الفصل الثالث عشر

«إن أعمق التفكير تفكير محدود؛ ذلك أنه إنما يعني بأن تضطرم شعلة الحق التي يُبقي عليها متأجِّجةً بأقوى حرارة وأخلصها، ولا يُعنى بالمدى الذي يبلغه ضياؤها.»

من كتابه: «التفكير الهندي ونموه»

ومن هذا اليوم أصبح للدكتور شفيتزر دائمًا مكانان يستطيع أن يقول إنهما وطنه، ولسوف يظل قلبه بقية حياته مشدودًا بينهما، يساوره تردُّد في أن يرحل عن أحدهما وشوق إلى العودة إلى الآخر.

ومضى إلى منتجعٍ جبليٍّ في الغابة السوداء هو وزوجته وابنته رينا التي كانت قد بلغت حينذاك الخامسة، وغدت في سن تسمح لها بأن تستمع إلى القصص التي يرويها لها عن الحيوانات المتوحشة في المستشفى وتفتن بها. وكانت بعض هذه الحيوانات قد حُملت إلى المستشفى وقد أصيبت بجرحٍ من بندقية صياد، وبعضها قد أصيب باليتم بعد أن قُتلت أمه، وكانت هناك ظباء، وتكلا الخنزيرة البرية، وفيفي النعامة، ورباح، وطائرٌ من طيور البطريق كان يطير باختياره كل مساء ليجثم على الروافد خارج باب الطبيب؛ وكان هناك أيضًا الغوريلا الطفلة التي كانت تتعلَّم آداب المائدة، فتأكل العصيدة بملعقة وتلبس ميدعتها على أحسن حال؛ وكذلك كان نسناستان خبيثتان؛ كندا وأوبي، راحتا تلعبان معًا مندفعتين فوق أشجار المانجو وأشجار النخيل في سرعةٍ عجيبة، صاعدتين هابطتين حتى يُخيَّل للمرء أن هذه الأشجار قد امتلأت بالنسانيس.

على أن «رينا» كانت لا بد أن تنتظر حتى تكبر لتستطيع أن ترى الحيوانات بنفسها، وكانت مثل جميع أطفال الرجال الآخرين، الذين اقتضاهم عملهم أن يذهبوا إلى أفريقيا في ذلك الوقت، لا مناص من أن تبقى في أوروبا حيث الجو أسلم وأصح.

وقضى الطبيب سنتَين حافلتَين وقد طُلب منه أن يحضر أو يُقيم حفلات يعزف فيها منفردًا على الأرغن في السويد والدنمارك وهولاندة وسويسرة وإنجلترة وألمانيا، وفي البلاد التي أُنشئت حديثًا وهي تشيكوسلوفاكيا. وكان كلما سنحت له الفرصة عاد إلى أسرته في الأوقات التي تتخلَّل هذه المشاغل، فيمضي حينًا إلى الغابة السوداء وحينًا إلى الألزاس.

وكانت صحة هيلين شفيتزر قد تحسَّنت تحسُّنًا جعل من الميسور عليها أن تعود إلى أفريقيا مع زوجها، وتركت الصغيرة رينا في عناية بعض الأقرباء، ولكن لم يمضِ على ذلك إلا أشهر قلائل حتى بدأ الجو يثقل على هيلين شفيتزر مرةً أخرى، فلم تجد بدًّا من الرحيل، ولحق بها الطبيب خلال السنة التالية.

وكان في المستشفى آنئذٍ عددٌ أوفر من الأطباء والممرضات؛ فكان خمسةٌ من الأطباء ومثل هذا العدد من الممرضات يتعاونون على العمل. صحيح أنه كان لا يزال ثمة شيء كثير يقتضي التحقيق، إلا أن تحقيقه لم يعد يجاوز طاقة أي منهم. وكان الدكتور شفيتزر عندما يمضي في رحلته إلى أوروبا سنةً بعد سنة، يعلم أن العمل في المستشفى يتم على ما يرجوه.

وفي سنة ١٩٣٢م ألقى خطابًا في فرانكفورت بألمانيا بمناسبة حلول الذكرى المائة لوفاة جوته، وبدأ الطبيب هنالك وسط حشدٍ من الناس ازدحمت بهم دار الأوبرا في الساعة نفسها التي لفظ فيها الشاعر العظيم آخر أنفاسه في الثاني والعشرين من شهر مارس، واستمع إليه الحاضرون مأخوذين وهو يتحدَّث إليهم، مدركين المأساة التي تواجه أمتهم؛ ذلك أنه قد ساورت عقولَ الكثيرين منهم بلا شك أفكارٌ عن زعيم جديد أخذ يظهر في أُفق حياتهم، زعيم لم يكن قد سمع أحدٌ عنه شيئًا منذ قليل، ألَا وهو أدولف هتلر وأنصاره من ذوي القمصان القاتمة، وغشي جموعَ المستمعين شعورٌ بالنذر، وقال لهم الطبيب في ذلك اليوم: «لطالما أُقنع الإنسان بآلاف مختلفة من الوسائل بأن يتخلَّى عن الأسباب الطبيعية التي تربطه بالحقيقة، وأن يلتمس سعادته في صيغٍ سحرية تتصل بعض الاتصال بالشعوذة الاقتصادية أو الاجتماعية، فيباعد ذلك بينه وبين الفرصة المتاحة له لتحرير نفسه من إسار الشقاء الاقتصادي والاجتماعي.»

وقال للمستمعين: إن مأساة هذا النوع الجديد من الشعوذة، ألَا وهي ظهور زعماء في كثيرٍ جدًّا من البلاد: في ألمانيا وفي إيطاليا وفي روسيا، تتمثَّل في أن المرء يُضطر في ظلهم إلى أن يتخلَّى عن شخصيته المادية والروحية، ويعيش عيشة واحد من ذلك السواد من الناس، الذين ابتُليت حياتهم الروحية والمادية بالقلق، ويَدَّعي هؤلاء الزعماء أن لهم السلطان عليه. وهنالك ذكَّر المستمعين بأن ذكرى أخرى من ذكريات جوته ستحل سنة ١٩٤٩م، وهي ذكرى مرور مائتي سنة على مولد هذا الشاعر العظيم، ولكن أي شيء ينتظر أن تتمخَّض عنه تلك السنون السبع عشرة التالية؟ لقد غشي العالم كلَّه آنئذٍ شعورٌ بقَدَر محتوم، ولم يكن أحد يعلم متى وأين تنزل الكارثة.

ومضى الطبيب قائلًا: «أليس من الجائز أن يستطيع هذا الذي سيُلقي خطاب الذكرى في الاحتفال الجديد أن يقول بأن الظلام المدلهم الذي يحيط به قد بدأ ينجاب بالفعل، وأن شعبًا أُوتي الإحساس الصحيح بالحقيقة يسعى الآن إلى أن يُدرك ذلك، وبدأ يحقِّق السيطرة على المطالب المادية والاجتماعية وقد اجتمعت عزيمته على أن يظل وفيًّا للمثل الواحد الحق للإنسانية.»

وأحسَّ الدكتور شفيتزر في عودته من أوروبا إلى أفريقيا بانشغال أعمق من ذلك الذي أحسَّ به في رحلته الأولى سنة ١٩١٣م قبل نشوب الحرب العالمية الأولى.

وقد كتب في ذلك يقول: «إني أختلف تمام الاختلاف مع روح العصر؛ لأنها مفعمة باحتقار التفكير.»

وقال: إن روح العصر لا تحتقر التفكير فحسب، بل هي تشك فيه فعلًا؛ ذلك أن جميع الهيئات السياسية والاجتماعية والدينية المنظِّمة في هذا العصر، تحاول فيما يبدو له أن تصرف الناس عن أن يتخذوا ما يرَونه هم من عقائدَ يصلون إليها بتفكيرهم الخاص، وهي تريد الناس على أن يؤمنوا بمثل عقائدها هي التي صنعتها من أجلهم، فإذا توصَّل أي إنسان إلى أية فكرة بفعله هو فإنه يكون مناوئًا لهؤلاء الزعماء الجدد بل خطرًا عليهم. أجل، إن روح هذا العصر لا تسمح لإنسان أن يكتشف حقيقة ذاته. وهذا الذي كان يحدث خليقٌ بأن يؤثِّر في العالم كله بمرور الزمن.

وكان الدكتور شفيتزر في مستشفاه الأفريقي يستطيع أن يمد بصره ويرى نهر أوجو الساكن تحف به تلك الغابة المهولة المنيعة بخضرتها الرائعة، تغشى الجزيرة، وحافة النهر على الضفة المقابلة، وتنعكس على صفحة الماء القائم. وكانت النسانيس هنالك على البعد تقفز من شجرةٍ إلى شجرة، وتُغفي التماسيح على الضفاف الرملية، وتسف طيور البجع مارقةً فوق الماء كما كانت منذ بدء الخليقة. وكانت الفهود تجوس بعيدًا في الظلام، والفيلة تدب دانيةً من مزارع الموز الصغيرة الخاصة بالمستشفى. وكانت ذبابة تسي تسي لا تزال أيضًا تطير بالنهار منطلقةً تلدغ الناس فتصيبهم بمرض النوم، ويستأنف البعوض هجومه بالليل.

على أن أفريقيا وإن كانت قد ظلَّت على حالها لم تتغير، إلا أنها لم تعد بعدُ منعزلةً عن العالم؛ فقد كانت الطائرات تطير آنئذٍ عابرةً المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، كما أن الطائرات أيضًا كانت تستطيع الطيران إلى أفريقيا، فلما حلَّ هذا الوقت أصبحت الرحلة التي كانت تستغرق في اجتيازها الأدغال أسابيع تُقطع بالطائرات في ساعةٍ واحدة، أو أقل، وأصبحت الزوارق أكثر سرعةً مما كانت عليه سنة ١٩١٣م حين قدم الطبيب إلى هنا أول مرة، وكذلك أصبحت الرحلة من أوروبا إلى أفريقيا تستغرق أربعة أسابيع فقط، وزادت المرات التي يصل فيها البريد.

وأصبح وقت الطبيب في السنوات السبع التالية مقسَّمًا بين أفريقيا وأوروبا. وراح يُعنى بالفقراء والمرضى، أو يُلقي محاضرات أو يقيم حفلات موسيقيةً في القاعات المزدحمة بالمستمعين في أكبر حواضر أوروبا. وكانت زوجته تلحق به في كثيرٍ من الأحيان حين يكون في أفريقيا وتقيم معه بقدر ما تسمح صحتها، ثم تعود لتعيش مع ابنتها في جوٍّ ألطف وأجف.

وكان وطن الطبيب في أوروبا لا يعدو في نظره دائمًا بلدة جونسباخ، حتى بعد أن تُوفي والده، وأخذ يعيش في بيته سُكان آخرون، وشيَّد الطبيب بالمال الذي تلقَّاه من جائزة جوته بيتًا في هذه القرية الألزاسية الصغيرة التي شهدت ذكريات طفولته السعيدة. وكانت شهرته قد ذاعت ذيوعًا جعل الناس يُقبلون عليه من كثيرٍ من البلاد كلما سمعوا أنه هناك.

وكان في هذا الطبيب تواضعٌ غريب في عالم جُنَّ بالقوة والسلطان، وراح زعماؤه يخطرون في عظمةٍ أمام الناس وقد حفلت صدورهم بالنياشين.

فلما بلغ الطبيبُ سن الستين كان يحتفظ بصمته ونشاطه المعهودَين اللذين أباحا له في شبابه أن يدرس ويكتب ليل نهار دون أن يُحس تعبًا أو إرهاقًا.

وقال له صديقٌ مرةً بعد أن ظلَّ الطبيب يعمل حتى الساعة الرابعة صباحًا: «إنك لا تستطيع أن تدأب على تبديد حياتك على هذا النحو كالشمعة تحترق من طرفيها.»

فأجابه الطبيب: «لا، إن المرء يستطيع ذلك إذا كانت الشمعة طويلةً بما فيه الكفاية.»

لقد كان الطبيب رجلًا عاملًا من أصحاب الضمائر؛ فقد كانت كل محاضرة يُلقيها يكتبها في عنايةٍ مضنية، ثم يُراجعها قبل إلقائها جملةً جملة مع مترجم إذا كانت البلاد التي سيُلقي فيها المحاضرة لا تفهم الفرنسية والألمانية. وقد عُرف عنه أنه كان إذا نوى العزف في حفلةٍ موسيقية، أخذ يتمرَّن على العزف قبل الحفلة ثماني ساعات لا يرتاح فيها لحظة، ويروح بمعاونة مساعد يصعد إلى عِلية الأرغن وينزل عدة مرات ليستوثق من الأنغام التي تؤدِّيها أنابيبه المختلفة؛ لأنه ما من أرغنَين اثنين يتفقان في أصواتهما. ثم يشير بالقلم الرصاص على العلامات الموسيقية للقطعة التي سيعزفها، إلى الأنابيب التي سوف يستخدمها، وبذلك يكون أداؤه سليمًا بقدر ما يستطيع.

وقد طُلب من الدكتور شفيتزر مرةً أن يلقي موعظة عيد الميلاد في بلدةٍ من أعمال هولندة، فلم يكتفِ بإلقاء الموعظة فحسب، بل عزف على الأرغن أيضًا. وارتسمت أمارات الوحشة على وجوه الناس حين سمعوا الافتتاحية.

وكان الطبيب قد أنفق دون أن يعلموا عدة أيام في عِلية الأرغن، ينظِّف أنابيبه بنفسه وقد غشيه الغبار وتصبَّب منه العرق.

وكان في برنامج عمله الحافل وقت أيضًا لتأليف كتب أخرى كانت تتم على مهلٍ فصلًا فصلًا، مثل كتاب «صوفية القديس بولس الرسول»، وكتاب «خلاصة حياتي وأفكاري»، وكتاب «عظماء المفكرين في الهند».

وقُدر للدكتور شفيتزر حين بلغ أوروبا سنة ١٩٣٩م في زيارته المنتظمة لها عامًا بعد عام أن يجد خطر الحرب جاثمًا كالسحابة المظلمة فوق هذا الجزء من العالم، فقرَّر أن يعود من فوره إلى أفريقيا دون أن ينتظر حتى ليفك حقائبه ويستوثق من أن المرضى في مستشفاه سوف لا يعانون من العجز في العقاقير والمؤن الطبية. ولم ينقضِ على ذلك شهر حتى كان على ضفاف نهر أوجو.

وجاءت الأنباء بإعلان الحرب التي كان الناس يتوقَّعونها منذ وقتٍ طويل. وكانت زوجة الطبيب وابنته قد عادتا إلى أوروبا قُبيل أن تصل هذه الأنباء إليه، ولكنه ظل مُقيمًا في مستشفاه. واحتاط الطبيب فلم يقبل في المستشفى إلا الحالات الخطيرة، وأخذ يُعيد جميع المرضى الذين لا تُنذر حالتهم بخطرٍ شديد إلى قراهم ليُعالَجوا فيها، وبذلك أصبح من المنتظر أن يكفيه ما ادَّخر من العقاقير سنتين على الأقل.

ولم يكن الأفريقيون الذين سيقوا إلى القتال في الحرب العالمية الأولى يتحدَّثون عنها بعد عودتهم إلا قليلًا، وقد كان يبدو عليهم الجد والصرامة وكأنما قد أثقلت عليهم خبرتهم بها إثقالًا شديدًا حتى عجزوا عن أن يحملوا أنفسهم على التفكير فيها.

وكان مريضٌ من مرضى المستشفى قد قال للدكتور شفيتزر: «لقد طلب مني القوم في القرية أن أحدِّثهم عن الحرب، ولكنني لم أستطع، ولو قد حدَّثتهم عنها لَمَا فهموني. لقد كانت فظيعةً غاية الفظاعة، بشعةً أشد البشاعة.»

وها هي ذي الحرب العالمية الثانية قد أتت بهذا الرعب إلى أفريقيا، ورآه القوم بأعينهم؛ فقد تقاتلت جنود الجنرال ديجول وجنود حكومة فيشي من أجل الاستيلاء على لامبارينيه. وأصدر قُواد الطرفين الأوامر لرجالهم بوجوب قذف المستشفى القائم على بعد ميلين ونصف الميل من البلدة بالقنابل. على أن جدران مباني المستشفى كان لا بد أن تُدعم بالحديد المموَّج لحمايتها من القذائف الطائشة الكثيرة التي كانت تتجه ناحيتها.

وبانتصار جنود ديجول انقطع هذا الإقليم عن فرنسا وعن سائر أوروبا، ولكن السفن الخارجة من أمريكا وإنجلترة كانت تتخذ طريقها من حينٍ إلى حين إلى الساحل الغربي لأفريقيا.

وقد حدث مرةً حين أوشك زاد المستشفى من العقاقير أن ينفد أن أتت من أهل أمريكا هبة لم تشمل العقاقير التي كان المستشفى في مسيس الحاجة إليها فحسب، بل شملت أيضًا أشياء كأدوات الطهو الجديدة اللازمة للمطبخ، والنظارات، والأحذية، واللبن المجفف، وزيت كبد الحوت، وغير ذلك من الفيتامينات اللازمة. وتوالى فك مغاليق الصناديق، وكانت صيحات الفرح تنطلق في كل مرة. وكان من بين الأشياء التي نالت ترحيبًا خاصًّا زوجٌ من القفازات المصنوعة من المطاط تُناسب يدَي الطبيب؛ ذلك أنه كان قد قضى عدة أشهر يضع في يديه قفازات أصغر ممَّا يناسبه كثيرًا وهو يُجري الجراحات.

وحاولت هيلين شفيتزر أن تعود عن طريق البرتغال سالكةً طريقًا ملتفًّا يجتاز تلك المستعمرات البرتغالية والبلجيكية في أفريقيا لتساعد زوجها. وظلَّت أربع ممرضات مُخلصات يعملن في المستشفى طوال الحرب.

فلمَّا بلغت الأنباء مُعلنةً انتهاء الحرب في أوروبا، كان بلوغها في ساعة الراحة بعد وجبة الغداء، وكان الطبيب جالسًا إلى منضدته يكتب رسائل هامةً يريد أن تلحق المركب النهري قُبيل الساعة الثانية. وأقبل رجلٌ أوروبي كان يستمع إلى جهاز إذاعة من الأجهزة التي تُحمل في اليد يزف الأنباء إليه. وأتم الطبيب رسائله ثم نزل إلى عنابر المستشفى حيث كان الأمر يتطلَّب وجوده. ولم يسمح لنفسه بأن يتوقف عن العمل ويفكِّر في مغزى انتهاء القتال في أوروبا إلا عندما حلَّ المساء، وقُرع جرس المستشفى لإعلان تلك الأنباء الطيبة، فساد السرورُ بين هيئة المستشفى والمرضى، ولكن الطبيب الذي خلا بنفسه في غرفته تناول من الرف كتابه الصغير الذي يشتمل على أقوال لاوتسي المفكر الصيني العظيم الذي عاش منذ نيف وخمسة وعشرين قرنًا. وداعب نسيمٌ عليل أشجارَ النخيل خارج نافذته وهو جالسٌ يقرأ في هدوء:

«إن الأسلحة أدواتٌ مدمرة لم تُخلق لإنسانٍ نبيل، ولا يستخدمها إلا ذلك الذي لا يستطيع أن يفعل شيئًا آخر؛ فالرضا والسلام أسمى ما يصبو إليه، صحيحٌ أنه يغزو البلاد، ولكنه لا يجد في النصر سرورًا ولا متعة؛ فإن من يطربه النصر، يطربه القتل. ولا مناص للقائد في الاحتفال بالنصر أن يتخذ مكانه، كما جرت العادة، في حفلات الجنائز. وإن تقتيل البشر حشودًا يجب أن تُذرَف من أجله دموع الرحمة؛ ولهذا يجب على من ينال الظفَر في موقعة أن يَعُد نفسه كمن يمشي في موكب جنازة.»

وبعد عشر سنين قضاها الدكتور شفيتزر في أفريقيا دون أن ينعم براحةٍ أو تغيير للجو، لحق بأسرته في الغابة السوداء بألمانيا، ثم في سويسرة حيث كان يقيم فيها أربعة من أحفاده ينتظرونه لتحيته.

وكانت شهرته تنتشر باطرادٍ بمرور السنين، وكما أحس الموسيقيون وأهل العلم الذين انصرفوا إلى دراسة الفلسفة أو اللاهوت بحاجتهم إلى الرسالة التي كتب على نفسه أن يؤديها، كذلك أحس بها عالَم بأسره أنهكته الحرب.

«إن الفكرة الأساسية في الخير هي أنها تقوم بالمحافظة على الحياة ورعايتها والرغبة في البلوغ بها إلى أسمى قيمها، والشر يقوم بتدميرها وإلحاق الضرر بها والحيلولة بينها وبين النمو.»

وبدأ الناس من بلاد خارج أوروبا يطلبون منه أن يأتي إليهم، وجاءته الطلبات من أمريكا وأستراليا ومن الشرق. وقبل الدكتور شفيتزر دعوةً وُجِّهت إليه للتحدث في إسبن من أعمال كلورادو بمناسبة حلول الذكرى المائتين على ميلاد جوته. وأقبلت حشودٌ من جميع أرجاء هذا الإقليم إلى هذه البلدة الصغيرة من بلدان الغرب في أمريكا للاستماع إليه. وبينما كان الطبيب يتحدث بلغة قومه أخذ مترجم يكرِّر كلماته جملةً جملة.

وكان بين عدد كبير من المستمعين تآلفٌ كامل في الأرواح، حتى لقد بدا أنهم يتتبَّعون المعاني التي عبَّر عنها لا بواسطة المترجم فحسب، بل عن طريق كلامه هو نفسه أيضًا بلسانٍ لا يعرفونه.

وقد قال الطبيب حين حدَّثه بذلك من بعدُ واحدٌ ممن كانوا يستمعون إليه: أجل إن هذا هو ما يحدث في كثيرٍ من الأحيان بين أناسٍ يتحدَّثون بلغاتٍ مختلفة. وقد لمستُ ذلك الفهم عدة مرات يقوم بين المواطنين في أفريقيا وبيني دون أن نحتاج إلى كلام.

وقليلٌ من الناس من يستطيعون أن يقاوموا إغراء التملُّق والثراء اللذين يقترنان بالشهرة، ولكن الدكتور شفيتزر آثر أن يعود في هدوء إلى مستشفاه بأفريقيا ليمضي في العمل الذي بدأه. ووقوع هذا له جعل الناس ينظرون إليه في عجبٍ ودهشة، وانهالت عليه الرسائل من آلاف الناس عن طريق مكتب البريد في لامبارينيه، وتأثَّر الطبيب في تواضعه بهذا الفضل وحاول أن يرد على هذه الرسائل جميعًا بنفسه، وإن كان ذلك خليقًا بأن يقتضيه مواصلة العمل حتى ساعةٍ متأخرة من الليل على ضوء مصباح يُضاء بالزيت.

وحدث ذات مساء من أمسيات خريف عام ١٩٥٣م أن أقبل مساعد شاب من مساعديه إلى الغرفة التي كان الدكتور شفيتزر جالسًا فيها مكبًّا على الكتابة، وقطع عليه عملَه ليُنبئه بما سمعه في التو واللحظة من الراديو الصغير الخاص به: لقد مُنح الطبيب وشيكًا جائزة نوبل للسلام عن السنة الماضية. وتلقَّى الطبيب هذه الأنباء في سكون، ووضع قلمه في مكانه وغطَّى وجهه براحتيه دون أن ينطق بكلمة.

وكان المجذومون في هذا الجزء من أفريقيا هم الذين أفادوا من هذه المنحة، وأنفق الطبيب المال الذي أتت به الجائزة مضافًا إليه مبلغ آخر مثله تبرَّعت به النرويج في إيواء ثلاثمائة مريض من مرضى الجذام. وكان في الإمكان بفضل العقاقير الحديثة أن يُشفى الجميع، وقد شُفوا وعادوا آخر الأمر إلى قُراهم، ولكنهم كانوا قد زُوِّدوا أثناء نقاهتهم وفترة الملاحظة التي أعقبت نقاهتهم بمساكنَ متينة جيدة البناء ليعيشوا فيها، وكانت بهذه المساكن غرفة حديثة للفحص والعلاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤