، بل كان طردني من خدمته ومُتُّ وأولادي جوعًا، فاعذرني يا
مولاي ولا تُطِل الحديث معي، فليس المقام مقام ملاطفة ومجاملة.
(يؤخِّر كرسيه إلى الوراء حتى لا يعود يراه الحارس، وبعد شروع الحارس بالغناء يستولي عليه النعاس.)
المشهد الثاني
(الحارس: جَوْق غناء من الخارج)
الحارس
:
ويح قومٍ على الثرى طرحوني
وبهذا المكان قد غيَّبوني
حجبوني عن البرية ظلمًا
فقضيت الصِّبا بهذي السجونِ
وُجِدَ السجن للمسيء عقابًا
فماذا أسأت كي يسجنوني
اكشفي لي يا ربَّة الغيب سِرِّي
فحديثي إخالُه ذا شجونِ
مَنْ تُراه يخاف بَأْس صغير
فيواريه في مكان حصينِ
ليس هذا بالسجن بل هو قبر
دونه القبر في عذاب وهُونِ
(السجَّان يغُطُّ في نَوْمه.)
(حارس يسمع غناءً من الخارج فينصت.)
الغناء
:
ويلي من الزمان
مُفرِّق الإخوان
قد هيَّجَتْ أحزاني
حوادثُ الجَوى
أصبحْتُ في اضطراب
والدمع في انسكاب
يا هل أرى أحبابي
من بعد ذا النَّوى
أحبتي ارحموني
ما عِشْتُمُ اذكروني
فالبعد كالسجون
يُشقِي أخا الهوى
حارس
:
قد تذكَّرْت ماضِيَ العَيْش آهًا
يا رفاق الصبا تُرَى تذكروني
كم سَرَحْنا بين المُروج صغارًا
منشدين الأشعار بالتَّلحين
(صوت عُودٍ من الخارج.)
حارس
:
إيه يا ناقرًا على العُود مهلًا
لا تُعذِّب فؤادَ مُضنًى حزينِ
غنِّ لحن الوداع فالعيش ولَّى
فأنا الحيُّ ميتًا فاندبوني
السجَّان
(يستفيق)
:
ماذا يقول؟ إنه ينطق بلغة غير لغتنا المعهودة: يا حارس! يا حارس! أتريد أن
تأكل؟
حارس
:
لا يا سيدي، فأنا في غِنًى عن طعامك، عن خبزك الأسود (ينام).
المشهد الثالث
(السجَّان – بدر)
(بدر يدخل.)
السجَّان
(يحيِّيه)
:
ماذا تأمر؟
بدر
:
جئت أستطلعك أخبار السَّجين.
السجَّان
:
إنه ينطق بلغات عديدة، فتارةً يخطب، وطورًا ينشد الأشعار، وما لذة العيش إلا
للمجانين.
بدر
:
لقد صدر الأمر بقتله، فبعد هُنَيْهَة تستريح منه، ألم تشعر بحركة حول سجنه؟
السجَّان
:
أبدًا، ولماذا هذا السؤال؟
بدر
:
إن الخوارج يحاولون إنقاذه فكن يقظًا، سوف نقتله ونخنق بقية آمالهم في مهد
صدورهم، عمَّا قليل يأتي القِسِّيس ليمهِّد له طريق الأبدية (يخرج).
المشهد الرابع
(السجَّان وحده)
السجَّان
:
مع السلامة. مسكين هذا الشاب لا ذنب له إلا أنه سيطالب بعرش أبيه، ويح العروش!
فكم سحَقَت تحت مواطئها من رءوس، وقُبِّحت التيجان، أيظل يقتتل عليها بنو الإنسان؟
(يشير إلى حارس) إنه راقد بين أجفان
الرَّدى يحلم بالحياة، لا يدري ما يكتمه الغيب من الأسرار الهائلة (يسمع وَقْع أقدام) مَنِ القادم؟ هذا هو
القِسِّيس.
المشهد الخامس
(القِسِّيس – السجَّان)
(القِسِّيس يدخل.)
السجَّان
:
أهلًا وسهلًا بالمحترم، أتريد مقابلة الحارس؛ لتهيِّئَه للسَّيْر على طريق الحياة
الأبدية؟
القِسِّيس
(هو طرفة كاتب سِرِّ الأمير)
:
نعم يا بُنَيَّ.
السجَّان
:
إذن فلنوقظه (يفتح باب السجن ويدخل ثم يحرِّك
الحارس صارخًا) يا حارس! يا حارس! يا حارس …
حارس
(يستيقظ مذعورًا، فيهلع السجَّان)
:
أتحرمني لذة النوم يا صاحب، لقد بدَّدْت أحلامي الذهبية.
السجَّان
:
وبماذا كنت تحلم؟
حارس
:
بالنجاة، بالخلاص.
السجَّان
:
أجل بالنجاة من هذه الحياة التاعسة يا أبتِ.
حارس
:
وما تعني؟
السجَّان
:
لقد استأذنني كاهن؛ ليقابلك ويحدثك، بل ليُعزِّيَك.
حارس
:
ومتى يأتي؟
السجَّان
:
الآن، والحق يُقال: إنهم نظروا إليك بعين الرحمة والرأفة؛ لأن أغلب المسجونين
هنا يموتون ولا صلة لهم بالله.
حارس
:
الله، لقد بحثت عنه عبثًا في سريرتي.
السجَّان
(يخرج قائلًا إلى القِسِّيس)
:
ادخل يا أبتي.
المشهد السادس
(القِسِّيس – حارس)
حارس
:
قِسِّيس؟ ومَنْ هو هذا القِسِّيس الجليل؟
(القِسِّيس يدخل.)
حارس
(يسرع إليه ويصافحه قائلًا)
:
فلتباركك السماء؛ لأنك طلبت مقابلة سجين بائس نَسِيَه البشر، إن زيارة المسجونين
لَفرض مقدس لم يَعُد يقوم به أحدٌ من زملائك يا محترم.
الكاهن
:
لا تشكرني، بل اشكر الرب.
حارس
:
الرب؟ دَعْه وشأنه، دَعْه حيث هو ولا تكلِّمني عنه، دعوته فلم يجبني، ولم يهتم بي
لأهتم به، فإذا كنت رجلًا وفي صدرك قلب يخفق رحمةً فأَجِبْني.
القِسِّيس
:
تكلَّم.
حارس
:
لقد قضيت السنين وأنا أصيح وأصرخ في هذا القبر، أنطح هذه الجدران برأسي، هشَّمْت
يدي بحديد الباب، أستصرخ العدل والرحمة وما من مجيب، وكل دقيقة تمرُّ بي هي عندي
موت جديد.
القِسِّيس
:
يظهر أنك تألَّمت كثيرًا.
حارس
(يجثو أمامه)
:
يظهر أنك رَثَيْت لحالتي، حيَّاك الله يا سيدي، فما اسمك يا قِسِّيس يا قِدِّيس؟
السجَّان
(من الخارج)
:
لله دَرُّ هذا القِسِّيس؛ فقد سكَّن بركان غضبه الهائج، فلنتركهما يتحدثان عن الموت
والأبدية (يخرج).
حارس
:
سألتك فلم تجبني، ما اسمك يا أبي؟
القِسِّيس
:
اسمي خادم الله.
حارس
:
أنا هنا يا أبتِ أبكي وحدي وما من يعزيني، طرحوني في هذا الجحيم ولا يسمعون لي
دعوى ولا يرقُّون لبلواي، أما الآن فإخال غرفتي شعلةً من نور.
القِسِّيس
:
أفي الثياب السُّود نور يضيء، تشجَّع يا ولدي العزيز، أمنتبهٌ أنت؟
حارس
:
قل ما تشاء.
القِسِّيس
:
أتعرف مَن أنت؟
حارس
:
نعم، أنا ابن الأمير المنتصر.
القِسِّيس
:
إذن أنت تذكر جيدًا، اسمع الآن ما أقوله لك، غدًا تكون حرًّا طليقًا.
حارس
:
أأخرج من هنا؟
القِسِّيس
:
اخفض صوتك لئلا تفضحنا، اسمع ولا تتكلم، خُذْ هذا المفتاح.
(حارس يأخذه.)
القِسِّيس
:
أخفِهِ في جيبك، ومتى خرجتُ أنا تظاهَرْ بالجنون المُطْبِق، وارمِ السجَّان بصِحاف
الطعام فيقفل عليك الباب، ومتى أقفله توجَّه إلى ذلك الحائط الحديدي ففيه ثقب
ضع فيه المفتاح فينفتح لك الباب، حتى إذا وصلتَ إلى دهليز طويل فسِرْ به ولا تخَفْ
فمتى بلغت آخره سِرْ قليلًا تجد ثلاثةً في انتظارك، وهم يسيرون بك حيث يضعونك في
مأمن من أعدائك، أفهمت؟
حارس
:
نعم سيدي، ولكن أريد أن أعرف منقذي.
القِسِّيس
:
أنا الذي أنقذت أخاك الناصر جئت لأنقذك، أنا لست من الطُّغْمة الإكليريكية فهذا
الثوب مُستعار، أنا طرفة كاتب سِرِّ عمِّك الفاتك أفهمت؟
حارس
:
نعم مولاي، أأخي حيٌّ يا أبي؟ أأخي حيٌّ؟
القِسِّيس
:
نعم، فكن رجلًا، واذكرني في سَرَّائك كما ذكرتك في ضَرَّائك (يخرج من السجن).
السجَّان
:
أأتممت الواجب؟
القِسِّيس
:
كما يجب ويقتضي فأستودعك الله.
السجَّان
:
صَلِّ لأجله (يدخل على حارس).
المشهد السابع
(السجَّان – حارس)
السجَّان
:
إنه خائف مذعور، ما أَرهَبَ الموت! (يخاطب
حارسًا) كيف وجدت المحترم، إنه رقيق الجانب، أليس كذلك؟
حارس
:
قبَّح الله وجهك ووجهه (يرميه بالصحن على صدره
ويهجم عليه فيخرج مذعورًا) قبَّحكم الله أيها الطغاة إنكم لا
تشفقون ولا ترحمون (يهمُّ أن يرميه بصحفة
أخرى).
السجَّان
(يقفل الباب بسرعة، ثم يقول)
:
اقضِ يا شقِيُّ الدقائق المعدودة من حياتك في ظُلْمة دامسة.
حارس
(يصدم الباب ويرفس الأرض، ويصرخ قائلًا)
:
سوف أبيدكم عن آخركم فانتظروا اليوم العصيب.
السجَّان
(يخاطبه من الخارج)
:
ستكون بعد هُنَيْهة من سكَّان الأبدية، فقل ما شئت، سُبَّ واشتُمْ يا شقِيُّ، لقد أنذرك
القِسِّيس بالموت ففقدت الهدى.
(حارس يخرج من باب سجنه الداخلي.)
السجَّان
:
نَمْ مستريحًا، وانتظر الموت فهو منك على قاب٢ قوسَيْن أو أدنى (يتفرَّس جيدًا)
مَنْ هذا القادم؟ قِسِّيس؟ لماذا رجع القِسِّيس؟
(القِسِّيس يدخل.)
المشهد الثامن
(السجَّان – القِسِّيس)
السجَّان
:
هذا قِسِّيس آخر، أيرسلون له ألف قِسِّيس؟ فقِسِّيس واحد أفقده الصواب، فكيف لو زاره
الثاني؟! لا يا حضرة القِسِّيس لا أسمح لك بزيارته، وإن شاءوا تكرار زيارات القُسوس فليأتوا
للمحافظة عليه والحلول محلي.
القِسِّيس
:
افتح الباب يا جواد؛ لنسمع اعتراف الرجل، فالقائد آتٍ بجنوده ورائي لإخراجه
وتنفيذ الحكم.
السجَّان
:
القائد آتٍ.
القِسِّيس
:
نعم.
السجَّان
(يفتح الباب حذرًا)
:
يا حارس، قد جاءك قِسِّيس آخر فليهدأ رَوْعُك، ادخل يا محترم. (إلى الجمهور) إن كان من ضربة فهو أحرى بها مني
فقد أكلت قِسْطي من ضرباته.
القِسِّيس
(يدخل السجن ويقول بعد التفتيش)
:
لا أرى أحدًا، فأين هو؟
السجَّان
:
فتِّش في الزوايا يا محترم.
القِسِّيس
(من الداخل)
:
لقد فتَّشت ولم أجد أحدًا.
السجَّان
:
ما هذا؟ يا حارس! يا حارس! أين أنت؟
القِسِّيس
:
لقد فرَّ.
السجَّان
:
ويلاه!
المشهد التاسع
(بدر – جنود)
السجَّان
(إلى بدر)
:
خيانة. خيانة.
بدر
:
ما هذا الصراخ؟
السجَّان
:
لقد فرَّ … خيانة … قِسِّيس … أتى …
بدر
:
جنودي تفرقوا فتِّشوا، فرَّ السجين، أسرعوا (يشرعون
بالخروج).
(يُرخى الستار.)
١
لفظة دخيلة عن اليونانية — أرخون — ومعناها مُقدَّم، رئيس، حاكم، وهي
هنا بمعنى القائد.
٢
القاب: المقدار، وقاب قوسٍ: مقدار قوسٍ، ولكل قوسٍ قابان وهما مسافتان
متساويتان بين مِقْبَض القوس وطَرفَيه، وقولهم: قاب قوسَين مقلوب عن «قابا قوس»، والمقصود
بالقول الدلالة على قُرْب المسافة.