الفصل الرابع عشر
«ما أسعد أولئك الذين قُدِّر لهم أن يقضوا سنوات العمل في بلوغ غايات أسمى من السعي والانتظار! وما أسعد أولئك الذين يستطيعون أن يبذلوا أنفسهم صادقين لا يضنون بشيء!»
جلس بين رُكاب قطار ذاهب من القناة الإنجليزية إلى لندن في يومٍ من أيام أكتوبر رجلٌ هادئ أشيب الشارب تشوب كتفَيه انحناءةٌ خفيفة نتجت من إدمانه الجلوس إلى مكتبه، وكان يرتدي سترته النظيفة السوداء في إهمال كأنما قد نسيها بمجرد أن لبسها، وكان إذا خلع قُبعته انساب شعره الأبيض متهدِّلًا على جبينه، وإذا تحدَّث إلى رفاقه تحدَّث بالألمانية في نبراتٍ عذبة لا تشوبها تلك الأصوات الحلقية الغليظة.
وكان إذا نظر إليه عرضًا أي راكب من ركاب الدرجة الثالثة لكان خليقًا أن يظن في يسرٍ أنه رجل من مرتبته، ثم يعود إلى القراءة في جريدته أو يُطل من النافذة على المناظر الطبيعية التي كانت تتحرك في سرعةٍ وعجلة.
وزحف القطار داخلًا محطة لندن، ولمَّ الرجل الأبيض الشعر متاعه في نشاط نمَّ عن روحه الشابة. وعندما خطا هابطًا من القطار نظر الركاب الآخرون الذين كانوا قد تلبَّثوا خلفه أمامهم في عجب؛ إذ رأوا هذا الرجل البريء من الفضول يُحيط به المُخبِرون والصحفيون والمصوِّرون الذين كانوا قد اندفعوا مهرولين إلى المكان الذي وقفت عنده عربات الدرجة الأولى، وانطلقوا يُشعلون مصابيح الإضاءة أمام عدساتهم ليُصوِّروه ويوجِّهوا إليه الأسئلة مدونين الإجابة عنها في دفاترهم. تُرى من هذا الرجل الذي كان راكبًا معهم ملتزمًا الهدوء في عربة الدرجة الثالثة؟ ولربما كان بعض الركاب غيرهم ممن أنعموا النظر فيه قد تذكَّروا ما كان يشوب عينيه من تعبيرٍ يمتزج بقوةٍ وذكاء وشفقة ودماثة ميَّزته عن الركاب الآخرين.
وكان الدكتور شفيتزر قد وصل إلى لندن ليتلقَّى وسام الجدارة، وهو أرفع وسام في البلاد التي أنعمت به عليه الملكة إليزابيث. وكان الشخص الآخر الوحيد الذي حظي بهذا الشرف من الأحياء باستثناء رعايا بريطانيا العظمى هو الرئيس دوايت د. أيزنهاور.
فلمَّا أُعلِن نبأ اعتزام الدكتور ألبرت شفيتزر أن يزور لندن، تلهَّفت أفخر الفنادق على استضافته، ولكنه آثر أن يُقيم في بيت صديقٍ قديم له من الألزاس كان قد عرفه في شبابه، وكان لهذا الصديق قاعة شاي في لندن، وما إن انتشرت الأنباء بأن الدكتور شفيتزر كان يقيم هناك حتى ازدحم الناس عليها لتكريمه.
وكان من بين المُقبلين من غير هؤلاء الفيلسوف برتراند راسل، وقد حقَّق الفنان أغسطس جون مطمحًا من أعز أطماحه؛ إذ استطاع أن يلقى الطبيب ويرسم صورةً له.
وكان تعليق الفنان على جلوس الطبيب إليه جِلسةً شابها كثير من المقاطعات حين سأله المخبرون الصحفيون: «لقد جلس حقًّا كالحجر.»
وفي التاسع عشر من أكتوبر مضى سفير فرنسا إلى قاعة الشاي الصغيرة راكبًا سيارة ليموزين سوداء متألقةً ليصحب الطبيب معه إلى قصر بكنجهام ليتلقَّى ذلك الوسام.
فلمَّا انتهت الحفلات الرسمية جلست الملكة الشابة تتحدث مع الدكتور شفيتزر مشوقةً إلى الاستماع إلى ما فعله بين المواطنين في أفريقيا.
وأقام له بعد ذلك السير أنطوني إيدن رئيس الوزراء مأدبة غداء، ومنحت جامعة كمبردج الدكتور شفيتزر درجة الدكتوراه الفخرية في القانون.
وقال متحدث الجامعة في خطاب تقديمه الذي ألقاه باللاتينية:
لقد كان بلا ريب خليقًا بأن ينال أسمى آيات الشرف بين العلماء لو لم يؤثر أن يلبي دعوة الرب ودعوتنا، ويستمع إلى صوته إذ أوصى حوارييه بأن يشفوا المرضى ويُطهِّروا المجذومين ويجودوا بما عندهم في سخاءٍ كما تلقَّوا النعم بسخاء. ولْنتوسل بكل ما وسعنا من أسبابٍ خليقة بجامعة في الثناء على الطبيب العظيم، وتبجيل كاتب نابه، والتعبير عن شكرنا لعازف موسيقى موهوب، ولْنحيِّ بكل تواضع هذا الجندي المخلص من جنود المسيح؛ إذ نرى فيه مثالًا للبِر المسيحي، تبقى ذكراه على الأيام.
وقد أُسبغ هذا الفضل على الرجل الذي بقي على مر السنين أمينًا على القرار الذي اتخذه وهو تلميذ صغير؛ بألَّا يسمح لنفسه أن «يتوقَّر بحكم السن»، ولا أن يخجل قط من أحلام الشباب. وظل الدكتور شفيتزر وهو في سن الثمانين يحتفظ بالمثل والحماسة التي اتصف بها وهو صبي حينما نظر في رحمةٍ إلى جواد عجوز يُساق إلى المجزر، وحينما فرَّق الطيور ليحميها من حجارة مقلاع صاحبه. وكان وهو في سن الثمانين أيضًا كدأبه يأبى أن يضع نفسه فوق غيره من الناس، كما أبى وهو في سن الخامسة أن يلبس ملابس لم يكن يستطيع صبيان القرية أن يلبسوها.
وكانت بعض المسئوليات خليقةً بأن تلازم شهرةً كشهرته؛ فكان كلما أقام في بيته بجونسباخ شعر بأن تلك القرية الهادئة الصغيرة لم تعد كحالها في الأيام الخالية؛ إذ لا يكاد الناس يعرفون أنه قد وصل إلى هناك من أفريقيا حتى تأخذ حشودهم تترى على القرية حاجَّةً إلى بيته لتراه وتتحدَّث إليه.
وكان أصدقاؤه يستحثونه في كثير من الأحيان قائلين: «يجب ألَّا تحاول أن تراهم جميعًا ادخارًا لقوتك.»
ولكن الطبيب أبى أن يُصغي إليهم بما عُرف عن الألزاسيين من عناد، فكان لا يرد أحدًا خائبًا، فتنتظر السيارات الخاصة وسيارات الأجرة والدراجات البخارية والدراجات خارج بابه الذى يُطل على الشارع المؤدي من جونسباخ إلى مونستر. وكان بعض هؤلاء الناس قد أتوا من بلاد بعيدة ليحظَوا بنظرة إلى هذا الرجل العظيم. وأقبلت ملكة بلجيكا الأم لتزوره كما كانت تفعل في كل مرة يعود فيها الطبيب إلى أوروبا. وأقبلت أيضًا السيدة بانديت من الهند، وكذلك كان يُقبل عليه الأطباء والموسيقيون وأساتذة الجامعة ورؤساء الحكومات وطلبة من أمريكا حائزون على منحة فولبرايت، وسُياح ممن قرءوا كُتبه أو استمعوا إلى عزفه في قاعات الموسيقى أو عن طريق الفونوغراف.
كان يُصر على أن يرى هؤلاء جميعًا من فلاحين وقرويين وعلماء وعمال بسطاء، كانوا جميعًا يُقبلون أثناء النهار سواء كانوا من المعروفين أو من غير المعروفين. وكان بعضهم يريد مساعدة، وبعضهم يحمل إليه هدايا بسيطةً من الأزهار أو الفاكهة.
وكان في الطبيب شيء يجعل كل امرئ يتحدَّث معه يُحس بأهميته عندما ينتهي من لقائه، وكأنما انتقاه هو بالذات دون الآخرين، واهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بكل ما قاله هذا الشخص وفعله.
وبدأ الطبيب — بعد زيارة لأوروبا استغرقت ستة أشهر — يدبِّر أمر العودة إلى مستشفاه في أفريقيا. وكان آخر مبنًى في قرية المجذومين قد أوشك على الانتهاء، وود الطبيب أن يرى كيف يمضي العمل فيه، ثم إن الأمر كان يقتضي أن يُستخلَص الدَّغَل من بستان الفاكهة الذي كان أهل الغابة لا يكفُّون قط عن ادعاء ملكيته. وكان ينتظره أيضًا المرضى الذين كانوا لا يزالون يُقبلون على المستشفى، فتأتي الزوارق كل يوم صاعدةً إلى المرسى، وقد حمل الأصحاء فيها مرضاهم. وكان بعض المرضى يظلَعون وهم يرقون المنحدر بفعل قروحهم المؤلمة، وأقبل البعض الآخر يترنَّحون من الجروح التي أُصيبوا بها في قتال، أو أنزلها بهم وحش مفترس. وكانت الأمهات يجلبن أطفالهن وقد ألهبت الحمى أجسامهم، وربطنهم في حنانٍ وأمان على ظهورهن، وكان ينتظره فوق ذلك اليتامى والعجائز المشردون بلا مأوًى ولا نصير.
وما أكثر الرحلات التي قام بها في السنين الماضية آتيًا من ساحل أفريقيا الغربي ومصعدًا في نهر أوجو، وكان في بعض الأحيان يصل إلى بغيته بالنهار فيستطيع أن يقف فوق سطح الباخرة وعيناه تبحثان في شوقٍ على طول الضفاف تحف بها أشجار النخيل، آملًا في أن يحظى بالنظرة الأولى إلى لامبارينيه، ويرى الشمس تتألق كالعُملة الذهبية على صفحة الأمواج، وتقفز من حينٍ إلى حين سمكة كبريق الفضة ثم تختفي، أو تمضي حيةً من جانب الماء في لون الرصاص منسابةً لا تلقي بالًا لكل ما حولها. وتمر الزوارق المنحوتة من كتل الخشب رائحةً غادية، لا تزعجها أفراس النهر ولا التماسيح إلا إذا بلغت الأماكن القاصية، حيث تقوم القرى نائيةً على البعد.
«إن الزورق الذي يحمل الطبيب الأكبر قادمٌ إلينا.»
وقضى الطبيب عيد ميلاد سنة ١٩٥٥م في الباخرة بين بوردو وثغر جنتيل، وكان الإكليل الأخضر الكبير الذي عُلق فوق مائدة الطعام في المستشفى قد رُفع جافًّا هشًّا، وقد احترقت الشموع حتى أطرافها قُبيل أن يصل الطبيب إلى المستشفى، على أن احتفالًا آخر لم يلبث أن حلَّ أوانه؛ ففي ١٤ من يناير كان يُحتفل بعيد ميلاد الدكتور شفيتزر الواحد والثمانين في كثيرٍ من أنحاء العالم، بالمحاضرات والحفلات الموسيقية أو المواعظ. أما المستشفى بلامبارينيه فلم يخرج الاحتفال بعيد ميلاده عن أعياد الميلاد التي كانت تُقام لبقية الأفراد من هيئة المستشفى.
وقد اجتمع زملاء الدكتور شفيتزر في العمل أمام بابه في منتصف الساعة الثامنة قبل أن يدق جرس الإفطار تمامًا، وأقبلوا من جميع الاتجاهات مرتدين ملابسهم البيضاء وخوذاتهم الكبيرة كأنهم نباتات عش الغراب الطويلة الساق تسير على قدمين. أجل خرجوا من عنابر المستشفى حيث كان الأطباء والممرضات يعملون منذ دق الجرس الأول مع شروق الشمس، ومن قرية المجذومين، ومن خارج المطبخ، ومن غرفة الغسيل، ومن ذلك الجزء من الحديقة الذي يُطل على ضفة النهر، وراحوا يُنشدون الأناشيد متمنين له عيد ميلاد سعيدًا، ثم دخلوا غرفته ليصافحوه.
وكانت هذه الغرفة صغيرةً لا تتسع لهم جميعًا في وقتٍ واحد. وكانت أيضًا كسائر غرف هيئة المستشفى والضيوف، بعيدةً عن الفخامة بسيطة الأثاث، لا يغطِّي أديمها شيء، وقد خلت كراسيها الخشبُ المستقيمة من الوسائد. وكانت الكلة مسدلةً على سريره الحديدي وقد تكوَّمت في الغرفة على منضدتين أكوام عالية من أعمال تنتظر البت فيها. وكان البيانو المخطط بالمعدن يشاهَد من بابٍ مفتوح في طرف غرفة انتظار صغيرة، وفي الطرف الآخر حظيرة للظباء الوليدة.
وخرج الطبيب وهيئة المستشفى معًا إلى بهو الطعام الكبير مجتازين الفناء. وكان يزيِّن مقعدَ الطبيب القائم في وسط المائدة الطويلة نصفُ دائرة من الأغصان الخضراء تستكن فيها شمعتان مضيئتان، والتفَّتْ بالطبق أكوامٌ من الهدايا المقدَّمة إلى الطبيب من أفراد هيئة المستشفى. كانت هدايا بسيطةً بساطة حياة الطبيب، من ذلك الطراز الذي يمكن للمرء أن يصنعه في أوقات فراغه أو يشتريه من المحلات التجارية في لامبارينيه.
وقال الطبيب «هلم» حين كانت الهدايا يُحل رباطُها، ويشكر كلًّا بدوره على ما قدَّمه؛ فقد كان اليوم يوم سبت وأمامهم عمل يتطلَّب الأداء. وتناول المحتفلون إفطارهم من الخبز المخمَّر باللوز، والمخبوز في الفرن المصنوع من الآجُر، وكان بين أصناف الطعام أيضًا مربى مصنوعة من فاكهة المنطقة الحارة التي استُنبتت في أراضي المستشفى، وزيد على ذلك بمناسبة الاحتفال زبد محفوظ كانت قد أرسلته لهم الدنمارك، ولبنٌ مجفف من أمريكا ليُمزج بالقهوة الأفريقية.
وقد دق الجرس مرةً أخرى في الساعة الثامنة لرصد الحضور والغياب وتقسيم العمل، وكان ثمة وجوهٌ جديدة لم تكن موجودةً في المستشفى قبل ذلك بستة أشهر حين غادر الطبيب أفريقيا إلى أوروبا، ووجوهٌ أخرى غابت عن الأنظار؛ ذلك أن عُمال المستشفى كانوا يُجمَعون من بين أولئك الذين قدموا في صحبة مريض من أسرتهم أو قبيلتهم، أو من المرضى أنفسهم الذين استردوا صحتهم بما يسمح بتكليفهم بالأعمال الهينة.
وهتفوا مخاطبين الطبيب وعلى وجوههم ابتسامات عريضة: «موبولو، دكتور.»
وكان المشهد المعهود الذي يراه المرء في الفناء قد تغيَّر قليلًا على مر السنين، فراحت الكلاب والقطط والبط الأفريقي الأسود والأبيض تنبش في الأرض الرطبة بحثًا عن الديدان، وأخذت الببغاوات تُصفِّر وتنطق بكلماتٍ من لغاتٍ مختلفة كانت قد سمعتها، وانطلقت نعامةٌ صغيرة تتقلَّب رأسًا على عقب وتتأرجح على أسياج ظُلة البيت كأنها طفلٌ خبيث. وانبعثت الظباء تدس أنوفها السوداء الندية خلال أسلاك حظيرتها متطلعةً في فضول.
ومضى بعضُ الذين أقاموا في المستشفى مدةً أكثر من غيرهم إلى النهوض بالأعمال التي خُصصت لهم في هدوء، وكانوا يلبسون سراويل كاكيةً نظيفة وقمصانًا ومرايل زرقاء من القطن الخشن، وقد التفَّت الضمادات بعقب أو رسغ فحسب، دالةً على أنهم كانوا قدموا إلى المستشفى من قبلُ للعلاج.
على أنه كانت تبدو على أولئك الذين وفدوا إلى المستشفى أخيرًا أمارات الحيرة؛ فقد كان تكيُّفهم بالنظام فيه يقتضي وقتًا.
وكان المرء يشاهد في المستشفى ذلك الحشد المعهود من الأردية الملوَّنة على اختلاف الأصناف والأشكال، كما كان العهد في أول إنشائها، يشاهد أقمشة مانشستر المطبوعة الزاهية ملتفةً ثنيات ثنيات حول الأجسام، والملابس الفضفاضة وقد غدت الآن مِزَقًا، ومآزر التفَّت على أجسامٍ شبه عارية لأناسٍ أتَوا من أعماق البلاد. وكانت وجوه بعض هؤلاء قد وُشمت بشارات قبائلهم، وقد سنَّ كثير منهم أسنانهم تتوسَّطها سن واحدة مكسورة.
ونودي اسم، فكان الرد «ووه» يلفظ به كل منهم وهو يتقدم خطوةً إلى الأمام، وتناول بعضُهم المعازق ومضَوا للعمل في حقل الخضر، وتناول بعضُهم بلطًا ومناجل ليجتثُّوا بها الكلأ الذي لا يكف عن الزحف، وأخذ بعضهم يُعاوِن على البناء والطلاء والإصلاح أو التنظيف، وكان بعضهم قد خُصص لهم أعمال هينة يستطيعون أن يؤدوها وهم جالسون؛ مثل جدل مظلات الخيزران لحماية النبيتات في الحديقة من الشمس والمطر.
واستدار الطبيب وهبط إلى عنابر المستشفى، وكان هناك أيضًا وجوهٌ جديدة لم يرَها منذ ستة أشهر، ومرضى جدد يحلون محل أولئك الذين شُفوا وعادوا إلى قراهم. كانوا يرقدون في أسِرتهم يعانون الحمى والآلام بالصبر والاحتمال اللذين نشأ عليهما جميع المخلوقات التي تعيش حياةً قريبة من الفطرة. وأخذ الطبيب يتنقَّل من سريرٍ إلى سرير يواسي كل مريض بكلمة، وكان يدرك بعينه اللمَّاحة المجرِّبة الفرص المتاحة لكل منهم في الشفاء.
ومرَّ بغرفة حضانة الأطفال بستائرها النظيفة البيضاء المصنوعة من الموصلي، وقد زُينت حوائطها برسوماتٍ تمثِّل الفيلة والنسانيس والزراف، خطَّتها يد ممرضة من الممرضات. ومن ثلاثة أسفاط حملقت فيه ثلاثة أزواج من أعينٍ سوداء واسعة، وأخذت أرجلٌ صغيرة ربلة ترفس في الهواء بأقدامها وتنبش بأصابعها راضية هانئة. وكان هؤلاء هم المواليد اليتامى الذين زُوِّدوا بأول زاد صحي يكفل لهم مواجهة الحياة آمنين.
وكان يوسف قد عاد آنئذٍ إلى المستشفى، وإن كان لم يعد إليه عاملًا من العمال، وقد كانت له غرفة خاصة به قرب النهر يستطيع منها أن يُطل عبر المجرى الفرعي إلى قرية الجالوا التي كانت وطنه في يومٍ من الأيام، صحيح أنه كان أصغر سنًّا من الطبيب، إلا أن الأيام التي كان يمكن أن يكون فيها ذا نفع قد ذهبت؛ ذلك أن زوجته التي ظل يقتصد مدةً طويلة ليشتريها قد ماتت، وكبر أولاده جميعًا وتزوَّجوا، كما كان قد أنفق منذ وقت طويل المال الذي تلقَّاه مهرًا لبناته، وأصبح لابنه أسرة يتولَّى أمرها.
كان يوسف قد أقبل ليُمضي أيامه الأخيرة في ذلك المكان الوحيد الذي يمكن أن يؤويه ويُعنى به.
وكان أويمبو قد عاد مريضًا قبل ذلك، فما إن شُفي حتى عاد إلى قريته المطلة على البحيرة، وكانت الصداقة بينه وبين الطبيب قد استمرَّت على مدى السنين.
وكان من بين هؤلاء القوم أصدقاء قدماء آخرون، حيَّوا الطبيب وهو يتسلَّق التل إلى مستعمرة المجذومين؛ ذلك أن المرضى في هذه القرية كانوا يُستبقَون مدةً أطول من غيرهم للتثبُّت من أن المرض لن يعاودهم.
وكانت عبارة «موبولو، دكتور» وعبارة «صباح الخير أيها الطبيب» تنبعثان من كل جانب.
وكان ممَّا يبعث السرور في النفس أن يراهم المرء يعيشون في عمائرَ جيدة البناء تدرأ عنهم المطر وشمس المناطق الاستوائية، ويأنس منهم نظرةً تنطوي على العزة والوثوق بالنفس، لا يجدها في القرى التي ينام أهلها على حصيرٍ من القش المجدول فحسب، بُسِط على أديم أرض قذر، تزحف إليه الحيات والحشرات، وتتسرَّب أمطار الليل.
وكانت اللمسات الأخيرة تُدرك آخر المباني، ومضى الطبيب يقوم بجولته التفتيشية يتنقَّل من مكانٍ إلى مكان في خفة رجل يبلغ نصف عمره.
وكانت طائفة من الأطفال تتمرَّن على الأناشيد التي تُنشدها يقودها مدرِّسها الباهويني والأم هيلين، وأقبلوا صفوفًا هابطين التل إلى نوافذ بهو الطعام أثناء وجبة الظهيرة ليحيوا الطبيب الأكبر في عيد ميلاده. وانطلقت أصواتهم الغضة تتغنى بالألحان الأوروبية القديمة المعهودة، تشوبها كلمات قصيرة متقطعة من لغاتهم هم.
وأعقبت الغداءَ ساعةُ راحة ثم استؤنف العمل مرةً أخرى كما هي الحال دائمًا، وأقبل موبولو الذي كان يُترجم عظات يوم الأحد للجالوا من الزورق، يحمل أكياس البريد التي كان قد أتى بها من مكتب بريد لامبارينيه، ولكن الطبيب كان غائبًا في البساتين، أو قل إنه كان يعمل في قرية المجذومين، أو بين المرضى في عنابر المستشفى، ولم يكن يستطيع أن يتصرَّف في وقته على ما يهوى حتى يدق جرس المساء.
والنهار ينتهي سريعًا كما يبدأ بالقرب من خط الاستواء. وما إن تختفي الشمس وراء الأشجار في الأفق الغربي حتى تنبعث الببغاوات النحيلة الرمادية بريش ذيلها الأحمر الزاهي تصيح وتصفِّر عائدةً إلى وُكُناتها. وتحتشد طيور النساج في الأغصان المورقة لشجرةٍ من أشجار القرفة، وتستكن طيور الماء في جزائر البردي مسقسقةً من حينٍ إلى حين سقسقةً يغلبها النعاس. وتأتي لحظة تصطبغ فيها السماء بلونٍ بهيج برتقالي وأحمر قانٍ «ناري» وذهبي، فتتألَّق على صفحة الماء تألُّق الوسام، ثم يحل الظلام فجأةً وينبعث أزيز الحصاد والضفادع والكلاب الطائرة مطلقةً سقسقتها ونقيقها ولقلقتها التي كفَّت عنها عند ظهور الفجر، ويقترن ذلك من حينٍ إلى حين بنعيب البومة المرتجف أو صراخ نسناس من النسانيس.
وكانت نيران الطهي تتوهَّج على طول الدهاليز الممتدة المنخفضة لأبنية المستشفى كأنها فوانيس القرع، وهي النيران التي يُعِد عليها أُسَر المرضى وجبة العشاء. وكانت تسري في الجو ثرثرة مُطَّردة إذ أخذ بعض القوم يضحكون وبعضهم يصيحون في كلماتٍ غاضبة، وبعضهم ينشدون أغنيةً وطنية ترتفع أنغامها أولًا ثم تنخفض كأنها طيور تشدو. ويصيح من حينٍ إلى حين طفلٌ أو يسعل شخص أو ينبعث من داخل عنبر من العنابر أنين مريض يتوجَّع.
وكانت المصابيح الزيتية قد أُضيئت في رواق الطعام، والتقى الطبيب بهيئة المستشفى لتناول العشاء، وكان من بين هؤلاء بعض المساعدين المخلصين الذين ظلوا يعملون معه عدة سنين، يعودون إلى المستشفى مرارًا وتكرارًا بعد غيبة، في إجازةٍ يقضونها في أوطانهم، وكان من بينهم أيضًا شباب يَنشُدون المُثُل العليا، قد زهدوا في النجاح المادي، كما فعل الدكتور شفيتزر منذ نصف قرن تقريبًا، ولم يكن من المنتظر أن يظلوا معه جميعًا، إلا أنهم كانوا أحرياء بأن تزداد حياتهم خبرةً مهما كان من أمر المستقبل الذي ينتظرهم.
«إن إنسانيتنا لا تبلغ من المادية بحالٍ المبلغ الذي يدأب الحمقى في حديثهم على إثباته.»
«إني لأتطلع إلى المستقبل في هدوءٍ وتواضع …»
وكانت قد مضت خمس وعشرون سنة منذ كتب الدكتور شفيتزر هذه الكلمات، وها هو ذا في الواحدة والثمانين من عمره؛ إذ يمضي في العمل يقرأ ويرد على الرسائل أو يتناول الكتاب الذي كان يكتب فيه، مرهف السمع لا يند عن أذنه شيء، فإذا انبعث صوتٌ من النهر أدرك أن زورقًا من الزوارق مقبلٌ إلى المرسى يحمل مريضًا يحتاج إلى العناية، وإذا سمع وقع أقدام في الممشى أدرك من ذلك أن ثمة رسالةً إليه تقتضي أن يهبط إلى عنبر المستشفى.
«لا شك أن الواجب لَيقتضينا، سواء أكنا نعمل أم نشقى، المحافظة على قوانا بوصفنا بشرًا، قد شققنا طريقنا إلى السلام الذي يجاوز كل فهم وإدراك.»