الفصل العاشر
«إن من يفكِّر في فعل الخير يجب عليه ألَّا يتوقع من الناس أن يُزيلوا الحجارة من طريقه، ولا حيلة له إلا أن يتقبَّل نصيبه راضيًا وإن زادوا هذه الحجارة أحجارًا.»
وكانت ثلاثة أعوام قد انقضت على ذلك اليوم من شهر أغسطس الذي وافتهما فيه رسالة تنبئ باندلاع لهيب الحرب في أوروبا، ولم يلُح بعدُ أملٌ يبشِّر بالسلام. واستمرَّ عملهما في العناية بالمرضى قائمًا في لامبارينيه، ورأس لوبيز، ونجومو، أو في غيرها من البلاد التي كان يُدعى إليها الطبيب، باستثناء الأشهر الثلاثة الأولى التي ظلَّ فيها الدكتور شفيتزر وزوجته ملازمَين بيتهما في حراسة الحراس. ثم أتى الأمر فجأةً بأن يُحمل هذان الزوجان إلى أوروبا أسيرَي حرب، وجاء في الرسالة أن سفينةً يُترقَّب وصولها في أي وقت، وأن الزوجين يجب عليهما أن يكونا متأهبَين لمغادرة أفريقيا دون إعلان آخر.
واندفعا يجمعان كل متاعهما ويحزمانه في أقفاص، وأقبل جيرانهما أعضاء البعثة الدينية الفرنسية لمساعدتهما. كما أقبل لهذا الغرض أيضًا رجلٌ أمريكي كان يُقيم في القرية وقتذاك. وراح الزوجان يُثبِّتان بالمسامير أغطيةً فوق الأقفاص التي شملت آخر ما بقي عندهما من عقاقير ومؤن طبية وضمادات، ويضعانها في خزانةٍ صغيرة من الحديد المموَّج حيث يأمنان عليها.
وقد تناول الطبيب مخطوط كتابه وتفحَّصه، واستقرَّ رأيه على ألَّا يحمله معه لأنهم سوف يُصادرونه بلا شك، فيضيع عليه عملٌ أنفق فيه السنتين الماضيتين.
وسأل الطبيب الرجل الأمريكي المستر فورد: هلَّا تتفضَّل فتحفظ لي هذا عندك حتى تنتهي الحرب؟
ووافق الرجل وتقبَّل هذه الكومة الثقيلة من الأوراق المكتوبة بالألمانية من فلسفة الحضارة، وقال إنه سوف يحفظها له بدافع الصداقة، وإن كانت تساوره الشكوك في صواب هذا العمل.
وبادر الطبيب إلى وضع ملخص قصير للكتاب باللغة الفرنسية، ظل يعمل فيه حتى تأخر به الليل، وحزمه ليحمله معه احتياطًا لِمَا قد يحدث إذا فقد الكتاب الأصلي الكامل.
ومن حسن التوفيق أن السفينة وصلت متأخرةً فأتاحت للطبيب فسحةً من الوقت يقضي فيها بعض الأمور القليلة التي تُقضى في آخر لحظة. وحُمل إليه رجلٌ من إحدى القرى المجاورة ليُجري له جراحةً عاجلة، وكان عليه أن يزوِّد المريض ببعض الإرشادات قبل أن يرحل هو وزوجه إلى وطنهما. وتساءل الطبيب: ماذا يكون من أمرهما الآن؟
فلمَّا وصلت السفينة وبدأت تمضي إلى المرسى في لامبارينيه، تولَّى حراس من الوطنيين حراستهما حتى بلغوا بهما سطح السفينة، ومضى الأب الأكبر للبعثة الفرنسية الكاثوليكية صاعدًا إلى السقالة، ودفع الحارس جانبًا محاوِلًا أن يستبقي الطبيب.
وقال وهو يصافح الطبيب وزوجه: لا يمكن أن تغادرا هذه البلاد دون أن أشكركما جميعًا على كل ما أسديتماه من فضلٍ لنا.
ووقف ألبرت وهيلين على سطح السفينة النهرية الصغيرة ليُلوِّحا بأيديهما مودِّعَين أولئك الذين اجتمعوا لوداعهما، وكان من هؤلاء زملاؤهما الفرنسيون في البعثات الدينية ومستر فورد الأمريكي، والأب الأكبر وقد لبس رداءه الأبيض وخوذته، وكان هؤلاء من مواطني دول تحارب بعضها بعضًا، ولكن هذه الحرب لم تُغيِّر شعور الصداقة والولاء اللذين كان يُحس بهما كل منهم نحو الآخر.
وكان من المودِّعين أيضًا زنوج قدم هؤلاء إلى أفريقيا من أجلهم، وقد وقف الزنوج قريبين كلَّ القرب من الماء، وراحوا يصيحون مردِّدين كلمات الوداع والسفينة تتحرك رويدًا رويدًا، وغامت وجوههم في نظر المسافرين على البعد. ومضى بعد ذلك وقتٌ طويل إلا أن ألوان ثيابهم ظلت تتألق في أعينهما، حمراء زاهية وزرقاء وصفراء تختلط بالسمرة القاتمة لأجسام أولئك العرايا أو يكادون، الذين أقبلوا من أعماق الغابة لوداعهما، وكان من بينهم عدد قليل التفُّوا بنسيجٍ أبيض قذر، استرسل في طيات حولهم، كأنهم القديس إلعازر ملتفًّا في كفنه.
وطافت بمخيلة الطبيب والمركب ينساب هابطًا النهر أفكار عن تلك الآلاف الكثيرة من القوم الذين دخلوا المستشفى وخرجوا منه منذ أن بدأ العمل فيه لأربع سنين ونصف سنة خلت، وذكر منهم الشيخ المجذوم وزوجته العجوز اللذين جدَّفا مائتين وخمسين ميلًا في زورقٍ مصعدين في النهر؛ لأنهما كانا قد سمعا عن أوجانجا، الطبيب الأبيض الذي أوتي رُقًى سحرية تشفي المرضى. وذكر الزوجين العجوزين اللذين أقبلا عليه وقت المجاعة مريضَين يكادان يتضوَّران جوعًا لأنهما لم يكونا قد أصابا طعامًا منذ يومين. وذكر الصبي الصغير الذي كان قد أخرجه الفزع من وعيه حتى اضطُروا إلى حمله بالقوة إلى غرفة الفحص الطبي، وقد علم الطبيب بعد ذلك أن الصبي كان واثقًا من أن الطبيب كان يقصد قتله والتهامه كما لا يزال القوم يفعلون في القرية التي أتى منها.
ولمَّا بلغت السفينة رأس لوبيز صعد رجل فرنسي كانت زوجته قد عولجت وشُفيت في مستشفى لامبارينيه إلى الطبيب وعرض عليه أن يمده بشيءٍ من المال إن كان قد خلا وفاضه منه. وقد تبيَّن للطبيب مرارًا، من مثل هذه الأمور الصغيرة، أن الخير الذي انطوت عليه قلوب الناس لا يمكن لشيءٍ أن يغيِّره على الرغم من الحروب وما ينشأ عنها من كراهيةٍ وقسوة.
ولمَّا ركب الطبيب وزوجته متن الباخرة التي تشق عباب المحيط عائدةً بهما إلى أوروبا، سيقا إلى الغرفة المُعَدة لها وصدرت الأوامر بمنعهما من رؤية أي شخص أو التحدث إليه فيما عدا الخادم الذي خُصص لهما، وكان هذا الخادم ويُدعى جيَّار يحضر لهما الطعام، ويصعد بهما على ظهر الباخرة في ساعاتٍ معلومة ليستنشقا الهواء ويتنزَّها. وكان الطبيب في الساعات الطويلة التي تتخلل ذلك يشغل وقته بتذكُّر بعض فوجات باخ وسيمفونية فيدور الثالثة المعدة للأرغن، ويتمرَّن عليها بالنقر بأصابعه على النَّضَد متخيلًا أنها أرغن، كما كان يفعل وهو بعدُ طفل أصغر من أن يبلغ مفاتيح الأرغن. واتخذ من أديم الأرض العارية دواسات.
وقال له جيَّار الخادم يومًا وقد أشرفت الرحلة على الانتهاء: هل لاحظتَ الطريقة التي عاملتُك بها، وهلَّا علمتَ أنه لا يحظى بهذه المعاملة الطيبة إلا القليلون من أسرى الحرب؟ أمَّا عن وجبات الطعام التي كنت أوافيك بها فقد حرصت على أن أقدِّم لك كل شيء طيب نظيف، وكنت أُعنى بغرفتك دائمًا عنايتي بغرف الآخرين، ولا أترك فيها شيئًا قذرًا.
وأمَّن الطبيب على قوله وتساءل ما الذي يريده بعد؟
ومضى الرجل يقول: فهل تستطيع أن تخمِّن لمَ فعلت ذلك؟ إنني لم أفعله ارتقابًا لشيءٍ من المال تنفحني به؛ فإنني لا أقبل هذا من أسير حرب، ولأُخبرنك بالسبب؛ فقد حدث منذ أشهر قلائل أن ركب رجل يُدعى جوشيه متن هذه الباخرة عائدًا إلى فرنسا، ونزل في غرفةٍ من الغرف التي أتولى خدمتها، وقال لي الرجل: «يا جيَّار، قد يحدث في القريب أن تحمل الطبيب من لامبارينيه إلى أوروبا أسير حرب على هذه الباخرة، فإذا حدث هذا فإني أسألك أن تعد من أجلي أن تساعده بكل ما تستطيع.» وأخبرني هذا الرجل أنه كان مريضًا في مستشفاك، وقال لي إنك شفيته من مرضه، وبعدُ — ثم أضاف الخادم قائلًا بابتسامة — «ها أنت ذا تعلم لمَ عاملتك هذه المعاملة الطيبة.»
ورست الباخرة في بوردو، وخطا الطبيب وزوجه أول خطوة على أرض أوروبا الأولى بعد غياب خمس سنوات أو نحوها، وكانت عودتهما إلى الوطن مختلفةً كل الاختلاف عمَّا تخيلاه عندما غادراه لأول مرة، وظنا أنهما سيعودان إليه في مدى سنتين ليقضيا فيه إجازتهما.
ووُضعا في ثكناتٍ موقوتة مع غيرهما من رعايا الأعداء، ثم حُملا بعد ثلاثة أسابيع إلى مكانٍ في جبال البرانس قرب التخوم الإسبانية؛ إذ حضر إليهما رجلان من رجال الشرطة في منتصف الليل يركبان عربةً ليذهبا بهما إلى هناك، وكان الأمر الذي صدر إلى الطبيب وزوجه من قبل، وأوجب عليهما أن يكونا مستعدَّين للرحيل قد أُبلغ إليهما في تلك الليلة بالذات. وكان الطبيب الذي أضعفه الألم والحمى وقتذاك قد التبس عليه الأمر، ظانًّا أن الليلة المقصودة هي التالية، فانتظر إلى أن يطلع الصباح ليبدأ في حزم حقائبه.
وهاج الشرطيان وماجا إذ وهما أن ما فعله الطبيب كان ضربًا من العصيان للأمر، ووقفا ينتظران متململَين، وراح الطبيب وزوجه يحاولان جمع حاجياتهما على ضوء مصباح خافت ويدسانها في الصناديق. وهدَّد الشرطيان مرةً أن يمضيا بهما دون متاعهما إن لم يعجلا بحزمه.
وتعهَّد الدكتور شفيتزر بينه وبين نفسه وهو ماضٍ يحزم متاعه: «إذا كان قد مرَّ بي قط موقف ضقت فيه بالآخرين، فإني من هذه الليلة لن أفقد صبري مرةً أخرى مهما كان السبب.»
وأشفق عليهما الشرطيان آخر الأمر، بل مدَّا لهما يد المساعدة في حزم حقائبهما باحثَين عن الكتب والملابس وزجاجات الدواء ليضعاها في الصندوق.
فلمَّا بلغ الطبيبُ وزوجه المعسكر في جبال البرانس، فُتحت الصناديق وأُخرج كل ما فيها لتفتيشه.
وانطلق حارس ممسكًا في يده ترجمةً فرنسية لكتاب «السياسة لأرسطو»، يهدر قائلًا: انظروا! كيف يأتي بكتبٍ في السياسة إلى معسكرٍ من معسكرات أسرى الحرب!
وتجاسر الطبيب فأوضح الأمر قائلًا: تلك ترجمةٌ لكتاب أُلِّف قبل مولد المسيح بوقتٍ طويل!
وسأل الحارسُ رجلًا آخر يقف قريبًا منه: أحقًّا يقول أنت أيها العالم الواقف هناك؟
وأومأ الرجل برأسه مؤمِّنًا على ذلك.
وصاح الحارس: ماذا تقول؟! أكان الناس يتحدَّثون في السياسة في زمنٍ غابر كهذا؟
وأجاب الطبيب والعالم: أجل!
وأجاب الحارس: لا بأس، ويمكنك، فيما يخصني، أن تحتفظ بهذا الكتاب، ولا أظن أن القوم في ذلك الزمن الغابر كانوا يتحدثون في السياسة على نحو ما نتحدث نحن الآن.
وردَّ الحارس الكتاب إلى الحقيبة، وألمَّ سريعًا بباقي محتوياتها وأجاز ما فيها. وأُنقذ ملخَّص كتاب الطبيب عن الفلسفة الذي كان قد ترجمه إلى الفرنسية، وسُمح له بأن يحتفظ بمئونته من العقاقير التي كان قد جلبها معه.
وكان المكان الذي بلغاه دَيرًا في يومٍ من الأيام يحُج إليه المرضى من أقاصي البلاد ودانيها يرجون الشفاء. وكان خاليًا يتهاوى أنقاضًا رُويدًا رُويدًا منذ أن استولت عليه الحكومة لعدة سنين خلت، وقد أصبح من بعدُ مأوًى لحشدٍ عجيب مختلط من الناس حُجزوا هناك، وراحوا يرطنون بألسن متبلبلة متعددة، ويلبسون أرديةً تنتمي إلى أممٍ مختلفة كثيرة. وكانوا يجتمعون في فناء الدير مرتين في اليوم لمناداة أسمائهم، وكان من بينهم تُركٌ في سراويل فضفاضة وقد ألقت زوجاتهم على وجوههن أنقبةً فلم تبدُ منها إلا عيونهن السود، وعرب في ثيابهم البيض المسترسلة وطرابيشهم الحمراء، وقسسٌ من مستعمرات فرنسا في أفريقيا في عباءاتهم البيضاء، ونَوَر يرتدون ملابس زاهية اللون وقد تدلَّت الأقراط من آذانهم، وفنانون وعلماء في صداراتهم المخملية وأربطة أعناقهم المنسابة، ورجال السفن التجارية في زي الملاحين، ورجال آخرون ارتدَوا أردية رجال الأعمال البسيطة القاتمة اللون.
وكان منهم أيضًا صُناع أحذية وخياطون وصيارفة وتُجار ومهندسو عمارة، ومهندسون ونُدُل، ومديرو فنادق، وفنانون وعلماء وموسيقيون، قد احتجزتهم الحرب جميعًا في بلادٍ غير بلادهم، ولكن لم يكن بينهم طبيبٌ آخر غير طبيبنا، وكان ثمة طبيب أرياف عجوز يمارس مهنته فيما جاور الدَّير، ويُستدعى كلما احتاج الأمر إليه للعناية بمريض.
ومرَّت الأيام في المعسكر، كل منها كسابقه. ومضى بعض المحتجزين بدافع الضيق والملل يذرعون الفناء الصغير رَوحةً وجيئةً مرارًا وتكرارًا مثل الحيوانات الحبيسة، يمدون أبصارهم في شوقٍ ولهفة من حينٍ إلى حين متطلعين فوق الأسوار العالية إلى السماء الزرقاء وما وراء الأسوار من جبال تُكلِّل هاماتِها الثلوجُ المتألقة. واجتمع آخرون لِممًا صغيرة يتحدَّثون عن الحرب والسياسة ويحمى بينهم وطيس الجدل؛ ينتصر بعضهم لفريقٍ وينتصر بعضهم للفريق الآخر، وانطلق أيضًا آخرون لم يعتادوا الكسل والخمول يبحثون عن شيءٍ يفعلونه إزجاءً للوقت، وأخذوا يرمِّمون الدَّير القديم بقدر ما وسعهم، أو مضوا، بإذنٍ من محافظ المعسكر، يساعدون الزراع على جني محصولاتهم، وعجز آخرون عن المُضي في العمل، فشرعوا ينحتون من قِطَع الخشب أدوات صغيرة. وأقبل رجلٌ على الدكتور شفيتزر بعد وصوله بيومٍ إلى معسكر الاعتقال، وسأله أيستطيع أن يؤدِّي له أية خدمة؟
ومضى الرجل يقول: أود أن أُعرِب عن تقديري لك لإبرائك زوجتي من مرضٍ ألمَّ بها.
وتحيَّر الطبيب لدى سماعه كلامه؛ لأنه لم يذكر أنه رأى يومًا الرجل أو زوجته، وشرح له الرجل الأمر قائلًا: لقد لقينا رجلًا من أهل هامبورج يُدعى كلاسن في أحد معسكرات الاعتقال التي أُرسلنا إليها، وأعطى كلاسن زوجتي حين مرضَت دواءً قال إنك وصفته له قُبيل أن يُحمل إلى هنا من أفريقيا، فشفاها سريعًا.
وهنالك ارتدَّ إلى ذاكرة الدكتور شفيتزر ما غاب عنها، وكان ريتشارد كلاسن تاجر خشب من ألمانيا، احتجزته الحرب في أفريقيا الاستوائية الفرنسية، فأصبح أسير حرب. وكان الدكتور شفيتزر قد أعدَّ له بعض العقاقير ليحملها معه، ووضع على كل زجاجة إرشادات مفصلةً تُبيِّن العلل التي تُستخدم فيها هذه العقاقير وطريقة استعمالها. وإن الطبيب لجديرٌ بعد أن ينال نظير أتعابه شيئًا يُصنع من أجله في معسكر الاعتقال، وكان الشيء الذي يحتاج إليه الطبيب أشد الحاجة منضدة، ووجد القوم بعض الألواح السائبة في علية الدير تصلح لصنع المنضدة.
فلما تم صنعها، استأنف الطبيب العمل في تأليف كتابه، مسترشدًا هذه المرة بالملخَّص الذي كان قد أعدَّه لكتابه باللغة الفرنسية.
إن احترام الحياة ينطوي على كل شيء يمكن أن يوصف بأنه الحب والولاء والعطف، سواءٌ في الأفراح أو في الأتراح أو في الكفاح.
واتسع الوقت للطبيب لا للكتابة فحسب، بل للموسيقى أيضًا، واتخذ من النَّضَد أرغنًا، ومارس العزف كما فعل من قبلُ وهو على ظهر المركب، وراح ينقر بأصابعه على أديمها الخشبي وقدماه على الأرض كأنما كان يجد فوقها دواسات، واستطاع أن يتمثَّل في خياله أن يسمع ألحان باخ ومندلسون.
وسأله في الفناء يومًا أسنُّ رجلٍ في طائفةٍ من النَّوَر: هل أنت ألبرت شفيتزر الموسيقي؟ أجل، ذلك الموسيقي الذي تحدَّث عنه رومان رولان في كتابه «موسيقيو اليوم»؟
وسُرَّ النَّوَر حين أجاب الطبيب بنعم، ودعَوه، وهو زميلهم في الموسيقى، إلى مشاركتهم حين اجتمعوا في علية الدَّير للعزف على الكمان والتمرن عليه.
وكان محافظ معسكر الاعتقال يؤدي واجباته في عدل، ورحمة، وفَهمْ أيضًا. وقال المحافظ إنه إذا سمح للموسيقيين بالاحتفاظ بآلاتهم الموسيقية للتمرن عليها، ولأطباء الأسنان أن يدخروا أجهزتهم ليمضوا في عملهم إذا اقتضى الأمر ذلك، وللنجارين أن يُبقوا على عدتهم ليستخدموها، فإن العدل كل العدل أن يسمح للطبيب الوحيد في المعسكر أن يزاول طبه. وكان الدكتور شفيتزر، بفضل خبرته والعقاقير التي في حوزته، أكفأ في معالجتهم من طبيب الأرياف الذي كان في طريقه إليهم.
وهناك قولٌ مأثور في الألزاس بأن العمل عبادة، وقد كان العمل في ذلك الشتاء بركةً على الدكتور شفيتزر وبركةً على أولئك الذين عُني بهم. وكان إذا سار بين المرضى أو جلس إلى نَضَده يكتب، أو يذكر الموسيقى ويمارسها بالنقر بأصابعه، استطاع أن يرفع عن كاهله إلى حينْ المشاغلَ التي كانت تؤرِّق باله. لقد أصبح وطنه مرةً أخرى ميدان قتال تتقاتل في سبيل امتلاكه الأُمتان اللتان أحبهما، وتساءل عن الأحداث التي كانت تمر بقومه هناك؟ وكيف كان حال والديه؟ وأخيه وأختيه؟
وماذا يا تُرى أصاب أمه في العماد بارث، وعمه لويس، وعمته صوفي، وجميع أصدقائه الأعزاء الذين عرفهم في ستراسبورج؟
وكان الرجال الآخرون الذين ودوا أن يستغرقوا في العمل يحسدون الطبيب على كثرة مشاغله وتعدُّد وظائفه، وأبدى الخياطون الذين كانوا مشتاقين إلى أن تتوافر في أيديهم مقصات وإبرة، رغبتهم في أن يصنعوا لزوجة الطبيب رداءً من بعض قطع المنسوجات التي كانت لديها، لا لشيءٍ إلا للاستمتاع بالعمل.
وقد أرادت طائفةٌ من المعتقَلين قِوامها: حذَّاء وصانع سِلال، وصانعة قُبعات وخَيَّاط، وصانع فرش، أن يتولَّوا أمر المطبخ. وقالوا إنهم يستطيعون أن يمارسوا ذلك أفضل من أولئك الذين كانوا آنئذٍ يتولَّون شئون المطبخ، ولو أنهم كانوا جميعًا على حد روايتهم، من أرباب الحِرَف السابقين. ولمَّا رأى المحافظ إلحاحهم، استقرَّ رأيه على أن يحاولوا ذلك على الرغم من أنه لم يكن بينهم أحدٌ مارس الطبخ من قبلُ قط.
وقال لهم: إذا أفلحتم أمكنكم أن تقوموا بمهام الطباخين، أما إذا فشلتم فسوف يُلقى بكم في المحابس، وتُغلَق دونكم الأبواب والأقفال جزاءً لكم على ما أثرتم من متاعب.
وأجمع الرجال على أن قوله هو الحق والعدل، ومضَوا إلى المطبخ، وفي هذا اليوم الأول أعدوا غذاءً من البطاطس والكرنب يليق بملك، ومن يومها أصبحت كل وجبة يُعِدونها تَفضُل سابقتها. واتفق رأي الجميع على أنهم كانوا خيرًا من الطباخين الأصلاء، أولئك الذين اشتغلوا يومًا في مطاعم باريس الراقية، وحُملوا على أن يمضوا في عملهم طباخين بمعسكر الاعتقال.
وسأل الدكتور شفيتزر زعيمَ تلك الطائفة الذي كانت مهنته الأصلية حذَّاءً: كيف حالك؟ وكيف تستطيع أن تُعِد مثل هذه الوجبات الشهية بما يُلقى إليك، ودون أن تكون لك خبرة بالطهو؟ وما سرك؟
فأجاب الحذَّاء: لا شك أن ثمة أشياء من مختلِف الأشكال والأصناف يجب أن يتعلَّمها المرء، ولكن أهمها أن يطهو المرء الطعام طهو المُؤثِر لهذا الفن يبذل فيه عنايته.
والحياة في معسكر الاعتقال ثقافة في ذاتها؛ فقد أَلِف الطبيب نفسه أن يلتقط نُتفًا من المعارف في ذلك الشتاء لم يكن ليجدها في الكتب أو يتلقَّاها في الكليات أو الجامعات، وتعلَّم وهو حبيس بين جدران الدَّير العالية مع أناسٍ من عدة جنسيات مختلفة ينتهجون في الحياة عدة سبل مختلفة، أشياء متباينةً أشد التباين مثل الصيرفة والعمارة وإقامة المصانع وتشييد الأفران، على يد قومٍ متخصصين في هذه الميادين، وانطلق الموسيقيون النَّوَر يتحدَّثون عن ممارستهم العزف في المطاعم الفرنسية، ومديرو الفنادق والخياطون والتجار عمَّا زاولوه من أعمال.
وكان من أشفق عليهم الدكتور شفيتزر هم أولئك القلقون الذين لم يستطيعوا أن يُغرقوا أنفسهم في العمل، فسمَّاهم أطفال معسكر الاعتقال الشاحبين المقرورين؛ ذلك أنه لم تكن لهم رغبة في الطعام، مع ما بلغ من جودته آنذاك، وغدَوا ضعفاء يعانون من سوء التغذية، حتى إن أقل مرض يُصيبهم كان خليقًا بأن يُصبح علةً خطيرة. وكان يراهم يذرعون الفناء يومًا بعد يوم، أو يتلبَّثون في الدهاليز إذا اشتدَّ هطول المطر فمنعهم من الخروج إلى العراء، وقد فترت هممهم وتملَّك نفوسَهم الحزنُ والكآبة، وأصبح ولاؤهم نهبًا مقسَّمًا بين البلاد التي وُلدوا فيها والبلاد التي آثروا أن يعيشوا بين ربوعها، وكان بعضهم قد بنى بزوجاتٍ فرنسيات، ورُزقوا أولادًا لا يتحدَّثون غير اللغة الفرنسية. واستمع الطبيب إلى حديثهم وهم يتكلَّمون عن مشاكلهم، وكان لِمَا أبداه نحوهم من عطفٍ وما أظهره من فهمٍ لمشاكلهم أثر في نفوسهم أفعل من أي دواء.
وكان الشتاء في ذلك العالم قارسًا عجيبًا في برودته، وقد عانى منه خاصةً أولئك الذين قدموا من رقدة الحر في خط الاستواء، ولكن هواء الجبل كان جافًّا خالصًا على الرغم من برودة الجو، ولم يلبث الطبيب وزوجته أن أحسا بدبيب العافية يسري في أوصالهما مرةً أخرى.
وما إن وافى الربيع حتى صدر الأمر بأن يُنقل ألبرت وهيلين إلى معسكر في سانت ريمي من أعمال بروفانس، حيث حُمل إليه الألزاسيون دون سواهم، ووجد ألبرت هناك أصدقاء قدماء، بعضهم عرفهم من أيام الطفولة، وبعضهم كانوا أقرانه في التحصيل وزملاءه، وكان محافظ هذا المعسكر يعامل معتقليه بالود والعدل، شأن محافظ المعتقل السابق.
وكان كثيرًا ما يقول حين يُسأل أمباحٌ أن يفعل المرء كيت أو كيت: «ما من شيءٍ مباح»، ثم يضيف وفي عينه وميض: ولكن ثمة أشياء تُباح إذا التزمتم جادة العقل.
وما لبث برد الشتاء في هذا العام أن تأخَّر به الوقت، وحلَّ الربيع رطبًا كئيبًا تُغاديه ريح شمالية باردة تهب من جبال الألب، وكذلك كان بناء المعسكر في سانت ريمي بحديقته المسوَّرة، دَيرًا استولت عليه الحكومة منذ وقت طويل، فلمَّا مضى الدكتور شفيتزر في أول مرة إلى قاعة الاستقبال الفسيحة في الطبقة الأرضية، ساوَرَه شعورٌ عجيب بأنه رآها من قبلُ في مكانٍ ما؛ فقد كان في كآبة القاعة السافرة وبلاطها الحجري، وموقدها المصنوع من الحديد بماسورته التي تمر من جانبٍ إلى آخر، شيءٌ معروف مألوف، على أنه كان يعلم أنه لم يمثل في هذا المكان من قبلُ قط طوال حياته.
وتكشَّف له اللغز آخر الأمر؛ ذلك أنه كان قد رأى هذه القاعة في صورة من رسم الفنان فان جوخ، وكان الدَّير القديم قد استُخدم حتى عهد قريب فحسب، مستشفًى للأمراض العقلية، وكان هذا الفنان قد نزل به مريضًا، يجلس في قاعة الاستقبال الفسيحة كما يفعل الطبيب الآن، ويتمشَّى في الحديقة الصغيرة بين الجدران العالية، ويُحس بريح الشمال تهب على بلاط الدهليز البارد كما لا تزال تهب اليوم.
وأتت الأنباء بعد ذلك بثلاثة أشهر ونصف شهر، مخبرةً بأنهم سيُرَدون جميعًا إلى أوطانهم في الألزاس، في مقابل عدد مثلهم من أسرى الحرب الفرنسيين الذين كانت ألمانيا تحتفظ بهم. وسرت في أرجاء المعسكر جميعًا جَلَبة تُفصح عن اهتياج مشاعر المعتقلين؛ إذ راح كلٌّ منهم يحزم متاعه ويُعِد العدة للرحيل.
وحمل الدكتور شفيتزر مُسَودات كتابه «فلسفة الحضارة» الذي ظل يعمل فيه وهو في كلا المعسكرين وأطلع الرقيب عليها، ووُضعت الأختام على المُسَودات وسُمح بإخراجها.
وبينما كانت القافلة تمر من خلال الباب حاملةً إياهم إلى محطة السكة الحديد، اندفع الدكتور شفيتزر عائدًا إلى مكتب المحافظ ليودِّعه، فوجد المحافظ هناك جالسًا مكتئبًا وحيدًا؛ ذلك أنه كان متأثرًا أبلغ التأثر برحيل أولئك الألزاسيين، الذين كان موكلًا بهم وكان يحب أن يسميهم «نزلائي».
ولم يستشعر الدكتور شفيتزر أية مرارة في قلبه، كما كان ينتظر أن يفعل، لقضائه تلك الأشهر في معسكرَي الاعتقال، وأدرك أن هذا الإجراء يجب أن تتخذه كل أمة في حالة الحرب تأمينًا لسلامتها، وإنما كان حزينًا من أجل أولئك الذين كانوا يخوضون الحرب في ميدان المعركة وفي الخنادق، يشقون أو يجلبون الشقاء على غيرهم. أما عن نفسه فقد كان يستشف الخير في أعماق قلوب الناس، وإن لم يُظهروا إلا القليل من الشفقة حيال أصدقائهم وأعدائهم على السواء. وتذكَّر ذلك الرجل المسكين الكسيح الذي عالجه في أحد المعسكرَين، وساعده هذا الرجل على حمل متاعه إلى المحطة، ولم يكن الكسيح يملك من المتاع إلا القليل، وبينما كانا يسيران هو والطبيب معًا في شمس شهر يوليو اللافحة قطع الطبيب على نفسه عهدًا آخر؛ فقد نذر إكرامًا لهذا الرجل أن يسعى دائمًا إلى رعاية كل من ناء كاهله بمتاعه في محطات السكة الحديد حيثما وجده. وتذكَّر أيضًا أولئك الرجال والنسوة الفرنسيين الذين صادفوا في محطةٍ من المحطات الصغيرة القائمة على طول الطريق القطار الذي كان يُقل الدكتور شفيتزر وزملاءه، فظنوا أنه القطار القادم من ألمانيا يحمل أسرى الحرب الفرنسيين، وساروا يحفُّون بركابه إلى مناضد محمَّلة بما لذ وطاب من طعام. فلمَّا تبينوا خطأهم فجأةً شعر الطرفان بالحرج أول الأمر، ثم اشتركوا جميعًا في الضحك من أعماق قلوبهم، وسرى بينهم شعورٌ من الصداقة والود.
وبينما كان القطار ماضيًا في طريقه يحملهم خارج فرنسا أخذ يزداد طولًا وطولًا بالعربات التي كانت تلحق به من المعسكرات الأخرى، وقد امتلأت عربتان منها بصُناع السلال ومُصلحي الغلايات وسنَّاني المقصات والأفاقين والنَّوَر، كل أولئك كانوا يُستبدلون أيضًا بغيرهم من الأسرى.
ومضى القوم مسافةً قصيرة مجتازين سويسرة المحايدة، بمزارعها وكرومها الخُضر الأنيقة وبيوتها النظيفة، ثم عبروا التخوم إلى الألزاس، وكأنما انتقلوا إلى كوكبٍ آخر؛ فقد كان الناس في الألزاس نحافًا، وجوههم شاحبة، وقد بدت عليهم أمارات الإعياء الشديد، وكانت الطرقات في الليل مظلمة، ولا ينبعث من البيوت أي بصيص من نور.
ولمَّا كانت جونسباخ قريبةً جدًّا من خط النار، فقد اضطُر الدكتور شفيتزر إلى طلب ترخيص من ستراسبورج بالسماح له بالمضي إلى جونسباخ، ولم يستطع حتى بعد حصوله على الترخيص أن يمضي بالقطار إلا إلى كولمر، ولم يجد بُدًّا من قطع الأميال العشرة الأخيرة على قدميه سائرًا بين خطوطٍ من الأسيجة المقامة من الأسلاك الشائكة والقش، وكان أينما التفت وجد قواعد من الآجُر أقيمت للمدافع الرشاشة، وألفى البيوتَ التي مرَّ بها واحدًا بعد واحد قد دمَّرتها نيران المدافع، ورأى التلال التي أحبَّها يومًا لِمَا كان يغشى سفوحها من رُقع مشجرة قد تعرَّت الآن إلا من جذوعٍ قليلة بقيت منتثرةً هنا وهناك. وكان هدير المدافع الكئيب يُسمع من قُنة التلال، وأُقيمت في القرى على طول الطريق شواهد كُتب عليها تنبيه لكل شخص بأن يحمل معه في سيره قناعًا ضد الغازات السامة.
وكان هذا الذي رآه هو الوادي الباسم الآمن الذي تركه منذ أكثر من خمس سنوات في ذلك اليوم، يوم الجمعة الحزينة حين كانت أجراس الكنيسة تدق.
واضطُر إذ بلغ جونسباخ أن يشق طريقه وسط حشود من الجنود ويمر بصفوفٍ من البيوت المهدَّمة حتى بلغ منزله، فوجد أن الجنود قد احتلَّته وعسكرت فيه، ولكن أباه ظلَّ مقيمًا فيه بالرغم من ذلك، وكانت أمه قد قُتلت تحت أقدام خيل الجنود الذين كانوا يمرون بالقرية.
وحلَّت بالطبيب فترة من المرض لم يستطع أن يشفيه منها هواء وطنه الألزاس الخالص، وغشيه شعورٌ من الضنى أعقبه ألمٌ وحُمَّى شديدة. وكان مما سرَّى عنه أن يجد نفسه مع أبيه مرةً أخرى، ويراه في حجرة مكتبه العتيقة المعهودة وقد تألَّق وهج المصباح الرقيق فوق وجهه الوديع. وكان يبدو عليه هدوء الآمن المطمئن يلازمه حتى حين يدوِّي قصف المدافع، ويندفع غيره من سكان القرية لائذين بأقبية بيوتهم، فيظل هو في مكانه لا يريم.
وسُمح لهيلين شفيتزر آخر الأمر أن تلحق بزوجها في جونسباخ، ولكن الدكتور شفيتزر حتى بعد اجتماعِ شَمله بهذين الاثنين اللذين أحبَّهما لم يبرأ من علته إلا بعد أن عاد إلى ستراسبورج لتُجرى له جراحة.
«زمالة أولئك الذين تبدو عليهم أعراض الألم.»
أجل لقد عرف الطبيب الآن بالتجربة معنى الألم يحل بالجسم، والعذاب الشديد يصيب الجسد، وكان قد نعم منذ حداثته بالصحة السابغة، وأحسَّ بأن مثل هؤلاء الناس تربط بينهم أواصر القربى في جميع أنحاء العالم؛ ذلك أنه قد وحَّدت بين قلوبهم تجربة مشتركة.
وذكر المرضَ والشقاء اللذين شاهدهما في أفريقيا فغشيه القلق، لكنه لم يجرؤ على التفكير في عودته، ولم يكن ثمة سبيل إلى معرفة متى تكون العودة إن كُتب له ذلك على الإطلاق، وخُيل إليه أنه كان كقطعةٍ من النقود تدحرجت تحت الأثاث وظلَّت هناك لا يعرف بأمرها أحد.
وانتهت الحرب في الحادي عشر من نوفمبر من تلك السنة؛ سنة ١٩١٨م، وأصبحت الألزاس تابعةً لفرنسا، وغدا الدكتور شفيتزر بحكم معاهدة الصلح المعهودة مواطنًا فرنسيًّا، كما كان أبواه قبل انتصار الألمان سنة ١٨٧٠م.
ولمَّا تمالك عافيته واستطاع أن يستأنف عمله عُرض عليه منصب في مستشفى البلدية في ستراسبورج، وأُعيد أيضًا إلى منصبه القديم قسيسًا لكنيسة القديس نيقولاس الصغيرة. وكان زميلاه الأولان قد صُرفا عن منصبيهما؛ إذ طرد الألمان واحدًا أثناء الحرب لأنه كان نصيرًا للفرنسيين، وطرد الفرنسيون الآخر بعد الحرب لأنه كان نصيرًا لألمانيا.
وطاب له أن يعود إلى العمل ثانية، يشفي المرضى ويؤم الصلوات في الكنيسة الصغيرة التي كان بها جد مشغوف، وأصبح في ميسوره أن يبدأ في رد الديون التي اضطُر إلى حمل أعبائها من أجل مستشفاه في السنوات الأخيرة التي قضاها في أفريقيا.
وكان عبء هذه الديون ينوء به عقله؛ ذلك أنه كان قد اقترض من جمعية البعوث الدينية في باريس ومن أصدقاء له كرماء في فرنسا، وكان ردُّ هذه الديون يتطلَّب وقتًا طويلًا، على أنه أصبح في مقدوره الآن على الأقل أن يبدأ في ردها، ولم يجسر أن يتدبَّر ما يكون بعد ذلك.
وأخذ أهل الألزاس يعودون إلى العمل مرةً ثانية لإزالة الأنقاض التي خلَّفتها الحرب، فأصلحوا الدمار الذي أصاب بيوتهم، وحرثوا حقولهم، وزرعوا كرومهم مرةً أخرى. أما في ألمانيا التي كانت قد حطَّمتها الهزيمة فكان يسودها الجوع واليأس. وكان الطبيب أثناء الهدنة وفي السنتين التاليتين لها زبونًا معروفًا لموظفي الجمارك؛ إذ كان يعبر الحدود وقد امتلأت جعبته بالطعام من أجل كوزيما أرملة ريتشارد فاجنر، ومن أجل المصوِّر العجوز هانز توما وأخته.
ووصلت رسالة ذات يوم من السويد تدعو الدكتور شفيتزر إلى القدوم إلى جامعة أبسالا لإلقاء سلسلة من المحاضرات، فمضى إلى هناك متعبًا كاسف البال لا يزال يعاني من آثار مرضه الأخير، ولم يلبث أن استرد عافيته كاملةً بعد أسابيعَ قليلة، وعاوده تحمُّسه القديم للعمل. وأخذه رئيس الأساقفة الذي دعاه لزيارة السويد إلى بيته واستضافه، ورتَّب أن يقوم الطبيب بإلقاء محاضراتٍ أخرى في أنحاء السويد حين يفرغ من محاضراته في جامعة أبسالا. وكان طالبٌ سويدي شاب يترجم ما يقوله جملةً جملة بأسلوبٍ شائق، حتى إن المستمعين أحسوا بأنهم يعون الكلمات الأصلية بدلًا من أن يفهموا الترجمة.
وأُقيمت أثناء زيارته أيضًا حفلات عزف منفرد على الأرغن. وكان من دواعي سروره أن يعزف على آلات الأرغن السويدية القديمة التي كان رنينها يُناسب طريقته في عزف مقطوعات باخ.
ولمَّا انتهت زيارته للسويد عاد الطبيب إلى ستراسبورج وفي جعبته من المال الذي كسبه ما يكفي لرد ديونه التي لا تحتمل التأجيل. وأصبح في مقدوره بعدُ وقد اكتملت عافيته أن يبدأ في التطلُّع إلى المستقبل. واستقرَّ عزمه على أن يعود إلى لامبارينيه ويستأنف العمل الذي بدأه فيها.
ولم يكن شأنه آنئذٍ كشأنه عندما قرَّر أن يمضي إليها أول مرة؛ فقد أصبح يعرف ما ينتظره هناك، ولم تكن الحياة التي اختارها بالحياة اليسيرة؛ ذلك أنه سوف تمر به هنالك أوقات من اليأس وخيبة الأمل، ولكنه سوف ينال جزاءه أيضًا حين يرى المرضى يُشفَون ويعودون إلى عافيتهم مرةً أخرى.
وتخلَّى الدكتور شفيتزر عن عمله في ستراسبورج وانتقل هو وزوجته وابنته الصغيرة التي كانت قد وُلدت في عيد مولده الموافق ١٤ من يناير ليعيشوا مع أبيه في بيته بجونسباخ. وقضى وقته هناك في الكتابة ساعيًا إلى الانتهاء من الكتاب الذي كان قد بدأ فيه قبل أن يرحل من أفريقيا.
وطُبع له في ثلاث سنوات من هذه الفترة خمسة كتب، وكان أولها كتابًا عنوانه «على حافة الغابة الأولية» الذي روى فيه التجارب التي مرَّت به في أفريقيا، وحلَّاه بصورٍ شمسية من صُنع ريتشارد كلاسن الحطَّاب الهامبورجي الذي كان الطبيب قد زوَّده بالعقاقير عندما اعتُقل أسير حرب.
ثم أعقب ذلك بكتابه «فلسفة الحضارة» في جزءين، وهو الذي كان قد أودع مخطوطه في رعاية المستر فورد الأمريكي، وسلَّمه فورد إليه أخيرًا، فأعاد تصنيفه مضيفًا إليه ما كتبه عندما كان في معسكرَي الاعتقال. ثم طُبع في السنة التالية كتاب «المسيحية وديانات العالم» وقد استقاه من محاضراتٍ كان قد ألقاها في إنجلترة. وفي هذه الأثناء ظهر كتابه «ذكريات الطفولة والشباب».
وكان صيته آنئذٍ قد انتشر في جميع أنحاء أوروبا وتجاوزها إلى أمريكا، وتُرجمت كتبه إلى عدة لغات، وتلقَّى دعوات إلى إلقاء محاضرات أو العزف منفردًا على الأرغن من إسبانيا وسويسرة والدنمارك وتشيكوسلوفاكيا والسويد وإنجلترة ووطنه الألزاس.
ولم يكن بالأمر اليسير أن يتخلَّى عن هذه الأمور وهو مستغرقٌ فيها ويرحل عن أرض وطنه مرةً أخرى، وممَّا زاد الأمور سوءًا أن الرأي كان قد استقرَّ على أن زوجته لم تكن بعدُ في حالةٍ تسمح لها بالرحيل معه؛ ذلك أن الجو في المناطق الاستوائية كان فوق ما تحتمل، فلم تجسر أن تمضي معه وفي صحبتها طفلتها الصغيرة.
وودَّع الطبيب زوجه وطفلتها كما ودَّع أباه والحزنُ يغشى فؤاده، ولكن لم تكن له في الأمر حيلة، وأحسَّ بأنه إنما كُتب عليه أن يشارك بنصيبٍ في تحمُّل الألم الذي يغشى العالم؛ إذ لا مناص من أن يذهب كل امرئ في الطريق الذي رُسم له، ولسوف يعود من حينٍ إلى حين، وتُدبِّر زوجه أمر الرحيل معه إلى أفريقيا كلما أحسَّت بالقدرة على ذلك.
ورحل مع الطبيب طالبٌ شاب من طلاب جامعة أكسفورد ليقضي بضعة أشهر، يساعده فيها على استئناف عمله هناك.