شوقي عاش شاعرًا، ومات شاعرًا١
ما أَشأم هذا الصيفَ على الأدبِ العربي!
غيَّبتْ أشهُرُه الثلاثة من سماءِ الشعر فرقَدَيه، وقوَّضت من صرحِ الأدبِ ركنيه.
ما هَّمت شمسُ الصيفِ بدخول «برجِ الأسد» في أوائل الفصل حتى أغارت على الأدبِ فطاحت بفارس ميدانهِ، وما استوَتْ عندَ أواخرِ الفصل في «برج الميزان» حتى عبثت بفيصلِ الشعر وميزانهِ.
ما كفكفتْ مصرُ دموعَها على «حافظ» حتى عادت تُطلِقُها اليومَ على «شوقي»، وما انتهت أنديةُ العرَب من توفية «حافظ» حقَّ التأبين والرثَاءِ، حتى حمل إليها البرق نعي إمام الشعر وأمير الشعراء.
منذ عشرة أسابيعَ أو ما يقربُ من هذه المدَّة، كان الأدبُ العربي يتيهُ بشاعريه فخرًا، ويطاولُ بهما أزهى عصور الأدب زهوًا، وها هو اليومَ، وقد فُجِع بهما الواحد تلوَ الآخر، يبكيهما معًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أما مصرُ فإن شعرَ شوقي وحافظ قد أجلسَها الصدرَ بين بلاد العرب، وثبَّت في يدِها مدةَ ثلث قرنِ صولجانَ الأدب، فكانت مصر تباهِي سائرَ الأمصار، وكان عصرُها بشاعريها عصرًا يُدِلُّ على العصور ويفاخر عهدَ بغدادَ والأندلسِ في إِبَّان الازدهار.
•••
يقول اللاتين: «يصيرُ الخطيبُ خطيبًا، ولكنَّ الشاعرَ يُولدُ شاعرًا.»
وقد وُلد شوقي شاعرًا، وظلَّ شاعرًا من مهدِه إلى لحدِه.
كان شاعرًا يوم دخلت به جدَّته على الخديوي إسماعيل، وهو في الثالثة من عمره؛ وكان بصرُه لا ينزلُ عن السماءِ من ارتجاج أعصابه، فطلب الخديوي بَدرةً من الذهب، ثم نثرَها على البساطِ عند قدميه؛ فوقع شوقي — كما روى في مقدمة ديوانه — على الذهبِ يشتغل بجمعهِ واللعب به، فقال الخديوي لجدَّتِه: «اصنعي معه مثلَ هذا، فإنه لا يلبثُ أن يعتادَ النظرَ إلى الأرض.» قالت: «هذا دواءٌ لا يخرجُ إلَّا من صيدليتك يا مولاي.» قال: «جيئي به إليَّ متى شئتِ، إني آخرُ من ينثرُ الذهبَ في مصر.»
وكان شوقي شاعرًا، وهو طالبٌ في المدرسةِ، وقد أخذت إلاهةُ الشعرِ تُوحي إليهِ بالصورِ الجميلةِ والكلامِ الموزونِ الموسيقيِّ.
وكان شوقي شاعرًا، وهو يطلبُ الحقوقَ والآدابَ في فرنسا؛ وقد نظم في تلك الحِقبةِ من القصائدِ ما كان يبشِّرُ بما سيصيرُ إليه من الإِمامة والإِمارةِ في دولةِ القريض.
وكان شاعرًا، وهو يُمثِّل الحكومةَ المصريةَ في مؤتمر جنيف؛ فنظم قصيدةً غرَّاء تضمَّنت ما وقعَ في وادي النيل من كبارِ الحوادثِ منذ فجرِ التاريخ.
وظلَّ شاعرًا في جميع أدوار حياته، وهو في أوج الجاه وأبَّهة المناصب العالية والنفوذ لدى الحكام؛ وظلَّ شاعرًا، وهو في منفاه يطوفُ ربوعَ الأندلس ويتغنى بمفاخرِها الدارسة، ويبكِي ويستبكِي حنينًا إلى وطنه.
وظلَّ شاعرًا بعد عودتهِ إلى ذلك الوطن، بل قد يكون هذا العهدُ، وهو عهدُهُ الأخير، أَخصبَ أدوارِ عمرِه إنتاجًا شعريًّا، فقد أقلع فيه عمَّا ألفه اضطرارًا، بحكم لقبه ومنصبه، من الموضوعات التي حَفَلَ بها ديوانُهُ الأوَّل، وتوفَّر على كل موضوعٍ وطنِيٍّ تاريخيٍّ عمراني، وكأنَّ قريحتَهُ كانت تزدادُ صفاءً ورواءً مع تقدُّمِه في السن، وكأنَّ شاعريتَهُ كانت تزيد تدفُّقًا وغزارةً كلما أخذ معينُ الحياةِ ينضُبُ في جسمه النحيل.
فلم يكتفِ بالقصائد يَقصِدُها، بل عمد إلى أشهرِ الحوادثِ من تاريخ مصرَ وتاريخ العرب ينظِمُها رواياتٍ تمثيليةً شعرية، وأَقبل على الفن الروائيِّ يُعالجهُ في سنٍّ يُودِّعُ فيها هذا الفنَّ غيرُهُ من الشعراء.
وهكذا كان في الحلقةِ الأخيرةِ من عمرهِ يُطالعنا في كلِّ حادثٍ من الحوادث بقصيدةٍ عصماء، ويزُفُّ إلينا في كلِّ عامٍ روايةً حسناء.
كان شاعرًا في «كرمة ابن هاني» يومَ كانت في «المطريَّة» مباءةَ أهل الفضلِ والأدبِ، وبعد أن انتقلت إلى «الجيزة» على ضفَّةِ النيل يجمعُ فيها أميرُها نفرًا من أصحابِ النظر والرأي في الكتابة، فيُطلعُهم على رواياتِه قبل أن يدفَعها إلى خشبة المسرح.
وظلَّ شوقي شاعرًا في مماته: ففي الليلةِ التي تقدَّمتْ صباحَ منيتهِ، كانت إحدى المغنيات الشهيرات تُنشِدُ قصيدةً من قصائدِه، والجمهورُ يُصفِّقُ طربًا لروعة الشعر، وبعد وفاته ببضع ساعاتٍ كانت آخرُ قصيدةٍ نظمها تُلقى في حفلةِ الشباب القائم بمشروع القرش.
وقد يختلفُ الرأيُ في بعض شعره؛ غير أنَّ في دواوينه الكثيرَ مما يرفع قائله إلى المرتبة الأولى بين الشعراء، ويحفظُ ذكرَهُ خالدًا في تاريخ الأدب.
ولقد كان، رحمه الله، على ما نال من بسطة العيش وكبير الألقاب وواسع الجاه وبُعد الشهرة، وديعَ النفسِ مُنْخفِضَ الجانبِ دَمِثَ الأخلاق.
وكان عفَّ اللسان والقلم؛ لم ينطقْ هجرًا، ولم يكتب هجوًا، قال فيه المرحوم إسماعيل صبري باشا:
أما برُّهُ بأولادِه وعطفُهُ على أهل بيتهِ فقد كانا مضربَ المثل؛ فكأنَّهُ خُلِقَ ليكونَ أبًا، كما وُلد شاعرًا، وقد نظمَ في بنيهِ قصائدَ سوف يخلُدُ معها ذكرُهم.
•••
أَمَّا الآن، وقد مات حافظ، فمن ذا الذي يوفِّي شوقي حقَّهُ من الرثاء، وهو القائلُ منذ شهرٍ في رثاء حافظ:
وهكذا لفَّت المنيةُ اليومَ علمًا من أرفِع أعلامِ الشعر، وطوَت صفحةً من أمجد صفحات الأدب العربي.
وعندما أُودِع شوقي القبرَ عند غروبِ شمسِ اليوم، لم يَسَعْنا إلا أن نذكرَ قوله: