الفصل الثاني
«إن المسافر بالطائرة يرى على البعد سلسلة الجبال النائية، ثم تغيب عن بصره مرةً أخرى، ويلتف طريقه في بطءٍ مصعدًا خلال الوديان وهو يقترب أكثر وأكثر من قمم الجبال حتى يراها في النهاية منتصبةً أمامه في ثنيةٍ من ثنايا الطريق، لا بأشكالها التي بدت عليها من الطائرة البعيدة، ولكن بشكلها الحقيقي.»
كانت أول لمحة ألقاها ألبرت شفيتزر على العالم الخارجي حين أخذوه معهم في زيارةٍ لأمه العماد بارث، وكانت بارث تعيش في كولمر التي تبعد مسافة نصف يوم بالقطار والعربة. وكولمر بلد صغيرٌ جدًّا بالنسبة للمدن ولكنه كان مكانًا مثيرًا يُبهر صبيًّا لم يعرف إلا قرية جونسباخ الصغيرة الهادئة. ولم تستطع عيناه أن تستوعبا المناظر الجديدة القريبة جميعًا؛ فقد كان هناك حشدٌ من الناس يروحون ويجيئون في الطرق الفرعية الضيقة، أكثر مما رآه في أية مرةٍ من قبل، والشوارع مكتظة بعربات النقل والمركبات والرجال الذين يمتطون صهوات الجياد. وفي أيام السوق كانت الحركة شديدةً كما يحدث في سوق جونسباخ، وقد نُصبت الخيم والحظائر في الميدان المجاور للكنيسة الكتدرائية وفي الطرق الفرعية المحيطة بها. وكانت أطوالٌ من القماش الملوَّن والملاءات ومفارش الموائد معروضةً للبيع في كل مكانٍ يذهب إليه، تُرفرف مع النسيم كالأعلام الزاهية. وكانت في ميدان سوق الفاكهة سلات الكرز والزبيب أو التفاح الناضج الأحمر والكمثرى الذهبية اللون.
وكانت بعض الحوانيت في كولمر ومنازلها ترتدُّ في الزمن حتى إلى ما قبل كشف كولومبس للعالم الجديد وراء المحيط الأطلسي. وظهرت حزم الشجر الضخمة التي ذبلت واسودَّ لونها بفعل السنين من خلال طلاء الأسقف الهرمية المُرهَفة الحد على هيئة أشكال غير مستوية جعلت المنازل تبدو وكأنها تتكئ بعضها على بعض. ونما الطحلب بمرور السنين على أسطح القرميد العالية الشديدة الانحدار. وكانت المنازل في المساء — حين تهدأ الشوارع قليلًا — تُضيء بوهج الشمس الغاربة، وقد امتزجت الألوان على الجدران العتيقة والأسطح والمصاريع ذات الطلاء الأخضر وأزهار الجرونية الزاهية الحمراء النامية في الأواني على شفاه النوافذ. وكان هذا الحين الذي تُجلجل فيه أجراسُ كنيسة القديس مارتن بأنغامها الكثيرة يختلط عاليها بخافِتها وتتردَّد في أرجاء الشوارع، هو الوقت الذي تبدو فيه المدينة وكأنها ارتدَّت إلى ماضٍ سحيق جرَّ عليه النسيانُ أذياله. وكان السير في تلك الشوارع الحصباء الملتفة بأركانها التي تنعطف فجأةً كأنما تدَّخر لك مفاجأةً تتكشَّف لعينيك دائمًا بعد قليل كالخوض في صفحات كتاب مصور، وكانت الطرقات الفرعية المرصوفة بمربعاتٍ صغيرة كالآجر على هيئة مراوح، تنوء بوقع الأقدام التي سارت عليها خمسمائة عام.
وكان أهل كولمر جد فخورين بتراث ماضيهم الحافل، يطوفون في عصر أيام الآحاد أو في أيام الإجازات بالتماثيل الكثيرة القائمة في المتنزهات والميادين، ويزدحم المتحف بأولئك الذين يأتون إليه مرارًا وتكرارًا لينظروا إلى رسومات الماضي البعيد ونحوته.
وكان يوم الخميس هو يوم الزيارة في طفولة ألبرت شفيتزر، حين يُقبل الزوار من القرى المجاورة ليزوروا أسرة بارث، ثم يتوجهوا دائمًا إلى المتحف بعد أن يتناولوا وجبة الغداء المشبعة. وكان يُسمح لألبرت بأن يذهب معهم حينما يكون هناك، حيث يجد في كل مكان يتجه إليه هناك شيئًا يجذب عينيه ويُغريه بالتخلف. وكانت آثار الحفر على الخشب قد صُنعت بدقةٍ عظيمة حتى أظهرت التفاصيل الصغيرة لورقة الشجر أو التجعيدة تخط وجه رجل عجوز. وأُقيم تمثال السيد المسيح الخشبي على حمارٍ لا يزيد حجمه عن حجم جواد من لُعب الأطفال، وقد أُقيم على منصةٍ ذات عَجَل؛ لأنه كان يُستخدم في مواكب الاستعراضات منذ سنين كثيرة، ولكن المكان الذي عُلِّقت فيه صور جرونفالد هو الذي نجد فيه ألبرت متلبِّثًا بعد أن يمضي الآخرون.
وكانت هناك صور للقديس الناسك بول، وللقديس أنطونيوس وما وقع فيه من غواية، ومناظر طبيعية من المحتمل أنها كانت في الألزاس، على أن الأشجار والصخور اتخذت أشكالًا غريبة، وصوَّرت الشياطين والحيوانات التي تُحيط بأنطونيوس تصويرًا فيه من الواقعية ما يسحر أي طفل ويفتنه. وكانت صورة الطفل يسوع بين ذراعي أمه أيضًا إحدى الصور المفضَّلة لدى ألبرت، والتي رسمها أيضًا هذا الفنان الألزاسي المجيد نفسه، الذي كان يعيش منذ أربعمائة عام. وكانت الصور تحتل غرفةً تشبه الكثير من غرف الأطفال في الألزاس، وبها المهد وقد أُلقيت عليه ملابس الطفل بلا عناية، والمبولة والحنفية الخشبية وعليها المنشفة، وإلى يسار هذا طائفةٌ من الملائكة يعزفون على الآلات الموسيقية، ومن الخلف حيث كانت الغرفة تتكشف عن زرقة السماء بالليل، تجلَّى الرب يلتف به حشدٌ من الملائكة في هالةٍ من الألوان بدت وكأنها تتغنَّى بالنور. ولم يجد الطفل في هذا المزيج من الواقع والخيال شيئًا غير طبيعي، فإنه كان يعرف أن مثل هذه الأشياء كانت خليقةً أن تكون.
على أن الصورة التي كانت تتمثَّل في ذاكرته نابضةً بالحياة أكثر من غيرها هي صورة المسيح مشدودًا على الصليب، وقد وقفت العذراء مريم في جانبٍ مشتملةً بقناعٍ أبيض مسترسل، وقد بدت عليها سِمة من اليأس، وحنا عليها الرسول يوحنا ليواسيها مشتملًا بعباءةٍ بلون النار. وحملق الطفل إلى الصورة أمامه وقد بدا فيها شعر الرسول الأصفر القاتم، أشعث كشعر ألبرت نفسه، وتساءل: هل كان الرسول يُعنَّف أيضًا كما كان يُعنَّف هو في كثيرٍ جدًّا من الأحيان، وهل كان شعره يُصقَل ويُسوَّى بالفرشاة مرات ومرات حتى يشعر بوخز ضربات الفرشاة في فروة رأسه، ثم لا يلبث حتى يتهدَّل شعره في كل اتجاه. ولعل الفتاة الخادم لم تكن في معظم الأحيان تجد شيئًا تقوله عنه: «جامحٌ من الباطن وجامحٌ من الظاهر.» ألم يصبح يوحنا بشعره الجامح جميعًا رسولًا من الرسل؟
وبدأ ألبرت بعد حينٍ يعرف كولمر معرفته لقريته جونسباخ أو يكاد، وكانت أمه في العماد بارث تلحق به وتأخذه إلى بيتها ليبقى معها أيامًا متصلة، وكان يتعلم أسماء الشوارع التي يمر بها حين تخرج به خادم أو خادمتان، وكانت أسماؤها من نوع الأسماء التي يحبها الطفل مثل شارع الدببة، وشارع اللقلق، وشارع الضفدع، وشوارع سُميت بأسماء الصياد والخباز والتاجر وصانع الأقفال وصائد السمك.
وفي يومٍ مشهود من أيام الآحاد خرجت أم ألبرت في العماد في زيارة، وتركته للفتاتين الخادمتين، وقالت وهي تتركهم: «اخرجا بالطفل في نزهةٍ صغيرة ولكن لا تطيلا، واحرصا على مراقبته عن كثب.»
وما إن أصبحت الأم خارج الباب حتى ارتدت الفتاتان خير ما ترتديان في أيام الآحاد، ثم خرجتا ومعهما ألبرت الصغير يغذ السير بينهما، وساروا في الشارع الملتف الذي ينعطف في هذا الاتجاه وذاك، مارين بالمخابز والمقاهي، حيث جلس الرجال ذوو الشوارب أو اللحى إلى موائدَ على قارعة الطريق يحتسون جِعَة الألزاس أو نبيذ الراين الجيد. وظهرت على البعد فرقة موسيقية تعزف، فآثرت الفتاتان الذهاب إلى هناك، ثم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم في سوق قرية هوربورج، حيث كان الشباب يرقصون الرقصة الريفية المألوفة في هذا الإقليم.
واشتركت الفتاتان في الرقص، ولكنهما حافظتا على عهدهما للأم بارث في الوقت نفسه وحرصتا على مراقبته. وأمسكت إحداهما بيده اليمنى، وأمسكت الأخرى باليد اليسرى، وكل منهما تمسك بيدها الأخرى شابًّا يشاركها الرقص في قوةٍ واندفاع. وراحتا ترقصان العصر بطوله، وقد انبعثت الأبواق النحاسية الكبيرة تعزف لحنًا جيَّاشًا بالحياة، والصبي الصغير بينهما بشعره الأشعث يُسرع الخطى ليلحق بهما. وكان الطفل — وهو يرتد إلى الخلف ثم إلى الأمام ثم يدور — يشعر بمتعةٍ كبيرة تماثل المتعة التي شعرت بها الفتاتان مع مُراقصَيهما، ولكن ما إن فرغوا من هذا كله ومضَوا في سيرهم الطويل عائدين إلى البيت حتى بدأ الصراع يعتمل ثانيةً في ضمير ذلك الطفل المرهَف الحس. وقال بينه وبين نفسه: هب أن الأم بارث سألتني أين كنت وماذا فعلت؟ فلا يكون أمامه إذ ذاك إلا الاختيار بين أن يكذب أو يخرج عن ولائه للخادمتين. وكدَّ عقله حتى تعب، محاوِلًا أن يختار بين الأمرين، ولكنه أُخرج من هذا المأزق لحسن الحظ.
وكان كلما سألته الأم: «هل قضيت وقتًا طيبًا؟» استطاع الصبي أن يجيب صادقًا: «نعم.»
ولكنه لم يسلم في المرة الثانية كما سلم في هذه المرة، وقد حدث هذا حين أخذه صبي أكبر منه في نزهة سيرًا على الأقدام، وحذَّرت السيدة بارث الصبي كما سبق أن حذَّرت الخادمتين، بأن تحرصا على مراقبة الطفل عن كثب، وألَّا تنطلقا في المسير إلى مدًى بعيد، وأضافت قائلة: «ولا تتجها صوب النهر.»
ووعدها الصبي الأكبر بذلك، ثم أمسك بيد ألبرت وقاد الطريق بخطواتٍ ثابتة كأنه يعرف حق المعرفة وجهته، وسارا في الشوارع الضيقة المتعرجة مارين بناحية الجبال السوداء الستة، حيث كان يقوم تمثال لفارسٍ في شكته يحمل سيفًا ودرعًا. لقد قال له جيجل القندلفت العجوز: إنه سوف يرتدي حين يشتد عوده مثل هذا الزرد من الحديد. وعرف الآن أن الرجل العجوز لم يقصد بذلك إلا إغاظته كما فعل من قبلُ حين غاظه بالقرنين، ولكنه لم يكن واثقًا من ذلك كل الثقة أول الأمر؛ لأن جيجل كانت له طريقة جادة في إلقاء نكاته؛ فقد قال له من قبلُ متخذًا سَمت الرزانة والوقار، مصطنعًا ذلك الأسلوب الذي جرى عليه في التحدث بأمرٍ دون أن يتغيَّر تعبير وجهه، حتى لَيستطيع أن يحمل أي شخص على تصديق أي شيء يقوله: «إنك لتعلم أننا ننتمي الآن إلى بروسيا، وفي بروسيا لا مناص للصِّبيان من أن يصبحوا جنودًا، والجنود يلبسون زردًا من الحديد، وإنك لتستطيع أن ترى ذلك في الكتب المصوَّرة، ولسوف يتعيَّن عليك في القريب العاجل أن تُبادِر إلى حانوت الحداد وتطلب منه أن يقيس جسمك ليصنع لك أنت أيضًا زردًا من حديد.»
وجذب حانوت الحداد ألبرت إليه أول الأمر، ووقف ليرى هل كان ثمة جنود يُقبلون عليه ليقيس أجسامهم ويصنع لهم زردًا من الحديد؟ ولكنه الآن بعد أن كبر وفهم الأمور أكثر من ذي قبل، فقد عرف أن الجنود يلبسون حُللًا من القماش بدلًا من الحديد. وقال الصبي الأكبر وقد نفد صبره حين رأى ألبرت يتلبَّث خلفه: «تعال.»
وانعطف في شارع صيادي السمك وهو يجر ألبرت من يده، وتكشَّف لهما فجأةً حول ركن الشارع نهر لاوش، وكان نهر لاوش اكثر اتساعًا من نهر فيخت، ولكنه كان أكثر منه هدوءًا؛ إذ كانت مياه نهر فيخت تصطخب وتهدر دائمًا وهي تندفع مجتازةً مهده الصخري. ووقف ألبرت بجوار رفيقه يُطل على المياه الساكنة، وقد انعكست على صفحتها كالمرآة البيوت العتيقة، بلونها الوردي والأصفر الهادئ. وكان يمر في النهر من حينٍ إلى حين قارب وسق إلى حافته بخضر الحقول القريبة.
وقال الصبي الأكبر: «هيا بنا نبحث عن قاربٍ يسهل علينا فك رباطه.»
ولم ينتظر حتى يسمع ردَّ ألبرت وزحف هابطًا الجسور، وأخذ يبحث إلى أن عثر على قاربٍ لم يُحكم رباطه، وراقبه ألبرت وهو يفك رباط القارب ويخطو إليه، فتمنَّى من كل قلبه أن يشاركه لكنه تردَّد، وقال الصبي وهو يشير إليه بأن يخطو إلى القارب أيضًا: «تعال.»
وأجاب ألبرت: «ولكن تذكَّر ما قالته لك أمك، وما قالته لي أمي في العماد.»
ولم يكن من الصبي إلا أن حملق فيه كأنما عجز في كل ما مرَّ به عن أن يُدرك السبب الذي يحمل أي إنسان على أن يحفل بما يقوله من هم أكبر منه سنًّا. ولم يستطع ألبرت أن يصمد لهذا الإغراء أكثر من ذلك، وخطا إلى القارب مدفوعًا بنظرة الصبي المحملقة، وانطلقا في النهر ينسابان تحت غصون الأشجار المتدلية مارين بزوارق أخرى تروح وتجيء. وقاد الصبي القارب ببراعة دلَّت على أنه مارس ذلك من قبلُ مرات كثيرة. وما كان أروع الوقت الذي أمضياه في ذلك! وسهل على ألبرت أن يتصوَّر أن نهر لاوش الصغير الساكن كان محيطًا واسعًا، وأن القارب الصغير كان سفينةً شراعية تحملهما إلى بلاد بعيدة!
لكنهما أفاقا على أصوات غاضبة ترامت إلى سمعيهما على بعدٍ من فوق ضفاف النهر. وقال الصبي الأكبر في هدوء: «لعل من الخير لنا أن نعود الآن.» وجدفا راجعين فوجدا صاحب الزورق واقفًا على ضفة النهر وقد استشاط غضبًا.
وقال وهو يهز إصبعه في وجه الولدين: «لن أخلي سبيلكما هذه المرة. أجل إنني لمنبئ أمكما هذه المرة بما فعلتما.»
فلمَّا عادت الأم بارث بألبرت إلى بيته في جونسباخ، سألتها أمه هل كان سلوك الصبي محمودًا؟
فأجابت بارث: «لا، لم يكن كذلك تمامًا.»
ولم يُعفَ ألبرت من العقوبة مع أن بارث بيَّنت لأمه بأن الذنب في ذلك هو حقًّا ذنب الولد الأكبر. وانتهى الأمر جميعًا ونال ألبرت جزاءه، إلا أنه ظلَّت تطوف بمخيلته يجرى ذكريات عن نزهة بديعة قضاها في زورق هابطًا نهر لاوش.
وكان ألبرت شأنه شأن أي صبي يحلم في كثير من الأحيان بما سوف يكون حين يشتد عوده. وكان — وهو بعدُ صبي صغير السن جدًّا — يرى رعاة البقر يسوقون أبقار القرية مصعدين في الجبال حيث يزدهر الكلأ، ويرى أيضًا رعاة الخنازير يمضون في سبيلهم لرعي خنازير القرية. وكان يفكِّر بينه وبين نفسه في مبلغ ما تكون عليه الحياة من روعة حين يمضي المرء كل يومه على قمة جبل، يجري ويمرح طليقًا كالهواء، والماشية ترعى في هدوء وسكينة على طول سفوح الجبل. وكان الأمر يقتضيه بطبيعة الحال أن يكون جنديًّا أولًا وقبل كل شيء. لقد كان جيجل العجوز محقًّا في أمر واحد؛ إذ قال بأنه خليق حين يشتد عوده أن يكون شأنه كشأن أي صبي ألماني، فيلتحق بخدمة الجيش البروسي بعض الوقت ليتدرَّب التدريب العسكري؛ لأن الألزاس كانت آنئذٍ جزءًا من ألمانيا. فإذا انتهى ذلك فما أكثر ما يكون أمام صبي في سِنه من أمور يحلم بها، وما أكثر ما ينتظره من مغامرات يخوض غمارها.
وقد قال لأمه يومًا: «لأغدون بحارًا.»
وذكَّرته أمه بقولها: «إن البحارة ينامون في أرجوحة من الشبك المغزول بدلًا من الفراش المتخَذ من ريش الإوز الناعم الذي تنام عليه. ولكن الملاحين يعيشون حياةً يحسدهم عليها كل من يأوي إلى فراشٍ من الريش، يجوبون البحار إلى البلاد النائية، إلى أمريكا والشرق ويهبطون إلى أفريقيا.»
وكان يقوم في الحديقة في كولمار تمثال لا يمل ألبرت أبدًا المرور به، ويقف أمامه وينظر إليه مفتونًا مسحورًا. وكان هذا التمثال قد صنعه المثَّال الكولماري بارتولدي، الذي كان حينئذٍ في باريس يعمل في صنع تمثال الحرية العظيم الذي قصد به أن يكون هديةً من فرنسا إلى أمريكا. وكان التمثال الذي صنعه بارتولدي لمسقط رأسه هو أيضًا عظيمًا ضخمًا، يمثِّل القوام الفارع لأمير البحر البطل بروات، وقد التفَّت بقاعدته أشكال ضخمة تُصوِّر أركان الأرض الأربعة؛ ألَا وهي أوروبا وأمريكا وأستراليا وأفريقيا. والشكل الذي يرمز إلى القارة الأخيرة بصفةٍ خاصة هو الذي استرعى نظر ألبرت شفيتزر مذ وقع عليه بصره. وكان هذا الشكل يصوِّر تمثالًا لزنجيٍّ عملاق، في وضعٍ منحنٍ نصف انحناءة، شابت ملامحه مسحةٌ من الحزن، وبدا بجسمه القوي المفتول العضلات كأنما هو على وشك النهوض، وإن كان رأسه قد انحنى أسًى وحزنًا. أجل إن هذا التمثال كان هو الذي تملَّك مشاعر الصبي حتى عجز عن أن يمحوه من ذاكرته.