الفصل الثالث
«إذا كنتُ مخلوقًا له عقلٌ يفكِّر، لَحَقٌّ عليَّ أن أنظر إلى حياة غيري من الناس نظرةً تعادل في الاحترام والتوقير نظرتي إلى حياتي أنا نفسي؛ ذلك أنني خليقٌ بأن أعلم أن هذه الحيوات تصبو من أعماقها مثلي إلى الاكتمال والنمو.»
ونمت الأسرة الصغيرة، وأصبح قوامها آنئذٍ ثلاث أخوات، أكبرهن لويز، ثم تأتي بعدها أديل، ثم مرجريت، ثم أعقبهن أخ هو بول. وتردَّدت جنبات البيت العتيق بأصداء ثرثرتهم وأغانيهم وضحكاتهم.
وكان أبوهم يرفع بصره أحيانًا في نظرةٍ قصيرة عن مكتبه في حجرة درسه التي كانت تفوح منها رائحة الأوراق والكتب القديمة، ثم يعود صرير قلمه فيبلغ الأسماع وهو ماضٍ في كتابة موعظته، أو في تأليف قصص سماها «حكايات القرية»، التي نشرها في «رسالة الكنيسة» وفي التقاويم. وإذا كانت أمه قد حاولت أن تُلزِم أطفالها السكينة، فإنما كانت تفعل ذلك لأنها ذكرت طفولتها هي حين كان أبوها يمضي إلى مكتبه ليُعِد عظاته، فيقتضي الأمر أن يسود البيتَ جميعًا في تلك الأيام سكونٌ تام؛ فلا يُسمح لزائرٍ بالدخول، ولا يُسمح للأطفال بالحديث إلا بهمس، بل إن أخاها الأكبر الذي كان غائبًا عن البيت في مدرسته لم يكن يُسمح له بالعودة إلى المنزل في العطلة، إذا وقعت هذه العطلة في يوم سبت.
ولم يكن ألبرت قد رأى قط جده شيلينجر، ولكنه ظل يسمع عنه قصصًا تُروى في الوادي الذي يُحيط به؛ فقد كان ثمة بعض من القوم يذكرون كيف كان يخرج من الكنيسة حين تنتهي صلوات الأحد ويتحدَّث إلى الناس الذين اجتمعوا هنالك عن آخر الأنباء السياسية، أو عن كشفٍ جديد وصل إليه العقل البشري. وكان عنده مجهر يحبُّ أن يُشاركه فيه أصدقاؤه وجيرانه، حيثما بدت في السماء ظاهرة تستدعي التفاتًا خاصًّا كسقوط نجوم من الثوابت، أو اقتراب كواكب من الأرض، على أنه كان يلتزم الرصانة والجد ويستوجب الاحترام، فلم يكن يجسر أحد على أن يزوره في مسكنه إلا إذا ارتدى معطفًا أسود ووضع على رأسه القبعة المرتفعة المأثورة عن ذلك العهد. وكان له طبعٌ ناري يثور سريعًا، ولو أنه كان يستطيع أن يكبح جماح غضبه سريعًا كذلك.
وقد ورث ألبرت هذا الطبع الحاد عن جده لأمه، ذلك الطبع الذي كان يحاول أن يكبح جماحه فلا يستطيع إلا بمشقة. على أن هذه الحِدة كان يعقبها دائمًا ذلك التسامح السهل المأثور عن جده، وتلك الابتسامة نفسها التي تدل على طِيبة القلب. وقد ورث أيضًا عن جده لأبيه شيلينجر حبه للموسيقى، وكان يُروى له كيف كان جده يرتجل على البيانو أو على الأرغن ألحانًا من عنده تلائم حالته. وقد كان شغفه بآلات الأرغن عظيمًا، حتى إنه كان إذا اتفق أن مضى إلى بلدٍ غريب لم يرَه من قبلُ قط لا ينفك يطلب أن يرى أول ما يرى آلات الأرغن القائمة في كنائس هذا البلد. وقد عُرف عنه أنه قضى أيامًا متصلة في هيكل كنيسة يرقب إقامة الأرغن، متتبعًا كل مرحلة من مراحل تشييده.
وكان البيانو المربع العتيق الذي كان يعزف عليه يقوم آنئذٍ في سكن القس بجونسباخ، وظلَّت الموسيقى جزءًا من حياة شفيتزر بقدر ما كان يستطيع أن يتذكَّر؛ ذلك أن أباه بدأ يعطيه دروسًا فيها منذ بلغ الخامسة من عمره، وشب عوده حتى استطاع أن يبلغ مفاتيح البيانو أو يكاد. وكان حتى في ذلك الوقت يتذوَّق الهارموني، فلمَّا تعلَّم كيف يعزف بقراءة العلامات الموسيقية سمح له أن يضع من عنده أغاني وتراتيل. وكان أبوه إذا حلَّ الغسق يُقبل من حُجرة مكتبه ويعزف والأطفال يستمعون، وكثيرًا ما كان يرتجل الألحان وهو ماضٍ في عزفه.
لقد كان هذا البيت سكنًا سعيدًا لطفلٍ يشب فيه ويترعرع؛ إذ يخرج أفراد الأسرة جميعًا في نزهةٍ خلوية صيفًا، فيحزمون غذاءهم ويسيرون مصعدين على سفوح التلال، ويبلغون غابةً من أشجار البلوط والقسطل حيث تقف السناجيب آمنةً على قوائمها العالية، وتُطل عليهم منتهرةً وهم يمرون بها، وحيث تختفي الأرانب البرية وراء لمم من نبات العليق ساكنة كالحجر حتى يغيبوا عن الأنظار، ويمضون مصعدين أكثر وأكثر حيث تنمو أشجار الشربين والصنوبر والزان، وتزحف الأيائل والخنازير البرية الضاربة خلسةً بين الكلأ.
وكان أفراد الأسرة يمزحون ويمرحون في الشتاء أيضًا فيتنزَّهون في العربة الكبيرة التي تُستخدم في حمل الأخشاب المقتطعة من الغابة، تلك العربة الخاصة بصاحب الدار الملاصقة لدارهم، أو يتزحلقون حين يكسو الثلج والجليد الأرض، أو يسايرون الشاطئ على زلاقاتٍ هابطين الطريق الممتد خلف الكنيسة.
ولم تلبث هذه الحرية الرائعة أن ذهبت فجأة؛ ذلك أن الوقت كان قد حل لذهاب ألبرت إلى المدرسة. وخرج الصبي يحمل لوحه الأردوازي الجديد تحت إبطه، متردِّدًا في خطواتٍ متلبثة متخلِّفًا كثيرًا عن أبيه الذي كان يقود الطريق. وكان ذلك في شهر أكتوبر وقد ازدهت الأشجار على جوانب التلال بألوان الخريف، وراحت طيور الحن والدغناش تمرق هنا وهناك، كأنما هي ضاربة في الأرض لا تستقر على قرار قبل أن تمضي في هِجرتها التي تحل في فصل الخريف، وانبعثت اللقالق على قمم المداخن تضرب بأجنحتها الضخمة تتأهَّب لرحتها الطويلة إلى أفريقيا.
وكان ألبرت يود من صميم قلبه أن يُفلت من الذهاب إلى المدرسة ويعود أدراجه إلى بيته، ولكنه مضى يكد في السير خلف أبيه مارًّا بنبع القرية، حيث أخذت النسوة يُثرثرن وهن يملأن جِرارهن بالماء اللازم لمطابخهن. وكانت تقوم حول ركن الطريق غير بعيد من النهر المدرسة، غامضة كريهة في نظر طفل لم يدخلها من قبلُ قط، ولكنه ما إن دخلها مرةً واحدة حتى تبيَّن له أنها لم تكن من السوء بقدر ما تصوَّر.
وكان العم إلتيس عازف الأرغن من بين الأساتذة، وكان من بينهم أيضًا الآنسة جوجويل التي تُعلِّم أصغر الأطفال سنًّا، لا يجد المرء أي غبار في مسلكها متى عرفها، ولو أنها كانت إنما تستطيع أن تضبط اللحن بإصبع واحدة حين تعزف مسايرةً لدرس الغناء الذي كانوا يتلقَّونه، غير محافظة في بعض مواضعه على اتساق النغمات محافظةَ ألبرت حتى وهو في هذه السن. وكان زملاؤه في الدرس وهم أطفال القرية الذين كان يعرفهم حق المعرفة، يلعبون معًا في وقت العطلة، وقبل بدء الدروس وبعدها، ويجرون داخلين وخارجين بين أشجار الزيزفون، وأحذيتهم الخشبية تُقرقع على أديم الأرض الصلد العاري، كانوا يتقاتلون ويتعاركون كما يفعل الصِّبية، ولكن عِراكهم كان لا يلبث أن ينتهي سريعًا، وتعقبه عهود من الصداقة ويعود الضحك والمرح سيرته الأولى.
وكان ألبرت شفيتزر سريع الضحك، غاية ما يتمناه زملاؤه في الدرس أن يقولوا أو يفعلوا شيئًا يحمله على الضحك عاليًا في المدرسة، ولكن هذا المرح كان ينطوي على رقة إحساس وشعور عميق بالعطف على الآخرين ظل يلازمه طوال حياته.
وقد حدث يومًا وهو عائد إلى بيته من المدرسة أن بدأ يتصارع هو وصبي آخر يُدعى جورج نيتشيلم ليختبر قوته، وكان هذا الصبي أكبر منه سنًّا وأضخم جسمًا، إلا أن ألبرت لم يلبث أن طرحه أرضًا. وقال له الصبي وهو يتملَّص لينهض من سقطته: «لك الحق؛ فإنني لو كنت أستطيع أن أتناول مرق اللحم مثلك في العشاء مرتين في الأسبوع لكنت خليقًا بأن أغدو في قوتك سواءً بسواء.»
ووقعت هذه الكلمات على ألبرت وقع السياط، ولم يجد لذةً فيما أحزره من انتصارٍ في هذه المباراة، وفقد المرقُ الذي حُمل إلى مائدة الطعام في تلك الليلة بتصاعد البخار من الطاس الذي وُضع فيه نكهتَه الطيبة، حين أخذ ألبرت يفكِّر في أمر جورج نيتشيلم الذي كان محرومًا منه.
وبدأ ألبرت ينظر إلى زملائه في الدرس نظرةً جديدة، أولئك الصبيان القرويين بملابسهم الخشنة البالية، وجواربهم المرفوة، وأحذيتهم الخشبية. وأدرك لأول مرة الفرق بين حياته هو وحياتهم، وسَخِط على هذا الفرق. وإذ رأى أنهم يلبسون القباقيب الخشبية كل يوم، ويدَّخرون أحذيتهم الجلدية ليوم الأحد، عوَّل على أن يحذو حذوهم، وأن يخلع عن يديه القفازات؛ لأن أيديهم كانت عاريةً عنها. ولم يحفل في ذلك بما لجأ إليه والداه من ملاطفة أو تعنيف بل وعقاب! ولم يجعل بالهم يهنأ حتى تم له ما أراد، ومضى في ذلك إلى حد أنه رفض أن يرتدي معطفًا قديمًا من معاطف أبيه سُوِّي بحيث يناسبه.
وقال له الخياط حينما كان يحاول أن يسوِّي المعطف عليه: «إنك لتبدو الآن سيدًا شابًّا حسن الهندام.»
وكان الخياط مخطئًا كل الخطأ إذ كان قد دار في خَلَده أن هذا القول خليق بأن يُرضي الصبي؛ ذلك أن ألبرت كان قد استقرَّ عزمُه من يومئذٍ على ألَّا يرتدي أبدًا ذلك المعطف، فليجلدوه بالسوط إن شاءوا، أو يحبسوه في مخزن الطعام، ولكنه سوف يُصِر على رأيه بكل ما ورثه عن جده شيلينجر من العناد الذي عرفه عن أهل الألزاس، وقد فعل.
وتكرَّر حدوث هذا المشهد العاصف، حين ذهب مع أمه في زيارةٍ قريبة عالية السن في ستراسبورج؛ فقد مضت به إلى حانوتٍ لبيع قلنسوات الصبيان وقبعاتهم، وجيء له بقلنسوة إثر أخرى ليُجرِّبها، وراحت البائعة تؤكد لأمه كلما أتت بواحدة أنها أحدث زي للصبيان الصغار، ولكن ألبرت لم ترقه أية واحدة منها. ثم أبرزت البائعة قلنسوة بحار تتدلَّى منها شرائط على غرار ما يلبسه البحارة حقًّا، وكانت هذه هي خير قلنسوة أعجبت أمه، بيد أن ألبرت أبى أن يبقيها فوق رأسه.
وسألت البائعة وقد ضاقت ذرعًا: «أي نوع من القلنسوات تريد أيها الطفل العنيد؟»
فأجاب ألبرت: «لا أريد أية واحدة من هذه، وإنما أريد قلنسوةً كالتي يلبسها الصبيان في البلدة.»
وأقبلت البائعات الأخريات ليرين ما وراء هذا الاضطراب … ثم جاءت مديرة المحل، وأخيرًا أرسلت عاملةً من عاملات المحل ثانيةً إلى غرفة أخرى وعادت تحمل قلنسوةً نُحِّيت جانبًا إذ زهد فيها كل المشترين، وكانت قلنسوةً خشنة بنية اللون يمكن جذبها حتى تغطِّي الأذنين، تحاكي تمامًا أية قلنسوة ممَّا يلبسه صبيان القرية في جونسباخ. وتهلَّلت أسارير ألبرت من الفرح حين ارتداها؛ فقد كانت هي ما يريده؛ ذلك أنه كان يود بعد أن يلبس على غرار ما يلبس جورج وهنري وفريتز وسائر الصبيان في مدرسته.
وتوقَّع ألبرت أن تعنِّفه أمه حين غادرا المحل، وأحسَّ بالأسف كشأنه دائمًا بعد أن تتملَّكه ثورة من ثورات طبعه. وشعر بتأنيب الضمير لأنه أزعج أمه هذا الإزعاج أمام الغرباء، بيد أنه تولَّاه العجب لأن أمه أمسكت ولم تقل شيئًا، كأنما أدركت بينها وبين نفسها أن ثمة سببًا خاصًّا به حمله على سلوك هذا المسلك. ولم تكن أمه من ذلك الطراز من الناس الذين يبوحون بشيءٍ يُحسونه، فتظاهرت بأنها لم تلحظ ما فعل ألبرت.
وكانت أخته الكبرى لويز تنحاز إليه أحيانًا في بعض تلك المشاهد العاصفة، كأنما كانت هي الأخرى تُدرك ذلك الصراع الذي يعتمل في نفسه ساعيًا إلى أن يكون كغيره من الصبيان. ولكن زملاءه لم يفطنوا إلا قليلًا إلى الدموع التي كان يذرفها، والعقاب الذي كان يلقاه في سبيل أن يلبس كما يلبسون وأن يفعل كما يفعلون. ولم يعودوا يلاحظون أحذيته الخشبية ولا قفازاته الخالية من الأصابع بأكثر ممَّا يلاحظون ما يرتدونه هم أنفسهم، ولكنهم كانوا، إذا نشب أقل عراك من قبيل ما يحدث عندما يلعب الصبيان، لا يتورَّعون عن أن يقولوا له متهِمين: «لا جرم فإنك على كل حال من الأعيان.»
«أبانا الذي في السموات، اكلأ برعايتك كل من لهم أنفاس تتردَّد وامنحهم بركتك وقِهم الضر، وأفئ عليهم السكينة في نومهم هذه الليلة.»
وبدأت الأفكار التي كانت تطوف به غامضةً فحسب من قبلُ تتضح في عقله، وأدرك أن كل مخلوق حي على الأرض، أو في الماء، أو في السماء، يمكن أن يُحس الألم كما يُحسه هو، وأن هذه المخلوقات جميعًا تستمتع بالحياة وترغب فيها كما يستمتع وهو يرغب.
وكانت تمر به أوقات يكون هو فيها سبب هذا الألم فيعذبه تأنيب الضمير من بعد. وكان الكلب الأسمر فيلاكس يتلطَّف قدر الكفاية حينما يلعب معه الأطفال ويُخاشِنونه، ولكنه كان يستوحش بمجرد أن يرى زيًّا رسميًّا، ويقتضي الأمر أن يُحصَر في ركن كلما مرَّ ساعي البريد في ذلك الطريق. بل لقد حدث مرةً أن عض الكلبُ شرطيًّا وحاول ألبرت أن يرده عنه، ولكن ذلك لم يكن يسيرًا عليه في جميع الأحوال، والكلب ماضٍ في نباحه وزمجرته والتكشير عن أنيابه وهو يحاول أن يُفلت منه. وكانوا في بعض الأحيان لا يجدون مناصًا من عقابه بالضرب ليسكت. والكلاب إنما تعيش لساعتها، فكان فيلاكس يعود إلى طبيعته اللطيفة بمجرَّد أن يمضي ساعي البريد في سبيله، ولكن ألبرت كان إذ يجلس بعدُ بجوار كلبه يذكر كيف كان يلوِّح بعصاه فوق رأسه ويفكِّر فيما كان خليقًا بأن يفعله معه، فيقول بينه وبين نفسه إنه لم يكن ثمة داعٍ يدعوه إلى أن يتصرف على هذا النحو تصرف مروِّض الوحوش، وقد كان يستطيع بمثل هذا اليُسر أن يرد الكلب من طوقه ويربت عليه، فينتهي بذلك إلى مثل ما انتهى إليه تمامًا من تهدئة ثائرة الكلب.
وكان يساوره الأسف نفسه بعد كل مرة يركب فيها عربة جاره، ويضرب بالسوط الجواد العجوز اللاهث المكدود، ممَّا عاناه من عمل يومه. وذكر كيف كان جنبَا الجواد يضطربان باضطراب أنفاسه، وكيف بدت عيناه مرهقتَين حين نظر إليه.
لقد كانت هذه أفكارًا يُسِرُّها في نفسه ولا يجسر على الجهر بها، حتى جاء يوم من أيام الربيع راح يتبارى فيه هو وصديقه هنري براش بالمقلاعَين اللذين صنعاهما.
وقال هنري: «هيا بنا نصعد التل القائم خلف الكنيسة ونُصب بعض الطيور.»
وقاد هنري الطريق وتبعه ألبرت لا يجسر على الرفض خشية أن يضحك منه أو يناله بالتقريع.
وكان ذلك قرب نهاية عيد يوم الصوم الكبير، وقد اخضوضر الوادي بنصالٍ غضة من عشبٍ جديد، أخذت تبرز مندفعةً بين ثنايا العشب القديم، وكانت هذه الأرض الممتدة على جانب التل خلف الكنيسة هي الأرض التي أقام فيها القرويون بساتينهم وكرومهم ومهاد خضرهم، وتعرَّت سيقان الأشجار، بيد أن براعم ثمارها كانت متأهبةً إلى التفتح في أول يوم دافئ يغاديها، وانبعثت الطيور تمرق ناشطةً هنا وهناك، تصدح بأغانيها التي تُحيي بها مطلع الفجر. وانطلق الشُّحرور، بمنقاره الأصفر الزاهر والأطواق البرتقالية حول عينيه، يشرق بها ريشه الذي يحاكي الكهرمان الأسود، يغرِّد بأنغامه العذاب الحنون، تعلو وتخفت مسايِرةً لهذه الألحان. وشارك الدوغناش الصغير في الغناء شاديًا بندائه الصافي النبرات كالمزمار، ثم ردَّدت الطيور الأخرى النشيد، ولم يبدُ عليها أي خوف من الصبيين وهما يقتربان.
وانحنى هنري كصياد من الهنود الحمر، ووضع حجرًا في جلد مقلاعه وتأهَّب للتسديد، وأشار إلى ألبرت ليحذو حذوه.
وإذا بأجراس الكنيسة تدق في هذه اللحظة عينها ممتزجة بأناشيد الطيور، فألقى ألبرت بمقلاعه فجأة، وبادر إلى إبعاد الطيور حتى تكون في مأمنٍ من حجارة رفيقه. وماذا يعنيه إذا ضحك هنري منه؟! وهل يمكن أن يهمه أي شيء ما دام قد فعل ما أحسَّ في أعماقه بأنه هو الأمر الصواب. لقد رنَّت في أذنه أجراس الكنيسة حينئذٍ كأنها صوتٌ صادرٌ من السماء، واقترن رنينها بأفكار تراوده عن الوصية التي تقول: «لا تقتل.»
واقتضاه ذلك من الشجاعة أكثر ممَّا اقتضته أية مباراة من مباريات الصبيان التي تقتضي الجرأة والإقدام، على أنه أحسَّ عندئذٍ أنه لم يعد يخشى ما يظنه به غيره من الصبيان؛ فقد آنس من بعضهم أنهم يفهمونه، وبدأ يُحس بالإحساس نفسه الذي يساوره عند تعذيب الحيوانات المسكينة أو قتلها. وكان قد مضى من قبلُ مرتين يصيد السمك بسنارته في نهر فيخت لأنه طُلب منه أن يفعل، ولكنه أعرض عن هذا الفعل لأن هذه الرياضة فقدت متعتها بالنسبة إليه، حين كان يرى الديدان المعلَّقة في الشص وأفواه السمك تضطرب بعد أن وقعت في الصيد.
وحتى في ذلك الوقت كانت الأفكار قد بدأت تتضح في عقل ألبرت شفيتزر، وإن كان لم يجد الكلمات التي يعبِّر بها عنها إلا بعد ذلك بكثير. تُرى أي حق يُبيح له أو لغيره أن يقتل أو يعذِّب مخلوقًا حيًّا من أي نوع إذا كان ثمة سبيل واحد يصرفه عمَّا يريد أو يصرفهم عمَّا يريدون؟ لقد كان يعلم أن سببًا واحدًا هو الذي يدعوه إلى قتل صقر ينقَضُّ على حظيرة ليختطف فرخًا لا حول له ولا قوة، أمَّا أن يرمي المرء طائرًا يشدو على شجرة لمجرد الاستمتاع بالقتل فشيءٌ آخر. وقد يُباح لزارع أن يقتطع ألف زهرة برية في مرج صيد حين يحصد العشب ليُطعم ماشيته، ولكنه إذا ما قطف بلا تفكير وهو عائدٌ إلى بيته زهرةً واحدة تنمو على جانب الطريق فإنه يكون بذلك قد أصاب حياةً بضررٍ بلا مبرر.
وترك ألبرت مدرسة القرية حين بلغ التاسعة من عمره، وذهب إلى المدرسة في مونستر على مسيرة ميلين، وكان يمضي في الطريق إليها وحده رَوحةً وجِيئة، وفي خلال هذه الرحلات زاد إحساسه قوةً بوجود صلة قربى تربط بينه وبين الطبيعة. وكان لا يكاد يعلم أي الفصول يُؤْثِر لأنه كان قد بدأ يشعر بأنه جزءٌ من الفصول جميعًا.
وكانت أشجار القسطل والكرز التي تنمو في الأخدود العميق تهتز أوراقها السُّمر والصُّفر في طريقه وهو يسير في فصل الخريف، والكروم تنوء بحملها من الأعناب الأرجوانية اللون، ثم سقط الثلج وغطَّى أولًا قُنة جبل هوهنك العالية كأنه قلنسوة بيضاء أنيقة حطَّت على رأس عملاق، ثم انتشر الثلج مسفًّا في الوادي حين أخذت الريح تهب قارصة، وكانت أشجار الكرز في الربيع مغطاةً بالأزاهير، فبدت في بياضها كأنما كان الثلج لا يزال يتلبَّث فوقها، وراحت الفراشات كرقائق الثلج تسبح مع النسيم رائحةً غادية بين هذه الأزاهير، ونشطت طيور الحن والدغناش وعصافير الشوك الصغيرة إلى بناء أعشاشٍ جديدة أو إصلاح أعشاشها القديمة التي هجرتها في فصل الخريف، وانبعثت اللقالق العديمة الصوت تُقعقع بمناقيرها الطويلة الحمر كأنما توقع ما يشبه اللحن.
وكانت الأرض ترتفع ارتفاعًا وعرًا على جانب، وتنحدر على الجانب الآخر منفرجةً عن مرجٍ ينمو فيه الخشخاش القرمزي والحنطة وافرة خلال العشب في فصل الصيف. وكان صفٌّ قاتم من الأشجار يخط الوادي كاشفًا عن مجرى نهر يشدو وينبعث منه صوت رشاش، ومياهه تجتاز الصخور بيضاء ناصعةً كأنها ملاءات من الكَتان انتشرت في حوض.
وكانت التلال على البعد تنهض كأنها أمواج كبار تعلو وتهبط تُطاول قممُها الشمس، وتُلقي ظلالها رقعًا على سفوحها، وتبدو أحيانًا سحابةً شعثاء كأنما أمسكتها قُنة من هذه القنن، ولكنها تنسل منها متخذةً صورةً أخرى وتنساب متلكئة. وكان المرء في فصل الصيف حين يسكن الهواء فلا تسمع له نأمةً ولا صوتًا يكاد يظن أنه يسمع في الفضاء ألحانًا كثيرة، تنبعث من الجلاجل المُعلَّقة في رقاب البقر.
وكانت القرى الصغيرة التي تستكن على طول السفوح تُرى بوضوحٍ من الطريق العالي، ولكل منها كنيسة ترتفع منارتُها فوق الأسطح المغطاة بالقرميد الأحمر.
وكانت تقوم على تلٍّ من التلال أطلال قلعة قديمة تستطيع أن تحمل صبيًّا على أن يحلم بفرسان الزمن الغابر والقصص التي تُقرَأ في كتب التاريخ عن شارلمان وأد الريخ أول دوق من دوقات الألزاس وابنته الصالحة القديسة أوديل. وكان ثمة أيضًا نوادر تُروى عن الكونت رودولف الشرير الذي كان يعيش في قلعة هوهلا نسبورغ منذ ثمانمائة عام، ونشر الرعب في التلال والوادي. وكان هذا الكونت حين يفرغ من الحرب يُنفق وقته في الصيد، ويطأ محصولات الفلاحين بجياده وكلابه فيُفرِّق شمل القطعان من أغنامهم وماشيتهم، ويقتل بلا شفقة ولا رحمة الأيائل والظباء الحمر.
وقد حاول ألبرت مرةً أن يرسم القلعة، ولكنه لم يرضَ عن هذا الرسم، ثم عاود الكرَّة محاوِلًا أن ينظم أبياتًا من الشعر يصف فيها ما رأى في رواحه كل يوم دائمًا إلى مدرسة مونستر وغُدُوِّه منها، ولم يرضَ ألبرت عن نظمه أيضًا، وأدرك أن موهبته لا تنصرف إلى التصوير أو إلى الشعر، وإنما الموسيقى هي خير ما يمكن أن يعبِّر به عن أحاسيسه. وحتى في ذلك الوقت الذي بلغت فيه سِنه التاسعة كان يُسمح له أحيانًا أن يعزف على الأرغن في الصلوات التي تُقام في الكنيسة نائبًا عن العم إلتيس.
وأغلقت المدرسة أبوابها في أواخر شهر يونيو، ذلك الوقت الذي ازدهرت فيه أشجار الزيزفون النامية في فناء المدرسة، وامتزجت روائح الصيف جميعًا في شذًا واحد: أزهار البرسيم والعشب الذي حُصد حديثًا، وأزهار الياسمين، وزهر العسل النامي على حاجزٍ من حواجز السور، وهنالك وجب الكف عن النزهة سيرًا على الأقدام التي كان يمارسها كل يوم.
وكان ألبرت طوال حياته يجد مشقةً في أن ينتزع نفسه من البيئة التي ألفها وشُغف بها حبًّا. وكانت تلك السنة سعيدةً بالنسبة له، ولم تكن الدروس نفسها سهلة؛ لأنه كان في البداية بطيئًا في التعلم، ولكن الأساتذة استطاعوا أن يجدوا وسيلةً لإثارة اهتمامه بالدرس. وكان ثمة مدرس للَّاتينية يعطيه دروسًا خاصة، وكان ثمة أيضًا القس العجوز شافر الذي كان يبث في قصص التوراة التي يحكيها من المشاعر، ما يجعل المرء يكاد يشعر أنه قد شهد بعينيه الأحداث التي ترويها.
«أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر.»
«والآن لا تأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا؛ لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم.»
وكان من شأن ألبرت أن ظلَّ يذكر بعد ذلك بأمدٍ طويل كيف كان صوت الرجل العجوز يفيض بالمشاعر وهو يقرأ.
وقرَّرت الأسرة ألَّا يعود ألبرت إلى مدرسة مونستر في السنة المقبلة، وأن يذهب إلى مدرسةٍ أكبر في مول هاوس في الجزء الجنوبي من الألزاس، حيث كانت تُدرَّس اللغتان اليونانية واللاتينية، وكانت تبعد عن جونسباخ ساعتين بالقطار؛ ولهذا لم يكن في استطاعة ألبرت أن يعود إلى بيته إلا في أيام الإجازات، وودَّ ألبرت من كل قلبه ألَّا تضطره الظروف إلى الذهاب إليها.