الفصل الثاني عشر
«إن قوة المُثل العليا لا حد لها؛ فنحن لا نرى في قطرة الماء أية قوة، ولكن هذه القطرة إذا نفذت في صدع صخرة واستحالت جليدًا فإنها تشق الصخرة، وإذا استحالت بخارًا فإنها تُحرِّك مكابس أقوى الآلات طرًّا؛ ذلك أنه يطرأ عليها شيءٌ يثير القوة الكامنة فيها ويُطلقها من إسارها.»
وعاد الدكتور شفيتزر ذات مساء من رحلةٍ خفية أبعد فيها السيرَ عن المستشفى ونادى الطبيبَين والممرضتَين، فاجتمعوا عنده وقال لهم إن لديه أخبارًا يود أن يُنبئهم بها، وروى لهم كيف أن المستشفى سوف يُنقل إلى مكانٍ أفسح وأكبر، وأنه قد انتظر حتى يستوثق من خُطَطه قبل أن يُفصح عنها، أمَّا الآن فقد وافق مأمور القسم على أن يستخدم المستشفى قطعةً من الأرض مساحتها مائة واثنان وسبعون فدانًا تقوم في موقع قرية الجالوا القديمة.
وعقدت الدهشة ألسنة زملائه في العمل أول الأمر، ثم انطلقوا يصيحون صيحات الفرح، وبدءوا جميعًا يتحدَّثون ويرسمون خططهم العاجلة والآجلة. صحيح أنه سوف تتوافر لهم مبانٍ أقوى وأمتن، وفسحةٌ من الأرض تَسَع عنابر عزل المصابين، وفسحة أخرى يتسع فيها المستشفى وينمو، وفسحة يزرعون فيها ما يكفي مرضاهم ويكفيهم من مواد الغذاء، ولكن يا لها من مغامرة! ذلك أن هذا المكان كان قد ارتدَّ إلى حضن الغابة تمامًا في تلك السنوات التي تلت نزوح أهله عنه.
وأخذ الأفريقيون الواقفون بالقرب منهم يُحملقون فيهم عجبًا ودهشة؛ ذلك أنهم لم يكونوا قد رأوا الأوروبيين قط يشيرون مثل هذه الإشارات، ولا سمعوهم يُثرثرون مثل هذه الثرثرة، وبدا لهم ذلك كأنه مؤتمرٌ من مؤتمراتهم هم المتصلة حين يجتمع رجالهم ويتحدَّثون تحت سقف البيوت التي يعقدون فيها هذه المؤتمرات.
وكان أول شيء يجب أن يفعله القائمون بأمر المستشفى هو أن يُقيموا عُمدًا يحدِّدون بها المنطقة التي مُنحت لهم حتى يمكنهم رسم خطة الأرض وإطلاع مأمور الناحية عليها واعتمادها،. وأخذ الدكتور شفيتزر والبوصلةُ في يده يشق طريقه خلال الغابة المتشابكة الأغصان، وقد تبعه مساعدوه عن كثب، وراحوا على نشز الأرض يضعون علامات على الأشجار بحزِّها حزوزًا، ويغرسون في ثرى المستنقعات اللين قضبانًا طويلة بين الواحد والآخر ستون قدمًا، ثم بدءوا يطهِّرون الأرض.
وكان الدكتور شفيتزر يُقارن عمل يوم مع هؤلاء الرجال بحركات السيمفونية؛ فهم يبدءون متمهِّلين مُحجمين، ثم تتحرك السكاكين التي تقطع الشجيرات في اعتدالٍ شديد، يحاول المقدم عبثًا أن يزيد من سرعة حركتها. وكان حلول الظهيرة ووقت الراحة يضع حدًّا لهذه الحركة، ثم يستأنف الرجال عملهم بعد طول استحثاث متمهِّلين أكثر، وتسكن الريح سكونًا تامًّا، وتُسمَع ضربات الفأس من حينٍ إلى حين، ثم تعقب ذلك مُلَح قليلة يلقيها الطبيب، فتنبعث الضحكات والكلمات المرحة، ويبدأ عددٌ قليل من الرجال يغنِّي، وتهب نسمة ريح مقبلة من النهر، ثم تُختتم السيمفونية بالانتعاش الذي يعم الجميع، ويُنزلون ضرباتهم بالأشجار صارخين صاخبين، وتنهال الفئوس وسكاكين قطع الشجيرات في صوتٍ أعلى وحركة أسرع حتى يصيح الطبيب أخيرًا: كفى!
وينتهي عمل اليوم.
ويظل العُمال يثرثرون وهم يجمعون أدواتهم ويردونها إلى الزوارق متأهِّبين لرحلة العودة هابطين النهر. وما كان أعجب الطبيب الأكبر من إنسان! فقد كان يلتقط عظايةً أو ضفدعة ويُبعدها عن طريقهم حتى لا تصاب بأذًى حين كان يُساعد العمال في الحفر أو تطهير الأرض. ولم يقنع بالإبقاء على الحيوانات فحسب، بل كان يبقي أيضًا على بعض الشجيرات. وكان العمال يفهمون لمَ يُبقي على شجرة من أشجار قطن الحرير؛ لأنها كانت هي شجرة مشايخ القبائل، ولكن لكل قرية شجرة من هذه الأشجار يجتمع عندها مشايخ القوم ويروون قصصًا من الأيام الخالية حين كانت الحيوانات تُجاذب الناس الحديث. أجل لقد كانت شجرة القطن الحرير شجرةً سحرية لها أوراق تُتخذ عقارًا شافيًا لكل الأمراض. ولكن الطبيب كان لا يحملهم على الإبقاء على شجرة قطن الحرير فحسب، بل على النخيل الذي يُستخرج منه الزيت أيضًا، فكان يضطرهم إلى فتح ثغرة خلال النباتات الزاحفة ليبلغوا نخلةً ضئيلة صغيرة ويُطهِّروا حولها، وما كان أيسر عليهم أن يجتنبوا كل الأشجار التي تقع تحت أنظارهم، ويدَعوها حتى تجف ثم يحرقوا الغابة بأسرها، ولو فعلوا ذلك لوقع في حبائلهم عددٌ كبير من الحيوانات يكفي لتزويدهم باللحم أيامًا كثيرة، ولكن الطبيب لم يكن قط يُطيق ذلك بأي حال من الأحوال.
ومضى الرجال يعزقون عشب اللانتانا المزهر ونباتات أذن الفيل العريضة، ويجوسون خلال أشجار السرخس وأشجار الكنَّاس البرية التي تنمو حتى تبلغ قامة الرجل.
وكان الطبيب الأكبر يقول لهم احترسوا من الأغصان العالية! واستوثقوا حتى تأمنوا الأفاعي التي تكمن تحت أقدامكم، وأرهفوا السمع منتبهين إلى صوت الفهود أو الغوريلا التي تكمن في الدَّغَل، ولا تسيروا قرب صف من النمل الزحَّاف، وتجنَّبوا لدغات ذباب تسي تسي والبعوض، وابتعدوا عن النباتات الواخزة تخز أقدامكم والبراغيث تتسلَّل بين أصابع أقدامكم.
وأخذوا يُغنون أغنيةً عن البراغيث:
«تسا! تسا! نجومكا! تسا!»
«لا يستطيع المرء أن يرقص والبراغيث بين أصابع قدميه!»
ولم يكن هذا بالشيء الذي يدعو إلى الضحك؛ إذ يندر أن تجد مواطنًا من هذه المنطقة بلغ أشُده وظل محتفظًا بأصابع أقدامه العشرة بسبب هذه الحشرة الضئيلة التي تنقِّب متسللةً تحت الظفر وتُصيب المرء بالْتهاباتٍ خطيرة.
ومضى العمل في سبيله واستطاع الطبيب أن يرى الحلم الذي راوده وقتًا طويلًا يتحقَّق، ولسوف يغدو هذا المكان يومًا جنة عدن تحفل بمئات من أشجار الفاكهة نبتت من الحَب الذي أُلقي في الأرض، ولسوف يتوافر له أيضًا كل صنف من الفاكهة والخضراوات التي يمكن أن تنمو في مُناخ المناطق الاستوائية؛ أجل، سوف يتوافر الغذاء بعدُ للجميع في هذه الأرض التي لم تزوِّدها الطبيعة بنبات يؤكل، والتي كان يُجلب إليها ويُزرع كل ما يحمل فاكهةً أو ورقًا أو جذورًا يغتذي بها الناس؛ وسوف يتوافر لهم أيضًا زيت للطهي من نخيل الزيت التي أُبقي عليها، ولسوف يُجلب إلى هذه الأرض أيضًا قطيع من الماعز نُشِّئ بحيث يستطيع أن يقاوم ذبابة تسي تسي، ويدر اللبن للمرضى والأطفال اليتامى، ولربما جاء يوم يكثر فيه الطعام كثرةً تُتيح لكل فرد أن يحصل على كل حاجته، وتنمحي أسباب الجوع والقحط ولا يرتكب أحد جريمة السرقة ليأكل.
وبدأت مباني المستشفى نفسها تنهض شيئًا فشيئًا وتتخذ الصورة المرسومة لها. وكان الطبيب قد تعلَّم الكثير في السنين التي انقضت منذ أن قَدِم إلى المناطق الاستوائية أول مرة، وتزوَّد بهذه الخبرة قبل أن يبدأ في إقامة مستشفًى دائم. ولن يجد بعدُ مباني أُقيمت من الخيزران وغُطيت سقوفها بأوراق الشجر على مألوف القوم في هذه الأنحاء من أفريقيا. لقد كانت هذه المباني تحتاج دائمًا إلى إصلاحٍ حتى لا تسقط أو تتهاوى، وتقتطع بذلك من الأوقات الثمينة التي ينفقها الأطباء أنفسهم في العناية بالمرضى ساعات يقضونها في أعمال النجارة والأعمال اليدوية. وكان العمل في إعداد الحجارة أو الآجُر لا محل له؛ وذلك أنه كان خليقًا بأن يستغرق وقتًا طويلًا ويتطلَّب نفقات كثيرة. وكان الحديد المموَّج يُقام على هيكلٍ ضخم من الأخشاب هو الحلَّ الوحيد، وكان الأمر يتطلَّب طِلاءه طلاءً يرد عنه أشعة الشمس.
والشمس قرب خط الاستواء تميل قليلًا من الشمال إلى الجنوب، وهي في ذروتها شتاءً وصيفًا تسطع فوق الرءوس مباشرة؛ ولذلك وجب أن تكون المباني مستطيلةً ضيقة، وأن تكون أطرافها الهرمية مواجِهةً للشرق والغرب لتتحمَّل أشعة الشمس المُحرِقة، بحيث يمكن أن يُفتح جانبَا المبنى الشمالي والجنوبي بطولهما لتلَقي النسيم.
ورُسمت خطة خمسة مبانٍ تستطيع أن تُئوي أكثر من مائتَي مريض وأقاربهم أو أصدقائهم الذين يأتون معهم، وأُقيمت هذه المباني على منحدر التل حيث يُمكن أن يُطِل المرضى على نهر أوجو ليشاهدوا زوارقهم المربوطة عند المرسى تنتظر لتحملهم في عودتهم إلى قُراهم حين يُشفَون من مرضهم.
وفي غمرة هذا العمل كله بلغت الأنباء الدكتور شفيتزر بأن جامعة براغ قد منحته درجةً علمية فخرية. وما كان أبعد ذلك العالم عن هذه الغابة من الأشجار الضخمة والكروم والنباتات المتسلِّقة البرية والوحوش تتهادى في الدَّغَل! وكانت تلك الجموع من الناس المُخلِدين إلى السكون في ذلك البهو الخافت الإضاءة يُصغون إليه وهو يتحدَّث إليهم من المنصة أو يعزف لهم على الأرغن، تبدو وكأنها كوكبٌ آخر. ومع ذلك فإن هذين العالمين كانا متداخلَين تداخلًا محكمًا كأنهما اللُّحمة والسَّدَى في نسيجٍ واحد. وكان أولئك الذين كانوا يجيئون إلى البهو يستمعون إليه ويُصفِّقون له تقديرًا وتكريمًا، وأولئك الذين كانوا يقرءون كُتبه هم أولئك الذين كتبوا الرسائل التي كانت لا تزال تَرِد إليه في الأكياس مع كل بريد. وقد كان لهم جميعًا، بفضل كلمات التشجيع التي يوجِّهونها إليه والمساعدات التي يبذلونها له، نصيبٌ في هذا العمل الذي حقَّقه في هذه الغابة الأولية، وبفضلهم أيضًا أصبح من الميسور بعد أن يُقام ذلك الطراز من المستشفى الذي كان يحتاج إليه الدكتور شفيتزر.
وكان هذا هو الذي أقنعه إقناعًا يفوق اقتناعه في أي لحظة مضت بأن في قلوب معظم الناس زادًا مكنونًا من الخير. لقد كان يعلم أن كثيرًا من الناس قد أُوتوا العزيمة والرغبة الشديدة في أن يُكرِّسوا حياتهم في تخفيف الشقاء والبؤس اللذين يلحقان بإخوانهم في البشرية، فكانوا إذا عجِزوا عن أن يكون لهم قدرٌ فعَّال في هذا النوع من العمل، ساعدوه عليه وشاركوا فيه بما يستطيعون. وقد يظل الخير الذي أسداه هؤلاء الناس وأسماء الكثيرين الذين يسَّروا له المُضي في عمله بفضل ما بعثوا إليه من مساعداتٍ خافية لا يعلم بأمرها إلا القليلون. ولكن كان هذا الخير أعظم أضعافًا مضاعفةً من الخير الذي يستلفت أنظار العالم، وكان يُشبِّهه بالبحر إذ يقارَن بالأمواج التي تصطخب على سطحه. وكان يَعُد نفسه وكيلًا عن أولئك الذين أتاحوا له أن يعمل هنا، وأشعرته هذه الفكرة بضآلة قدره.
فلما تمَّ من المباني ما يكفي انتقل إليها المرضى، وكان الطبيب يقضي طول يومه على ضفة النهر مع المرضى في زوارقهم يتنقَّل من المستشفى القديم إلى المستشفى الجديد، ولما مرَّ بالمستشفى في تلك الليلة مرورَه المعهود ليستوثق من أنهم جميعًا في حالةٍ طيبة، لقي التحيات من وراء ناموسية كل سرير ومن جميع أقارب المرضى الذين اجتمعوا حول أواني الطهي الخاصة بهم: إنه لكوخٌ جيد أيها الطبيب، كوخ جيد جدًّا!
وأسكن هؤلاء القوم لأول مرة في حياتهم كما ينبغي أن يسكن البشر. أجل، سكنوا مساكن تُظِلها سقوف محكمة، تقيهم الجو ويكسو أرضها أديمٌ من الأسمنت بدلًا من الثرى العاري.
وأقبل طبيبان أوروبيان آخران ليشاركا في العمل، وأُضيفت إلى هيئة المستشفى ممرضات أخريات أيضًا، وأصبح من الميسور بعدُ أن يشخَص طبيب إلى المرضى الذين يعيشون بعيدًا ويعجزون عن أن يتحمَّلوا الرحلة الشاقة إلى المستشفى. وكان في الإمكان دائمًا أن يُخلَّى طبيب من العمل فيمضي ومعه العقاقير والأجهزة اللازمة إلى المرضى ليعالجهم في قُراهم.
وترك يوسف المستشفى وقد أوشكت المباني الجديدة أن تتم؛ ذلك أنه لم يكن قد نجح في عمله تاجرًا للخشب، فمضى إلى معسكرٍ من معسكرات الأخشاب ليشتغل عاملًا فيه. وكان فِراقه للطبيب الأكبر أليمًا حزَّ في نفس الرجلين؛ ذلك أنهما ودَّعا بذلك صحبةً استمرَّت منذ بدء العمل في المستشفى. وظلَّ يوسف حتى في عمله الجديد القائم على الاحتطاب يسمِّي نفسه مساعد الدكتور شفيتزر الأول، وكان يطيب له أن يشرح لمستمعيه المَرُوعين في الدَّغَل كيف كان يحقن المرضى بالإبرة تحت الجلد.
فلمَّا سار العمل في يُسر بالمستشفى الذي قام في الموقع الجديد بدأ الدكتور شفيتزر يفكِّر في إجازةٍ هو بها جدير يقضيها بين أسرته في الألزاس مرةً أخرى، وكان يستطيع في هذه المرة أن يرحل آمنًا لعلمه بوجود الأيدي القادرة على النهوض بالعمل في غيبته.
وانطلق رجلٌ يعدو لائذًا بالطبيب حين سمع بأنه مقبل على الرحيل وقال: أيها الطبيب، هل أصدرتَ أوامرك بما يكفل ألَّا يُقدِم أحد على طردي حين ترحل؟
وكان هذا الرجل من المصابين بالأمراض العقلية، حُمل منذ أشهر قلائل مُكبَّلًا بالأغلال؛ ذلك أنه كان قد قتل في سَورة جنونه امرأةً من أهل قبيلته، وردَّ الآن إلى شيءٍ من عقله بحيث أصبح قادرًا على التمشي في ساحات المستشفى، بل لقد بلغ من أمره أنهم استطاعوا أن يُنيطوا به بعض الأعمال الهينة مثل سَن حد الفئوس. وأخذ يقضي حياته هنا هادئًا راضيًا إلا من خوفٍ مُلِح كان يدركه فيجعله يخشى أن يُرَد إلى قريته وإلى المصير الذي كان ينتظره هنالك.
وأجابه الطبيب: كلا بالطبع يانتشامبي؛ فإن أحدًا لا يستطيع أن يطردك إلا إذا تداول معي مداولةً طويلة.
وضغط الرجل على يدَي الطبيب كلتيهما، وفاضت دموع الفرح على خديه الأسمرين.
وبعد ستة أشهر من الانتقال إلى المستشفى الجديد، وقف الدكتور شفيتزر على سطح الباخرة التي كانت تحمله في عودته إلى أوروبا، ومضت الباخرة تسير سيرًا وئيدًا في خروجها من الجون وأشعةُ الشمس تسطع مشرقة، وأخذ الساحل الذي تُوَشِّيه أشجار النخيل يتراجع على البعد.
أجل وقف الطبيب يساوره ذلك الألم الذي يساوره كلما رحل عن مكانٍ أحبَّه، وراح يرقب نهر أوجو وأغصانُه المتشابكة جميعًا تذوي في ثنايا تلك الشقة المخضوضرة من الساحل حتى غاب عن الأنظار، وتلاشت معه أسرار أفريقيا المستوحشة القاسية، ولم يبقَ في ذاكرته إلا جمالها وحُسنها.
وأخذ الطبيب يفكِّر في مبلغ ما يمكن أن يشغف به المرء من حب هؤلاء القوم الذين يعيشون هنا على الرغم من المتاعب التي يلقاها منهم أحيانًا، وقد اضطُر يومًا أن يذكِّر الدكتور نسمان الطبيب الأصغر حين ضاق بفعلٍ مثير أتاه البنجابية وانزعج له: «لسوف تعود يومًا فتنظر إلى هؤلاء القوم أنفسهم نظرةً تنطوي على المحبة وتأسى لفراقك إياهم.»
ولمَّا غابت عن نظره أفريقيا وهو يرقبها من فوق سطح الباخرة ولم يعد يرى إلا الماء، هبط الدكتور شفيتزر إلى أسفل الباخرة لينقل متاعه إلى قُمرته آملًا أن يخفِّف ذلك بعض التخفيف من ألم الفراق الذي كان يساوره.
وكان من بين زملائه في السفر تُجار أخشاب ومبعوثون دينيون من إقليم أوجو، وكانوا هم أيضًا عائدين في إجازة يقضونها بين أسرهم في أوروبا؛ ذلك أن أفريقيا لم تكن في ذلك الوقت مكانًا يأمن المرء فيه على الأطفال الصغار، أو على أولئك الذين لا يُطيقون ذلك الجو المرهِق.
ولحق الطبيب بهؤلاء وهم يجلسون معًا يتحدَّثون عن البلاد التي غادروها وعن أهلها، وكان بعضهم يُحس بالفعل لوعة الحنين إلى هذه البلاد، وأخذ آخرون كانوا قد أقاموا فيها مدةً طويلة ينتقدونها، وراح أحدهم، وهو تاجر أخشاب، يشكو من أنه دفع مبالغ مقدمًا في نظير كتل من الخشب ولم تُسلَّم إليه هذه الكتل قط. وتحدَّث آخر عن قومٍ كانوا يبيعون أطوافًا محمَّلةً بكتل الخشب إلى أكثر من مشترٍ، ويحصلون على مقدَّم الثمن من كل واحد. وتحدَّث الرجلان قائلَين: إنه يحدث في كثيرٍ من الأحيان أن يتسلَّم الشاري الكتل ثم يجدها من صنفٍ قليل القيمة مخالف لِمَا اتفقوا عليه.
وقال رجلٌ من المشترين ظلَّ صامتًا حتى ذلك الحين: إن الوطنيين ليسوا جميعًا سواءً في ذلك، وإني لأعرف تاجرًا يستطيع المرء أن يثق فيه ثقةً مطلقة وهو يعيش في إقليم بحيرة ألومبي، فإذا عقدت صفقةً معه فإنك تستطيع أن تطمئن إلى تسلُّم الخشب، وأن تضمن أن صنفه هو الصنف الذي تمَّ عليه الاتفاق. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هذا الرجل لا يسألك المزيد ثم المزيد من مقدَّم الثمن، بل هو لا يقبل حتى ما يُقدَّم إليه من مال، ويقول لك إنه يفضِّل ألَّا يأخذ أي مال حتى يسلِّم البضاعة.
وقال مبعوثٌ من هؤلاء المسافرين: إن اسم ذلك الرجل هو أويمبو، أليس كذلك؟
فأجاب تاجر الخشب: أجل إن ذلك هو اسمه بلا شك.
وأنصت الطبيب فخورًا إذ اشترك الآخرون في الحديث، وأخذوا يروون ما وقع بينهم وبينه.
وشرع رجلٌ ثالث يقول: «إن لي قصةً أرويها عن هذا الأويمبو: لقد كنت مرةً أركب متن هذه البحيرة في زورقٍ مسطح، وإذا بعاصفةٍ تهب، وكانت الريح مواجِهةً لنا، وبدأنا نفقد كل أمل في بلوغ الشاطئ، وكان كل ما نفكِّر فيه حيال هذه المحنة هو كم يمتد بنا الوقت حتى ينقلب الزورق ويمتلئ بالماء. وكان رجالي جميعًا ممن يعيشون في داخل البلاد، ولم يكن فيهم أحد يستطيع السباحة.»
«وعزَّ عليَّ أن أرجو المساعدة من أهل القرية الواقعة على ضفة البحيرة. وما كان لزورق أن يتحمَّل تلك العاصفة إلا زورق كبير من ذلك الطراز الذي كان يصنعه القوم في الأيام السالفة، ولكن لم يكن أحدٌ بعدُ يصنع زوارق من هذا القبيل، ومن ذا الذي كان يمكن أن يلوم القوم على إحجامهم عن المخاطرة بحياتهم فيركبوا متن زورق مسطح كزورقنا محاولين أن يخلِّصونا من هذه المحنة؟»
«هاكم ما حدث، وتلك هي قصتي مع أويمبو.»
وكان الدكتور شفيتزر يستطيع أن يفكِّر في أشخاصٍ كثيرين آخرين من أصدقائه الأفريقيين يمكن مقارنتهم بأويمبو، وأحسَّ بأن أولئك الرجال أنفسهم الذين آنس فيهم تجارُ الخشب بعضَ النقائص يتصفون بخلالٍ حميدة يمكن للمرء أن يستشفها إذا تجاوز عن الفروق القائمة بين قواعد الأخلاق والعادات من بلدٍ إلى بلد، ورأى حقيقة الرجل المختفية وراء هذا القناع من الأخلاق والعادات، فإن الناس جميعًا يتكشَّفون للمرء الذي أوتي من الحب والصبر ما يتيح له أن يفهمهم.