الفصل الأول

«ما من أحدٍ منا يعرف ما تُحدثه حياته من أثر، ولا ما يبذله للآخرين؛ فإن ذلك محجوب عن أعيننا ولا مناصَ من أن يبقى كذلك، وإن كان يُتاح لنا في كثيرٍ من الأحيان أن نرى جانبًا صغيرًا منه؛ حتى لا تفارقنا شجاعتنا.»

من كتابه: «ذكريات الطفولة والشباب»

إن أهل الألزاس يَعُدون بلدهم بقعةً هادئة مشرقة، بالرغم من الحروب التي شبَّت من أجل امتلاكه منذ ألفين من السنين حين أقبل يوليوس قيصر صاعدًا من الجنوب، يقود كتائبه المدرَّبة خير تدريب، ودخل في معركةٍ ضد الألمان غازيًا البلاد من الشمال، ثم جاء أحفاد شارلمان وشنوا الحرب بعضهم على بعض من أجل هذه الأرض نفسها. وكانت الجيوش في كل هذه السنين تغزوها بين الفينة والفينة من هذا الاتجاه وذاك، مقبلةً من السويد وإسبانيا وإيطاليا وهنغاريا وألمانيا، ومن فرنسا نفسها، كلٌّ منها تطالب بحقها في امتلاك المكان وأهله، وتحارب أولًا بالرماح والأقواس والسهام، ثم بالبنادق والمدافع والقنابل.

وفي صيف سنة ١٨٧٠م عاد ذلك الصوت المألوف، صوت وقع أقدام الجنود تسير موغلةً في الألزاس، ومضت البنادق تُصفر والمدافع تدوِّي، حتى رُفع آخر الأمر على التسليم الأبيض، على قمة الكنيسة الكتدرائية في ستراسبورغ. وكان البروسيون هم الغزاة هذه المرة، وانتُزعت الألزاس من فرنسا، وأصبحت جزءًا من الإمبراطورية الألمانية.

وأهل الألزاس شعبٌ عنيد له عزة وكرامة، يُخلِص لأرضه إخلاصًا يضطرم في جوانحه اضطرامًا بصرف النظر عن البلاد التي تدَّعي ملكيته. ولمَّا انتهت الحرب نهض الألزاسيون وبدءوا في إزالة الأنقاض والخرائب، فأصلحوا ما تهدَّم من منازلهم وحرثوا حقولهم، وغرسوا كرومهم مرةً أخرى في صفوفٍ مستوية منظَّمة؛ فقد كانت أرضهم عظيمة الخصب وافرة الغَلة، ومن ثم لم يكن ما يدعو إلى العجب الكثير حين نرى غيرهم من الأمم ترغب في أرضهم وتتقاتل فوق أديمها في كثيرٍ جدًّا من الأحيان، حتى لقد قيل فيها: إنها أهراء القمح وسلة الخبز وقبو النبيذ للعالم. وأَلِف الناس أن يقولوا: «ما من شيءٍ تجده في غيرها إلا وتجد ثلاثة أضعافه في الألزاس.»

وكانوا يُنشدون أغنيةً بعُد بها الزمن إلى حد أنه لم يكن يعرف أصلَها أحد:

ثلاث قلاع على جبلٍ واحد
وثلاث كنائس لمقبرةٍ واحدة
وثلاث مدن في وادٍ واحد
وثلاثة مواقد لغرفة واحدة،
تلك هي أرضنا الألزاس!

ويعاود البلدَ ثانيةً جوٌّ من الطمأنينة والسكينة، ويواصل الناس حياتهم الخاصة كشأنهم بعد كل حرب، فيلتقون عند مساقي القرية وفي المقاهي وفي الكنائس، ويتكلمون باللغة التي درجوا على أن يتكلموا بها دائمًا، وهي لهجةٌ عذبة لطيفة من اللغة الألمانية يخالِطها كثيرٌ من الكلمات الفرنسية تزيدها ثراءً؛ ذلك أنهم يُجيدون اللغتين جميعًا.

ومرَّت خمس سنوات واستطاع القوم مرةً أخرى أن يُسموا بلدهم بقعةً هادئة مشرقة، وكان عام ١٨٧٥م عام سلام يبشِّر بالخير، وقال صانعو النبيذ: «هذا هو عام طَيبٌ للكروم.»

وكانت الأعناب جيدة النمو سليمة؛ فالحقول كساها بالخضرة القمح النامي يتمايل ويتماوج مع الريح كأمواه نهر فيخت، وهي تنساب في وادي مونستر. ولم تعد الحرب آنئذٍ إلا ذكرى من الذكريات لا تعيش إلا في القصص تُروى بجوار النار في ليلة شتاء، أو في ضوء السَّحَر الذي يطول في ليالي الصيف.

وكان الكثير من الناس يذكرون القس الشاب ألبرت شيلينجر الإستراسبورغي، ويطيب لهم أن يتحدثوا عن ذهابه إلى باريس ليجلب الدواء للقوم الذين ضُرب حولهم الحصار، لكن الألمان الذين كانوا يحاصرون المدينة قبضوا عليه في عودته وألقَوا به في الأسر. على أنهم سمحوا بمرور الدواء الذي كان يحمله، فكان سببًا في إنقاذ أرواح كثيرة من الموت، وقد شُغفت امرأة عجوز بالقول: «ما كنت لأعيش حتى اليوم إلا بفضله؛ ذلك أنه حين فُك الحصار وأصبح اللبن شحيحًا، كان القس ألبرت شيلينجر هو الذي يوافيني كلَّ يوم بنصيبه من اللبن.»

وكانت أديل أخت ألبرت شيلينجر تُنصت فخورًا إلى هذه القصص، وكانت قد تزوَّجت لويس شفيتزر وهو قس أيضًا، وحينما وضعت طفلهما أسمته ألبرت تيمنًا بأخيها الحبيب الذي مات قبل ذلك بثلاثة أعوام.

وكان الطفل نحيلًا ضعيفًا، وكثيرًا ما كانت أديل شفيتزر لا تجد مناصًا من أن تتساءل في حيرة، وهي تحمله بين ذراعيها وتغنِّي له أغنيةً عذبة ممَّا يُهدهَد به الأطفال، عما يمكن أن يكون قد بقي في عمره بعدُ من أيامٍ يعيش فيها معها. ومن خلال نافذتها في البيت الصغير ذي البرج القائم في قيصربورغ عند الطرف الأعلى من شارع القرية، كانت تستطيع أن تسمع صيحات الأطفال وضحكاتهم وهم يلعبون، فتضم ابنها إليها أكثر وأكثر، مرتِّلةً بينها وبين نفسها صلاة، داعيةً له أن يشب قوي الجسم مورَّد الخد مثلهم، وأن يضحك ويلعب كما يضحكون ويلعبون الآن.

وفي أوائل صيف سنة ١٨٧٥م حين بلغ ألبرت الشهر السادس من عمره رسم أبوه قسًّا للكنيسة في جونسباخ، وهي قرية صغيرة بجوار نهر فيخت في وادي مونستر بالألزاس.

وأقبل الناس من كل القرى المجاورة ليُرحِّبوا بالقس الجديد وأسرته القليلة العدد، وخلع رجال القرية قباقيبهم الخشبية ولبسوا الأحذية الجلدية، وارتدَوا حلل يوم الأحد والقبعات السوداء ذوات الحافة العريضة. أما النساء فقد ارتدين الأوشحة القاتمة تزدهي بأشكالٍ مزهرة طُرزت في القماش، وربطن أجمل مآزرهن حول قمصانهن الطويلة الشاملة.

ووقفت أديل شفيتزر بجانب زوجها في ردهة البيت لتستقبل الأبراشيين الجدد وقسس القرى الدانية الذين جاءوا في صحبة زوجاتهم، وكانت تحمل بين ذراعيها طفلها ألبرت وقد ارتدى في هذه المناسبة رداءً أبيض اللون ازدانت أطرافه بالمخرمات والثنيات وأربطة من الشريط الملوَّن. ووقفت الابنة لويز ملتصقةً بثوب أمها وقد ارتدت هي أيضًا ثوبًا جميلًا جديدًا.

وأقبلت زوجات القسس المجاورين واحدةً بعد الأخرى يُحيين النزلاء الجدد، وربتن على رأس الطفلة الصغيرة التي لم تكد تتجاوز طَور الطفولة بعد، ثم نظروا إلى الطفل بين ذراعَي أمه متأهِّبين لأن يمتدحوه ببعض كلمات لطيفة، يُنوِّهون فيها بحُسنه وما ينعَم به من صحة وما تميَّز به بين الصبيان من جمال، ولكنهم حين رأوا شدة شحوبه ونحوله حتى بدا أنه يتنفَّس في مشقةٍ وعسر، أمسكوا عن الكلام متحرِّجين وراحوا يتلمَّسون عبارات مهذبة يستطيعون أن ينطقوا بها.

وتحمَّلت الأم الشابة ذلك ما وسعها، ثم مضت فجأةً مسرعة إلى حجرة نومها وقد ضمَّت الطفل إلى صدرها أكثر وأكثر، وانبعثت تبكي بينها وبين نفسها في صوتٍ خافت.

وربما كان هواء جونسباخ الجيد أو اللبن الطازج النقي المحلوب من بقرة جارهم ليوبولد، هو السبب في أن الطفل أخذ يشتد عوده وتعتدل صحته منذ ذلك الحين، على أن ثمة سببًا آخر لذلك أيضًا هو دعوات الأم وعزمها القوي؛ فقد تعلَّم الطفل أن يحبو ثم يمشي ثم يجري دابًّا على أديم الأرض في البيت العتيق، ربلًا متورد الخدين كأي طفل من الألزاس.

وكان هذا البيت عالمَه ودنياه وهو بعدُ بلباسه القصير، لم يبلغ من السن ما يُتيح له أن يُجاوز سياج البيت. وكان عمر البيت قرنًا ونيفًا، كما كان الفناء الذي يلوح ضَيِّقَ الرُّقعة في عين الكبار، فسيح الجنبات في عين ألبرت الصغير. وكان يتراءى له هناك دائمًا شيءٌ عجيب يُغريه بارتياده، كالثلج يفرش الأرض في الشتاء، أو الورود الحُمر تتدلى بغزارة في وقدة يوم من أيام الصيف، أو دقات رتيبة وَسْنانة تنبعث من ساعةٍ عتيقة، أو موكب من النمل يزحف في الممر في صفوفٍ متراصة. وكان أينما التفت وجد ما يسترعي نظر طفل صغير. وجلس ألبرت على مقعدٍ منخفض في الفناء يتطلَّع إلى أبيه وهو يجني العسل من الخلايا الخشبية، حتى إذا ما وقعت يده على إحدى هذه المخلوقات المجنَّحة اللطيفة وزحفت عليها، انطلق يضحك في مرحٍ وسرور، ولكن ضحكته لم تلبث أن انقلبت صرخةً من الألم، استدعت كل الأسرة إلى الالتفاف حوله.

وصعِدوا به إلى البيت يُلاطِفونه ويُهدِّئون ثائرته، وقبَّلوا يده التي لدغتها النحلة ليُذهبوا ما أصابها من الألم. وكان من اللطيف أن يتلقى كل هذا الحب والاهتمام. وكانت الدموع قد بدأت تسيل من أثر اللدغة، ومن خيبة أمله في المخلوقة الصغيرة التي أُعجِب بها كثيرًا فتنكَّرت له! لكنها راحت تسيل الآن لأنه كان يود لهذا الاهتمام أن يستمر، إلا أنه شعر في قلبه الصغير الحساس بتأنيب الضمير، وهو يبكي بلا دموع بعد أن جفَّت الدموع من عينيه، وقد علم حق العلم أنه كان يسيء السلوك عن عمد.

وبينما كانت الشهور تمر راح عالم الصبي يتسع حتى شَمِل القرية جميعها: بيوتها وأهلها وبساتينها الصغيرة، ومزارع الكروم وحقول الخضراوات في مشارف القرية التي يمتلكها القرويون ويتعهدونها. وكانت الكنيسة التي يقوم فيها أبوه بوعظ الناس هي مركز عالمه الخاص ببرجها الذي يُطل شامخًا من علٍ حتى ليتبدَّى للعيون يُشرف على الأسطح جميعًا. وكانت الجبال نفسها على مرمى البصر تبدو حياله كالأقزام.

وكانت أجراس الكنيسة تدق مبكرةً صباح أيام الأحد، مُطلقةً أول نداء تدعو به الكاثوليك إلى الصلاة، ثم يدق القندلفت جيجل الأجراس مرةً أخرى بعد أن تنتهي الصلاة، فيُقبل البروتستانت ليتعبَّدوا على مذهبهم هنا في الكنيسة نفسها.

وكان ألبرت منذ بلوغه الثالثة من عمره يؤخَذ إلى الكنيسة ويُسمَح له بأن يجلس في القاعة مع الكبار، وكان ذلك شيئًا يتطلَّع إليه طوال الأسبوع، فيرتدي ملابس يوم الأحد ويلبس حذاءه الجلدي. وكانت الفتاة الخادم تغسل بدنه وتمشِّط شعره في حبٍّ وحنان تارة، وتُعنِّفه في رحمةٍ على مألوف أهل الألزاس تارةً أخرى.

وكانت تصيح وهي تُسوِّي بالفرشاة في شدة شعره المتماوج الناعم في قمة رأسه، محاوِلةً أن تجعله يستقر في موضعه:

«يا لشعرك! جامحٌ في باطنه، وجامحٌ في ظاهره. إن اتجاه شعرك في نموه ليُفصح عن مبلغ ما تنطوي عليه نفسك من جموح.»

وتساءل: أحقٌّ ذلك القول، أو حق أن نفسه تنطوي على الجموح كشعر رأسه الذي لا يستقر في مكانه مهما سُوِّي بالفرشاة طويلًا أو في شدة، ومهما دلكته الفتاة الخادم بالدهان؟ ذلك أنه كان بلا ريب لا يلبث بعد خمس دقائق، أن يتطاير ويتهدَّل دائمًا في جميع الاتجاهات، بل إنه قبل أن يتسع له الوقت لِيَصل إلى الكنيسة يكون شَعره قد بلغ من الشعَث مبلغًا لا يبقى معه شيء مما بذلت العناية في تسويته.

وخلع ألبرت وشاحه (حرملته) حين دخل، وأخذ مكانه من المقعد بين أمه والفتاة الخادم، وشعَر الطفل بشيءٍ من الوقار والولاء الذي كان يشعر به الناس هناك وقد ارتدَوا حُلَلهم السوداء القاتمة التي ألِف أهل هذه المنطقة أن يرتدوها، وأصبح هذا الشعور جزءًا من نفسه قبل أن يستطيع أن يُدرك معنى الصلوات بفترةٍ طويلة.

وبدا للطفل أنه ليس في العالم ما هو أجمل من هيكل الكاثوليك الذي يواجهه بمذبحه المطلي طلاءً يجعله يبدو كالذهب، وقد وُضعت عليه زهريات مليئة بالأزهار الصناعية تبدو صيفًا وشتاءً يانعة نضرة كالأزهار النامية في الحديقة. وكان هناك شمعدانات من المعدن تحمل شموعًا طويلة، تبدو رائعةً فخمة بالرغم من أنها قد أذبلت لتتمشى مع صلوات البروتستانت البسيطة. وظهر تمثالا يوسف والعذراء مريم الكبيران المُذهبان القائمان على الحائط فوق المذبح وقد انعكس عليهما ضوء النافذتين الهادئ، وكأنهما ينظران إلى أسفل ويباركان حشود المصلين. ووراء ذلك كان المرء يستطيع أن يرى خلال النوافذ هياكل الشجر وأسطح المنازل التي نالت منها القرون مكتسيةً باللون الأحمر في ظلاله الكثيرة كأنها معطف يوسف المتعدِّد الألوان، وكانت العين تستطيع فيما وراء ذلك أن تُحلِّق إلى السُّحب البيض وهي تسبح متباطئةً في زرقة السماء التي تمتد بعيدًا إلى ما لانهاية.

وكان الصبي الصغير يشترك في التراتيل وهي تُرتَّل، منشدًا بصوتٍ عالٍ ما يعرف من الكلمات، حتى إذا ما رفع صوته بالغناء أكثر مما يجب علم بلا ريب أن يد الفتاة الخادم التي ترتدي القفاز ستغلق فمه، وكان هذا الشيء نفسه يحدث بلا شك لو فرض أنه تثاءب تثاؤبًا ضئيلًا. ولكنه جلس في هدوءٍ عندما رأى أباه ينهض ليأخذ مكانه على المنبر، حتى إن الفتاة الخادم استطاعت أن تُشبِّك يديها هادئةً في حِجرها بقفازها القطني طوال الموعظة.

وبدا الله لألبرت قريبًا حقًّا حين كان أبوه يعظ الناس بالطريقة الهادئة البسيطة نفسها التي يتحدث بها الرجل في بيته، وكان من الممكن أيضًا أن يبدو الشيطان حقيقيًّا في نظر طفل رصين. وكان يظهر أثناء الصلاة من حينٍ إلى حين وجه غامض أشعث كالوجه الذي يجب أن يبدو به الشيطان نفسه، وكان ينظر إلى أسفل من إطارٍ لامع بجوار الأرغن في كل وقتٍ كان يقف فيه الناس ليُنشدوا التراتيل، ولكنه كان يختفي حين يصلي القس ويلقي الموعظة. وفكَّر الصبي الصغير حينئذٍ فيمن يستطيع أن يفعل مثل هذا العمل إلا الشيطان نفسه. وأظهر كلُّ ذلك ما كان عليه الشيطان من حين؛ لأنه كان يختفي حين تُذكر كلمة الله.

واستطاع ألبرت بعد أن كبر أكثر وأكثر أن يفطن إلى أن هذا الوجه هو وجه الأب إلتيس عازف الأرغن ينظر في مرآة ليرى أحلَّ وقت البدء في عزف الألحان المصاحبة للتراتيل المألوفة أو الكف عنه.

وبدا لألبرت أيضًا أن أشخاص التوراة أصدقاء مُقرَّبون حميمون. وكان إبراهيم وموسى وسيمون بيتر وبولس الرسول يعيشون في أفكاره أحياءً، مثل زملائه في اللعب جورج وهنري وفريتز. وكان يجلس في وقارٍ يُنصت إلى أبيه وهو يحكي عنهم، فتطوف برأسه أفكارٌ غريبة بالنسبة لطفل. وثمة أشياء كثيرة كان يتحيَّر في أمرها، وحينئذٍ كان يجد دائمًا طريقةً ليسأل عن السبب، وكان يفكِّر في الرجال الحكماء الثلاثة المقبلين من الشرق، جالبين معهم الذهب والمر واللبان للطفل يسوع في مهده المصنوع من القش. تُرى كيف كان يمكن أن يعود يوسف ومريم إلى الفقر مرةً وفي جعبتهما مثل هذه الهدايا الثمينة؟ ترى ماذا حدث للحكماء بعد ذلك، هل عادوا مرةً واحدة من بعد؟ وإذا كانوا قد عادوا، فلمَ لم يُذكَر عنهم شيء بعد ذلك؟ وكان هناك المؤمنون الذين سمعوا الملائكة تغنِّي في تلك الليلة: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.» ترى لماذا لم يبقَوا ليتبعوا يسوع ويصبحوا في زمرة الحواريين الاثني عشر الذين وقع عليهم الاختيار في السنوات التالية؟

وكان في توراة الأسرة صورة لموسى وعلى رأسه قرون، مما جعل الصبي يتحيَّر في أمرها، ووضع ألبرت يده على جبينه، وخُيل إليه أنه يستطيع أن يُحس نتوءين؛ حيث يمكن أن تنمو منهما القرون في أي يوم. ألَا ما أبشع أن يحدث هذا لإنسان! وإنه لشيءٍ يقلق منه في السر أي امرئ أيامًا كثيرة، وكان ألبرت في كل مرة يضع يده على جبينه آملًا أن يكون قد أخطأ، فيشعر بعذابٍ جديد حين يجد النتوءين لا يزالان في موضعهما، وكان العجوز جيجل بلا شك قد لاحظ شيئًا أيضًا لأنه بدأ يغيظه بهذا الأمر.

وكان القندلفت يحضر إلى البيت في صباح كل يوم من أيام الأحد بعد أن تدق الأجراس معلنةً عن صلاة البروتستانت، ليسأل عن عدد التراتيل التي ستُنشَد، ويأخذ الأشياء اللازمة للتعميد إذا كان هناك شيء منها. وكان يمسح حذاءه في وقارٍ ثم يدق الجرس في وقارٍ أيضًا، وألبرت قابعٌ هناك دائمًا بجوار الباب حين يُفتح يراوده شوق اليائس إلى أن يجري بعيدًا، ويختبئ، على أنه كان يلزم مكانه عاجزًا عن الحركة على الرغم منه، يُحملق على النحو الذي يحملق به الطائر في الثعبان. وكان الشيء نفسه يحدث كل يوم، ويضع الرجل العجوز يده على جبين الصبي، بما عُرف عن أهل الألزاس من فطنة، دون أن يبتسم أو يتغيَّر تعبير وجهه، ثم يقول في وقار: «أي نعم، إن القرون لتنمو على خير وجه.»

واستمرَّ ذلك حتى ذهب ألبرت إلى أبيه في يوم وقد فتح التوراة عند الصفحات التي تتكشَّف عن صورة موسى.

وسأله: «أمن الممكن أن يكون للناس الآخرين قرون أيضًا؟»

وكان في إجابة أبيه راحة لعقله؛ إذ أكَّد له أن موسى وحده هو الذي صُوِّر على هذا النحو، وأن القرون لن تنمو على جبين الناس. وهناك لم يأخذ ألبرت معاكسة القندلفت مأخذ الجد أبدًا، بل على العكس من ذلك أصبح يضحك منها حتى لم يجد الرجلُ العجوز بدًّا من أن يكدَّ ذهنه التماسًا لشيءٍ آخر يغيظ به الصبي الصغير.

ولم يكن أشخاص التوراة فحسب وثيقي الصلة بألبرت صلة جيرانه في كونسباخ به، بل إن الأمكنة المذكورة فيها أيضًا كانت مألوفةً لديه كأية قرية من قرى الألزاس.

وكان في الإمكان رؤية جبل هوهنك من القرية يشرف من علٍ فوق الجبال كلها التي تحف بوادي مونستر. ولا شك أن قمة جبل آرارات كانت شبيهةً تمامًا بمكانٍ كهذا، حيث أرسى نوح فُكله هناك وأنزل فيها الحيوانات، وكان قوس قزح الذي انتشر في السماء أمام نوح بشيرًا خليقًا بأن يكون واضحًا مشرقًا كأقواس قزح التي تعلو جبل هوهنك، وكذلك قطرات المطر المتألقة فوق الأغصان التي رآها، والطين الذي وجد في طريقه؛ كل ذلك كان يشبه القطرات والطين تتلبَّث في جونسباخ بعد كل مطر.

وحلَّ صيف مطير لزم فيه ألبرت البيت أيامًا متصلة اتقاء المطر المستمر، وأخذ يفكِّر في الطوفان الذي وقع في عهد نوح، وكان قد سمع أباه يقرأ القصة مرارًا وتكرارًا جهرة، حتى إنها عادت إلى ذاكرته وكأنها كلمات أغنية.

وظل الطوفان أربعين يومًا يغشى الأرض،
والمياه تتزايد حتى أوشكت أن تبلغ الفُلك،
ورفعته إلى ما فوق أديم الأرض،
وعمَّت المياهُ الأرض وأخذت تزيد باطراد
حتى أغرقت التلال العالية
تُظلها السماء جميعًا،
وارتفعت المياه خمس عشرة ذراعًا
وغمرت الجبال.

وما من ريبٍ في أن المطر ظل أربعين يومًا وأربعين ليلةً في جونسباخ، ولكن المياه لم ترتفع حتى تبلغ المنازل، فما بالك إذا غطَّت التلال العالية جميعًا أو الجبال التي كانت تُظلها السماء كلها!

وهنالك تساءل مرةً أخرى: «ولم؟» وأجاب أبوه سؤال الطفل الحائر: «وهكذا ترى أن السماء في ذلك الوقت والعالم في بدايته لم تكن تُمطر قطرات كما يحدث اليوم سواءً بسواء، ولكنها كانت أشبه بمياهٍ تسيل من الدلاء.»

وأخذ ألبرت كلمات أبيه مأخذ الجد، فلمَّا سمع من بعدُ قصة نوح وفُلكه أراد أن تُروى له القصة كاملة، بل أن تشمل كيف كان المطر ينهمر من السموات كالمياه تسيل من الدلاء.

فلمَّا أخذ الصبي يشب ويترعرع كان العالم الذي عرفه يكبر معه. واستطاع أن يسمِّي التلال التي ترتفع على جانبي الوادي، وقمة هوهنك السامقة وسلاسل جبال شلوخت التي بدت له عن بُعد وكأنها تقترب أو تبتعد بحسب كل تغيُّر يصيب الضوء، وعلم أن نهر فيخت الذي يتألَّق ويشدو شاقًّا طريقه في الوادي، يرتد منبعه إلى ذُرى الجبل الذي تكسوه الغابات، وأنه يفيض ليصب مياهه في نهر إيل، ثم يمضي حتى يصب في نهر الراين نفسه.

وعلم أن وراء فرنسا وألمانيا محيطًا واسعًا، وأن وراء القناة مكانًا اسمه إنجلترة، وفي شمالها تقوم اسكتلندة. وكانت أمه — وهي تقرأ روايات سير والترسكوت — تحلم أحيانًا وتتحدَّث عن الذهاب إلى هناك مع الأسرة في زيارةٍ حتى يمكن أن يروا البلاد عينها بأنفسهم؛ ذلك أنه كانت تقوم بعيدًا وراء المحيطات بلاد أخرى هي أمريكا، والصين وأستراليا.

وكانت طيور اللقلق تأتي كل ربيع إلى جونسباخ، وترى وهي تقيم أعشاشها على قمم المداخن وقد ازدهت بريشها الأسود والأبيض، أو تدب على أرجلها الطويلة الحمر بسَمتها الهادئ الوقور حين تبحث عن الضفادع بجوار ضفاف النهر، ثم تطير بعيدًا منطلقةً إلى أفريقيا القاصية في الأيام الأولى الباردة من أواخر الصيف.

وكانت طيور الوقواق الصغيرة الصاخبة تقضي فصول الشتاء في أفريقيا أيضًا باحثةً عن أعشاش عصفور الشوك لتسرقه وتضع فيه بيضها.

وسمع ألبرت أشياءَ أكثر عن تلك الأرض التي لا يعرف عنها إلا القليل من كتابٍ كان يقرؤه أبوه جهرةً أثناء الصلاة في الكنيسة عصر يوم الأحد. وجلس في القاعة ساكنًا يُنصت حين راح أبوه يقرأ الكلمات بهدوء ورقَّة على نحو ما ألِف أن يتحدَّث في بيتهم. وكان الكتاب يقص ذكريات مبعوث ديني اسمه «كازاليس»، كان قد ذهب إلى أفريقيا وكتب عن الأدغال المظلمة الحافلة بالأسرار التي لم تطأها قدم إنسان أبيض من قبل. وكانت القصص التي يرويها خليقةً بأن تُؤثِّر في أي صبي، قصص الفيلة والنسانيس والفهود الرابضة في الأشجار متأهبةً للقفز على من يمر تحتها، بل قصص الناس المقيمين هناك وحاجتهم إلى العطف والرحمة، وكان ذلك أبلغ في النفوس أثرًا.

وقال القس لويس شفيتزر مترجمًا الكلمات من الفرنسية لحشد المصلين: «إنك ترى ما نحن فيه من شقاء، وأنت تستطيع أن تمد لنا يد العون، وقد وعدت أن تفعل، فابقَ هنا ولقنَّا من علمك، وإنا لنُعاهدك بأن نفعل كل ما تود؛ فإن أحزاننا تُشبه النهر المصطخب. اصبر، ولينحسرن الطوفان ولتبقين معنا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥