الفصل الحادي عشر
«إنما تقوم ذواتنا بشيءٍ واحد هو أن نكافح حتى تستضيء نفوسنا بالنور، وليُدركن الناس كفاحنا، فإذا كان في نفوسهم نور يعمرها أشرق النور منها، واهتدى كلٌّ منا إلى الآخر ونحن نضرب معًا في الظلام.»
وقام الطبيب برحلته من أوروبا إلى أفريقيا على متن سفينة شحن، واستغرقت السفينة ما يربو على سبعة أسابيع في قطع المسافة من ساحل فرنسا إلى مصب نهر أوجو. وكانت رأس لوبيز بعدُ مختلفةً أشد الاختلاف عن تلك القرية المهجورة أو تكاد، التي عرفها الدكتور شفيتزر أثناء سنوات الحرب. وكانت مياه هذه البلدة مزدحمةً ومراكب الخشب محملةً بأخشاب الموجنا والأبانوس والأوكوم، بل إن اسمها كان قد تغيَّر وأصبحت تُسمَّى بعدُ بثغر جنتيل.
وانطلقت صيحات الترحيب من العمال الوطنيين الذين عرفوا طبيبهم أوجانجا، وكان من بينهم أويمبو وقد حصل على رمثٍ جيد محمَّل بكتلٍ من خشب الأوكوم كان قد جلبها هو وبعض الرجال من قريته وهبطوا بها إلى النهر ليبيعوها.
وقال الطبيب وهو يصافح صديقه القديم ومترجمه: لقد أبعدتَ الرحلة يا أويمبو، أما وقد أخذت تمارس تجارة الأخشاب فإنك ماضٍ في طريقك إلى الثراء.
فأجاب أويمبو: ليس لي أن أشكو.
وهمَّ الطبيب بأن يسأله عن زوجته وأطفاله وإذا بأويمبو يُضطر إلى الابتعاد مندفعًا ليشرف على تسليم أخشابه، فعاد الطبيب ليلاحظ متاعه وهو يمر بالجمارك، وكان من بين صناديقه الكثيرة وحقائبه أربعة أكياس من أكياس البطاطس امتلأت برسائل لم يجد فسحةً من الوقت للرد عليها قبل رحيله من أوروبا. وكان موظف الجمارك الذي فتش متاعه قبل أن يغادر الثغر الفرنسي قد تحيَّر إذ وجد مثل هذا العدد الكبير من الرسائل التي لم تُفضَّ موجهًا إلى شخصٍ واحد، وأيقن أن في الأمر حيلة؛ إذ ربما كانت هذه الأكياس تحمل ذهبًا مهرَّبًا كانت حكومة فرنسا قد حرَّمت خروجه من البلاد، وظل موظف الجمارك المسكين يراجع هذه الرسائل ساعةً ونصف الساعة، وراح يفضُّها واحدةً بعد واحدةٍ حتى بلغ قرار الكيس الثاني، ثم هزَّ رأسه متحيِّرًا ونفض يده من الأمر. أجل كانت أربعة أكياس بطاطس ملئت برسائل من أناسٍ يعبِّرون فيها عن استمتاعهم بقطعةٍ معينة عزفها منفردًا على الأرغن، أو يقولون إنهم استمعوا إلى محاضرةٍ بالذات كان لها أثرٌ كبير في نفوسهم، أو قرءوا كتابًا بذاته وأعجِبوا به كثيرًا.
وكان القارب النهري الذي كان منتظرًا ليُقل الركاب صاعدًا في نهر أوجو هو نفس القارب الذي كان قد استقلَّه الطبيب وزوجه في رحلتهم، حين قدموا إلى هذه البلاد أول مرة. وعجب الطبيب بينه وبين نفسه كيف أضحى هذا القارب قذرًا واهنًا عتيقًا إلى هذا الحد، خلال إحدى عشرة سنةً مضت. ولم يبلغ الطبيب أفريقيا التي عهدها من قبلُ إلا بعد أن التفَّ الزورق بثنية النهر التي كانت تحجب الثغر عن الأنظار. وهنالك كان الزمان قد توقف، ووجد الطبيب المستنقعات كما هي وقد انتصبت في الماء جذور الأشجار كأنها سيقان عناكب ضخمة، وجزائر البردي المعهودة وقد أخذت سيقانُها الطويلة المريَّشة تتمايل مع هبات النسيم، وراحت النسانيس تُطل عليهم من الأشجار الباسقة الممتدة على ضفتي النهر، وقد هاجها ما هاجها من فضولٍ عندما رآها أول مرة. ورأى أيضًا القرى المتهاوية كشأنها، ورأى سُكانها كعهده بهم مُهلهَلي الثياب أثقل كاهلَهم الفقرُ والبؤس.
وكان بين ركاب المركب كثيرون من معاونيه القدماء من تجار الخشب وموظفي الحكومة وقد حيَّوا الطبيب تحيةً حارة وأنبئوه بكل ما وقع من حوادث في أثناء غيبته.
وخرج الطبيب في تلك الليلة بعدما انتهى العشاء، وصعِد وحيدًا على سطح المركب، فوجد طيور الماء تمرق داخلةً خارجة بين أعواد القصب الشاحبة، تشدو بتغاريدها الليلية الوسنانة. وأخذت الضفاف المخضوضرة يغشاها الظلام رويدًا رويدًا، ثم طلع قمر عيد الفصح في تمامه فوق قمم الأشجار وأضفى ضوءه الفضي الهادئ على النهر وعلى الغابة البعيدة جمالًا يأخذ بالألباب، فأدرك أنه أصبح في أفريقيا حقًّا، أجل أفريقيا بكل ما فيها من بؤسٍ وجمال.
وبلغ المركب لامبارينيه مع شروق الشمس في اليوم السابع لعيد الفصح، وكانت الزوارق القادمة من قِبَل مركز البعثة الدينية تنتظر لتحمل الطبيب ومساعده الشاب نويل وكلَّ ما معهما من أسفاطٍ وصناديق وحقائب، وتمضي بهما مصعدةً في النهر إلى المستشفى.
وجدَّفت الزوارق ساعةً ثم استدارت حول ثنية الجزيرة ودخلت المجرى الفرعي. وتطلَّع الطبيب في شوقٍ تجاه التلال الصغيرة الثلاثة ليحظى بنظرةٍ إلى مباني مركز البعثة الدينية، وما كان أطول المدة التي انقضت مذ رآها آخر مرة! وما كان أكثر الأحداث التي وقعت بين رحيله عن أفريقيا وقدومه إليها! وطالما كان قد ودَّع الأمل في أن يراها مرةً أخرى، وها هو ذا لا يكاد يصدِّق أنه مَثل هنالك آخر الأمر، وكان ينغِّص عليه فرحة العودة شيءٌ واحد، هو أن زوجته وطفلته لم تكونا معه لتشاركاه في هذه الفرحة.
وبقي مساعده الشاب الإنجليزي نويل عند المرسى ليشرف على إنزال متاعهما من الزوارق، أما الدكتور شفيتزر فقد كان نافد الصبر يتعجل رؤية المستشفى القديم ثانية. ومضى يصعد المنحدر كأنه في حلم، وخُيل إليه أنه يرقى إلى قلعة الجمال النائم المكنونة. وكانت الأعشاب والشجيرات المتشابكة تنمو، حيث كانت تقوم يومًا مساكن شُيدت من كتل الخشب في عناية كبيرة ولم يبقَ إلا المسكنان المقامان من الحديد المموَّج، واللذان صُنع أديم أرضهما من الأسمنت، وكان يغطِّي نصفَهما أغصانُ أشجار باسقة كانت نُبيتات فحسب عندما رآهما الدكتور شفيتزر آخر مرة، وكان سقفاهما المغطيان بألياف النخيل يتهاويان، حتى لقد خلا المسكنان من السكان. وحمد الطبيب الله على ذلك لأنه كان قد خزَّن في هذه الحجرة مئونته الطبية، مُودعًا إياها في الصناديق الخشبية المتينة منذ سبع سنوات مضت.
وكانت طائفة المبعوثين الدينيين الذين حيَّوه عند مرسى النهر قد تبعوه ولحقوا به حين مضى مُيمِّمًا شطر كوخه القديم على قمة التل، وكانوا قد بذلوا كل ما في وسعهم للإبقاء على المباني في حالةٍ صالحة، ولكنهم تخلَّوا عن ذلك لنقص العُمال ومواد البناء. وقد زاد الآن طلب أوروبا وأمريكا زيادةً كبيرة للخشب، حتى إن أي رجل كان يستطيع أن يحصل على بلطة يلاقي عملًا في الغابة يؤجر عليه أجرًا طيبًا، وأي امرئ يعرف شيئًا عن أطواف الخشب يجد عملًا يقوم على حملها على متن الماء هابطًا النهر. وكان كل شخص لديه عمل كثير لا يدع له فسحةً من الوقت يُنفقها في ذلك العمل البطيء الذي يقتضيه إقامة سطح من القطع المصنوعة من ألياف النخيل، يثبتها في عُمدٍ من الخيزران ليقيم بها المساكن.
وقال له أحد المبعوثين وهم يشقون طريقهم خلال الأعشاب الطويلة والكلأ: «إن أول شيء سوف أفعله غدًا هو أن أكلِّف صبيان البعثة الدينية بتمهيد هذا الطريق من أجلك.»
فقال له الطبيب: لا عليك، ودعني أمهِّده بالسير فيه على أقدامي.
وشرع في ذلك دون أن يُضيع وقتًا؛ فقد خرج في عصر ذلك اليوم نفسه هو ونويل في زورقٍ باحثَين عن قطعٍ من ألياف نخيل السقوف في القرى المجاورة؛ ذلك أن المرضى كانوا خليقين بأن يفدوا عليه بمجرد أن تنتشر الأنباء بأنه قد عاد. ولمَّا كان فصل الأمطار قد آذن بالمجيء فإن الأمر كان يقتضيه أن يجد مكانًا بعيدًا عن المطر يعالج فيه مرضاه، وعنبرًا يئوي فيه أولئك الذين يحتاجون إلى البقاء. ولا مناص له أيضًا من أن يجد غرفةً يُخرج فيها المؤن الطبية من صناديقها التي كان قد تركها هنا، وكذلك الصناديق الاثنان والسبعون التي كان قد أرسلها من أوروبا وكان ينتظر وصولها في أية لحظة.
وكانت قبائل جديدة قد أقبلت ونزلت على نهر أوجو منذ كان الطبيب هناك آخر مرة، وأخذ قومٌ غيرهم يتوافدون باستمرار ويلحقون بهذه القبائل. وكان هؤلاء القوم هم البنجابية، أقبلوا من أعماق الغابة أنصاف عرايا يكادون يتضوَّرون جوعًا ويحملون فوق رءوسهم أشياءهم القليلة الحقيرة. وكان هؤلاء البنجابية قِصار القامة وجوههم وجوه المتوحشين حقًّا، وقد وُشمت بوشم قبائلهم. وكان الجالوا الذين ينتسب قومهم إلى هذه المنطقة ينظرون إليهم باستهانة، بل إن الباهوين أيضًا الذين كان الجالوا يعدونهم أقل منهم مرتبةً كانوا يحتقرونهم أيضًا.
فلمَّا بدأ العمل في المستشفى أقبل البنجابية يحملون مرضاهم بعد أن عجز أطبَّاؤهم السحرة عن شفائهم. وكان هؤلاء مصدر متاعب؛ وذلك أن أساليبهم في الحياة لم تكن مختلفةً عن أساليب الرجل الأبيض فحسب، بل إن عاداتهم التي نشئوا عليها في الغابة كانت مختلفةً أيضًا عن عادات قوم النهر.
وكان الطبيب في بعض الأحيان يطلب العون على حمل رجل مريض فوق محفة أو مساعدة جريح أصيب في ساقه، وكان يرد على سؤاله في أكثر الأحيان: لا؛ فإن هذا الرجل ليس من قبيلتي.
وكان صبر الطبيب ينفد في كثيرٍ من الأحيان من فِعال البنجابية؛ لأنهم كانوا لا يحترمون حقوق ملكية الآخرين، فيأخذون ما يريدون لا يبالون أي شيء يكون وإلى أي مالك ينتسب، بل لقد كانوا يسرقون الطعام من مريضٍ أعجزه المرض عن أن يدفعهم عنه، لا يُظهرون أي أمارة من أمارات الاعتراف بالجميل. وكان أقرباؤهم الذين يأتون معهم يجلسون مكتئبي الوجوه، ويأبَون أن يُبدوا أي علامة من علامات الود.
وكان الدكتور شفيتزر يقول بينه وبين نفسه لو أنه استطاع أن يجلس حول نار ويتحدَّث مع مرضاه حديث الرجل للرجل، ولو أمكن أن ينظر إليه نظرةً أبعد من اعتباره مجرد طبيب وأمين على قانون المستشفى ونظامه، لقامت بينه وبين المرضى صِلة من التفاهم أقوى وأوثق، ولكن وقته كله كان مُستغرَقًا الآن في مصارعة المرض والألم، وفي الجهد الجسماني الذي يبذله في إصلاح المباني التي يعالِج فيها المرضى ويئويهم.
وكان أحيانًا يصادف مريضًا من مرضاه السابقين حين تقوده رحلاته لعيادة المرضى إلى جوار موقع من مواقع الخشب، فيفيض وجه المريض بالبِشر عند رؤيته، وكان يظن من قبلُ أن هذا المريض عندما لجأ إليه في المستشفى كان وجهه واجمًا مكتئبًا، وكان يتفق أيضًا أن يمر قرب المستشفى راكبًا زورقه مجدِّفٌ من المجدِّفين البنجابية، فيهتف الرجل محييًا الطبيب من كل قلبه بالرغم من أنه لم يكن قد صدرت منه كلمة واحدة مهذبة طوال مرضه. وإن المرء ليقتضيه الأمر أن ينفُذ إلى أعماق هؤلاء القوم ليعرف طبيعتهم على حقيقتها.
وقد رأى الطبيب نظرةً من الهلع تغشى وجه رجل حُمل من داخل البلاد لتُجرى له جراحة عاجلة، فلمَّا مُدِّد على منضدة الجراحة نمَّ وجهه بجلاءٍ عن إيمانه بأنه وقع بين جماعة من آكلي البشر، ولم يجد الطبيب أحدًا يستطيع أن يتحدث بلغة هذا الرجل، ولم تتيسر ترجمة عبارات الطبيب المطمئنة له، ولعله لم يكن ليفهم شيئًا إلا التمتمة التي يصطنعها طبيبٌ ساحر أو رجل من الرجال الفهود. ووضع المخدِّرُ حدًّا لوعيه، فلما استيقظ وقد برئ من ألمه الفظيع غشيت وجهَه ابتسامةٌ عبَّرت عن اعترافه بالفضل وفَهْمه للأمور تعبيرًا يفوق كل حديث.
وعاد يوسف ليستأنف عمله الأول في المستشفى بمجرد أن علم أن الطبيب قد آب. وكان قد تمكَّن أخيرًا خلال السنوات السبع الماضية من أن يشتري زوجةً بما ادخره من أجورٍ تقاضاها من عمله في معسكرٍ للأخشاب، وأصبح بعدُ لا يطمع في أن يُتاجر في الأخشاب لحسابه، وكان هو وبعض أصدقائه قد استأجروا رُقعةً واسعة من الغابة على مسيرة ثلاثة أيام من لامبارينيه، فكان ذلك يضطره إلى الحصول على إجازة من المستشفى كلما احتاجوا إليه في مقر الأخشاب.
وعاد ألويز الطباخ إلى المستشفى أيضًا، ولكن لم يُسمع أي خبر عن أويمبو المدرس، وكان أويمبو هو الشخص الوحيد الذي اشتدَّت وحشته إليه أكثر من سائر الرجال؛ فقد كان يعلِّق عليه آمالًا كبارًا؛ لأن رجلًا من طرازه ذكيًّا نبيلًا مستقيمًا كان خليقًا بأن يفعلَ الكثير لخير قومه لا بزعامته لهم فحسب، بل بالأسوة الحسنة التي كان يضربها لهم أيضًا؛ فقد كانت أفريقيا محتاجةً إلى عون أبنائها أكثر من حاجتها إلى عون الأجانب أنفسهم.
ومر الطبيب حزين القلب بالبيت الصغير بالقرب من مدرسة الصبيان، حيث كان أويمبو يُقيم هو وأسرته في يومٍ من الأيام، ولم يستطع أن يحمل نفسه على الحديث عن أويمبو، حتى مع الرجال الآخرين في مركز البعثة أو يسأل عن خبره.
ولم يَحِلَّ بالبلاد فصل جفاف في السنة الأولى من عَودة الطبيب، وظلت الأمطار التي كان يجب أن تنقطع في شهر مايو تهطل خلال أشهر الصيف، وكان ذلك شيئًا لم يعهده أحد من قبلُ قط، ولا سمعوا أجدادهم يقولون إنه حدث في السنين الخالية، فحاروا في فهمه، ولم يكن في لغتهم ألفاظٌ تعبِّر عن الشتاء والصيف، وكان رجال البعثة الدينية قد ترجموا لهم وعد الله الذي وعده نوحًا بعد الطوفان: لسوف يبقى فصل المطر وفصل الجفاف والنهار والليل ما بقيت الأرض.
وأراد القوم أن يعلموا: «إذا كان هذا هو وعد الله فكيف لا يسير الجو بحسب ما جاءت به التوراة؟»
وتحيَّر الطبيب كيف يُجيبهم، وقلق باله خشية أن يحل بالبلاد قحطٌ يعقبه ما يعقبه دائمًا من مرض. وكان الفصل من مايو إلى أغسطس هو الفصل الذي يجب فيه أن تُطهَّر الأرض، فتُقطع جميع الأشجار والكلأ وتُحرَق، فتخصب الأرض برماد الخشب المحترق ويُستطاع زراعة الأرض الجديدة بالموز. وكان من الأمور الشديدة السوء أن يُترك كل هذا العدد من رجال القرى ليعملوا في معسكرات الأخشاب حيث كانت الأجور تُنفَق بسرعةٍ تماثل السرعة التي تُكتَسَب بها، أمَّا الآن وقد أخذت العواصف المطيرة تتلاحق واحدةً في إثر الأخرى، فإن أولئك الذين ظلوا في القرى قد ثُبِّطت عزائمهم عن تطهير الأرض؛ إذ علموا أنه لن يتيسَّر لهم شجر يجف بحيث يمكن أن يشتعل.
وخرج الأب الأكبر للبعثة الدينية الكاثوليكية في رحلةٍ تستغرق أسبوعين مُجتازًا المجرى الفرعي ومعه اثنا عشر صبيًّا من المدرسة لصيد فرس النهر، ولم يكن العمل في المدرسة ليستمر إلا إذا عاد هؤلاء بحمل زورق من لحم فرس النهر مدخن، فإذا عادوا خِلو الوفاض فإن المدرسة كانت خليقةً بأن تقفل أبوابها.
وشرع الدكتور شفيتزر يشتري الأرز ليدَّخره احتياطًا لأي طارئ آخر يجعل مرضاه في حاجةٍ إلى طعام.
وحلَّ شهر أغسطس وآن أوان عودة الطالب الشاب نويل إلى إنجلترة ليستأنف دراساته في جامعة أكسفورد، وكان نويل قد قضى في أفريقيا أربعة أشهر ولم يكتفِ بالعمل مساعِدًا للطبيب فحسب، يحقن المرضى ويُحضِّر العقاقير، بل كان أيضًا يعمل مقدِّم عمال ونجارًا وكاتبًا على الآلة الكاتبة وقندلفتًا. وكان الأفريقيون يسمُّونه ياور الطبيب لأن سنوات الحرب كانت قد جعلتهم يألفون المصطلحات العسكرية، وأسفوا أسف الطبيب نفسه إذ رأوا الشاب يرحل.
وجاءت من الألزاس ممرضة هي الآنسة ماتيلدة كوتمان، وطبيبٌ شاب هو الدكتور فيكتور نسمان، وانضمَّا إلى هيئة المستشفى؛ ذلك أن العمل فيها كان قد زاد زيادةً كبيرة، وأصبح لا يمكن أن ينهض به طبيبٌ واحد.
وقال الطبيب الشاب بمجرد أن غادر المركب في لامبارينيه: الآن تستطيع أن تستريح، وسأتولَّى عنك العمل كله.
وابتسم الدكتور شفيتزر لكلماته؛ لأن هذا الشاب، وهو ابن زميل له في الدراسة بجامعة ستراسبورج، كان ينعم بالعافية والنشاط العارم اللذين كان ينعم بهما الدكتور شفيتزر وهو في مثل سنه.
وأجابه شفيتزر: حسنًا! ولْتبدأ الآن بالإشراف على شحن حقائبك وصناديقك في الزوارق.
وقد أثبت الدكتور نسمان أنه رجلٌ يُجيد القيام بشئون الشحن، وأظهرت الأيام أنه كان من ذلك الطراز من الشبان الذين خُلقوا للعمل في أفريقيا. كان واقعيًّا رُزق موهبة الألزاسيين في التنظيم، وكان يستطيع أن يُحسن معاملة الناس، وأهم من ذلك كله أنه كان قد أوتي روح الفكاهة التي تُتيح له أن يتغلَّب على أوقات اليأس والقنوط التي لا مناص من أن تمر بكل طبيب.
وكان الأهالي يسمُّونه «الطبيب الأصغر» مع أن قامته كانت تفوق قامتهم جميعًا، بل لقد كان أطول من الدكتور شفيتزر نفسه. وكانوا يسمون الدكتور شفيتزر دائمًا «الطبيب الأكبر».
ولم يلقَ شفيتزر المساعدة من هذين الألزاسيَّين الشابين فحسب، بل إن بعض الأفريقيين كانوا قد تعلَّموا أن يعملوا ممرضين، وأصبح يوسف الآن يستطيع أن يحقن المرضى في الوريد وأن يضمِّد الجروح أيضًا، ولم يحظَ الدكتور شفيتزر إلا بقسطٍ قليل من الراحة على الرغم ممَّا تنبَّأ به الدكتور الشاب نسمان.
وكان المرضى يُقبلون في حشودٍ فيزحمون وقت الطبيبَين دائمًا، ويأتي المجذومون وصرعى ذبابة «تسي تسي» يعانون مرض النوم، وكذلك ضحايا البعوضة التي تحمل الملاريا. وكان كثيرون يأتون حاجلين وقد غشيت القروحُ أقدامَهم وسيقانهم، ويفد العجائز يتطلَّعون إلى مأوًى أخير يثوبون إليه، ويُحمل المواليد اليتامى ليُطعَّموا. وكان بعض القوم يجيئون إلى المستشفى وقد أُصيبوا بالتسمم بيد عدو، وبعضهم وقد نال منه فيل أو جاموسة وحشية.
وقد حدث أن رجلًا أصابه فهد بجرحٍ وهو نائم في كوخه، وكان الفهد قد أمسك بذراع الرجل اليسرى ولم يتركها إلا حينما هُرع إليه جيرانه بمشاعلهم. واستغرق نقله بالزورق إلى المستشفى اثنتي عشرة ساعة، ولم يظهر على جلد الذراع المتورمة إلا أربع وخزات صغيرة حيث نفذت فيها مخالب الفهد، ولكن اللحم تحت الجلد كان ممزَّقًا حتى العظام، وأصابت الرجل حمَّى شديدة، وعولج على الفور، ولم تلبث حاله أن تحسَّنت بما يسمح له بالعودة إلى القرية.
وعضَّت غوريلا رجلًا آخر، وقذف فيل رجلًا ثالثًا في الهواء، ونطحه حتى أدماه، وجاء إلى المستشفى أشخاصٌ آخرون عضهم بشر مثلهم وأصابوهم بجراح.
وقال يوسف: إن أسوأ عضة هي عضة الفهد، وأسوأ منها لدغة الحية السامة، وأسوأ من ذلك عضة النسناس، إلا أن أسوأ الجميع هي عضة الإنسان.
وأصبح المستشفى ملاذًا لا للمرضى والعجائز والأطفال اليتامى فحسب، بل للمجانين والمجذومين أيضًا، وكذلك كان كثيرون من الناس يحضرون إليه هربًا من الأخذ بالثأر.
وحدث في صبيحة يوم أن أحضر رجل إلى المستشفى زميلًا له كان قد أصابه خطأً بطلقةٍ نارية ظانًّا أنه خنزير بري يربض في الكلأ، وكان الجرح قاتلًا، وما إن قضى الجريح نحبه حتى بعث الصياد من فوره إلى زوجته وطفله ليلحقا به في المستشفى. وذهب معه الدكتور شفيتزر إلى مركز مأمور القسم حتى تُحقَّق القضية بمقتضى القانون، بدلًا من أن يترك الرجل ضحيةً لانتقام أسرة القتيل. وحُكم على الصياد بأن يدفع مبلغًا معلومًا من المال لأسرة الفقيد. ولمَّا كانت شريعة الغاب تقضي بأن النفس بالنفس، فقد حُكم على الصياد أيضًا أن يُعطي للورثة عنزًا. وقد سمح له الطبيب بأن يبقى في المستشفى هو وأسرته، وأن يعمل فيه حتى يكسب من المال ما يكفيه لدفع الدية.
واستفحلت المجاعة؛ ذلك أن القوم لم يستطيعوا أن يزرعوا شيئًا في ذلك العام؛ لأن الأمطار المستمرة التي هطلت في صيف سنة ١٩٢٤م منعتهم من تطهير فُرجات الغابة الصالحة للزرع وحرق الشجيرات، وقد كانوا أحرياء بأن يقطعوا كُتل الخشب قِطعًا صغيرة ويسحبوها بعيدًا أو يكوِّموها حتى تنفسح الأرض بين الأكوام لزراعة أشجار الموز والمنيوق، ولكن لم تكن هذه هي الطريقة التي درجوا عليها في الزرع، وكانوا لا يفعلون إلا ما اعتادوا أن يفعلوه دائمًا، فاستسلموا لنصيبهم وقعدوا في قراهم ينظرون الموت، واعتقدوا أن روحًا شريرة قد نزلت بالأرض ولا يمكنهم أن يفعلوا شيئًا للخلاص منها.
وما كان أشد حاجة هؤلاء القوم إلى زعيمٍ يقودهم، زعيم من بني جلدتهم يُخلِّصهم من نير خرافاتهم وجهالتهم.
وقد قال أحد المبعوثين الدينيين للدكتور شفيتزر يومًا: لقد صادفت أويمبو مدرسنا القديم منذ وقتٍ غير بعيد.
فأجاب الطبيب: أجل، أويمبو، وإنه لرجلٌ آخر فقدناه في تجارة الأخشاب، وكان يمكن أن يكون معينًا لقومه، وقد كان هو دون الآخرين الذي أعلِّق عليه أكبر الآمال.
وصاح المبعوث الديني متعجبًا: فقدناه! ماذا تقول؟
وقال الطبيب وقد رأى أويمبو على رصيف ثغر جنيل، حين عاد من أوروبا إلى أفريقيا: إنه الآن رجل أعمال ناجح ولم يعد مدرسًا لقومه كما عرفناه هنا.
فأجاب المبعوث: أجل، رجل أعمال، ولكنه لم يتخلَّ عن التدريس. وإن العمل الذي يؤديه الآن في التعليم أهم بكثيرٍ ممَّا كان يفعله هنا حين عرفناه.
ومضى المبعوث يروي كيف عاد أويمبو أثناء الحرب إلى قريته الصغيرة الدغل، وراح يتحدث إلى قومه، وأقنعهم بأن يخرجوا معه ويطهِّروا جزءًا كبيرًا من الغابة تمهيدًا للزراعة. وكان هؤلاء القوم شأنهم شأن غيرهم في قرى أفريقيا الأخرى لم يُطهِّروا قط من الأرض إلا ما يكفي لتزويدهم بالغذاء الذي يسد رمقهم فحسب. ولكن أويمبو كان يريد أن يُطهِّر من الأرض رُقعةً كبيرة توفر الطعام للقرية بأسرها، ويبقى بعدُ ما يكفي لبيعه إلى تجار الخشب يُطعمون منه عمالهم، فزرعوا الموز، والمنيوق لطعامهم الأساسي، كما زرعوا البن والكاكاو ليبيعوه في السوق.
وأقام أويمبو أيضًا مدرسةً في قريته دون أن يستعين بالحكومة أو بالبعثات الدينية، واقتطع من وقته ليقوم بالتدريس لهم بنفسه، وأخذ الأطفال يعملون في المدرسة ليكسبوا من المال ما يكفي لشراء كتبهم، وأكسبهم ذلك شعورًا بالعزة والاستقلال.
ولم يقنع أويمبو بالتدريس للأطفال فحسب، بل أراد أن يُدخل إلى القرية بأسرها أسلوبًا جديدًا في الحياة، وكان القوم حتى ذلك الحين يُقيمون أكواخًا صغيرة حقيرة من الخيزران والطين لا تكاد تتماسك تماسكًا يحقِّق لهم الحماية من الشمس والمطر. وأخذ أويمبو يعلِّمهم كيف يبنون أكواخهم في مهارةٍ وبراعة، ولم تنقضِ على عودته أشهر قلائل حتى أصبحت بيوت قريته هي أكبر وأمتن بيوت في ذلك الجزء من قارة أفريقيا. وأهاب بالرجال أن يساعدوه على تطهير الكلأ الذي كان ينمو حتى يحف بالقرية؛ ذلك أنه علم أن هذا الكلأ مباءة البعوض الناقل للملاريا وذباب تسي تسي، فطهَّر الرجال الأرض حتى البحيرة؛ ممَّا جعل نسائم المساء الرطيبة تهب عليهم بلا حاجز ولا عائق.
ولمَّا انتهت الحرب استؤنفت تجارة الأخشاب، وخرج أويمبو في طليعة الرجال إلى الغابة، وعلَّمهم كيف يعملون جماعةً في تناسقٍ وتعاون. واتخذ سجلًّا يدوِّن فيه المصروفات والإيرادات والساعات التي اشتغلها كل رجل، وأدرك القوم أنهم يستطيعون أن يرفعوا مستواهم بعملهم.
ولم يكن ما فعله أويمبو بالأمر الهيِّن؛ فقد تمرَّد كثيرٌ من الرجال لحملهم على العمل أكثر ممَّا تقتضيه الضرورة المُلِحة فحسب، وراحوا يسألون من يكون أويمبو هذا الذي عاد إليهم بما تعلَّمه من أساليب الرجال البيض وأخذ يُلقِّنهم ماذا يفعلون. ولكن أويمبو استطاع أن يستميلهم بالأُسوة الحسنة ودماثة خلقه أكثر من استمالته إياهم بالأحاديث البليغة.
وجاء أويمبو إلى المستشفى ليزور الدكتور شفيتزر، ولمَّا يمضِ وقتٌ طويل على سماع الطبيب بهذه الأنباء عن صديقه القديم. وروى له الدكتور شفيتزر كيف سُر حين سمع بما أسداه أويمبو لقريته من خير، لكن أويمبو الذي عُرف دائمًا بالتواضع لم يتحدَّث إلا قليلًا عن نصيبه في ذلك. وقال الطبيب بينه وبين نفسه: لو قُيِّض رجل مثل هذا لكل قرية، فإن أفريقيا خليقة بأن تُصبح بلادًا عظيمة.
وإن ذلك العدد الكبير من المرضى الذين يحفل بهم المستشفى ليرجع السبب فيه إلى أن القوم كانوا فريسةً لخرافاتهم وجهالتهم وافتقارهم إلى النظافة وبذل الجهود.
لقد كان المستشفى مزدحمًا دائمًا زحمةً تقتضي عملًا أكثر ممَّا يستطيعه طبيبان، وتطلَّب الأمر وجود ممرضة أخرى. ولبَّى الطبيب الشاب «لوتربورغ» السويسري والآنسة «إمَّا هوسكنخب» الألزاسية النداء، وأقبلا ليكرِّسا نفسيهما لمساعدة البائسين في هذه البلاد النائية عن وطنيهما.
واستمرَّت المجاعة إلى العام التالي، وانعدم الطعام إلا الرز، بل إن الرز كان قد شح وأصبح من العسير الحصول عليه، وتوقف العمل في كثيرٍ من معسكرات الأخشاب. وتحيَّر الطبيب ماذا يكون الحال إذا اضطُروا أيضًا إلى هجر المستشفى، وكيف يستطيع أن يطرد المرضى ويُعيدهم إلى قُراهم التي برَّحت بها المجاعة. وكان كثيرون من القوم قد أقبلوا من قُرًى نائية على مسيرة ستين ميلًا أو تسعين، وكان إخراج المرضى الذين شُفوا من المستشفى هم وذووهم في حينه مشكلةً في كثيرٍ من الأحيان، حتى في الأحوال العادية؛ فقد كان أهل القرى النائية منهم يُضطرون إلى الانتظار حتى يمرَّ زورق أو قارب بخاري ذاهب إلى ناحيتهم — أما الآن فقد أصبح الأمر أسوأ من ذلك؛ لأن القوم كانوا يبقَون في المستشفى أطول مدة ممكنة، يخشَون كل الخشية أن يعودوا إلى الجوع الذي ينتظرهم في قراهم. على أنه لمَّا أخذ مورد المستشفى من الرز يشح، وأصبح من الميئوس منه أن يحصل المستشفى على المزيد، فقد بدا للأنظار أن ذلك سوف يتمخَّض عن أمرٍ ذي بال، وأخذ أولئك الذين وقفوا في الحصول على أكياسٍ من الرز اشترَوها بمالهم يتقاسمونها مع غيرهم ممن لم يُكتب لهم التوفيق. وحدث في كثيرٍ من الأحيان أن أعطى تاجر خشب جزءًا من زاده من الرز إلى منافسٍ له خلت يداه منه. أما في المستشفى الذي كان يحتاج إلى مائةٍ وخمسة وسبعين رطلًا على الأقل من الرز كل يوم، فإن الطبيب قد عمد إلى إرسال قدرٍ منه إلى مركز البعثة الدينية القائم أعلى النهر وكان في حاجةٍ إليه، كما أعطى أيضًا التجار وأعطى مصنعًا إنجليزيًّا في هذه المنطقة.
وقد تعلَّم الدكتور شفيتزر من المجاعة درسًا مفيدًا؛ هو أن المستشفى يجب أن يكون له مزرعة خاصة ليضمن موردًا من الغذاء مهما حلَّ من المجاعات في المستقبل. ولكن تُرى أين يجد هذه المزرعة؟ لقد كان التل الصغير الذي يقوم عليه المستشفى لا يكاد يتسع للمباني التي رُممت أو أُقيمت منذ عودته إلى أفريقيا؛ ذلك أنها كانت قد خُططت بحيث يتسع لعددٍ من المرضى لا يزيد على الخمسين. وها هي ذي قد آوت إلى الآن ثلاثة أضعاف هذا العدد، فهب أن نارًا شبَّت فيها فماذا تكون الحال؟ وأصابت الطبيبَ رِعدةٌ لهذا الخاطر؛ لأن احتشاد هذه المباني احتشادًا لا يترك إلا فسحةً قليلة بين بناءٍ وبناء يجعل الشرارة الواحدة خليقةً بأن تُدمِّر جميع هذه المباني دفعةً واحدة. لقد كانت الحاجة إذن ماسةً إلى فسحةٍ من الأرض كبيرة، فسحة لمزرعة موز كبيرة، وأخرى يُستنبت فيها المنيوق، ويجب أن تتوافر للمستشفى أيضًا حديقة خُضَرٍ على غرار تلك التي تنمو في أوروبا وأمريكا، وبستانٌ تُزرع فيه أشجار البرتقال والليمون الهندي. أجل يجب أن تتوافر فيه فاكهة المناطق الاستوائية بمقاديرَ عظيمة حتى يتيسَّر للمرضى وذويهم كل ما يحتاجون إليه، وكذلك يجب أن يُتاح للمستشفى فسحة من الأرض يستطيع أن ينمو فيها، فيُزاد عليه من المباني ما تدعو إليه الحاجة.
وكان الطبيب قد لاحظ في كثيرٍ من الأحوال وجود مكان على مسيرة أقل من ميلين من مركز البعثة الدينية في أعالي النهر، وكان هذا المكان مقرَّ قرية قديمة من قُرى الجالوا يعيش فيه زعيمها نكومبه الملك الشمس. وكان الأهلون يعرفون هذا المكان باسم أدولينا نونجو، ومعناه المكان الذي يُشرف على جميع القبائل، وهو اسم مُوفَّق؛ فعنده كان يتفرَّع النهر إلى فرعين، ويتجلَّى منظرٌ رائع للسماء والماء والغابات الخضر، وتبدو في الأفق تلالٌ زرقاء منخفضة، وقد انتشرت القرى الصغيرة هنا وهناك في فرجات الأرض على طول الشاطئ ظاهرةً للعيان.
وبدأت خطة تتبلور في عقل الطبيب، فمضى مرةً أخرى إلى المكان، وسار وحيدًا مرتقيًا في رِفقٍ المنحدرَ الصاعد، وأصبح يرى بعين الخيال الغابة وقد ظهرت، وأُقيمت مبانٍ رحيبة متينة البنيان تحيط بها أشجار الفاكهة والمزارع.