شوقي شاعريَّتُهُ ومميِّزَاتُها١
منذُ خمسِ سنواتٍ وبعضِ السنة اجتَمعنا في هذا المكانِ نفسِهِ لتكريمِ «شوقي»، واشتركتْ معنا وُفودُ الشرقِ العربيِّ في ضَفْر إِكليل الغارِ على مَفرقِ أمير الشعراء، كما هي تشترك معنا اليومَ في نَثْر أزاهيرِ الذكرى على قبرهِ، وكأنِّي بالفقيدِ الكريم ماثلًا كالأمس في مقصورته هذه، وكأني بفقيدِنا العظيم الآخر — حافظ إبراهيم — باسطًا يدَهُ إليه، وأَجواءُ هذه القاعةِ تردِّد، بين التصفيق والهتاف، صدى صوتِه الفخم:
أما الفرقُ بين حفلتِنا هذه وحفلتِنا تلك، فالفرق بين نشوةِ الحياةِ وهمدةِ الموتِ، وبين بهجةِ الأعيادِ وخشوعِ المآتم، ولَئِن قصَّرَ خطيبُ اليومِ عن خطيبِ الأمس.
حديثي معكم أيها السادة، عن شاعرية شوقي، أو عن «شوقي الشاعر»، وهل كان شوقي في حياته إلَّا شاعرًا؟ وهل يبقَى منهُ بعدَ مماتِه غيرُ الشعر؟ بضعةُ أسابيعَ مرَّتْ على وفاتِه، وها قد نُسِيَ كبيرُ موظفي المعيَّة وحاملُ الألقابِ الضخمةِ من الدولةِ العلية؛ واضمحلَّ صاحبُ الثروةِ والجاهِ والنفوذ، وعَفَا أَثَرُ العضوِ في مجلسِ الشيوخ، فأصبحنا ولا نروِي عنه إلَّا ذلك الشعرَ الذي أرقص وأطرب، ولا نذكرُ منهُ إلَّا ذلك الشاعرَ الذي نظم فأعجب.
ولقد أدرك ذلك هو نفسُهُ إذ أنشدَ يومَ كان صاحبَ الصول والطول:
ويوم قال بعد منفاه:
بل إنَّ قيمةَ الشاعرِ في نظرهِ لم تكنْ لتضارعها قيمةٌ.
بل غالى حتى رأى الشعرَ مبعثَ كلَّ نهضةٍ قومية:
بل زاد في الغلوِّ فقال:
حَملَ قيثارةَ الشعر، وهو غلامٌ يافع، ولم تقعْ من يدهِ إلَّا صبيحةَ وقعَ صريعَ الردى، ولقد ظلَّ بين العهدَين، ما يَقرب من نصفِ القرن، يُخرج منها أعذبَ الأنغامِ وأشجاها، حيثما كان وكيفما كان: في مواقف الروع ومواقع الحروب:
أو في مواطِن الطمأنينة والابتهاج:
لم يَشُدَّ إلى قيثارةِ الشعر وترًا جديدًا، ولكنَّه عرف أن يُنطق الأوتارَ القديمةَ بنغماتٍ جديدة مُستعذَبة، فأوتار العود معدودة، وهي هي، عدًّا ونوعًا، تحتَ أنامل العازف، ولكنَّ كلَّ عازفٍ يفتنُّ في النقرِ عليها ما شاءَ لهُ الافتنانُ، فيُسمِعُنا منها الجديدَ من الألحان، وألوانُ الشبح الشمسيِّ واحدةٌ، ولكنَّ كلَّ مصوِّرٍ يبتدع من مزيجها شتَّى الألوان.
وهكذا كانت أوتارُ القيثارةِ القديمة في يدِه تُخرِجُ أَلحانًا مستجدَّةً في كلِّ موضوعٍ فكان:
وما هي أوتارُهُ الناطقةُ الحاكية …؟
أيها السَّادة، الدينُ والوطنُ عاطفتانِ غريزيَّتانِ في قلوبِ الناس، فهُما وَترانِ أساسيَّان في قيثارة الشاعر، ما داناهما بلمسٍ إلَّا أخرجا نغمًا بعيدَ القرار، وما نقر عليهما إلَّا استثار في صدور الجماهير الغيرة والنخوة والحماسة.
وتَر الدين
نقر «شوقي» على وتر الدين فتغنَّى بالإسلام غناءً جزلًا فخمًا، بلا تصنُّعٍ ولا تكلُّف، بل عن عقيدةٍ وإيمان، فكستْ عقيدته نظمَه حلَّةً قدسية، وعقد إيمانه حول هذا النوع من شعره هالةً نورانية.
اسمعوه يعتزُّ بالإسلام:
واصغوا إليه يَفخَرُ بدول الإسلام:
وبملوك الإسلام:
وإذا انتصرت دولةٌ من دول الإسلام ترنَّح طربًا ورنَّح الشرقَ معه:
يُقدِّسُ الإسلام ويجلُّ تقاليدَه العريقة، وينبري للذود عن الخلافة بجميع جوارحه:
وهو لا يُنزِّه المسلمين عن الأخطاءِ والهفوات، ولكنَّ الذنبَ إنما هو ذنبهم لا ذنبُ الإسلام.
ومن هذا الشيءُ الكثيرُ ممَّا لا مجالَ لإِيراده بجملتهِ، وتجدونَه في شتَّى قصائدِه، ولا سيما في الهمزية النبوية، وعرفات، والخلافة وذكر المولد، والأزهر، والهلال، ونهج البردة، ورثاء مقدونيا إلخ.
ومثلُ هذه النبضات لا تَصدُرُ إلَّا عن قلبٍ عامرٍ بالإيمانِ:
وكان تمسكه هذا بالدين بعد أن خَبَر الدنيا وذاق حلوَها ومرَّها:
على أن هذا الشاعرَ الراسخَ العقيدة، الصادق الإيمان، لم يُسئْ إلى أحدٍ في عقيدته؛ لأن مبدأه كان: «المسلم مَن سلم الناسُ من يدهِ ولسانه.» وهكذا تَرَون أُدباء المسيحيين والإسرائيليين يتغنون بشعره الإسلامي، ويطربون له طرب المسلمين أنفسهم، وقد يتناول أدقَّ الموضوعات من هذا القبيل، ولكنَّه يتناولها بلمس الحرير فلا يؤلم ولا يجرح، كوصفه كنيسة آيا صوفيا التي صارت مسجدًا:
ووصفهِ مدينةَ القسطنطينية وقد خرجت من يدِ الروم إلى يد بني عثمان:
وهكذا يحترم الأديانَ ويُجلُّ كُتبها:
وإذا وقع العيدانِ — عيد المسلمين وعيد المسيحيين — في يومٍ واحدٍ حيَّاهما معًا أجملَ تحيَّة:
وإذا رأى اعتداءً من دولةٍ من دول الصليب، فإنه لا يُثير الأحقادَ الدينية القديمة، بل يُبرِّئُ الدينَ، ويُنجِي باللائمةِ على الذين لا يتَّبعون وصاياه:
أو يعاتِبُ ألطفَ عتاب ويمهِّد له أجمل تمهيد:
أمَّا الحروبُ الدينيَّة التي مزَّقت الإنسانية في حقبات مُختلفة فمرجِعها إلى الضلال، والدين ينفضُ يده منها.
ومن كانت هذه آراؤه في الأديان ومُوحيها فلا عجَبَ أن يكونَ في طليعة الداعين إلى اتحاد العنصرين المكوِّنين للأمة المصرية:
وهو يُدلِّل على وجوبِ هذا الاتحاد باسم الوطن:
بل باسم الدين نفسهِ:
ومِن نِعم الله على مصر أن هذا الاتحادَ قد توثق فيها على وجهٍ لم يتوثَّق على مثاله في قُطر آخر، فثارت البلاد تطالب باستقلالها تحت رايةٍ رُسِم عليها الهلالُ معتنقًا الصليب، وفي ذلك يقول فقيدُنا:
وهو القائل كذلك في الصليب والهلال:
وله في كلِّ ذلك حكمةٌ بالغة وهي:
هذا مثالٌ من الأنغام الفخمة التي استخرجها «شوقي» من وتر الدين، وهي نغماتٌ ذات أجنحةٍ مصفَّقة تحملها على تموُّجات العواطف إلى الملايين من الناس، فيتراجع صداها في الصدور حيث تستقرُّ بردًا وسَلامًا، وهل تعرفون شعراءَ كثيرين وُفِّقوا لما وفِّق له شوقي؛ إيمانًا صادقًا، ورأيًا صائبًا، وحكمةً رائعة، وذوقًا سليمًا، مع جزالةٍ في اللفظ وفخامة في الأسلوب؟
وتَر الوطن
أمَّا وترُ الوطن فلم يكن بأقلَّ براعة وحذقًا في النقرِ عليه، فوطنياتُ شوقي خليقةٌ بأن تُجمع وتدرَّس في المدارس لتنشئة الطلبة على حب الأوطان، فهو يقدس الوطن تقديسًا، ويتكلم عن العاطفة الوطنيَّة كعقيدة دينية، أليس حبُّ الوطن من الإيمان، وهو الرجلُ المؤمن كما رأينا؟
أنزَلَ الوطنَ منزلة الدين في هذه الأبياتِ، وفي غيرها:
وهل يُستغرَب ممَّن ينبضُ قلبه بهذه العاطفة الوطنية أن يجعل مصر كعبة أشعاره؟
ويكادُ يتغزلُ بوطنه في كل موضوعٍ يعالجه، حتى في خمريَّاته، فبينما ينشد في العيد طربًا؛ رمضانُ ولَّى، هاتها يا ساقي، إذ به يتجهَّم لذكرى وطنه:
نعم، إنَّ حبَّ الوطن سجيَّةُ كلِّ حرٍّ:
يقول ذلك ويُعيدُه:
ولكنَّ مصرَ أحرى من سواها من الأوطان بهوى أبنائها:
واسمعوه بعد ذلك يُعدِّد محاسن هذا الوطن في مختلف قصائده مهما تنوعت موضوعاتها، ويُبدِع في وصف آثار مصر ما شاء الإبداع، سواءٌ تكلَّم عن الهياكل وما فيها من مدهشات الفن:
أم تكلَّم عن أهرامِ مصر:
أو عن أبي الهول:
أو عن النيل:
ولكن ما له وللتفصيل، فكلُّ ما قام في مصرَ عجيبٌ بخلوده:
ومجال الفخر بتاريخ مصر، وما تعاقبَ فيها من جُسام الحوادث، لا يقلُّ اتساعًا عن مجال الفخر بآثارها الخالدة:
وعلماؤها الأعلامُ هم الذين نشروا نورَ التمدين في العالم:
وأين تاجُ الملوكِ وعرشهم من تاج ملك مصر وعرشه:
وهو على هذا النحو يبسطُ تاريخَ مصر استفزازًا للهمم:
أحبَّ هذا الوطن في ماضيه حبًّا جمًّا، وقد أحبَّه في حاضره حبًّا أشدَّ، لذلك ما فتئ يدعو إلى الجدِّ والنشاط في مختلف ميادين العمل لاستعادة ذلك المجد الباهر:
مرَّت على مصر حِقبة من الزمن كانت مقاليدُ أمورها في غير يد أبنائها فصارت إلى غير ما يريده أبناؤها البررة المخلصون:
ولذلك صارت حالة أبناءِ الذين علَّموا الدنيا الفنَّ والصناعةَ إلى ما يؤلم النفسَ:
والآن فلننظر كيف يُريد هذا الوطن.
يريده قبل كلَّ شيءٍ متحدًا:
فلا قوَّة إلَّا بالاتحاد:
يُريدُ هذا الوطنَ حرًّا، طليقًا من القيودِ التي قعدت به عن السيرِ إلى الأمام:
يأبى هذا القيدَ ولو كان من الجُمان:
وإذا هنَّأ المعتقَلين السياسِيين بفكِّ اعتقالهم عاد إلى حريَّة الوطن فقال:
وكيف الوصولُ إلى تحقيق هذه الأُمنية؟
هناك فكرتان أساسيتان تعودان في شعره، بل قاعدتان أُولَيان يريد أن يبني عليهما إنهاضَ الوطن وإسعادَه: الأولى العلُم والقوَّة، والثانية الدستور والشُّورى، وله في كلا المعنيين ما لا نعرف مثله لشاعرٍ قبله:
وترى هاتين الفكرتين مفصَّلتين في شتى منظوماتِه.
أما العلمُ والقوَّة فحيث يقول:
فالسَيف والقلم سياجُ الوطن ومظهرُ شَرَفه وعزِّه:
فالحسامُ المُعِزُّ هو الذي يصون الحقوق:
واليراعُ المهذِّبُ هو دواءُ النفوس:
والجهلُ مضيعةُ الحقوق:
لذلك تراه يُقدِّس مُهمَّة المعلِّم، وإذا كان بسمرك قد قال بعد حرب السبعين: «غلبنا جارتنا بمعلِّم المدرسة.» فإن شاعرَنا يقول:
ثمَّ يجمعُ بين القوة والعلم فيقول:
أمَّا الشُّورى وأمَّا الدستور فيكاد لا يقصدُ قصيدةً إلَّا جعل لهما منها النصيبَ الوافر؛ لأنَّ:
ولذلك يقولُ مخاطبًا توتنخ أمون:
فالدستور هُدى الحكام ومفخرةُ الملوك:
ولذلك يُهيب بطلاب العلم أن:
بل إنَّ الشُّورى من الدين: قال يخاطِبُ سلطانَ تركيا منذ ربع قرن:
هكذا أحبَّ شوقي مصرَ في ماضيها المجيد، وفي حاضرها المتوثِّب، حبًّا يقرب من العبادة، وهو يحبُّها كذلك في مستقبلها، أي في شبَّانها، فهم معقدُ آمالها ومعقلُ رجائِها:
وهم أبهى حلاها:
فلا بدَّ من مجاراة الزمان في دورانه، ولا بدَّ من الإقدام والعمل:
فشعارُ هذا العصر الإقدام:
يُريد شبَّانَ مصر طموحين إلى المعالي لا خانعين قانعين:
ولكنه يريدهم مستمسكين بالإنصاف:
متخلقين بالكرم والصفح:
على أن يكونوا مع ذلك معتصمين بحبل الله، فصوتهم عند الله مستجاب:
وهل في استنهاض الشباب أبلغُ وأحرُّ من هذه النغمة المنبعثة من سُويداء قلبهِ:
هذه الأبيات قالها في سنة ١٩١٤ وهي تُعبِّرُ عن الأملِ المنشود، فاسمعوه في سنة ١٩٢٤ يتغنَّى بالأمل المحقَّق:
ترون من هذا كيف أحبَّ مصر في مستقبلها، أي في شبابها، وكأني به يعتذر إلى هذا الجيل الآتي عن الجيل الحاضر:
كما يعتذر إلى الجيل الحاضر عن الجيل الماضي:
فإن ما فينا من نقصٍ يُمهِّد العذرَ للمتقدمين:
فهل جاد وتَرُ الوطن في قيثارة الشعر بأعلى من هذه الأنغامِ وأغلى منها؟
وهل نبض القلبُ بأحرَّ من هذه الدعوات لإذكاءِ نار الوطنية واستثارة الروح القومية؟
وإذا كانت مصر، وآثار مصر، ومدنية مصر، وعرش مصر، وشبان مصر، تكادُ تكون القرارَ في جميع ألحانه، فإنه ما نسي ذلك الشرق العاثر:
وما غمط حقَّ قُطرٍ من الأقطار التي تربطها بمصر رابطة من روابط الجوار:
أو روابط اللغة:
أو روابط الدين:
حتى غمر شعرُه هذا الشرقَ فكان شريكهُ في أفراحه ومواسيَهُ في أتراحِه:
فيتألَّم لحالة هذا الشرق:
ويتوجع لتخاذُل أبنائه واستكانتهم:
لا سيما وهو يقابل بين الماضي والحاضر:
ولقد نظم في بغداد ودمشق ولبنان، مهنئًا أو معزيًّا أو مواسيًا، ما قد يكون قصَّر عنه شعراءُ العراقِ أو الشامِ أو لبنان، ولكنَّه في عواطفهِ الفيَّاضةِ على هذه البلاد الشقيقة لا ينسَى مصر:
أحبَّ وطنَه ومواطنيه، وحبَّبه وحبَّبهم إلى الجميع:
ومن أجلِ كلِّ هذا اشتركتْ جميعُ البلادِ العربيةِ بفجيعةِ مصرَ بابنها البار، وعقدت له حفلات التأبين والرثاء كأنَّ المصاب مصابها، وها هي اليوم قد أوفدت أنجبَ أبنائها، من العراق، إلى فلسطين وشرق الأردن، إلى الشام ولبنان؛ لحمل عزاء الملايين من الناطقين بالضاد إلى إخوانهم أبناء مصر؛ لأنَّ شوقي الذي تغنَى بشعره، وهو شاعرُ الإسلام، أبناءُ سائر الأديان، يدَّعيه، وهو شاعر مصر، أبناءُ سائر الأوطان، فكان أعظم دعاية حية لمصر في حياته وفي مماته، فحقَّ له أن يزهوَ ويقول كما قال:
وتَرُ الحكمة
وهناك وَترٌ ثالثٌ شدَّه أميرُ الشعراء إلى قيثارته كما شدَّه غيره من الشعراء، عنيتُ به وتر الحِكمة، أو الاجتماعيات، وله فيه أيضًا الشيء الكثير، ولا عجبَ أن تكثر الحكم والنصائح وضروبُ الإرشاد في شعر من تغنَّى بالدين والوطن، وقد أشار شوقي نفسه إلى ذلك، بل رأى الحكمة فنًّا من فنون الشعر الرئيسية:
وقد امتاز بما استخرجَهُ من هذا النوع أيضًا وطبَعهُ بطابعهِ الخاص، شأنه فيه شأنُهُ في الألحان التي استنبطها من سائر الأوتار.
فقد امتازت حكمه واجتماعياتُه بسهولة معناها ورُواءِ مبناها، فجمعت إلى أُبَّهةِ الحكمة وجلالتها عذوبةَ الحياة وطلاوتها، ففلسفته في الحياة فلسفةٌ باسمةٌ، لا عبوس فيها ولا تجهُّم، فهي الحكمةُ تحمل زهرًا، وهي فلسفةٌ هيِّنةٌ سهلة، لا تصعيب فيها ولا تعقيد، بل تبدو وضَّاحة المذهب، سهلة المطلب، لا يقصد منها إلَّا إلى العدل والوئام ومكارم الأخلاق.
يدعو إلى الإنصاف:
وإلى الصبر لإدراك المنى:
وإلى العدل في تدبير الملك:
وإلى الرفق في سياسة الناس:
وإلى الثبات وتعاون الأجيال:
يقولُ بالتسليم لإرادة الله فهو صاحبُ المشيئةِ العليا:
ولكنَّه يُندِّدُ بالاستسلام لخطوب الدهر:
كما يُبرِّئُ القدر مما نحمِّله من نتائج إهمالنا وتهاوننا:
يُنادي بوجوب تعليم المرأة وتربية الأسرة:
يرى السعادة في غير ما يراه الناسُ عادةً:
ويرى رأيَ عنترة الذي قال:
فيقول بالمعنى عينه:
أمَّا الحسَدُ فلا يتجهُ إلَّا إلى الفضل:
وأمَّا الأخلاقُ فقد أكثر من ذِكرها والحثِّ عليها، فبها تحيا الأمم، وبها يسعد الأفراد، وله فيها بيتٌ لا نعرف له ضريعًا في كثرة الاستشهاد به: يوُرده الخطباء في خطبهم، ويضمنه الشعراءُ قصائدَهم، ويُردِّده الناسُ في أحاديثهم، بل إن مسرحًا من مسارحنا الوطنية اتخذه شعارًا له فنقشه بحروفٍ كبيرةٍ فوق الملعب:
وقد يُعيد هذا المعنى مرارًا لترسيخه في العقول وطبعه في النفوس، فيقول تارةً:
وتارةً:
ومرة أخرى:
فعليها تُبنَى الممالكُ وتشادُ:
وبها دون سواها ترتقي الشعوب:
وإذا هي سلمتْ فكلُّ شيءٍ سالم:
أمَّا طريقتُهُ في النصح والإرشاد فالملاينة والتلطف:
ولا سيما إذا كان النصحُ موجَّهًا إلى الشبان:
ويجب أن يوجَّه النصحُ إلى العقل حينًا، وإلى القلب حينًا آخر:
ويقتبس غالبًا حكمَه ونصائحه من حوادث التاريخ:
فالتاريخ أبو العبر، ولا سيما تاريخ مصر:
أكتفي بهذا القدر من حِكمِه، ففيه وفي ما تقدَّم إيرادُه من هذا النوع في شعره الديني وشعره الوطني ما يغني عن الإسهاب وزياد التبسُّط؛ للدلالة على أنَّ الحكمة قد جاءت في تضاعيف قصائده بلا تصنُّع ولا تكلُّف في لفظها وفي معناها، فهو لا يتوخَّى فيها التعمُّق في التحليل ولا الغوص في ثنايا الفكر والنفس ليظفر بالحقائق، بل يتناولها مما يخطر ببال كل إنسان، وينطق به كل لسان، ثم ينثر دقائقها عفوًا في بيتٍ أو بيتين، أو في جملة اعتراضية أو شطرةٍ من بيت، فتجيء جليَّةَ القصد قريبة النفع، كأنها في روض شعره الثمرُ الشهي بين الزهر البهي، ويجيء شعره معها غذاءً للعقول وريًّا للنفوس، كما هو بهجةٌ للقارئ ونعمةٌ للسامع.
الوتَر المصور
وهناك أيضًا وَترٌ طالما غنَّانا بما يطرب الأسماع، ويفتن الأبصار كذلك، كأنَّ نغماتِه تتحوَّل ألوانًا تصوِّر، هو وتر الوصف: وصف الأشياء ووصف الأشخاص.
رأى شوقي في حياتهِ كثيرًا وعرف كثيرًا فوعى كثيرًا.
رأى مصر وآثارها الخالدة، رأى أوروبا ومعالمها العامرة، رأى الشام وجبالها الشاهقة، عاشر السلاطين والملوك وطاف بين كثير من الأمم والشعوب.
وكأنَّ ما كان في عينيه من ارتجاج عصبي، جعلهما كالزئبق الرجراج، قد ساعده على أن يستجمع بلحظةِ عينٍ ما لم يره غيره، فكان بنظره الجوَّال يتناول دقائق المرئيات فيستوعبها في حافظته، وما لم يره بأمِّ عينه نظر إليه بعين خياله؛ لمحةٌ عين أو لمحة قلب كانت تكفيه ليطبع في خاطره رسم الأشياء والأشخاص، ثم يجيء بكل ذلك وصفًا أخَّاذًا، وصورًا ضاحكة خلابة.
يطول بنا الوقوف عند كل ما وصف وصوَّر من آثار الطبيعة وآثار البشر؛ مصر وكل ما فيها، والأستانة، والبوسفور، وأيا صوفيا، وباريس، وغاب بولونيا، ودمشق، ولبنان، والهلال، والربيع، والمرقص … إلخ، ولكنني أقتطف من ذلك، على سبيل المثال، بعضَ مقاطع يكادُ كلٌّ منها يكون صورةً شمسية أو لوحةً فنية دقيقة التفصيل، مستكملة الحسن، وهكذا يتحوَّل وحيُ الشعر ونغمُ الموسيقى ريشةً تصوِّر بالألوان، وهذه هي صلةُ النسب بين الفنون الجميلة، وهكذا يتحوَّل هذا الباب في ديوان شوقي متحفًا عامرًا ببدائع الرسم والتصوير.
هل زرتم هيكل أنس الوجود، ورأيتم مياه النيل قد كادت تغرقه …؟ وإلَّا فانظروا صورته في هذه الأبيات:
ومن لم يَر قبرَ توتنخ آمون وما وجدَ فيه مستكشفُهُ من جواهرَ وطيوب يومَ:
فلينظرْ إليهِ مصوِّرًا في هذا البيت:
الأكثرون منَّا لم يروا الغوَّاصة ولكنهم يرونها، كما وصفها شوقي، مرسومةً على لوحة السينما:
وشاهدوا بعد ذلك في قصيدة أو صورة أخرى كيف تهاجم هذه الغوَّاصة السفينةَ وتغرقها:
أمَّا وصفه للطيارة منذ ثماني عشرة سنة، فلم نقرأ وصفًا يدانيه لشعراءِ الأمم التي ابتدعت هذا المركب الهوائي:
واسمعوا وصفَه معركة «أسترليز» الذي انتصر فيها نابوليون، الملقَّب بالنسر، على إمبراطوري روسيا والنمسا، فعرفت بمعركة الإمبراطرة الثلاثة، وهي صورةٌ لم يَرسم مثيلًا لها غير فيكتور هوجو شاعر نابوليون.
وهذه صورة لدمشق من نوع تصوير المناظر الطبيعية:
وترى كلَّ ألوانِ الخيال تتسابق تحت ريشته في وصف لبنان:
زُرتم معرضَ الصور الأخير، ورأيتم فيه لوحاتٍ كثيرة تمثِّلُ نَخِيلَ مصر، فهل رأيتم أبدعَ من هذا التصوير:
وزاد، وهو ما لا يستطيعه المصور:
وإذا وصف هذا النخلَ في يومٍ غائم قال:
وإذا وصف النيل صوَّره بالألوان:
ففي كل ما تقدَّم يُرينا الشاعرُ هذه الموصوفاتِ رأيَ العين مع كثيرٍ من الرونق والرواء.
وهو يجيد وصف المعنويات إجادته وصف المحسوسات، فيجعل البعيد قريبًا، والغائب شاهدًا، والخفيَّ ظاهرًا، كلُّكم يعرف هذين البيتين، وقد لخص فيهما رواية الحب بجميع فصولها الطويلة:
وإليكم تلخيص النظام الحكومي في الإسلام:
أَوَليس في هذه الأبيات القليلة نصوصٌ وأحكامٌ مفصَّلةٌ في عشرات المواد من دساتير الأمم؟
وهذا تلخيص لضروب الحكام الذين توالوا على عرش بني عثمان:
ومن الصور ما لا تكثرُ فيه التفاصيل، بل إنَّ خطوطًا قليلةً تمثل لنا أوفَى تمثيل ما أراده المصوِّر، وعند شوقي الكثير من هذه الصور السريعة العجلى في بيتٍ أو شطرٍ من بيت.
منها صورة المدفع عند إِطلاقه:
وصورة فرح الجنود:
وصورة الفارس المغوار (أنطونيو) في المعركة:
وصورة أقسام الجيش المنكسر وفراره:
وصورة أسراب الطيارات، وهي تتضاءَلُ كلَّما حلَّقت صعودًا:
وصورة سوق الإحسَان والبائعات:
وإذا وصف يدَ الضريرِ تتلمَّسُ الأشياءَ قال:
وهل أبدعُ وأروع من هذه الصورة لاستماع الليل نداءَ المغنِّي الشجِيِّ:
ويدخلُ في أنغام هذا الوتَر — وتر الوصف — المدحُ والرثاء؛ لأنَّهما ما خرجا عن أن يكونا وصفًا لأخلاق الناس وطباعهم، ووصفًا لأعمالهم وآثارهم، وهنا كان لنقَّادِ شوقي مجالٌ ليُؤَاخذوه بتعدُّد ممدوحيه واختلافهم، ومغالاته في الإِطنابِ بهم والإِغراق في أوصافهم؛ فاستنكروا الأنغامَ المتضارِبةَ المتنافِرة التي أخرجها من هذا الوَتَر.
أمَّا مغالاتُهُ في هذا النوع من الوصف، ووضعُه الرجالَ الذين يصفهم — مدحًا أو رثاءً — فوقَ عامَّة البشر، فإنه يرجعُ إلى وصفه الناسَ كما يجب أن يكونوا، لا كما هم، ولهذا المذهب الأدبي أنصاره، وحاملُ لوائهِ الشاعر الفرنسيُّ «كورنيل» في رواياته التمثيلية، ونقيضُه فيه معاصره الشاعر «راسين»، فقالوا: إن الأول صوَّر أبطالَ رواياته كما يجب أن يكونوا، والثاني صوَّرهم كما هم؛ لذلك نعجبُ بأبطال الأول، ولكننا نحبُّ أبطال الثاني، ولذلك أيضًا يرتاحُ الكثيرون إلى مدائح شوقي؛ لأنَّها تحبِّبُ إلى الممدوح الصفات التي قد لا تكونُ فيه في حين ينبغي أن يكونَ متحليًا بها، كما أنها تحبِّبُها إلى سائر الناس، فتجيء من هذه الناحية دعوةً إلى الكمال النفسي ومكارم الأخلاق.
ولقد أشار شوقي إلى مذهبه في المديح حيث قال:
وعلى كلٍّ فإنَّ ما تضمنته المدائحُ الشوقية من النصائح والحِكم والإِرشادِ، ومطالبةِ الممدوح بما نرتاحُ إليه ونريدُهُ أن يكونَ عليه، لَممَّا يسيغُ إغراقَه وغلوَّه.
وإذا كان قد مدح الكثيرين ممَّا حملَ البعض على اتهامه في إخلاصه وصحة اعتقاده في مديحه، فإنَّ الذين رثاهم، مخلصًا لهم بعد مماتهم؛ أوفرُ عددًا، حتى إن مراثيه لتؤلِّف جزءًا كاملًا من ديوانه، وهذا دليل الوفاء، والبر بالأصدقاء، يؤيدُ ما نقول أن أحد وزراء مصر كان قد أتى عملًا لا يتَّفق وصدق الوطنية فندَّد شوقي بهذا العمل في إحدى قصائده، ولكن لما تُوفِّي ذلك الوزير رثاه شوقي رثاءً بليغًا، وأشار إلى فعلته السابقة إشارةً لطيفة فقال:
الوَتر الخاص
وهناك وترٌ خامسٌ في قيثارة شوقي متنوِّعُ الأنغام، أُسمِّيه من باب التعميم وترَ الشاعر الخاص، المشدود إلى نياط قلبه، المتصل بدقائق شعوره، الناطق بخفيِّ وجدانه، نعم إنَّ ما نظمه في الدين والوطن والاجتماعيات والوصفِ صادرٌ عن شعورٍ عميق، كما رأيتم في كثيرٍ مما أوردنا من شعره في هذه الأبواب، ولكنَّ قوَّتَي النفس المتغلِّبتين في تلك الأنواع من النظم هما العقل والخيال، أمَّا الشعورُ الخاص، وأما العاطفةُ النفسية، فتظهران في شعرهِ الليريقي أو الغنائي؛ في الغزل والنسيب، في مناجاته عهدَ الصبا، في بسمته لأولاده وحفدتِه، ودمعته على آبائه وأجداده، وتبسُّطه مع خلانه وأحبابه … فهناك عواطف الحنان ولواعجُ الأشجان، وهناك خفقان الجوارح، ونبضاتُ الفؤاد.
ولكن هنا أيضًا رأى النُّقادُ مجالًا للمؤاخذة: فهذا النوع في نظرهم، قليلٌ في شعر شوقي، وهو على قلَّته، من النوع العاديِّ المطروق.
أمَّا قلَّتُه فقلَّةٌ نسبيةٌ؛ أي بالمقارنة بكثرة ما نظم، ولكن هذا القليل النسبي في الحقيقة كثير يؤلف وحده ديوانًا كاملًا.
وأمَّا رميُه بالابتذال فقد يكون مرجعه إلى أنَّ شوقي لم يعمد إلى تحليل عواطف النفس وميولها وأهوائها تحليلًا دقيقًا، فقد رأينا أنَّ فلسفتَه في اجتماعياته فلسفةٌ سهلةٌ خاليةٌ من التعقيد، وكذلك جاءَ وصفُهُ لتلك العواطف والأهواء وصفًا طبيعيًّا، خاليًا من الإيغال في التفصيل والتعمُّق في التحليل، وقد أعلن ذلك هو نفسُهُ بألطف أسلوب يوم طُلِبَ إليه في بعض مجالس الأدب أن يشطِّر بيتًا للبهاء زهير، فقال على البديهة:
وهو يعود إلى ذلك المعنى فيقول:
وخلاصةُ القول: إنَّ الهوى هو ما يشعرُ به والسلام.
وعند هذا الحدِّ تقفُ قوَّةُ البشر في عرفه:
وهو في غَزَلِه، على وجه الإجمال، لا يخرجُ عن المعروف المألوف قديما عند الشعراء من وصف طول الليل ونواح الطير؛ والدمع والزفرات، والشباب والمشيب، والعيون والقلوب، والخدود والقدود، والكناية بالدرِّ عن الثغور، وبحلوكة الليل عن سواد الشعر … تشابيهُ وكناياتٌ واستعاراتٌ قديمة، ولكنَّه يكسوها شيئًا من الجدَّة بالقالب الذي يُفرغها فيه:
وإذا تكلَّم عن قلبهِ، قال كغيره من الشعراء إِنَّه خفق في ضلوعهِ، وسال في دموعه، ولكنه يجدِّد المعنى بالمقاربة بين الضدَّين:
ومع ذلك فكثيرًا ما نسمَعُ لقلبهِ نبضةً خاصةً عندما يضرب على هذا الوتر متألمًا، فيحرِّك أوتارَ القلوب، كقوله يُناجي من منفاه أحبابَه وعهدَه الماضي في وطنه:
لا تجيشُ بين ضلوعهِ تلك العواطفُ الثائرة المتمرِّدة، تنبعث انبعاثَ الحمم المتَّقِدة من البراكين، وإن كان يقول:
بل إنَّ العواطفَ التي تفيضُ من قلبهِ عواطفُ هادئةٌ هنيَّة، تسيلُ كجدولِ الماءِ المترقرق؛ فهو يدعو عادةً إلى الرأفةِ وكرَم الطباع:
فسبيلُ القلوب خيرُ السُّبُلِ:
وأمَّا الإحسان فهو عنوان الإنسانية:
يطلبُ الثوابَ للمحسنِ، فقيرًا كان أم غنيًّا:
ويطلب من المحسن إليه مقابلةَ الإحسان بالشكران:
يعرفُ مريديهِ وخصومَهُ:
ولكنه يُحِبُّ الترفُّقَ والمداراة:
يذهبُ مذهبَ زُهير بن أبي سُلمى القائل:
فيقول:
وهو لذلك لا يُضمِرُ ضغنًا ولا يحملُ حقدًا:
وإذا اختلفت الآراءُ فإنَّ اختلافَها ينبغي ألَّا يتسرَّب إلى القلوب، قال في إحياءِ ذكرى قاسم أمين:
أمَّا القول، حَسُنَ أو ساءَ، فهو مرآة النفس:
وعلى كلٍّ فهذه فطرته:
أمَّا برُّه بآبائه، وحدْبُهُ على أولاده فمثال عاطفتَي الأبوَّة والبنوَّة:
يلتفتُ إلى الماضِي فيُثيرُ منه ذكرياتٍ ضاحكةً أو باكية، قال في جدته:
وقال في رثاءِ والدهِ، وقد أفضى إِلينا مرارًا أنها من قصائدهِ المفضَّلة في نظره:
«ثمَّ نحيا في عليٍّ بعدَنا …» هكذا بعد أن بكى نفسَهُ في أبيهِ الراحل، يراها تُبعَثُ في ابنه الناشئُ، فيقول في نجله «عليٍّ»:
فينصرفُ إلى مناغاةِ أولادِه، وكأَنَّهُ يحوطهم بشعرهِ كما يحوطهم بحنانهِ وبرِّه، فإذا مرض نجلُهُ «حسين» مرض معه، وعُوفِيَ معه:
وإذا وصف كريمتَه الطفلة قال:
فاخر أميرُ الشعراءِ وباهَى بشعرهِ في الدين والوطن والحكمة، فقال تارةً:
وتارةً:
ولكننا نراه أكثرَ تواضُعًا في هذا الباب؛ كأَنَّهُ في ما أخرجَهُ من نغماتِ هذا الوتر الخاص، غزلًا ونسيبًا ووصفًا لنفسيَّاتِهِ في مظاهرِها المنوَّعة، يشكُّ في صحَّةِ تعبيرهِ عن حقيقةِ شعوره ولواعج قلبه، فيتسَاءَلُ:
قال أحدُ شعراءِ الفرنجةِ: «إن أبدعَ أشعاري هي التي في خاطرِي لم أنظمها.» وقال شوقي:
وفي قيثارةِ الشعرِ وترٌ ضربَ عليه الكثيرون من الشعراء، فلم يُوفقوا في الغالبِ إلَّا لاستخراج أصواتٍ منكرةٍ، مجونًا وهجاء، وقد قطعَ شوقي هذا الوتر من قيثارتهِ، فكان عَفَّ الإِلهام كما كان عَفَّ اللسَان، حتى لتستطيع أن تُلقِي بديوانِه جملةً بين يدَي العذراءِ في خدرها، تطالعهُ فلا تجد فيه ما يحمَرُّ لهُ وجهها خجلًا، وقد قال المرحوم إسماعيل صبري باشا — وهو من كنا نلقبُهُ بأستاذ الشعراء — في تقريظه «الشوقيات»:
وقال شوقي نفسه في أدَبِ السير والحديث:
وقد طبَّق هذه القاعدةَ على شعرهِ، فخلت قيثارتُهُ من وتَر المجون والهجاء، مكتفيًا بالأوتار الأخرى التي تغنَّى عليها، وقد جمعها في قوله:
فنظم في سلك قصائدِه ذكرى الماضي، وعاطفةَ الحاضر والمستقبَل، والحكمةَ الخالدةَ المشتركة بين كل زمان، هذا هو الشعرُ لا تقطيع وأوزان.
•••
نقفُ عند هذا الحدِّ من عَرْضِ الأنغام التي بعثها شوقي من قيثارةِ الشعر، ولو رجعتم إلى دواوينهِ ورواياتهِ لوجدتم الكثير، غير ما استشهدنا به، مما كان يصحُّ إيرادُهُ على سبيل الاستشهاد؛ فهناك منجمٌ من الألماس غنيٌّ، مهما نغترف منه يبقَ فيه القدرُ الوفير، فقريحةُ شوقي قريحةٌ خصبةٌ جوَّادةٌ فيَّاضة، امتدَّت شِباكها إلى مختلفِ الحوادث والشئون، فعادت منها بكرائم المعاني في حرائر الألفاظ؛ فكان شعرُهُ بجملتهِ سِجلًّا للتاريخ قديمهِ وحديثه؛ نظمَ الكثير من وقائع التاريخ القديم شعرًا فخمًا، رصَّعه بالمواعظ والعِبَر، ودوَّن معظم حوادثِ التاريخ الحديث فصوَّر أبطالها تصويرًا يخلِّدُ منهم الأثر، فكان له القدحُ المعلَّى في الشعر السياسي والشعر القصَصيِّ، أما قالوا قديمًا: إنَّ الشعراءَ حَفَظَةُ الآثار، ونَقَلَةُ الأخبار؟ وكثيرًا ما عمد إلى التاريخ يتَّخذه منبرًا، فيقف على أعواده معلِّمًا أو منذرًا: «ربَّما علَّم حيًّا مَنْ غَبَرْ.»
ولقد كنا نتمنَّى أن تُشرَح قصائدُهُ شرحًا تاريخيًّا يشتمل على بسط ما فيها من عوامل السياسة، ومن الإشارات إلى حوادثِ عصره لئلَّا تفوتَ مراميها من يطالعُها في آتِي الزمن.
وكان شوقي كثيرَ المطالعة والدرس، يُمهِّدُ بهما لما يريد نظمه، خذوا مثلًا قصيدتَه في «شكسبير» وقصيدتَه في «أرسطو»، تجدوا فيهما خلاصة مطالعةٍ دقيقة لروايات شاعر الإنجليز وفلسفة حكيم الأغارقة، ويبدو أثرُ هذا الاطلاع الواسع حتى في القصائد التي كانت بِنْتَ يومِها؛ فإنَّه كان يغذِّيها بما ادَّخره في خاطرهِ من قبل.
وعلى هذا المنوالِ كان يتخيَّر موضوعَهُ فيحتضنه يومًا أو شهرًا في ذهنِه، فيكسو المعاني وشيَ الكلام في فكرهِ، ثمَّ يُمْلي قصيدتَه بألفاظٍ كيِّسة، عَذبةِ الإيقاع منسجمة الاتساق، فكأنه لا يعبِّر عن معانيه تعبيرًا، بل يُغنِّيها غناءً يتملَّكُ اللبَّ ويستولِي على الشعور، حتى إنه كثيرًا ما تُنسينا طلاوةُ الألفاظ، وحُسنُ توقيعِها في التركيب دقائقَ المعنى وبدائعَ التفصيل، فيتزلَّف نظمُه إلى الآذان فيطربها كما تُطرب الألحان، ويُحدِثُ في القلوب نشوةً كنشوةِ بنتِ الحان، وكم له من القصائد تستهوِي السامعَ دون تعليل هذا الاستهواء، فإذا طُلِب إليه أن يتخيَّر منها بيتًا أو مقطعًا ما درَى ما يختار، وكم رأينا من الذين لا يتذوَّقون الشعر يطرَبون لشعر شوقي طرَبَهم للموسيقى، وهم في ذلك على حدِّ قول أبي تمام:
أمَّا جودُ قريحتهِ فيتجلَّى في كثرة ما نظم، وفي طَرْقِهِ الموضوعَ الواحدَ في أكثر من قصيدة، وهو في كلِّ مرَّةٍ يجيءُ بالطريف الجديد، كما يتجلَّى هذا الخصبُ في مدَى العشرات من قصائدِه التي تؤلِّف رواياتٍ كاملة، فما كان ينتهي من قصيدةٍ حتى يُعالج غيرها، وكأنَّه قد نسي الأُولى، فكان خاطرُه كالروض في الربيع يجود بالزهر متتابعًا، ويُنضج الثمرَ متعاقبًا، أو كالبلبل يتوالى تغريده:
فانقاد لهُ النظم وأسلس قيادَه، وجرى الشعر على لسانه مجرى الكلام فتكاد لا تقرأُ من نثره بضعةَ أسطرٍ حتى تجد بيتًا أو شطرًا، فحقَّ له أن يقولَ:
ومن مظاهر هذا الخصب في القريحة واستنباط المعاني أنه طرق أبعد الموضوعات عن الشعر فاستخرج منها شعرًا طيِّبًا، كالنحلة تشتار عسلها من جميع أنواع الزهر، من ذلك قوله في طابع البريد:
وقوله في وصف يدِ الطبيبِ الجرَّاح:
ولما أُعلن، عند إنشاء بنك مصر، أنْ ستُنشَد في الاحتفال قصيدةٌ لشوقي، سمعنا الكثيرين يقولون: «أين مجالُ الشعر مع ورَق النقد والمال؟ وأيُّ مرتعٍ في المادة للخيال!» ولكنَّ شاعرَنا عرف أن يستنبطَ من المادَّة مثلَ هذه الأبيات:
فإذا كان قد جارَى القدماءَ وحذا حَذوَهم في صياغة الشعر، وفي طرازِ مطالعه وأسلوب مقاطعه، فقد رأيتم كيف راض بحورَ القريض على أداءِ المعاني الجديدة ومعالجةِ الموضوعات العصرية، ولذلك قلنا — في مستهلِّ هذا البحث: إنه لم يشدَّ إلى قيثارة الشعر وترًا جديدًا، ولكنَّه استخرج من الأوتار التي ضرب عليها غيره من الشعراء أنغامًا مستجدَّةً عذبة المستمع، ولقد رأينا أمثلةً كثيرةً على ذلك في ما استشهدنا به له من الأبيات، وكثيرًا ما أصبح القديمُ جديدًا بفضل ما أكسبه من جمال اللفظ والتركيب، وروعة المعنى الذي ظهر بمظهر التجديد.
ولم يذهلْ شوقي عند هذا التجديد الذي شغف به الكثيرون فاتخذوه لهم شعارًا، قال:
ولكنه أراد هذا التجديدَ مقرونًا بالأناة والتُّؤدة:
فإن في الداعين إلى هذا المذهب من لا يفهمه إلَّا قائمًا على الهدمِ والتقويض، وليس لديهم شيءٌ من مُعدَّاتِ البناء والتشييد، فعلى مثل هذه الطائفة يحملُ الحملةَ الشديدة:
بسطنا في ما تقدَّم صورةً لأميرِ الشعراءِ اقتبسنا الأَلوانَ والخطوطَ اللازمةَ لرسمِها من أقوالِه، وتحليلِ شاعريتهِ، وبيان مُميِّزاتها، وإذا كان هناك مِن نقصٍ أو عيب، فالذنبُ ذنبُ المصوِّر لا ذنب الأصل، ولقد تكون هذه الصورة أكملَ دلالةً وأَجلى رونقًا إذا قارنَّاها بغيرها، فقد فُطر الإنسان على حبِّ المقارنة فلا يدرك كُنه الأشياءَ إلَّا عن طريقها، وهذا صحيحٌ في المعنويات صحَّته في الماديات، وقد نكونُ أكثرَ من سوانا شغفًا بذلك عندما نتكلَّم عن أدبائنا وشعرائنا؛ فكلُّ أديبٍ أو شاعرٍ في نظرنا يمتُّ بنسبٍ إلى أحد الأدباء الأقدمين؛ وما كتب أحدٌ عن شوقي إلَّا قارنه بأحد أعلام الشعر الغابرين؛ فهو وأبو تمام في حسن الديباجة نظيران، وهو وجرير في براعة التمدُّح بالأمراء صنوان؛ وهو المتنبي في الحكم كفؤان؛ وهو وابن هانئ في الفصاحة مِثلان، ألم يُطلق اسمه على داره؟ وهو والبحتري في جودة الصناعة ندَّان، ألم يقل هو نفسهُ عن نفسه:
وقد أعاد ذلك في معارضته لإحدى قصائد صبري باشا:
وقد تخطَّى بعضُ البحَّاث أُدباءَ العربِ إلى أُدباءِ الفرنجة، فرأوا فيه من فيكتور هوجو ولامَرتين وألفرد ده موسِّه، وهم أمراءُ الشعرِ في فرنسا يوم كان شوقي يطلبُ العلمَ في باريس.
وإِذا كان قد حذا حذوَ هؤلاء وأولئك من شعراءِ الشرقِ والغرب في بعض مناحِي النظم، فإنه يكاد يكون في مظاهرِ حياتِه وشاعريته صورةً أمينةً لشاعر عريقٍ في القِدَم، عاش منذ أربعة وعشرين قرنًا، وفي بلدٍ غير البلاد العربية، ولكنَّ الشعرَ كالعلمِ لا يحصره زمن، ولا يحدُّه وطن، فنتاج الفكرِ الإِنسانيِّ مشتركٌ بين المفكِّرين، مهما اختلف جيلهم وإقليمهم.
ازدهرت مدنيَّة مصر في أقدِم عصور التاريخ المعروفة، فكانت أصلًا لسائر المدنيات، ثمَّ كان لمدنيَّة قدماءِ اليونان وآدابهم من الأثر في تمدين سائر الأمم ما كان قبلها لآداب مصر، ولم يوفَّق العلماءُ لإماطة اللثام عن جميع أسرار الحضارة المصرية لنتعرَّف تمام أثرها في آداب اليونان، ولكنه أثر بليغ ثابت، ثمَّ عادت مصر، على عهد البطالسة، تقتبس من الآداب اليونانية، كما أخذ العرب في العصر العباسي ينقلون عنها، وهكذا العلم والأدب مداولة بين الأمم والشعوب.
لذلك خطر ببالنا، ونحن نطالُع شعرَ شوقي، اسمُ شاعرٍ يوناني، بل إنَّ شاعرَنا هو الذي أوحَى إلينا بهذا الخاطر لكثرة ما يُشير في شعره إلى اليونان وعلاقتهم بمصر وبالعرب:
ذلك شأنُ العلم، وذلك شأن اللغة أيضًا:
وكذلك شأن العلماءِ والأُدباءِ من الفريقين:
ولكنَّ المصريين كانوا البادئين:
وهو يفاخر بظفره بحكمةِ اليونان:
وقبل كل هذا ألم يَقُلْ في ترجمة حياتهِ بعد أن ذكر أصول جدوده لأبيه وأُمِّه: «أنا إذن عربيٌّ، تركيٌّ، يونانيٌّ، جركسيٌّ، أُصولٌ أربعة، في فرع مجتمعة، تكفله لها مصر كما كفلت أبوَيهِ من قبل.»
أمَّا هذا الشاعر اليوناني الذي نرى صورتُهُ ماثلةً في فقيدنا فهو الشاعر «بَندار».
لَمحةٌ إلى حياتِه تُرينا الشبَهَ بين الشاعرين:
كان بندار في عصره، كشوقي، يلقَّب بأمير الشعراء، وكانت إمارة الشعرِ قبله معقودةً دائمًا لأثينا، حتى انتزعها منها وجعلها في مدينة «ثيبه» وطِنِه، وقد أغدق عليه الأقيالُ والحكام العوارفَ والنعم، فنهج نهجَ الشعراءِ ممتدحًا بمآثر أولياءِ نعمته، غير أنه لم يُحجم في مدائحه عن التنديد بالظلم، والاستبداد معلنًا أنَّ الفضيلةَ والاستحقاقَ هما، دون سواهما، من الخيرات الباقيات، وكان أدبُه أدبًا عفيفًا طاهرًا شريفًا، وامتاز شعره بالانسجام والنصاعة والجلال، ولقد تغنَّى بوطنه ومفاخره، ولكن ذلك لم يصرف نظرَه عن عيوب مواطنيه ومحاسن سائر الأوطان، وجاءَ في الأسَاطير المنقولة عن عصره أنَّه كان نائمًا، وهو طفلٌ، تحت شجرة، فأقبل النحل على ثغره يقطر فيه عسلًا، وذلك رمزُ العذوبة والحلاوة في شعره، أمَّا موته فقد حسده عليه جميعُ الشعراء، فقد أدركته المنية، وهو في المسرح، بينما كانت العذارى ينشدنَ شعرَه، والشعب المحتشد يُصفِّق طرَبًا.
وكذلك كان شوقي في حياته، وفي مماته أيضًا؛ فكلُّنا يعرف أنه في الليلة التي فارق فيها الحياة كانت إحدَى المغنيات الشهيرات تُغنِّي قصيدته: «علَّموهُ كيف يجفو فجفا»، وكان الجمهورُ يُهلِّل ويكبِّر لروعة الشعر، وبعد وفاته ببضع ساعاتٍ كان شبابُ مصر يُصفِّق متحمسًا لآخرِ قصيدة نظمها شوقي لتحية همة الشباب في حفلة مشروع القرش …
•••
والآن وقد مات شوقي بعد أن مات حافظ، فإنَّ الناسَ يتساءلون عن مصير الشعر العربي … ومن يُنكر أنَّ هذا الشعرَ قد مُني بخسارةٍ فادحةٍ بموت الشاعرين الكبيرين، خسارة شعرت بها مصر أكثر من سواها؛ لأنَّهما أجلساها الصدر في دولة الأدب، وشعرت بها مع مصر سائر الأقطار العربية؛ لأنَّهما كانا من مفاخر لسان العرب.
أمَّا التنبؤُ بمن سيخلف كلًّا منهما في المكان الذي تبوَّأه في مملكة القريضِ والبيان، فليس من السهل ولا بالمستطاع، فشاعرُ مصر، بل شاعرُ العرب، مكنونٌ في ضمير الغيب قد تُبرِزُه الحوادثُ في غدنا القريب، ولا يعزبنَّ عن البال أن ما أدركهُ كلٌّ منهما من الشهرةِ، وبُعدِ الصيتِ قد يكون طمس عبقرياتٍ كثيرة، ستنزل إلى الميدان بعد أن خلا من فارسيه المعلمين، كما أن ما أصابه كلاهما من المنزلة الرفيعة في حياته، والإشادة بذكره بعد مماته، سيشحذُ القرائح والأذهان للمباراة في حلبة الشعر.
وليس من الحكمة والمنطق في شيء أن نندبَ الشعرَ والأدبَ بعد فقد ذَينك الشاعرَين، فالوادي الذي أنجب البارودي وصبرِي وحافظ وشوقي — ولا أذكرُ إِلَّا الأموات الذين عاصرناهم — سيُنجبُ غيرَهم من عباقرةِ الشعرِ وأعلام الأدب، فمشعلُ الشعرِ لا ينضب زيته ولا يطفأُ نورُه، بل ينتقل دائمًا من يدٍ إلى يد، تغذِّيه القلوبُ النابضة والنفوسُ الحسَّاسة، وخيرُ ما يُقال في هذا المقام هذه الأبيات لشوقي: