الفصل الرابع

«إن الأفكار التي تصوغ أخلاقنا وحياتنا قد غُرست فينا على نحوٍ غريب مستغلقٍ على الأفهام، فإذا ما ودَّعنا طفولتنا انبثق نبتُ هذه الأفكار، حتى إذا ما تملَّكتنا حماسة الشباب للخير والحق، تفتَّحت أزهارها وبدأت تُخرج ثمارها.»

من كتابه: «ذكريات الطفولة والشباب»

ولاحت السنوات الثماني المقبلة في عينَي ألبرت دهرًا بعيد الأمد في اليوم الذي ترك فيه جونسباخ ليتخذ من مول هاوس منزلًا ومستقرًّا، وقد أدرك أنه حقيق بأن يستشعر الفضل الذي أُسدي إليه؛ فإن أباه الذي كان يسعى إلى إعالة أسرته النامية براتب القس الصغير الذي كان يتقاضاه، لم يكن في ميسوره بحالٍ أن يبعث بابنه خارج بلده إلى مدرسةٍ ثانوية، لولا الكرم الذي أظهره نحوه عمه لويس؛ ذلك أن لويس وزوجته صوفي كانا قد حُرِما نعمة الولد، وأبديا رغبتهما في أن يعيش الصبي في كنفهما حتى يتم دراسته هناك.

وكان جده لويس، وهو أيضًا أبوه في العماد، مديرًا للمدارس الابتدائية في مول هاوس، وقد اتخذ هو وزوجته مسكنهما في البناء الكئيب للمدرسة المركزية، وكذلك كانت المدينة نفسها كئيبةً بما فيها من مصانع هي أول شيء يطالع المرءَ وهو يُطل من نافذة القطار، وما فيها من مساكنَ قذرة مكتظة يعيش فيها العمال.

وساور الصبيَّ الذي كان في التاسعة من عمره حنينٌ إلى بلده، وتملَّك قلبَه شوقٌ إلى المرح والضحك والحياة الخَلِية التي كان يحياها في بيته بجونسباخ، بل لقد قلَّ اهتمامه بدروسه عمَّا كان من قبل، وراح يُنفق وقته في أحلام اليقظة حين كان الأمر يقتضيه أن يُنصت إلى مُدرِّسيه.

وكان هذا هو شأنَه في قضاء الأمسيات حين يعود إلى بيت عمه وعمته، وكانا يأخذان الأمور مأخذ الجد والصرامة، لا بالنسبة له فحسب، بل بالنسبة لهما أيضًا، ويسيطر على نهج حياتهما جميعًا طائفةٌ من النظم، لكل لحظة عندهما حساب، من وقت أن يستيقظا في الصباح حتى يأويا إلى فراشهما في الليل، لا يتهاونان أبدًا في اتباع هذا النهج مهما كانت الظروف.

وكان ألبرت ما إن يفرغ من طعام الفطور حتى يمضي إلى البيانو، يمارس التمرن على العزف حتى يحين وقت ذهابه إلى المدرسة. وكانت هذه الحقيقة في ذاتها التي أوجبت عليه العزف قد جعلت من العزف في نظره عملًا أكثر منه متعةً كان يُحس بها من قبلُ دائمًا حين يعزف، فإذا عاد إلى البيت مساءً لا يلبث أن يجد أمامه واجبًا يؤديه. وكان هذا الوقت من اليوم هو الذي ألِف في العام الماضي أن يقضيه في الطريق الهادئ عائدًا من مونستر، يتوقَّف ليرقب عصفور الجنة يمرق مروق السهم فوق المرج، أو فراشةً ترفرف حول زهرة من أزهار الأسطر تأخَّر أوانها واستكنَّ في قلبها اللقح. وكان يجد أخواته الثلاث وأخاه ووالديه أيضًا ينتظرون عودته دائمًا ليُحيُّوه، وكلبه يهز ذيله فرحًا، ويرقص رقصته الصغيرة المأثورة عن الكلاب مُرحِّبًا بقدومه. أما الآن فقد اقتضاه الأمر بدلًا من ذلك أن يجلس في البيت إلى نَضَدٍ تراكمت عليه كتب المدرسة والكراسات، يكد ذهنه في حل مسألة في الرياضة أو يحاول أن يعرب جملةً لاتينية. وكان عقله عندئذٍ يشرد بالرغم من كل شيء في أحلام اليقظة كما كان يفعل في أوقات الدرس بالمدرسة.

وكان يُحس بالأصوات التي تصدر عن الكبار وهم يتحدَّثون معًا في هدوء: جده لويس وعمته صوفي والمرأة الشابة التي تسكن معهم وهي مدرِّسة بمدرسة البنات، وكانت ابنة شافر قس مونستر، وهو ذلك الرجل الطيب العجوز الذي أطلق على ألبرت الاسم المستعار «إيزاك» ومعناه «الضحك»؛ لأنه كان سريع الضحك دائمًا، ولكنه هنا لا يُطلَق عليه أي اسم من هذا القبيل، وفي هذا البيت الذي لم يكن فيه من الأطفال سواه، ولم يشتمل إلا على أناسٍ كبار جادين صارمين، لا يمكن أن يكون فيه من المرح والضحك إلا القليل.

وكان يصل إلى سمع ألبرت في بعض الأحيان قول الكبار عندما يتحدَّثون عن أصدقاء يعرفونهم: «إنه لرجلٌ ناضج التجربة»، ويقصدون بذلك المدح، ولكن ألبرت كان يخالجه شيءٌ من الكآبة حين يسمع كلمة «ناضج» تُقال على هذا النحو؛ فالنضج معناه نهاية النمو، وهو في رأيه الوقت الذي تتبلَّد فيه المشاعر وتنقضي المُثُل وتذهب الحماسة. وكان يتساءل كيف يضحك الرجل الناضج ضحكةً لا تنطلق من كل قلبه حين يذكر أحلامه الأولى جميعًا أو يتحدَّث بها لو تحدَّث، كأنما هذه الأحلام شيءٌ يبعث على الخجل؟

وراح ألبرت يعاهد نفسه في كل حينٍ بأنه لن يتخلَّى أبدًا عن الإيمان بالعدل والسلام والرحمة. ولسوف يظل طوال حياته يحلم بهذه الأمور ويدبِّرها ويسعى إليها، وإذا كان بلوغ النضج في التجربة يعني نهايةً مثل الشباب والشعور بالخجل منها بعض الخجل، إذن فهو لا يريد شيئًا من هذا النضج.

وكانت تمر به خمس عشرة دقيقةً من الحرية المجيدة كل مساء حين يحل وقت إعداد المائدة للعشاء، ويستوجب ذلك إخلاء المائدة من الكتب. ولم يكن يُسمح لألبرت بالخروج من البيت واللعب، إلا أنه كان يُتاح له على الأقل أن ينسى إلى حينٍ الجمل اللاتينية ومسائل الرياضة، ويقرأ أي شيء يريد. وكانت الجريدة اليومية هي أول ما تصل إليه يده، فيقرؤها من أول صفحةٍ إلى آخر صفحة. وكان لا يقرأ القصص في الملحق الأدبي فحسب، وإنما كان يقرأ المقالات جميعًا التي تتناول شئون السياسة الحاضرة. وكان يتذكَّر كل شيء يقرؤه في الجرائد بعكس دروسه التي كان ينساها في يسرٍ كبير، ويستطيع أن يذكر أسماء الأمراء الذين يحكمون بلاد البلقان ورؤساء وزاراتهم أيضًا، ويعرف بالاسم جميع أعضاء هيئة الوزارات الثلاث الأخيرة في فرنسا، وماذا تضمَّن الخطاب الأخير الذي أُلقي في مقر البرلمان الألماني. وما لبثت الدقائق الخمس عشرة أن انقضت سريعًا، حين أصبح العشاء معدًّا، ونُحيت الجرائد جانبًا؛ لأن مصارعة الدروس لم يكن بدٌّ من أن تستأنف بمجرد أن ينتهي العشاء، وإذا ما توافرت بعدُ فسحةٌ من الوقت قبل موعد النوم، حُمل ألبرت على العزف على البيانو ثانية.

وكانت عمته صوفي تقول له إذا تجرَّأ وأبدى قليلًا من الاعتراض: «لن تعلم أي خير يعود عليك من الموسيقى حين يشتد عودك.»

وكان شيء في أعماقه يعترض على هذا النظام القاسي الذي كابده في هذه السنوات، بل إن الموسيقى التي كان يُحبها أصبحت عبئًا عليه. وكان ينصرف عن مزاولة الدرس الذي لقَّنه إياه يوجين مونخ — مدرس الموسيقى — إلى عزف ما يتبادر إلى خياله مؤلِّفًا ألحانًا من بنات أفكاره.

وقد قال يوجين مونخ عنه مرة: «إن ألبرت شفيتزر هو الشوكة التي تحز في جسدي.» وكان يعنِّف الصبي من أجل ما كان يسميه «العزف الجامد».

وكان يصيح به: «ليس لديك إحساس بالموسيقى.»

ليس لديه إحساسٌ بالموسيقى! أنَّى للمدرس أن يعلم؟ وكيف يستطيع أي شخص أن يفطن إلى الطريقة التي يُحِس بها في الصميم من أغوار نفسه. إن هذه الأشياء لا يستطيع أن يحمل نفسَه على تبيانها لأحد. وعادت به الذكرى إلى السنة الأولى التي قضاها في مدرسة القرية حين سمع الصبيان الذين يكبرونه يُنشدون درس الغناء الذي كانوا يتلقَّونه، وقد تأثَّرت نفسه أبلغ التأثُّر وهو بعدُ في هذه السن الصغيرة بالجمال الخالص المنبعث من ذلك التناسق المزدوج في النغم، فلم يسَعه إلا أن يستند إلى الحائط ليحفظ توازنه والأصوات تمتزج منشدة: «لقد كنت جالسًا هنالك في المصنع المشرف على الجدول الجاري من تحتي، أيتها الغابة الجميلة تُرى من أنبتك هناك؟» وظل رنين هذه الكلمات يتجاوب في مخيلته، وكان هذا هو شأنَه حين سمع أول ما سمع الآلات الموسيقية النحاسية تُعزَف جماعة، وخُيل إليه أنه سوف يغيب بلا شك عن وعيه لمجرد المتعة التي يُحس بها من الاستماع إليها، ولكن هذه الأمور كانت أشياء لا يستطيع أن يتحدَّث بها إلى أي شخص خشية أن يُسيء فهمه.

وألفى ألبرت نفسه طوال الأسبوع يتطلَّع إلى حلول يوم الأحد على الرغم من أن الصلوات التي كانت تُقام بالكنيسة في مول هاوس، كانت تثير في نفسه حنينًا أكبر إلى جونسباخ. وقد افتقد صوت أبيه الحنون وهو يتحدَّث على المنبر، وافتقد أيضًا ما ألفه من المضي إلى كنيسة يستطيع فيها أصحاب المذاهب المختلفة أن يؤدوا صلاتهم في وئامٍ وسلام، ولكنه كان يستطيع في عصر أيام الأحد أن يخرج في نزهاتٍ يتمشَّى فيها هو وعمه وعمته. وكان يساير خطاهم هادئًا ساكنًا، ولكن أفكاره كانت تسبح بعيدًا إلى التلال النائية مجتازةً القناة الطويلة التي تنساب مخترقةً البلدة. وكان يفرغ من واجباته كل مساء من أيام الأحد حتى الساعة العاشرة ويُصبح حرًّا يقرأ ما يريد.

كان يفتح صفحات كتابه كطفلٍ جائع في حانوت خباز، ويقرأ بشراهة، وكثيرًا ما كانت العمة صوفي ترفع عينيها عن كتابها متطلعةً إليه، وتعبس مستنكرةً حين تراه يقلب الصفحات في سرعةٍ فائقة؛ ذلك أنها كانت موقنةً كل اليقين أنه ما من أحدٍ يستطيع أن يقرأ بهذه السرعة.

كانت تقول: «ليست هذه الطريقة التي يقرأ بها المرء كتابًا يُلم بصفحاته إلمامًا كهذا؛ فالكتاب يجب أن يُقرأ في تمهلٍ حتى يستمتع المرء بأسلوبه؛ لأن معرفة الطريقة التي كُتب بها الكتاب شيء مهم.»

ولم يكن ألبرت يجادلها لأنه كان يعلم بعدُ أن الفسحة المتاحة له للقراءة سواء زادت خمس عشرة دقيقةً أو نقصت، فإن ذلك يتوقَّف كل التوقف على مزاج عمته. على أنه قد تراءى له أنه إذا استطاع أن يستمتع بكتابٍ حتى الجملة الأخيرة فيه، فإن ذلك لَدليل كافٍ بلا شك على أن أسلوب الكتاب جيد. فإذا ما وجد فيه فقرات طويلةً مملة تغريه بالتجاوز عنها، فإن معنى ذلك أن الكتاب لا يمكن أن يكون قد بلغ في الجودة مبلغًا كبيرًا.

وكانت العمة صوفي صارمةً مع نفسها صرامتها مع الصبي الذي ترعاه، فكانت تسمح لنفسها بثلاث ساعات في اليوم تقضيها في القراءة؛ ساعة قبل العشاء وساعتين من بعده، ولا تجاوز ذلك دقيقةً واحدة. وكانت أصابعها تشتغل حتى أثناء قراءتها ببعض الخياطة أو التطريز، على حين يبقى الكتاب مفتوحًا على النَّضَد أمامها.

وكانت من حينٍ إلى حين تهتف بصوتٍ مرتفع قائلة: «يا له من رجل هذا الكاتب دوديه!» أو «ما أعجب أسلوب هذا الكاتب!»

وكانت قعقعة إبرتيها تُبطئ حتى تكاد تقف حين تنهمك في شيء، فإذا ما اشتد إعجابها بكتابٍ اشتدادًا ضحكت حتى تطفر الدموع من عينيها، ولكنها كانت إذا أشارت عقارب الساعة إلى العاشرة والنصف بادرت إلى طي الكتاب مهما آنست فيه من متعةٍ ومهما كان الجزء الذي بلغته من الصفحة، وأشارت بعلامة إلى الموضع الذي توقفت عنده، ثم ذهبت إلى فراشها.

وكان ألبرت يشتاق إلى المُضي في القراءة حتى يُتم كتابه، ولو اقتضاه ذلك أن يظل جالسًا يقرأ الليل بطوله، ولكنه أيضًا كان يُضطر إلى التخلي عن الكتاب والانتظار أسبوعًا آخر قبل أن يعود إليه مرةً أخرى.

وكان ألبرت يعود إلى جونسباخ ليقضي فيها عطلة عيد ميلاد المسيح، موقنًا أنه ما من شيءٍ كان يستطيع أن يُفسد السعادة والحرية اللتين كان يستمتع بهما في هذه العطلة، على الرغم من أن عيد الميلاد هذا كان هو الوقت من السنة الذي يأخذ فيه أبوه الأمور مأخذ الجد والصرامة مثل عمه لويس وعمته صوفي، فيخلد إلى كتابة خطابات الشكر للأطفال على الهدايا التي تلقَّاها منهم. وكان في صبيحة يوم من الأيام التي تلي هذا العيد لا ينفك عن الجهر بقوله: «اليوم يجب علينا أن نفرغ من كتابة الخطابات؛ فإنكم أيها الأطفال تحبون أن تتقبلوا الهدايا، ولكنكم إذا جاء وقت كتابة خطابات الشكر استسلمتم إلى الكسل، فهبوا إلى الكتابة الآن، ولا أود أن أرى وجوهكم تشوبها أية أمارة من أمارات العبوس والاكتئاب.»

وكان الأطفال يدركون أنه لا مناص لهم من الطاعة، فيجلس ألبرت إلى المكتب في حجرة مكتب أبيه وقد ثارت في قلبه كشأنه دائمًا عوامل التمرد والعصيان؛ ذلك أن قضاء يوم بطوله في حجرةٍ عتيقة صُفَّت فيها الكتب صفوفًا، كفيل بأن يُذهب متعة عيد الميلاد، وكان الأطفال الآخرون حينذاك يتزحلقون على متن زلاقاتهم هابطين التل القائم وراء الكنيسة، أما ألبرت فكان لا مناص له من أن يمضي في كتابة الخطابات لوالديه في العماد ولأعمامه وعماته وأصدقاء أبويه، حريصًا على ألَّا يشوبها خطأ أو بقعة من المداد. وكان خليقًا بأن يحسد أخته لويز التي كانت تسعى إلى الانتهاء من خطاباتها في حينها حتى تفرغ للَّعب، أمَّا هو فكان في كثيرٍ من الأحيان يجلس حتى يدركه الليل، محاوِلًا أن يفكِّر في طريقةٍ يستطيع بها أن يشكر كل واحد من هؤلاء بأسلوبٍ يختلف عن الآخر، ويتحدَّث عن الهدايا الأخرى التي تلقَّاها، ويتمنَّى لكل واحد عيد ميلاد سعيدًا.

وأحس ألبرت بأنه حري بألَّا يضيق بذلك هذه المرة؛ لأنه كان مستعدًّا أن يفعل أي شيء في سبيل ما يصيبه من متعةٍ حين يعود إلى بيته، ولكنه ما إن بلغه حتى وجد أنه قد وقع أمر أزعج والديه وأفسد أيام العطلة عليه أيضًا؛ ذلك أن درجاته في الشهادة التي أُرسلت من المدرسة كانت من الضعف بحيث أصبح من المشكوك فيه أن يُسمح له حتى بالعودة إلى المدرسة من بعد. وكان قد مُنح المجانية بوصفه ابن قس، ولكن هذه المجانية لم يكن من المستطاع أن يظل يحصل عليها، وقد بلغت درجاته هذا المبلغ. ولم يعمد والداه إلى تقريعه أو تعنيفه، ولكنه لاحظ أن عينَي أمه قد احمرَّتا من البكاء، وغشى وجهَ أبيه أماراتُ القلق، فأزعجه ذلك إزعاجًا أكبر ممَّا لو كانا قد لجآ إلى تعنيفه. كان يدرك أن الأمر يقتضيه أن يبذل جهدًا أكبر، وأن يصرف الوقت الذي أنفقه في أحلام اليقظة مكبًّا على دروسه، وظلَّت هذه حاله، وظلَّت درجاته على هذا المبلغ من الضعف، ممَّا جعل أساتذته يهمُّون بأن ينفضوا منه أيديهم يائسين، حتى جاء المدرسةَ مدرس جديد هو الدكتور ويهمان.

كان في الأسلوب الذي نهجه هذا المدرس في إقباله كل يوم على حجرة الدرس وقد أعد درسه بعناية بالغة شيء يؤثر حتى في نفس طفل في الحادية عشرة من سنه؛ فقد لاحظ ألبرت كيف بدا على الدكتور ويهمان أنه يعلم حق العلم مقدار ما يُريد أن يتناوله من الموضوع الذي يشرحه، ويبلغ من ذلك بالضبط ما دبَّر وقدَّر، فيعيد إلى التلاميذ في اليوم المناسب وفي ساعة الدرس المناسبة الكراريس التي أخذها منهم من قبل.

وأعجِب ألبرت بالطريقة التي كان يعمل بها هذا الأستاذ، وبدأ يتخذه مثالًا يحتذيه، وهنالك استقر عزمه على أن يشرع في تدبير عمل يومه بعناية، وأصبح ضربًا من ضروب الرياضة عنده أن يعرف كيف يستطيع أن يُعد كل درس إعدادًا كاملًا، وعدد ما يستطيع أن يكتبه من الرسائل في كُراسته دون أن يقع في خطأ أو يلوِّثها ببقعةٍ من المداد. وأدهش ألبرت بعد ثلاثة أشهر أساتذته ووالدَيه بالدرجات العالية التي حصل عليها والتي جعلته قريبًا من أن يكون على رأس فصله، ثم مضى يطبِّق هذه النزعة الرياضية المتحدية على المواد التي لم يوهب الاستعداد لها مثل الرياضيات واللغات.

ولم يكن ذلك عليه يسيرًا، وكان كثيرًا ما يُضطر إلى الدرس على طريقته هو، لا على الطريقة التي يُريدها أساتذته؛ فكان حتى في العلوم والتاريخ، وهما المادتان المحببتان إلى نفسه، لا يجد مناصًا من أن يُعمِل فكره فيهما، معتمدًا على نفسه، وقد علم أن مسائل من قبيل الرياح المتغيِّرة والرعد وتيار الخليج الدافئ، لا يمكن أن تُفسَّر بالعبارات الواردة في كتب العلوم المدرسية المقرَّرة؛ فقد أحس بأن ثمة أسرارًا تحيط بالطبيعة، وأن كل قطرة من مطرٍ وكل رقيقة من ثلج، ضربٌ من المعجزة بشكلها الفريد، وكلما أسهبنا في شرح الطريقة التي تحدث بها الظواهر زادت في الحق غموضًا. وأصبح لألبرت شيئًا فشيئًا صداقات كان لها مغزًى كبير في نفسه، ولو أنه كان أقل ممَّا درج عليه من خجلٍ في إظهار مشاعره أو أنه وجد أحدًا يستطيع أن يثق فيه لكان خليقًا بأن تُتاح له هذه الصداقات بأسرع ممَّا أُتيحت له، وأن يُعفى من الشقاء الذي كابده في السنوات الأولى التي قضاها في مول هاوس.

ولمَّا مُثِّلت أوبرا تانهاوزر لفاجنر في مول هاوس سُمح لألبرت بأن يشاهدها، وكان ذلك أول مرة في حياته يدخل مسرحًا، وقد أثَّرت فيه الموسيقى التي سمعها في تلك الليلة أثرًا عميقًا، وظل عدة أيام بعد ذلك مستغرقًا في ذكراها حتى غاب عنه أو كاد ما كان يدور حوله من أمور، ومع ذلك لم يستطع أن يحمل نفسه على التحدُّث عنها، وفطن أستاذه في الموسيقى يوجين مونش قليلًا إلى ما يدور في أفكار الصبي، فعنَّفه ثانيةً لعدم استذكاره لدرسه.

وقال له غاضبًا بعد أن فرغ ألبرت من عزف سوناتا لموتسارت عزفًا رديئًا: إنك لا تستحق حقًّا أن تُعطى مثل هذه القطعة الجميلة لتعزفها.

وفتح الأستاذ وهو يتكلَّم مجلدًا يضم «أغنية صامتة من مقام لا الصغير» لماندلسون، ومضى يقول وهو يتنهَّد تنهيدًا مكبوتًا: لسوف تُفسد هذه القطعة عليَّ أيضًا كما أفسدت كل شيء غيرها، ولو كنتَ صبيًّا لا إحساس له لما استطعتُ أن أعطيها لك حقًّا لتعزفها.

وتناول ألبرت القطعة دون أن يجيب، وكانت من القطع التي عزفها كثيرًا لنفسه، وما من أحدٍ كان يعلم مبلغ تأثيرها عليه كما يعلم هو، وقال بينه وبين نفسه وهو يخرج عائدًا إلى بيت عمه: لأُرينه، أجل لأرينه، أعندي إحساس أم لا!

وأمسك في ذلك الأسبوع عن أحلام اليقظة حين جلس إلى البيانو ليتمرَّن، وكان ذلك منه تحديًا يماثل تحديه لدروس فصله سواءً بسواء، منذ جاء الأستاذ الجديد إلى المدرسة، ولم يكتفِ بإعادة قِطع الموسيقى التي قُرِّرت له مرارًا وتكرارًا فحسب، بل إنه أخذ يدرس أيضًا ويجرِّب خير وضع يمكن أن تتخذه أصابعه في العزف، ولمَّا اهتدى إلى الوضع الذي يُناسبه كتبه فوق العلامات الموسيقية.

وبدأ في الدرس التالي، بعد أن فرغ من تمارينه على أوضاع أصابعه وأوزان القطع الموسيقية، يعزف «أغنية صامتة» مكافحًا بكل ما في وسعه ذلك الخجل الذي كان يحول بينه وبين إظهار مشاعره الحقة. ونسي وهو يعزف أن أستاذه يقف فوق رأسه، وانصرف كل الانصراف إلى العزف، فلمَّا فرغ انتظر ليسمع ما يقوله يوجين مونش، ولكن يوجين لم ينطق بكلمةٍ واحدة، وشعر ألبرت بيدٍ تقبض على كتفه وتدفعه بلطف لينهض عن البيانو ثم جلس مونش يعزف كما يعزف الموسيقار للموسيقار، وكان ما عزف أغنية أخرى صامتة لم يكن ألبرت قد سمعها من قبلُ قط، وهنالك نشأت بين الأستاذ والتلميذ صداقة وثيقة العرى، صداقة بقيت حتى أدركت المنيةُ الأستاذ.

وأعطى ألبرت مقطوعةً لبتهوفن لعزفها في الدرس التالي، وظُن من بعدُ أن ألبرت قد تأهَّب للبدء في عزف موسيقى باخ. وإذ بدأ ألبرت يتمرن على تلك الألحان الموزونة التي تتردَّد دائمًا، نفذ إلى روح الموسيقى التي قُدِّر له أن يصفها بعد ذلك بكثيرٍ فيقول: إنما هي السكينة المباركة أو السرور المنعش، وهي أيضًا الألم المبرح أو الألم يحتمله المرء في تسامٍ وجلال.

ومن هنا بدأ ألبرت يُحس اهتمامًا بهذا الملحِّن العظيم وبآثاره إحساسًا استغرق حياته كلها.

ووُعد ألبرت بأن يتلقَّى دروسًا في العزف على الأرغن الرائع بكاتدرائية القديس ستيفان البروتستانتية حيث كان مونش يعزف في الصلوات التي تقام أيام الأحد، وكان هذا حلمًا راوده منذ وقتٍ طويل، ولكن الأمر كان يقتضيه أن ينتظر حتى يتم تثبيته في الدين قبل أن يتأهَّب للبدء في ذلك.

وأخذ يدرس في صبر استعدادًا لهذا التثبيت، كما كان شأنه في دراسته حتى الآن، ولكنه حين بدأ القس الذي كان يُعِد تلاميذ الفصل للتثبيت في سؤاله واجهته المشكلة نفسها التي كانت تقف بينه وبين إظهار مشاعره الحقة، واستبقاه القس ليتحدث إليه على انفراد، محاوِلًا أن يتبيَّن ما يخالجه من شعورٍ حيال هذه المناسبة المقدسة، ولكن ألبرت لم يستطع أن يُتيح لهذا الرجل الصالح بعد أن يتغلغل في أعماقه؛ فقد تردَّد في الإجابة عن أسئلته، وأهمل بعضها فلم يُجِب عنه أية إجابة.

وقد قال القس لعمته صوفي من بعد: إنه يمر بهذا التثبيت مرور أي تلميذ لا يعنيه الأمر.

ولا شك أن العمة صوفي قد فهمت السر في الْتزام ألبرت الكتمان. أولم تكن هي تقول دائمًا إن التحفُّظ هو جوهر التربة الصالحة، وإن أي لون من ألوان الإقدام يجب أن يعد خطأً كبيرًا؟

ورأى ألبرت أن للنفس عفةً يجب احترامها احترامًا لا يقل عن احترام عفة الجسد، وكان يستطيع بعد ذلك بسنواتٍ أن يعود بذاكرته إلى هذا اليوم ويشعر بعدُ بأنه يجب ألَّا يُحمل أحد على إظهار شيء من حياته الباطنة أكثر ممَّا يُحس أن طبيعة الأشياء تقتضيه، بل إن الأم نفسها لا يحق لها أن تكشف الستر عن نفس ولدها، أو تشق لها منفذًا إلى أفكاره وقلبه.

وسار ألبرت في عيد العنصرة هو وغيره من الصبيان في موكبٍ من الأبرشية إلى الكنيسة، وقد راح يوجين مونش يعزف على الأرغن الذي لا يلبث هو أن يبدأ تمرينه عليه. وأحسَّ وهو يستمع إلى الموسيقى الجميلة المأخوذة من مقطوعة هاندل «المسيح»: «ارفعي رءوسك أيتها الأبواب»، أحس بأن هذه الموسيقى تُوائِم أفكاره مواءمةً عجيبة، بل إنه كان قد تأثر أبلغ التأثر بجمال هذه المناسبة وجلالها، حتى أحسَّ بالإعياء أو كاد، على حين كان عمه وعمته قلقَين عليه أشد القلق، والقس ينظر إليه نظرته إلى مستهينٍ لا يحفل بالأمر.

ولم يلبث بعد أن ثبت في دينه أن سُمح له أن يجلس بنفسه إلى الأرض يُجري أصابعه على دساتينه الثلاثة وأنابيبه الاثنتين والستين جميعًا، واستطاع من بعدُ أن يحل محل أستاذه أحيانًا في العزف أثناء الصلوات، ثم حان أخيرًا الحين الذي راح فيه يعزف الموسيقى المصاحبة في كونشيرتو كان يؤديه مرتلو الكنيسة، وأدرك حينئذٍ السرور الذي كان يُحسه بلا ريب جده شيلينجر حين كان يجلس إلى الأرغن مرسلًا تلك الأنغام الزاخرة الرنانة بقداس براهمز، مختلطةً بالأصوات الجهيرة للمرتلين وفرقة الموسيقى.

وكانت السنوات الثماني التي بدت له من قبلُ دهرًا حين قدم أول ما قدم إلى مول هاوس صبيًّا في التاسعة وحيدًا مستوحشًا يحن إلى بيته قد أشرفت الآن على الانتهاء، ولا يلبث أن يودع الأصدقاء الذين كان قد عرفهم، والأساتذة الذين كان قد ألف أن يُعجَب بهم ويحترمهم، وامتلأ قلبه إذ فكَّر في أنه سيفارق عمه لويس وعمته صوفي بالحزن نفسه الذي أحسَّ به من ثماني سنوات مضت حين غادر جونسباخ قادمًا إلى مول هاوس. أمَا وقد كبر الآن، فقد استطاع أن يرى أنهما بكل ما الْتزماه من نظامٍ صارم قد أفاءا عليه حبًّا وحدبًا، وأشعراه بشعورٍ من الأمن لا يجده الصِّبيان في كثيرٍ من الأحوال عندما يغتربون ملتحقين بمدرسة بعيدًا عن بيوتهم. وكان يستطيع أن يعود بذاكرته إلى تلك اللفتات الصغيرة جميعًا التي كانا يُظهران بها حدبهما عليه، ولو أنه كان في ذلك الوقت قلما يلاحظها.

وانصرف فكره إلى يومٍ في مطلع الربيع من ذلك العام الأول، حين كان بعدُ يحن إلى بيته، ويشتاق إلى تلك الحرية التي كان ينعم بها في حياته بجونسباخ. وكان وقتذاك جالسًا إلى المنضدة بعد الساعة الرابعة، ساعة تناول القهوة، وقد بسط كتبه أمامه متأهِّبًا للعودة إلى أداء الواجبات المدرسية التي كان يؤديها في البيت. وكان اليوم مشمسًا، دفيئًا دفئًا كفيلًا بإذابة آخر الرقع المهلهلة المتبقية من الثلج، وإذا بعمته صوفي ترفع بصرها إليه منصرفةً عمَّا انشغلت به من كي الملابس، ورأته يمد بصره في شوقٍ من خلال النافذة، فقالت له وهي تضع مكواتها على الموقد: هيا بنا نخرج في نزهةٍ قصيرة سيرًا على الأقدام.

وراحا يتمشَّيان في صمت، ومضيا يسيران ويسيران مجتازَين القناة، حيث كانت كتلٌ من الثلج تسبح، ثم تسلَّقا السفح الجنوبي للتل، حيث استطاع ألبرت أن يتطلَّع إلى القُنن البيضاء لجبال الفوج التي كانت تحف بالوادي الذي يقوم فيه بيته، وكان يتوقع أن يسمع عمته في أية لحظة تقول بأن الواجب يقتضيهما الآن أن يستديرا عائدَين إلى البيت، ولكنها مضت تسير معه حتى ادلهمَّ الليل بما لا يسمح لهما بأن يمضيا في السير أكثر مما سارا، ولم يدُر بينهما قط حديث عن هذه النزهة، ولكنه أحس من يومها بأنه قد نشأت بينهما رابطة من التفاهم المشترك.

أما وقد كبر الآن فقد أخذ يقوم بنزهاته على الأقدام وحده، وتقوده خُطاه في كثيرٍ من الأحيان على السفوح الممتدة على الجانب الجنوبي للمدينة، حيث كان يستطيع أن يرى الجبال التي يحبها، وكان في بعض الأحيان يلقى رجلًا عجوزًا يسير في الطريق الذي يسير هو فيه، وقد أمسك الرجل قبعته بيد وشعره الطويل سابحٌ في الهواء، وأمسك باليد الأخرى كشأنه في كثيرٍ من الأحيان باقةً من أزهارٍ برية جمعها، وقد ألفا أن يتعرَّف كل منهما إلى الآخر، ويسيرا مجتازَين الحقول والغابات. وكان الرجل هو أدولف شتروبر الشاعر الألزاسي الذي كان كل صبي من صبيان المدارس في الألزاس يعرف قصائده التي تغنَّى فيها بجمال البلاد ومباهج الصداقة وحياة الأسرة. أما وقد أوشك ألبرت أن يغادر مول هاوس، فإنه استطاع أن يحصي من الذكريات السعيدة للسنوات التي قضاها فيها أكثر ممَّا أحصى ذكريات الشقاء. وكان كلما تطلَّع إلى العودة إلى جونسباخ ساوره ذلك الشعور نفسه بالأسى الذي كان يُحس به كلما غادر مكانًا ألفه وأنس به. وكان اليوم الأخير من أيام الامتحان مناسبةً جليلة كفيلة بأن تملأ قلب كل فتًى بالرهبة من ارتداء سترة رسمية سوداء وسراويل سود، والوقوف وحيدًا في رواقٍ ممدود ينتظر فيه زملاؤه في الدراسة دورهم للإجابة عن أسئلةٍ ألقاها عليه مبعوث إدارة المدرسة القادم من ستراسبورج في هذه المناسبة، وقد جلس أساتذتهم إلى منضدةٍ طويلة تواجه الفتيان، وراحوا ينظرون إليهم في جدٍّ أو قلق أو مبتسمين ابتسامات التشجيع.

وكان ألبرت قد حصل على سترةٍ رسمية سوداء كانت تخص من قبلُ قريبًا من أقرباء أمه، ولكن لم يتيسَّر له سراويل سود تناسبها.

وقال له عمه لويس: «لأعيرنك سراويلي.»

ولم يهتمَّ ألبرت ولا عمه كثيرًا بالاختلاف بينهما في المقاس؛ فقد كان عمه قصيرًا بدينًا وألبرت طويلًا رفيعًا، فلمَّا حاول أن يلبس السراويل في صبيحة يوم الامتحان لم تكد تبلغ طرفَي حذائه العالي، فربط شريطًا في حمَّالتَيه ليزيد من طول السراويل، ولكن ظلَّت هناك فرجة بين السترة والسراويل، ثم رأى أن الوقت أقصر من أن يُعير هذا الأمر الْتفاتًا، ولم يجد بُدًّا من لبسها على أية حال.

وألقى عليه زملاؤه الذين كانوا في أحسن هندام نظرةً حين وصل إلى المدرسة وبدءوا يضحكون، وأدرك ألبرت موضع الفكاهة في هذا الموقف وضحك معهم، وأخذ الفتيان يديرونه في كل اتجاه حتى يستطيعوا أن يروا منظره من جميع الجوانب، وأغرقوا في الضحك واستخفهم الطرب، فلم يستطيعوا أن يبادروا بالتزام الجد حين أُمروا بدخول قاعة الامتحان، بل إن الأساتذة الذين كانوا يجلسون إلى المنضدة قد ابتسموا عندما رأوا ألبرت يدخل، ولكن المبعوث حدجهم بنظرةٍ صارمة، وكانت ملامح وجهه تقول بجلاء: ما المقصود بمثل هذا التهريج؟ وانتقى من الفتيان ذلك الفتى الذي رأى أنه هو السبب في هذا التصرف النابي، وبدأ يمتحنه بنفسه وأخذ يُلقي عليه السؤال تلو السؤال، وانبعث ناظر المدرسة الذي كان في يومٍ من الأيام قلقًا أشد القلق من أجل الدرجات الضعيفة التي نالها ألبرت خلال السنة الدراسية الأولى ينظر إليه نظراتٍ تنم عن التشجيع، ولكن المبعوث كان يمعن في هز رأسه حين يخطئ الفتى في الإجابة عن سؤال، وسأله المبعوث: كيف كانوا يرسون السفن على ما وصف هوميروس؟

وكانت قصص هوميروس حافلةً بالمغامرات ممَّا يلفت انتباه أي فتًى، ولكن ألبرت حين كان يقرؤها لم يبدُ له قط ما يجعله يُعنَى بمعرفة كيف كانوا بالتحديد يُرسون السفن في ذلك الوقت، ولم يكن يُعنى قط بتذكُّر أسماء جميع هؤلاء الأسلاف، ولا بالعلاقات التي كانت تربط بين الآلهة والأبطال، وكان سائر الفتيان في الفصل لا يعرفون أكثر مما كان يعرفه ألبرت إلا قليلًا، وراح المبعوث الساخط يُلقي عليهم محاضرةً في ذلك.

وانتظر ألبرت متلهِّفًا المادة التالية التي سيُسأل فيها، وتحيَّر أتكون الرياضيات وهي المادة التي هو أضعف ما يكون فيها، ولو حدث هذا فإنه لراسب بلا شك. ولكن المبعوث لم يكن أيضًا يُجيدها كل الإجادة؛ ولذلك بدأ المبعوث يسأل في المادة المحببة إلى نفس ألبرت وهي التاريخ. وكانت الأسئلة في ذلك هي خير ما يستطيع ألبرت الإجابة عنه، واستطاع أن يرى غضب المبعوث يخمد رويدًا رويدًا، وانتهى به الأمر أن عدل عن إلقاء الأسئلة إلى مناقشة أمورٍ معينة حدثت في الماضي كأنما كان يتباحث مع ندٍّ له، وتحدَّث عن الفرق بين آثار الاستعمار الإغريقي واستعمار الرومان، ونسي فيما يظهر كل النسيان أنه يعقد امتحانًا.

ولم تكن درجات ألبرت من أعلى الدرجات في الفصل، ولكن شهادته حملت كلمات بخط المبعوث نفسه، أثنى فيها على ما أظهره ألبرت في امتحان التاريخ.

ولمَّا انتهت الامتحانات ودَّع ألبرت عمَّه وعمته، وأحس بإعزازٍ حيالهما في هذه اللحظة لم يُحسَّ به على هذا النحو من قبلُ قط، وأخذ يعجب كيف مرَّت السنوات الثماني الماضية بمثل هذه السرعة؛ لقد كان صبيًّا في التاسعة عندما جاء إلى مول هاوس أول مرة، متكرِّهًا متبرِّمًا أشد التبرم، وها هو ذا يعود الآن إلى داره فتًى في السابعة عشرة، أشد قوةً وأطول قامةً مما تقتضيه سِنه.

وكانت أسرة شفيتزر قد انتقلت من البيت العتيق بجدرانه القاتمة الرطبة إلى بيت آخر يقوم في حديقة مشرقة زرع أبوه فيها أشجارًا غضة أسند جذوعها بروافد لتنمو مستقيمة العود، وكانت شُجيرات الدفل تُزهر في أصصٍ خشبية بجوار سلم الدار.

ولم تكن السنون الماضية قد غيَّرت من أبويه إلا قليلًا، فكانت لحية أبيه سوداء ليس فيها أثر لشيب، وظلَّت أمه بعدُ هيفاء تبدو شابةً كما كانت يوم أن غادر الدار، أما أخوه بول الذي كان إذ ذاك طفلًا ربلًا مستدير الوجه فقد غدا الآن طويلًا في مثل قامته أو يكاد، وأصبحت أخواته غادات شابات، وقد رفعت الاثنتان الكبريان منهما شعرهما بالدبابيس كما تفعل الشابات الكبيرات، بل إن أديل أصغرهن ارتدت مئزرًا طويلًا وقميصًا لا يتجاوز الخصر، له أكمام مسحوبة مثل ما ارتدته أختاها الكبريان.

وأقبل مصور ليلتقط للأسرة جميعًا صورةً شمسية بُعيد عودة ألبرت، واجتمع أفرادها في الحديقة بجوار المنزل، بل إن الكلب قد قبع متكوِّرًا عند قدمَي سيده ليظهر في الصورة، وأخرج ألبرت وبول درَّاجتيهما ووقفا بجانب أفراد الأسرة في اعتزاز، على حين جلس الآخرون على مقاعد وعلى درجات السلم بين الفتيين.

وكانت الدراجة أشبه شيء بالبدعة في جونسباخ وقتذاك، وكان قد مضى على هذه البلدة عشر سنين فحسب منذ رأت أول دراجة تُقبل مجتازةً القرية، وكان ألبرت في ذلك الوقت في السنة الأولى بالمدرسة، فخرج هو وغيره من الأطفال في الفسحة لينظروا مليًّا إلى ذلك الاختراع العجيب، وما أكثر ما ضحكوا جميعًا إذ رأوا راكبها يلبس سراويل قصيرةً مثلهم، بدلًا من أن يلبس سراويل طويلةً كما يفعل الكبار!

وكان ألبرت يُحس أحيانًا أن الأحوال تقتضيه بلا شك أن يكون أسعد شخص في العالم جميعًا؛ فقد تهيأ له بيت هنيء، فيه تعاطف وفيه أمن، وفيه الصحة السابغة؛ ذلك أن أباه الذي كان يلازمه المرضُ في كثيرٍ من الأحيان بالبيت القديم قد شُفي تمامًا منذ أن انتقل إلى البيت الجديد. وورثت أمه ميراثًا قليلًا رفع عنهم عبء المتاعب المالية المُلِحَّة. ونَعِم ألبرت نفسه الذي كان طفلًا شديد الضعف بادي السقم بقوة ونشاطٍ كفَلَا له تحقيق أي شيء يستقر عزمه عليه، وأخذ يدبِّر الالتحاق بجامعة ستراسبورج في ذلك الخريف، ومن ثم تفتحت أمامه أبواب العالم جميعًا.

على أنه كان لا يستطيع أن يفكِّر في هذه الأمور دون أن يُلقي بباله أيضًا إلى أولئك الذين لم يغدِق عليهم الحظ كما أغدق عليه، فتبلبل خاطرُه وتساءل: لمَ تكون حياته أسعد من حياة الآخرين؟ وبأي عدلٍ يتقبَّل هذه السعادة كأنها من حقه على حين يجد آخرين يُكابدون الأحزان أو الآلام؟ لا شك أنه يستطيع أن يفعل شيئًا لمساعدتهم، ولكن ماذا يمكن أن يكون هذا الشيء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤