مقدمة
حيثما تساءل سائل: «من هو أعظم شخص يعيش في العالم هذه الأيام؟» كان الجواب واحدًا لا يشذ عنه إلا القليل: إنه ألبرت شفيتزر. ولكنك إذا أردت أن تزوره اقتضاك ذلك أن ترحل إلى أدغال أفريقيا النائية بجوار خط الاستواء، إلا إذا اتفق أن كان شفيتزر في زيارةٍ من زياراته النادرة لداره في فرنسا. وإنك لتجد نفسك — حتى في عصرنا هذا، عصر الطائرات النفاثة — مضطرًّا إلى أن تقطع الميلين ونصف الميل الأخيرة من رحلتك في زورقٍ نُحت من الشجر، أو في قاربٍ من قوارب التجديف.
ووصلت في أول زياراتي للمستشفى القائم في لامبارينيه في وقتٍ متأخر بعد الظهيرة، وكنت قد قطعت بالطائرة أطول مسافة ممكنة. وكانت الطائرة المحلية الصغيرة التي تطير من برازافيل مجتازةً قلب أفريقيا الاستوائية الفرنسية قد هبطت في حقلٍ موحل وعرٍ ليس به إلا كوخ وسلم خشبي طويل، ممَّا دل على أنه شقة من الأرض تُستخدم مهبطًا للطائرات. وركبت من هناك عربةً من عربات النقل سارت في دربٍ من العسير أن يسمَّى طريقًا، ووصلت إلى المرسى النهري حيث كان في انتظاري زورق من زوارق التجذيف ليحملني إلى المستشفى. وجلس إلى المجاذيف خمسة رجال عرفت أنهم مرضى من الأربطة النظيفة التي تلتف حول أذرعهم وأرجلهم، وهداني شعورٌ يشبه الغريزة بأنهم كانوا مجذومين أوشكوا على البرء، وإن كانوا لا يزالون تحت الملاحظة.
وجدَّفنا ساعةً أو نحوها مصعدين في النهر ضد التيار، وكان الفصل الممطر قد حلَّ والمياه عالية، والنهر الحافل بالغرين يمتد متفرعًا إلى قنواتٍ تشبه الأذرع تلتف بجزيرة، والأشجار الطويلة، وشجرة قطن الحرير الضخمة بجذعها الأملس الرمادي وثنايا جذورها النامية من الداخل، وأشجار المانجو التي تُشبه المظلة المستديرة تنمو على أطراف الجسور بفروعها الثقيلة التي تتدلَّى حتى تلمس الماء، والكروم المزدهرة تلتوي وتتشابك حولها حتى تبدو للأنظار وكأنها جزءٌ من الأشجار نفسها، وسميتها بما وعته ذاكرتي من أسماء أشد الأزهار شبهًا بها في بلدي، وكانت إحداها تشبه زهرة «حنك السبع» شبهًا قليلًا، وثانية تشبه زهرة الكاميليا الحمراء، وثالثة لها أوراق تشبه زهرة نور العشية، وبدت جزائر العشب وأوراق البردي الصغيرة تعلو وتهبط مع الأمواج كقطة صحماء تبسط عضلاتها، وانتثر هنا وهناك على القمم تلتف بها ثنايا كأهداب الثوب، عش من العشب يتمايل، ومهد تسكن إليه طيور الماء.
وجدَّفنا مصعدين نحو المرسى حيث رأيت وجوهًا مألوفة لديَّ بين الوجوه التي انتظرت لتحييني: كانت هناك الآنسة إمَّا والآنسة ماتيلدة، وهناك كان الدكتور شفيتزر نفسه، ولقد عرفتهم في الحال من صورهم الشمسية، وأشعرتني حرارة ترحيبهم بي بأنني بين أصدقاء قدامى عائدة إلى مكانٍ عرفته وأحببته.
وكان كل شيء كما رسمته في مخيلتي تمامًا بعد أن قرأت كتب الدكتور شفيتزر عن مستشفاه القائم في الأدغال، حتى إنني شعرت بالأُنس لأول وهلة في حجرة الضيافة الصغيرة التي خُصِّصت لي. كانت حجرةً صغيرة، ولكن صغرها لم يُفسد نظامها، ولها ناحيتان مفتوحتان ليس عليهما إلا ستائر وشبكة تكشف الخلاء جميعه بما فيه من منظر نهر «أوجو» ومن ورائه الضفاف الممتدة المنخفضة، وكان على النضد صينية شاي عليها قدحٌ من الشاي الساخن وسكر وطبق من الكعك، ووعاء فيه ثمار اليوسفي وموز. وأبدلت بملابسي ملابس نظيفة، ثم نهض إليَّ الطبيب ليُرحِّب بي، وبصحبته الآنسة إمَّا التي كانت تُترجم أحاديثنا.
كانت فيه بساطة لا يجدها المرء إلا في العظماء حقًّا، لا يسدل بينه وبين الآخرين حجابًا بالرغم من تلك المطالب الكثيرة التي كانت تستنفد وقته، وبدا لي كأنه شخصٌ عرفته طوال حياتي مع أننا كنا نتكلم بلغتين مختلفتين، وكانت الآنسة إمَّا تعيد وراءنا ما نقوله جملةً جملة بالألمانية أو بالإنجليزية.
وأصبحت برغمي مريضةً بالمستشفى وزائرة في الوقت نفسه، كنت قد أُصبت في الأيام القليلة السابقة في هولندة بحادث دراجة نتج عنه رض في عقبي حاولت أن أتجاهله، ولكن الدكتور شفيتزر بنظره الحاد الدقيق الملاحظ لم ينخدع، وجعل أحد مساعديه يربط مفصلي، ولزمت الفراش بضعة أيام. وكان من المحتمل أن أضيق ذرعًا بهذه البلادة التي دُفعت إليها دفعًا شأن أي إنسان سليم معافًى، لولا عيادة الدكتور شفيتزر لي كل يوم، كان يأتي ومعه الآنسة إمَّا أو الممرضة التي كانت تُغيِّر الأربطة، وعن طريقهما كان يتحدَّث إليَّ، وتكلَّم عن جوته وقارن بين ترجمته لفاوست وبين الترجمة الإنجليزية القديمة، وسألني بعض الأسئلة عن أمريكا، وحدثني عن زيارته الوحيدة لها حيث ألقى محاضرته عن جوته في أسبن من أعمال كلورادو، وكانت عيناه العسليتان تتألقان بومضاتٍ سريعة حينما كان يصف حيرته وعجبه للأزرار الكثيرة التي وجدها في مقصورته بالقطار.
وقال: «وضغطت على زر، وقد ظننت أنني أدق الجرس للخادم، ولكن الخادم لم يأتِ ورأيت شيئًا ينقلب إلى سرير، ثم ضغطت على زرٍّ آخر لأنني كنت في أشد الحاجة إلى الخادم، فإذا بحوض الغسيل يظهر أمام عيني!»
وتحدث عن جمال النهر الذي كنت أراه من مكاني، وأنا أجلس مستندةً إلى دعاماتٍ في السرير، وتحدث عن أهالي أفريقيا حديثًا يفيض بالرحمة والحب، وإنه لمن الغريب وأنا أتمثل هذه الزيارات في ذاكرتي أن كلمات الممرضات الإنجليزية ليست هي التي تراودني وإنما يلازمني صوت الطبيب المنغوم، وحركاته، وابتساماته، وتعبير العطف والرحمة في عينيه، وكأنما فهمت كل ما كان يعنيه من غير حاجةٍ إلى الكلمات.
ولمَّا غادرت الفراش واستطعت أن أسير على قدمي مرةً أخرى، سمعت الطبيب يطرق بابي ذات صباح ويُشير إليَّ بأن أضع قبعتي وآتي في صحبته، ولم يكن معنا مترجم فسرنا في صمتٍ ذلك الصباح، وكان طريقنا يمتد بين حرجة الموالح التي كانوا يسمونها بالمزرعة، وكانت ثمار العنب الناضجة واليوسفي والليمون تتدلَّى من الأشجار ككراتٍ ذهبية ضاربة إلى الخضرة، وكان الطبيب يتوقف من حينٍ إلى حين ليتفقد شجرةً أثقلت كاهلها الأيام، ولم تحمل من الثمر إلا قليلًا، ثم نستأنف مسيرنا في صمتٍ مرة أخرى. وقطف برتقالةً ناضجة وقشَّرها بسكينٍ ثم أعطاني نصفها وأخذ الباقي لنفسه. وانتهى مسيرنا عند حظيرة ظبي وليد نشأ يتيمًا أثكلته أمَّه بندقيةُ صياد. وجاء الظبي يدفع أنفه الندي في سلك الحظيرة، ويلعق أيدينا استطابةً للملح، وحينما أعود بذاكرتي إلى الوراء فإنني أجد هذه النزهة الصامتة في مخيلتي أنبضَ بالحياة من كثيرٍ من الأحاديث الطويلة التي دارت بيني وبين أصدقائي.
وكانت الأيام التي تلت ذلك زاخرةً حافلة، ومضيت أتجوَّل وحدي في رحلاتٍ صغيرة أستكشف بها أراضي المستشفى؛ لأن الأطباء والممرضين القائمين بالعمل كانوا مشغولين في كل ساعةٍ من ساعات اليوم.
وبينما كنت أسير مصعدةً في التل نحو قرية الجذام ومعي بيير، وهو صبي صغير مجذوم له عينان فاترتان تولَّى إرشادي، رحت أفكر في الأفاعي والمجذومين، ذانك الأمران المخوفان اللذان يرتدَّان في القدم إلى فجر تاريخ الإنسان. ورأينا فرعًا من شجرة نخيل يتثنَّى وإن كان الجو قد خلا من النسيم، فتوقف الصبي في إثره حِيطةً وحذرًا؛ فقد تكون حية المامبا أو أصلة من الأصلات مختبئةً هناك، ولكنه لم يكن سوى فأر نخيل أسرع منتقلًا إلى فرعٍ آخر.
ورأيت المرضى وهم يهبطون إلى حيث تُغيَّر لهم ضماداتهم، ويبتلعون الأقراص والمسحوق الأبيض بالماء، فعرفت أن كلًّا منهم سيعود في النهاية إلى بلده معافًى بفضل العقاقير الحديثة والمستشفى الذي أُقيم لهم هنا.
وجاء موعد مضي الأطفال المجذومين إلى المدرسة، وكان ناظر مدرسة باهوين يلبس سروالًا قصيرًا أبيض وسترةً بيضاء، ويسير في هدوءٍ في الممر الجبلي الضيق الذي يقود إلى حجرة الدرس، ولو أنه كان يرقب الطريق لوجد أن الأطفال يحاولون الهرب، بعضهم يجري في اتجاه، وبعضهم يجري في اتجاهٍ آخر، ولكنه لم يُبدِ أية إشارة تدل على أنه فَطِن لذلك. وكانت الأم هيلين — تلك المرأة الزنجية العجوز التي ترعاهم رعاية الأم — تتبعهم من الخلف وتلم شعثهم، وكانت تجري من جانبٍ إلى آخر تضمهم ككلب القطيع، محاوِلةً أن تجمعهم في صفٍّ واحد، وعجبت: ترى هل كانت المدرسة بهذا السوء حتى يحضروا إليها بمثل هذا التردد والإحجام؟ … لكني لما رأيت كيف كانت المدرسة الباهوينية صبورًا معهم رحيمةً بهم، عرفت أن تردُّدهم لم يكن إلا لأنهم رغبوا عن أن يُحمَلوا على التزام حجرات الدرس، لا يغادرونها حين يكون اللعب أكثر ابتعاثًا للمرح.
وكنت قد أحضرت لهم معي لُعبًا من البالونات وهدايا، وعلَّمتهم كيف ينفخونها ويربطونها بخيطٍ يحبس الهواء فيها. وفي عصر الأحد التالي ردَّ لي الأطفال زيارتي ليُرحِّبوا بي منشدين أغانيهم، حينما كنت أتناول الشاي مع هيئة المستشفى في قاعة الطعام، وكانت المدرسة والسيدة هيلين تقودانهم وهم يرتِّلون الأناشيد باللغة الفرنسية وبلغتهم الخاصة في لحنٍ واحد، حتى شق عليَّ أن أُميِّز هذه من تلك، ثم قدَّموا لي هداياهم. كان منها وعاء مليء بالقرع والبيض والباباز، وعلبة من الصفيح مليئة بالفستق، وكانت هناك باقات كثيرة من الأزهار البرية جُمعت على طول الطريق، وأمسكت بها أيد رقيقة صغيرة وقدَّمتها إليَّ، وتحيَّرت: أي شيء يمكن أن أُهديه إليهم. إنني لن أكون عادلةً إذا أعطيت طفلًا دون الآخرين، واهتديت إلى حلٍّ لهذا المأزق بفضل عِقد كنت ألبسه، وكانت حباته كبيرةً بيضاء، فقطعت الخيط وأعطيت كلًّا منهم حبة، وظن بعض الصغار منهم أنها أقراص وبدءوا يضعونها في أفواههم، ولكني أشرت إليهم بأن يسلكوها في خيطٍ حول أعناقهم كما كنت أفعل.
وكثيرًا ما كان يصل إلى سمعي في الليل صوت الموسيقى، التي كان يعزفها الطبيب وحده في حجرته على البيانو الذي زُيِّن بخطوطٍ من المعدن. ولقد دعاني مرتين لأن أجلس بجواره وهو يعزف، وكان يجلس معه على جانب مقعد البيانو الطويل صحفي نرويجي الأصل، كان يزور المستشفى مثلي في ذلك الوقت، على حين جلست أنا على الجانب الآخر. وخُيل إليَّ أن الطبيب سرعان ما نسي أن معه في الغرفة أحدًا، وهو ماضٍ يُردِّد ثم يُردِّد لحنًا واحدًا من ألحان باخ، حتى اهتدت أصابعه إلى ما ينشد من إحكام العزف والإيقاع. ودوَّن اللحنَ بالقلم الرصاص في صفحة العلامات الموسيقية، واستمر يعزف حتى بلغ جملةً موسيقية أخرى أراد أن يُتقنها، وبعد ساعةٍ التفت إلينا كأنما أدرك فجأةً أننا كُنا معه.
وقال: «أخشى أن أكون قد أثقلت عليكما.»
وأكَّد له كلانا أن من حسن التوفيق أننا كنا معه، قال ذلك النرويجي بالألمانية وقلته أنا بالإنجليزية التي فهمها الطبيب بالرغم من أن الكلمات لم تكن مألوفةً لديه.
ويسألني: «هل تعزفين؟»
ولقد كانوا في طفولتي يلاطفونني ويرشونني ويضربونني لأمضي نحو البيانو وأعزف القطع الصغيرة البسيطة، أما الآن فشعرت بالخجل حيال رجل بذل خير ما في وسعه من طاقة، أجل رجل لم يستسلم قط لفكرة أن ثمة شيئًا أشق من أن يجاهد المرء في سبيله.
وكان الدكتور شفيتزر يعزف آنئذٍ من أجل مُتعتنا ومتعته، حتى جاءه النذير مؤذنًا بأن الوقت قد حل؛ إذ دق الجرس داعيًا إلى التزام السكون في رحاب المستشفى؛ حتى يستطيع المرضى أن يخلدوا إلى النوم، وتناول مصباحًا لينير لنا طريقنا، ثم توقفنا لحظةً لنزور الظبي الصغير في مهده بحجرةٍ مجاورة لسكن الطبيب. ولمَّا خرجنا إلى الصُّفة المظللة انطلقت البجعة التي كانت قد ألفت أن تأوي إلى العوارض الخشبية فوق باب سكن الطبيب كل ليلة، طائرةً إلى شجرةٍ من أشجار المانجو منتظرةً حتى نمضي. وكانت ثيكلا، رابع خنزيرة برية تحمل هذا الاسم، قلقة داخل قفصها المصنوع من القش والقائم خارج الباب. وهبط الطبيب إليها وهو ممسك بالمصباح بيد، وربت باليد الأخرى عليها، وراح الطبيب — وقد تألَّقت عيناه بذلك الوميض الذي يطوف بهما سريعًا — يترنم بمقطوعة براهمز التي يُهَدهَد بها الأطفال حتى يناموا، وشاركناه في الغناء بصوتٍ خفيض، ولم يكن من الخنزيرة ذات النظرة الشريرة إلا أن قبعت قبوعًا ينم عن الرضا، وأغلقت عينيها ثم تركناها، وانطلقت أنا والنرويجي في ذلك الليل الهادئ العذب الذي تتميَّز به مناطق خط الاستواء، وأوى كل منا إلى غرفته نحمل في قلبينا ذكريات ليلة هيهات أن تُنسى إلا بعد زمنٍ طويل.
وكان النضد في غرفة الطبيب قد تراكمت فوقه أوراق كثيرة، كنا نعرف أن الطبيب إذا خلا إلى نفسه أخذ يرد على الخطابات أو يمضي في تأليف كتاب، بل إن الأنوار إذا انطفأت جميعًا في غرفته آخر الأمر، فإن ذلك لم يكن يدل على أن عمل يومه قد انتهى؛ ذلك أن الأمر كان يقتضيه أن تظل أذنه مرهفةً لسماع وقع أية أقدام تدب في الممر، وتحمل إليه نبأً بأن هناك من يحتاج إلى إجراء جراحة سريعة، أو أن ثمة مريضًا انتكس بعد أن ظهرت عليه بوادر التحسن.
وكان الليل قد انتصف أو كاد حين شهدت جراحةً تجرى؛ ذلك أن رجلًا كان قد حُمل من قريةٍ نائية ضاربة في قلب المنطقة، ورأيت في عينيه نظرة رعب وهو يُساق على النقالة إلى غرفة الجراحة، وكانت هذه النقالة تختلف كل الاختلاف عمَّا ألفه من الأكواخ المبنية من العشب، لا يعدو أثاثها مقاعد منخفضة من خشبٍ وحُصر للنوم جُدلت من القش. وقد نم وجهه أيضًا عما كان يعانيه من ألم، وراحت قطرات العرق تتصبَّب من جبينه، وركعت بجواره ممرضة من الممرضات ومسحت جبينه متحدثةً إليه بكلامٍ رقيق يُرفِّه عنه، وكانت تتحدث بالفرنسية التي لم يكن يعيها، وتبيَّنت أن لصوتها نغمة ارتاحت لها نفسه؛ لأنه بدا أكثر استرخاءً حين حل موعد إعطائه المخدر مما كان عليه عندما حملوه إلى المستشفى أول الأمر.
وقضيت أسبوعين في زيارتي للدكتور شفيتزر في مستشفاه، وشعرت بالتردُّد حين حل موعد رحيلي؛ إذ بدأت أُحس أنني جزءٌ من هؤلاء القوم، وأنني أُشاركهم في أعمالهم، وحينما كنت أجلس على المائدة الطويلة مع الطبيب ومساعديه أتناول معهم العشاء الأخير، شعرت بحنينٍ نحو المكان في اللحظة التي فكَّرت في الرحيل عنه، ونظرت إلى الوجوه من حولي وقد انعكس عليها ضوء خافت من المصابيح التي تُضاء بالزيت، وتأثَّرت أبلغ التأثُّر حين فكَّرت في أنهم جميعًا جاءوا إلى هنا، كما جاء الطبيب، رحمةً بهؤلاء الذين تنكَّر لهم الحظ. وكان البعض منهم قد جاء منذ سنين كثيرة، والبعض الآخر جاء منذ وقتٍ قريب، وربما يعود سريعًا إلى أوطانه لينتهج في الحياة نهجًا آخر، ولكن الدافع إلى مساعدة المحتاجين إليهم كان يعيش في أعماقهم جميعًا وكان سببًا في وجودهم هنا.
وكان الطعام بسيطًا وهو غذاء يُستنبت في هذا المكان، باستثناء قليل من الأطعمة مثل الجبن الذي يوضع في شرائح الفطير المصنوعة بالبيض أو السكر يُحلَّى به خشاف الفواكه. ومضى الطبيب إلى البيانو، بعد أن فرغنا من الطعام، وعزف لنا الألحان المصاحبة للأناشيد التي أنشدناها، ثم عاد إلى مكانه وقرأ فقرةً من الإنجيل، وعرفت من بعض كلماتٍ متفرقة استطعت أن أتبيَّنها أن هذه الفقرة من كلمات بولس الرسول: «أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.»
وخطوت في الصباح التالي إلى القارب الصغير ذي المجاديف، وبدأنا نهبط النهر مُيمِّمين شطر المرسى، واستدرت لأُلقي على المكان نظرةً أخيرة، فرأيت الطبيب ومعه عدد من أعوانه لا يزالون واقفين على الشاطئ يُلوِّحون لي حتى أغيب عن الأنظار، وتمنَّيت من كل قلبي لو أنني أستطيع أن أعود في يومٍ ما وأراهم جميعًا مرةً أخرى.
وتوقَّفت قبل عودتي إلى أمريكا عند قرية جونسباخ الصغيرة الهادئة، حيث نزلت ضيفةً بضعة أيام في بيت الدكتور شفيتزر، وألفيت البساطة نفسها هنا التي ألفيتها في مستقره في أفريقيا. وكانت الحجرات منظمةً والأثاث مريحًا، وإن خلا من أسباب الرفاهية والثراء. وكان في كل جزءٍ من أجزاء البيت أشياء تُذكِّرنا بأفريقيا ماثلة في صور شمسية أو رسومات أو آثار من آثار النحت الأفريقية على نحو ما كان هناك في غرفة الطبيب بمستشفاه من رسوماتٍ وصور شمسية لبيته في الألزاس، وتبيَّنت أن قلبه كان مُوزَّعًا بين مكانين يود دائمًا أن يسميهما وطنه.
وعُدت بعد عامين إلى الألزاس وإلى أفريقيا لأكتب هذا الكتاب عن رجلٍ عظيم وعن العمل الذي حقَّقه. ولم تكن جونسباخ القريةَ الصغيرة الهادئة التي رأيتها من قبل؛ ذلك أن الدكتور شفيتزر كان قد عاد من لامبارينيه إليها في إحدى زياراته. وكانت تنتظر خارج الباب السيارات والدراجات البخارية وعربات الأجرة وأفواج الناس تدخل وتخرج بلا انقطاع؛ لأن الطبيب لم يكن يعتذر عن لقاء أحد.
ورأيت الطبيب في يوم عيد ميلادي، واستأذنته في أن أكتب عنه هذا الكتاب ليقرأه الشباب في بلادي، ولم يعرف الطبيب أن موافقته كانت أعز هدية لي في عيد ميلادي، وبدأت الكتابة في كولمر، وكنت أعود من حينٍ إلى حين إلى جونسباخ، وكنت إذ أسير في الطريق إلى مونستر الذي سار الطبيب فيه وهو صبي، أو أشهد الأطفال بخدودهم المتورِّدة يلعبون في أفنية المدرسة أو في ساحة القرية الألعاب نفسها التي كانوا يلعبونها منذ وقتٍ طويل، كنت أتخيَّل في بعض الأوقات أنني أنا أيضًا كنت طفلةً ترعرعت في الألزاس، وأنني تسلَّقت تلك التلال في يوم صيف ثم سايرت الساحل هابطةً منها على زحافةٍ قصيرة حينما كست الأرضَ الثلوج. وتراءى لي أنني قضيت ساعات طويلةً في حجرةٍ ازدحمت بأثاثٍ ثقيل قاتم اللون، أستذكر دروسي أو أعزف على البيانو.
وبعد أن فرغت من كتابة ذلك الجزء من الكتاب الذي يحكي طفولة الدكتور شفيتزر وشبابه، عدت إلى المستشفى القائم في لامبارينيه لأكتب عن أعماله في أفريقيا، واستقبلتني الآنسة فارينا في القارب ذي المجاذيف، وكان معها المجدفون المجذومون، ولم يكونوا — باستثناء اثنين منهم — هم أولئك الذين صعَّدوا بي في النهر منذ سنتين؛ ذلك أنهم كانوا قد برئوا كل البرء من مرضهم وعادوا إلى قراهم ليستأنفوا حياتهم الأولى. وكان أولئك الذين اتخذوا أمكنتهم في القارب قد قطعوا شوطًا بعيدًا في سبيل الشفاء أيضًا.
وأحسست كأنني أعود إلى وطني مرةً أخرى لأجد نفسي في حجرة الضيوف الصغيرة التي كانت قد خُصِّصت لي. وكنت أستطيع أن أرى من خلال الستار الحاجز نهر أوجو الجميل، وأطفال الزنوج أنصاف العرايا وهم يلعبون ضاحكين في ظل شجرة المانجو النامية بجوار البيت، وانطلق أحدهم يغني، وراح الآخرون يردِّدون وراءه منشدين في إيقاعٍ رتيب: آي بوي لانا، آي بوي لانا، وحاولت فريتزي البغامة المستأنسة، التي أثكلتها أمَّها بندقيةُ صياد وحُملت إلى المستشفى لتشب فيه، أن تردِّد ما ينشدون، وانبعث الأطفال يصرخون متظاهرين بالخوف ويصخبون ضاحكين في وقتٍ معًا.
ووجدت نفسي أُقارن هذا المنظر بالألزاس التي قدمت منها وشيكًا أكثر من مقارنته بالبيئة المألوفة في بلدي، وتخيَّلت السماء الصافية، وبساتين الكروم بهوائها النقي العليل، وبيوت الفلاحين النظيفة، والحدائق التي تنمو فيها الخضراوات والأزهار جنبًا إلى جنب، ولقد نشبت حربان على هذه الأرض في أيام حياتي، وحربٌ أخرى أشد ضراوةً وقعت في الجيل السابق.
وبدا لي أنه ممَّا تطيب له نفسي أن يخرج من هذا المكان، الذي كان ميدانًا لحروبٍ كثيرة جدًّا نشبت على غير إرادة من أهله، رجلٌ استطاع بفضل رحمته وتوقيره للحياة أن يُمِدنا بإيمانٍ جديد وهدف نسعى إلى بلوغه.