الفصل الخامس
«اعمل على أن تشب وتترعرع في رحاب مُثُلك، فلا تستطيع الحياة أبدًا أن تسلبها منك، وإذا استطاع كلٌّ منا أن يُصبح في غده مثلما كان في الرابعة عشرة من عمره، فما أحرى هذا العالم أن يتبدَّل ويغدو حاله غير هذا الحال.»
لقد كانت تسري في جامعة ستراسبورج في أواخر القرن الماضي نفحةٌ من الحرية؛ فقد كان أغلب أساتذتها شبابًا ضاقوا بالمناهج البالية العتيقة للجامعات الأخرى التي دأبت على العناية بأن تتخذ امتحاناتها من الكتب المقرَّرة الجامدة. وكان في حماسة هؤلاء الأساتذة الشبان ما يُشبه العدوى سرت في المحاضرات التي كانوا يُلقونها في قاعات الدرس، وتعاون الأساتذة والطلاب جميعًا على أن يجعلوا من هذه الجامعة جامعةً مثالية.
وقضى ألبرت شفيتزر شهرًا في باريس يزور عمًّا من أعمامه كان يعيش فيها قبل أن يُسجِّل اسمَه في الفصول التي سيلتحق بها في جامعة ستراسبورج، واستطاع وهو في باريس أن يتلقَّى دروسًا على شارل فيدور الذي كان من أشهر مشاهير العازفين على الأرغن في أيامه، وكانت هذه المدة أقصر من أن يتعلَّم فيها شيئًا أكثر من القدر الذي كان يحتاج إليه للدراسة التي تُتيح له الارتفاع بأدائه الفني حتى يبلغ تلك المرونة الكاملة التي كان يصبو إليها في عزفه.
وكان وصوله إلى ستراسبورج في نهاية أكتوبر سنة ١٨٩٣م، ولم يجد في يومه من الساعات ما يكفي للقيام بكل ما كان يريد أن يقوم به؛ فقد اختار أن يتلقَّى منهجًا دراسيًّا في اللاهوت؛ لأنه أراد أن يعظ الناس كما يفعل أبوه، ودرس الفلسفة كما درس فن الأداء الموسيقي، بل إن ذلك كله لم يكفه؛ فقد أراد أن يتعلَّم كيف يقرأ العهد القديم في لغته الأصلية، فانبرى لدراسة اللغة العبرية ووجد في فسحةٍ من الوقت لدراسة الأرغن والعزف عليه في كنيسة القديس وليم غير بعيد عن الجامعة، حيث كان إرنست مونش أخو أستاذه في مول هاوس هو عازف الأرغن هناك.
وكان إرنست مثل أخيه قد شُغف هو أيضًا بباخ خاصة، وشرع يعزف سلسلةً من كونشترات باخ هناك في صحبة المرتِّلين والفرقة الموسيقية والأرغن، وكان ألبرت يعزف الموسيقى المصاحبة للأقاصيص الشعرية والألحان العاطفية أثناء التمرينات. وكان يُسمح لألبرت بالعزف بعد ذلك في المحافل نفسها حين يعجز يوجين مونش عن القدوم إلى مول هاوس.
فلمَّا بلغ ألبرت التاسعة عشرة من عمره لم يكن بُدٌّ من أن يقضي السنة المقرَّرة عليه في التدريب العسكري كما سبق أن تنبَّأ القندلفت جيجل. ومضى في التدريب والزحف العسكريَّين هو وغيره من الفتيان الذين في مثل سنه، ولكنه كان قد أوتي قوة عملاق شاب، فلم يعرف قط كيف يُحس المرء بالتعب، وكان كلما استطاع أن يجد فسحةً من الوقت اتخذ مكانه من الدراسة المنتظمة في قاعات الدرس، فإذا خرجت سريته في المناورات ألفيت في حقيبته المحمولة على ظهره سِفرًا من الأسفار المقدسة باللغة اليونانية يدرسه بالليل أو في أوقات الراحة؛ وذلك أنه كان يؤمِّل في الحصول على منحةٍ علمية تُساعده على السير في دراسته الجامعية.
وكان يستطيع أن يعود إلى الماضي الآن في شيءٍ من الاستمتاع، فيذكر تلك السنوات الأولى المليئة بالأسى التي قضاها في مول هاوس؛ كان ينفق وقته في أحلام اليقظة البليدة، وما لقيه بلا شك من انزعاجٍ وكدر حين تخلَّص من هذه الأحلام. وبدأ يدرس بجدٍّ واجتهاد، أجل كان يستطيع الآن أن يستعيد هذه السنوات، سنوات الرعونة والطيش وقتما كان يزعج الكبار بإصراره على مناقشتهم في مسائل الساعة، ومجادلتهم جدالًا يفسِّر أفكاره هو ويوضِّحها. على أن هذه السنوات لم تكن أيامًا ضائعة؛ فإن تلك الرغبة في المعرفة التي أظهرها وهو بعدُ طفل حين كان يتساءل ما الذي فعله والدا المسيح بالهدايا التي قدَّمها الحكماء الثلاثة، وذلك التقصي الذي لا يكل ولا يمل لمعاني الأشياء، قد أوغلا به الآن في دراساته؛ ولذلك لم يقنع بما قرأه في الكتب، أو بما قاله الأساتذة في قاعات الدرس، ورأى أنه يجب عليه أن يلتمس بنفسه الحلول للمسائل، ويُناقش الأمور على طريقته، وكذلك لم تكن الأحلام قد تخلَّت عن ألبرت تمامًا، بل أصبح الآن لها معنًى، كما أنها أنارت له الطريق في بحثه عن الحق، كان يستطيع أن يجلس ويفكِّر ويحلم في معجزات الحياة الكثيرة التي يراها ماثلةً في كل مكان حوله، ماثلةً في نصل من العشب، وفي أكمام زهرة تتفتَّح، وفي سُحب تنساب، وفي حقول من الحنطة الناضجة تتمايل وتتماوج. وفكَّر كيف أن أدنأ مخلوق وأصغره تتملكه الرغبة في الحياة، بل إن هذه الرغبة لا تقل عن رغبته هو في الحياة.
وحدث في صبيحة يوم من أيام أسبوع العنصرة — وقد آب إلى بيته في جونسباخ أيام العطلة — أن استيقظ من نومه معاودًا التفكير في مبلغِ ما حُقَّ عليه من شكرٍ على النعم التي ينعم بها، واستطاع أن يسمع من نافذته أغنيات الطيور، والأصوات الآمنة المطمئنة تنبعث من قريته هبَّت من نومها وشيكًا، وأحسَّ بمتعة العودة إلى البيت ثانيةً ينعم بصحبة أبويه الحانيين الواعيين وصحبة أخواته وأخيه، وكان من المتعة أيضًا أن يستطيع الذهاب إلى الجامعة. وكان يُحب الغرفة التي حصل عليها في كلية القديس توماس، تلك الغرفة التي تُطل على الحديقة الهادئة المسوَّرة وأشجارها الوارفة الظلال، وقد أصبحت دراساته فيها الآن أشبه بلعبة يدبِّر لكل منها ويستَعِد لها، كما كان يفعل. وفكَّر أيضًا في الأمسيات السعيدة التي قضاها مع إرنست مونش عازف الأرغن يتمرَّنان على عددٍ وافر من قصائد باخ الغنائية ويتحدَّثان عن الطريقة التي ارتأيا أن يؤديا بها هذه القصائد. وعادت المسألة المعهودة فتمثَّلت له حين مرَّت هذه الأفكار برأسه: تُرى هل كان من حقه أن ينعم بهذه السعادة؟ وأحسَّ الآن بالإحساس نفسه الذي أحسَّ به وهو بعدُ طفل حين تبيَّن له أن جورج نيتشيلم لم تكن لتُيسَّر له ما تيسَّر لألبرت في عشائه من حساءٍ دسم. وكانت هذه المسألة كسحابةٍ صغيرة تراود الأفق، وقد كان ألبرت خليقًا أن يشيح بوجهه عن هذه المسألة وينساها إلى حين، ولكنها ظلَّت ماثلةً هنالك هي هي بعينها، تنمو رويدًا رويدًا وتقترب شيئًا فشيئًا، وأدرك أخيرًا أنه لم يعد يستطيع أن يتجاهلها. وما دام في العالم أناس يعانون الألم والحاجة فإنه لا يكفيه أن يتقبَّل سعادته وكمال عافيته دون أن يفكِّر أي تفكير في الآخرين؛ فقد كان ينعم بقوةٍ تُمده بقدرةٍ على العمل والدرس ليلًا ونهارًا دون أن يعرف أبدًا كيف يُحس المرء بالتعب. وهنالك أدرك أنه يجب عليه أن يبذل هذه القوة في مساعدة الآخرين. كان قد أعفاه الله من الألم، ومن ثم يجب عليه الآن أن يلتمس وسيلةً يستطيع بها أن يخفِّف عن الآخرين آلامهم، ولا مناص له من أن يتحمَّل نصيبه من شقاء العالم إلى أن يولي ظهره لهذا الشقاء ويعيش لنفسه فحسب، واتضح له ما ظل خافيًا عنه حتى الآن من معاني الكلمات الواردة في التوراة: «ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها.»
وفي ذلك الصباح من شهر يونيو والشمس تميل مخترقةً نوافذ غرفته في البيت استقرَّ ألبرت شفيتزر على أمرٍ أصبح فيصلًا في حياته، وكان آنئذٍ في الواحدة والعشرين من عمره، أجل استقرَّ عزمه على أن يُنفق السنوات التسع المقبلة من حياته حتى يبلغ الثلاثين من عمره في عمل ما يحب: كالمُضي في دراساته في العلوم وفي الموسيقى والعمل قسًّا كأبيه، ثم يتخلَّى عن هذه الأمور ويكرِّس بقية حياته في خدمة البشر على نحوٍ مباشر أكثر ممَّا فعل. ولكنه لم يكن على بينةٍ كيف يفعل هذا بالضبط، وكيف تسير الأمور معه. أما وقد استقرَّ رأيه على هذا القرار الآن فقد أحس في أعماقه بشعورٍ من الطمأنينة والسكينة.
ويندر أن تمر بالمرء في حياته سنوات مزدحمة بالعمل هذا الازدحام، وأن يبلغ في تحقيق رغباته ما بلغ في مثل تلك السنوات التي أعقبت ذلك؛ فقد حصل ألبرت شفيتزر في الامتحان الأول الذي دخله في اللاهوت على منحةٍ علمية أتاحت له أن يمضي في دراساته، فقضى شتاءً في باريس وصَيفًا في برلين، ثم عاد إلى ستراسبورج ليُعد رسالةً ينال بها إجازة الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت جميعًا.
ولم ترقَ الدرجات التي حصل عليها قط إلى مرتبة الدرجات العليا في أي فصلٍ من الفصول التي درس فيها، ولكنه كان قد أوتي ذلك الطراز من العقل المتطلِّع الذي يغوص به في أعماق أي موضوع مستخرجًا الحلول لنفسه بدلًا من أن يتقبَّل أي قول مقرَّر ورد في كتاب، فإذا وقع على أية إشارة إلى نظريةٍ قال بها فيلسوف بعينه عاش منذ أمدٍ بعيد، أو صادف أي شيء حول كتابات شخص غامض عدا عليه النسيان، لم يقنع حتى يعود إليه ويرجع إلى الأصل ليكوِّن فيه رأيه، وأحسَّ بأن الواجب يقتضيه أن يقرأ أمهات الكتب في الفلسفة القديمة والحديثة.
وكانت كل واردة من المعرفة تقود إلى أخرى فيقوده تطلُّعه إلى المُضي في البحث عن المزيد. وقد كُلِّف كل طالب من طلاب اللاهوت أن يكتب عن موضوع العشاء السري، فرجع ألبرت إلى النص اليوناني للتوراة وإلى كل كتاب استطاع أن يجده عن الأناجيل وإلى كل مؤلَّف يتحدث عن حياة المسيح، ولم يقنع بهذا بل درس أيضًا عادات وأساليب القوم الذين عاشوا في الزمن الذي عاش فيه المسيح، وبدأ يفسِّر بعض فقراتها على طريقته ولو كان تفسيره يختلف عن العقائد التي كان مُسلَّمًا بها في أيامه.
لقد كان يؤدِّي تلك السنين عملَ ثلاثة رجال بفضل الاتجاهات الثلاثة التي انتهجها في حياته العملية، فلمَّا حصل على إجازته عُين ناظرًا للكلية اللاهوتية التي الْتحق بها طالبًا، وخُصص له فيها سكن جديد، ولكنه ظل يحتفظ بالغرفة القديمة التي أحبَّها مكتبًا له، وكان يستطيع من هذه الغرفة أن يُطل على نهر إيل الوادع، حيث كان الأطفال ذوو الخدود المورَّدة يلعبون وقد أمسك بعضهم بذيل بعض، بين أشجار الحور على ضفاف النهر، أو يمضون في الألعاب الخشنة على طول المنحدرات المعشبة. وكان يتراءى على بُعد قليل من الكلية فيما وراء الجانب الآخر من النهر السقفُ الشديد الانحدار لكنيسة القديس نيقولا الصغير، بطبقاتها الثلاث من القُمرات، وكانت هذه الكنيسة هي التي كان يتولى فيها عمه الذي سُمي باسمه ألبرت شيلينجر منصب القس، وكان ألبرت الآن قد أصبح هو أيضًا من قساوستها. وكان سيره من الكلية إلى الكنيسة نزهةً بهيجة على الأقدام، يمضي فيها مسايرًا ضفة النهر إلى الجامعة، حيث كان يُلقي محاضرات في الفلسفة، وكانت تقوم غير بعيد من الجامعة كنيسة القديس وليم، حيث كان يعزف على الأرغن كونشيرتات باخ.
وكانت الحياة في نظره تلك الأيام بهيجةً هادئة، وإن كانت زاخرةً حافلة بالأشياء التي كان يفضِّل أن يؤدِّيها دون سائر الأشياء، وكان لا يزال يحتفظ بعافيته وقوته ونشاطه التي عُهدت فيه أيام التحصيل، وما أكثر الليالي التي ظلَّت فيها المصابيح مشتعلةً في حجرة مذاكرته وهو طالب، تلك الحجرة التي اتخذها من بعدُ مكتبًا له. أجل كانت هذه المصابيح تظل مشتعلةً بعد أن تخلد بقية الغرف في بيوت المدينة إلى الظلام، وكان يُعِد في هذه الحجرة محاضراته وعِظاته، فضلًا عن الواجبات التي كانت موكولةً إليه بوصفه ناظر الكلية. وقد وجد بعد ذلك فسحةً من الوقت يُضيف بها عملًا آخر إلى حياته العملية ألَا وهو الكتابة.
وكان قد ورث عن جده حبَّه للأرغن وتطلُّعه إلى معرفة كيف يصنع، وكان أيضًا مثل جده يبعد في كثيرٍ من الأحيان عن سبيله، ويُسرف في ذلك ليرى أرغنًا جديدًا وهو يصنع، ويتبيَّن كيف تصدر عنه تلك النغمات المختلفة — وقد أدَّى به ذلك إلى كتابة مقال سماه «فن صناعة الأرغن والعزف عليه في ألمانيا وفرنسا».
وكان تشارلس فيدور عازف الأرغن الذي درس عليه في باريس هو الذي شجَّعه على ذلك، وكانا قد أصبحا صديقَين حميمين. وجرى ألبرت في زياراته في كثيرٍ من الأحيان لباريس أن يجلس معه ساعات طوالًا في مطعم صغير بالقرب من استوديو فيدور، ويتحدثان عن باخ، وعن الطريقة التي يجب أن تُعزف بها موسيقاه. وقد اتفق رأياهما على أن آلات الأرغن الحديثة كانت أعظم إحكامًا، وأنه قد روعي في صنعها كبر الحجم، ولكن باخ كان قد كتب موسيقاه لتُعزف بتلك المفاتيح التي كانت تتحرك ببطء، وتحتاج من العازف إلى أن يضغط عليها ضغطًا قويًّا ثابتًا، ثم إن هذه الآلات الجديدة لم تكن قد صُنعت كالآلات القديمة صناعةً تنطوي على حب هذه الآلة والحدب عليها. وكانت موسيقى باخ تفقد الكثير حين تعزفها فرق الموسيقى الضخمة وجماهير المرتلين الحاشدة.
وألَّف ألبرت بعد هذا المقال عن آلات الأرغن كتابًا أسماه «باخ الشاعر الموسيقار»، وكان يُعِد أيضًا العدة لكتاب آخر يودع فيه نتيجة بحثه لحياة المسيح. وكانت تتناثر في الزوايا الملاصقة للجدران وبين قطع الأثاث في مكتب ألبرت شفيتزر أكوامٌ من جميع الكتب التي استطاع ألبرت أن يجدها في دُور الكتب العامة وفي المكتبات عن يسوع، وكان كل كوم من هذه الأكوام من الكتب مفرَدًا لفصلٍ قائم بذاته من فصول الكتاب الذي أعد العدة لكتابته، ولم يشأ أن يُزعجه أحدٌ حتى يُتم ذلك الفصل. وكان الأصدقاء الذين يُقبلون لزيارته لا يجدون مناصًا من أن يُحاذروا في خطوهم من فراغٍ في حجرة الكتب إلى فراغٍ آخر، سائرين بين الكتب التي تدور حول السِّيَر الأسطورية الأولى للمسيح، ثم السِّيَر المتحرِّرة، ثم السِّيَر التي تعتمد على الخيال، ثم السِّير المتشكِّكة حتى يبلغوا أحدث ما كُتب عن المسيح في القرن التاسع عشر.
وكانت تعاود ألبرت في غمرة هذه الحياة الزاخرة بالعمل ذكرى العهد الذي قطعه على نفسه وهو بعدُ في سن الواحدة والعشرين كأنها لحنٌ يتردَّد في سيمفونية، أجل فقد كان ألبرت قد نذر حين يبلغ الثلاثين أن يتخلَّى عن هذه الأمور، وأن يكرِّس حياته لخدمة إخوانه في الإنسانية. ولم يكن قد دار بخَلَده أنه سوف ينهض بهذا العمل في أي مكان آخر غير الألزاس بالقرب من داره؛ فقد كان في ستراسبورج أطفال مُشرَّدون منبوذون يحتاجون إلى العون والمساعدة، وكان ثمة أيضًا طوائف من عابري السبيل يهيمون على وجوههم بلا مأوًى من مكانٍ إلى مكان، وأناسٌ لفظتهم السجون يحتاجون إلى التشجيع لهدايتهم إلى سبيل لحياةٍ جديدة.
وكان ألبرت وهو بعدُ طالبٌ قد خطا خطوةً في هذا العمل؛ ذلك أنه كان قد الْتحق هو وغيره من الطلاب بمؤسسة تقوم بالخدمة الاجتماعية، وراحوا يطوفون هنا وهناك يطلبون الهبات من الأثرياء الذين يستطيعون أن يبذلوا ممَّا تيسَّر لهم. وكان هذا العمل في أوله باعثًا على العذاب بالنسبة لشابٍّ حييٍّ رقيق المشاعر، ولكنه كان يستأهل أي حرج كان يُحس به حين يزور أُسر الفقراء ويلمس ما هم فيه من حاجةٍ وعوز.
ولعل ألبرت كان يرى أنه يخدم الإنسانية قدر الكفاية بتوليه عمل القس؛ ذلك أن عظاته كانت تُلقَى بالبساطة والصدق اللذين أُعجِب بهما في أبيه. وكان إذ يهدي الشباب بغية تثبيت إيمانهم، يذكر أيام تحصيله في مول هاوس ويُدرك أن كلامه كان يتغلغل في قلوب الفتيان والفتيات أكثر ممَّا يظهر على وجوههم؛ فقد كان هؤلاء يُحِسون بحدبه وحنانه وتفهُّمه للأمور، ويثقون فيه عالمين أنهم يستطيعون أن يلجئوا إليه في أي مشكلةٍ من المشاكل التي تعترضهم.
ولم يكن هذا كل ما كان يدور بخَلَد ألبرت حين قطع على نفسه العهد الذي قطع في ذلك الصباح من شهر يونيو، وهو في الواحدة والعشرين من عمره، وها هو ذا يقترب الآن من الثلاثين، ولم يستقر بعدُ على نوع العمل بالضبط الذي سوف ينهض به، وكان مثله في ذلك مثل رجل رأى نورًا يتألَّق على البعد خلال غبشة الظلام، فمضى يتحسَّس الطريق إليه موقنًا أنه سوف يجد هنالك الشيء الذي كان يبحث عنه.
ولم يجد هذا النور ويعلم ما سوف يفعله إلا عندما حلَّ الخريف من هذا العام قبل أن تبلغ سِنه الثلاثين بأشهرٍ قلائل؛ ذلك أن بعضهم كان قد وضع على المائدة التي يكتب عليها ألبرت نشرةً صغيرة غلافها أخضر، وقد وقع عليها ألبرت هناك بين كتبه وأدواته، وكانت هذه النشرة تُوزِّعها جمعية البعثة الدينية في باريس كل شهر، وهي من نوع النشرات التي كثيرًا ما رآها وقرأها. وتوقف ألبرت عن العمل في أخريات ذلك المساء ومضى يقلِّب أوراق النشرة، وإذا بعينه تقع صدفةً على عنوان مقال نصه: «حاجات بعثة الكونغو الدينية»، وارتدَّت به الذكريات إلى المقالات التي كتبها لهذه النشرة المبعوث الديني كازاليس، تلك المقالات التي كان قد قرأها أبوه منذ وقت طويل في الصلوات التي كان يُتمها في أوقات العصر من أيام الأحد بجونسباخ. وكان هذا المقال يتحدَّث عن تلك الحاجة المعهودة إلى عاملين يعملون في أفريقيا، مما كتب في التنويه كازاليس منذ قرن مضى. وقد وصف كاتب هذا المقال، وهو رجل ألزاسي، حالة إقليم جابون، وهو أقصى الأقاليم في المستعمرة الفرنسية القريبة من خط الاستواء في أفريقيا، وجَّه فيه الدعوة إلى أولئك القادرين على أن يتطوَّعوا لسد هذه الحاجة الملحة:
«إن الرجال والنساء الذين يستطيعون أن يُلبوا عن طواعيةٍ واختيار نداء الرب قائلين: رباه! إني ملبٍّ نداءك. أولئك هم القوم الذين تحتاج إليهم الكنيسة.»
وقرأ ألبرت هذا المقال إلى آخر جملة فيه، ثم طرح النشرة جانبًا في هدوءٍ ومضى في العمل الذي بين يديه، وهنالك انتهى بحثه عمَّا سوف يقوم به من عمل، وعقد عزمه على أمر وكأنما كان هذا الأمر شيئًا قد عرفه في جميع ما مضى من حياته، شيئًا فوق الكلمات وفوق الأفكار، ولكنه يُحَس في شَغاف القلب.
وظلَّ ألبرت ماضيًا في عمله في الأشهر القليلة التالية كأنما لم يمرَّ به حادث، وأخذ يعظ في كنيسة القديس نيقولاس الصغيرة، ويهدي الناسَ إلى ما يثبِّت إيمانهم، وراح يحاضر في الجامعة ويعمل في بحثه متغلغلًا في حياة المسيح. وكان في كثير من الأحيان إذا وجد ساعةً من فراغ بالنهار أو بالليل شَخَص بهدوء إلى كنيسة القديس وليم، وانبعث يعزف على الأرغن مستغرقًا في موسيقى باخ وغيره من الملحِّنين الذين كان يُعجَب بهم.
وكانت قد صنعت له في تلك الأيام الفنانة الشابة أدا فون إيرلاخ صورة، وكانت هذه الفنانة وهنانةً ضعيفة من أثر جراحة كانت قد أُجريت لها وشيكًا، ورجا ألبرت أنَّ صُنْع هذه الصورة كفيلٌ بأن يشغلها فتبدأ في الإحساس بعافيتها تعود إليها. وتمَّت الصورة في اليوم الرابع عشر من يناير الذي كان يوافق يوم ميلاده الثلاثين، وكان الشبه بينه وبين الصورة ممَّا يسهل ملاحظته على صفحتها التي تمثَّل فيها شَعره الأسود وشاربه الخشن وكتفاه العريضتان وعيناه الحادتان النافذتان، وإن كان يشوبهما سمة الرجل الحالم، ولكن أدا فون إيرلاخ — تلك الفنانة التي فطنت لكل ثنية وكل ظل يكشف عن أقل لمحة من تعبيرات وجهه — لم يَطُف بمخيلتها إلا قليلًا ما كان يدور في عقل ألبرت شفيتزر آنئذٍ من أفكار؛ ذلك أنه لم يكن قد تحدَّث إلى أحد بخططه، ولكن حياته القديمة بعدُ ومنذ ذلك اليوم كانت قد انتهت، وبدأ صفحة حياة جديدة.