الفصل السادس

«ما من أحدٍ يجاهد دائمًا للسمو بخلقه يُخشى عليه أبدًا أن يسلبه سالب من مثله؛ لأنه يَخبُر في أعماقه قوة الأفكار التي تدعو إلى الخير والحق.»

من كتابه: «ذكريات الطفولة والشباب»

في يومٍ رطيب يغشاه الضباب من أواخر شهر أكتوبر من ذلك العام نفسه، رأى الطلبة الشبان في فصل التشريح رجلًا في الثلاثين من عمره يُقبل على قاعدة الدرس ويأخذ مكانه طالبًا مستجدًّا بينهم. وكان رجلًا طويل القامة، متين البنيان، أسود الشعر، أشعثه، وله شارب من ذلك الطراز الكثيف الخشن الذي كان سائدًا بين الرجال في ذلك العهد. وكانت عيناه العسليتان تتميزان بوميضٍ يأنس فيه المرء إقبالًا على السرور والمودة، وإن كان يشوب ما تنُمَّان عنه من تعبيرٍ شيء آخر، كان يجعله متفرِّدًا عن بقية الطلاب في الدرس.

وربما كان بعض الطلاب قد رأوا فيه أنه هو الأستاذ الذي يحاضر في الفلسفة بالجامعة، ولعل بعضهم الآخر كان قد سمع عِظاته في كنيسة القديس نيقولاس المجاورة لنهر إيل، أو لعلهم كانوا قد عرفوه ناظرًا للكلية وسمعه أولئك الذين كانوا يحبُّون الموسيقى يعزف الأرغن في كونشيرتات بكنيسة القديس وليم المجاورة.

ولكنهم عجبوا: ما الذي كان يفعله هنا؟ وما الذي حمله على البدء طالبًا مستجدًّا في هذا الفصل الذي يدرس التشريح؟ وكانوا يرَونه ثانيةً في الفصول الأخرى في دروس علم وظائف الأعضاء، والكيمياء، والطبيعة، وعلم الحيوان، وعلم النبات، يستمع إلى المحاضرات ويدوِّن المذكرات كما يفعلون. وتساءلوا: ما باله يفعل ذلك؟

ولم يكن الطلبة هم وحدهم الذين سألوا هذا السؤال، بل إن عميد مدرسة الطب نفسه وأساتذة قسم الفلسفة، وكل من عداهم من أصدقاء ألبرت شفيتزر كانوا يسألون هذا السؤال نفسه: ما الذي يحمل رجلًا قد حصل بالفعل على درجة الدكتوراه في اللاهوت ودرجة الدكتوراه في الفلسفة، وأقبل الناس إقبالًا شديدًا على الكتاب الذي أصدره بالفرنسية وشيكًا بعنوان: «باخ الشاعر الموسيقار»، حتى ظهرت الحاجة آنئذٍ إلى إصدار نسخة منه بالألمانية أيضًا، وكذلك اشتدَّ إقبال القراء على قراءة مقاله عن آلات الأرغن، أجل ما الذي حمل هذا الرجل على أن يقدَم إلى هنا طالبًا مستجدًّا يشرع في تلقي منهج الطب الطويل الشاق؟

ولم يكن هذا الذي فعله ألبرت بالقرار الهين الذي يستقر عزم المرء عليه، وكان حَريًّا به أن ينظر نافد الصبر إلى تلك الفسحة من السنين التي تنتظره حين يقتضيه الأمر أن يُعِد نفسه للعمل الذي فرض على نفسه أن ينهض به، ولكنه كان قد آمن بأن الناس سوف يفهمون الأسباب التي حملته على ذلك. وكان قد كتب من باريس حيث شخص في ذلك الصيف رسائل إلى أقربائه، وإلى عددٍ قليل من أصدقائه الحميمين ينبئهم بعزمه على البدء في دراسة الطب حتى يستطيع أن يمد يد العون إلى أهل أفريقيا الذين هم في أشد الحاجة إليه.

فعجبوا لذلك قائلين: ولكن ما الذي يدفع رجلًا في مثل قدرتك ينتظره هذا المستقبل المأمول إلى أن يُلقي بكل ذلك، ويرحل بعيدًا إلى أدغال أفريقيا؟

فيردون على أنفسهم قائلين: أي نعم، ذلك أنهم أدركوا أن القوم هنالك كانوا يقاسون من المجاعة والمرض والألم، وربما كانت حاجة هذه الأصقاع إلى العون أشد من أي مكانٍ آخر في العالم.

ولكن ما الذي يقتضي أن تكون أنت الشخص الذي يذهب إلى هناك، ولمَ لا تترك هذا العمل إلى الآخرين الذين ليس لديهم ما يُضحُّون به مثل ما لديك؟

وسأل أحدهم: أليس في وسعك أن تؤدِّي من الخدمات ما يفوق ذلك بإقامتك هنا وإلقاء محاضرات تجمع بها المال من أجلهم؟

بل إن الموسيقي فيدور الذي أحبَّ ألبرت حب الأب لابنه كان يشبِّهه بقائد يود أن يمضي إلى خط النار بنفسه، ورجاه أن يفكِّر في الأمر مليًّا قبل أن يستقر على مثل هذا القرار. وراح آخرون لم تبلغ الرحمة عندهم مثلما بلغت عند فيدور يؤمنون بأن وراء ذلك دافعًا خفيًّا من قبيل الشعور بالخيبة؛ لأن ألبرت لم تُواتِه الشهرة بالسرعة التي كان يرجوها، وإن كانوا قد أدركوا بلا شك أن ما ذهبوا إليه لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ فقد كان ألبرت قد نجح في أن يجعل له اسمًا معروفًا بين الناس بفضل كونشيرتاته التي كان يعزفها والمحاضرات التي كان يلقيها، والكتابات التي كان يدبِّجها قلمه. بل إن من الناس من تحيَّر في الأمر وتساءل: أثمة حب فاشل هو الذي دفعه إلى هذا القرار؟ وتملَّك الشابَّ شفيتزر العجبُ كيف ذهب القوم في تعليل القرار الذي انتهى إليه كلَّ مذهب إلا المذهب الصحيح.

فلم يكن الأمر الذي اختار ألبرت أن يفعله شيئًا غير عادي في نظره؛ ذلك أنه لم يكن يفكِّر في التضحية أو البطولة، وإنما كان قد أدرك أنه واجب، قال بينه وبين نفسه إنه يجب أن يؤدى في حماسةٍ معقولة. وكان هذا بالذات هو شأن سمعان وأندراوس حين استجابا لنداء المسيح وهو يسير على شاطئ بحر الجليل: «فللوقت تركا الشباك وتبعاه.»

وقد أحس ألبرت بسعادةٍ عجيبة وهو ينظر إلى هذا الأمر نظرةً بعيدة عن فكرة التضحية؛ ذلك أنه كان قد توافرت له العافية والأعصاب السليمة والنشاط والحس الفطري العملي وشدة المراس والحرص، كما أن حاجاته كانت قليلةً جدًّا لا يطلب شيئًا إلا بمقدار ما يُعينه على أداء مثل هذا العمل الذي اختاره فحسب. وراح يفكِّر في ذلك العدد الكثير من الآخرين الذين كان لديهم بلا شك الحافز نفسه في اتباع ذلك اللون من الحياة الذي اختاره هو، وإن كانوا قد اضطُروا إلى القعود عنه لاضمحلال صحتهم أو لمسئوليةٍ يشعرون بها تجاه آخرين اعتمدوا عليهم في معاشهم.

وحاول ألبرت أن يشرح هذه الأسباب للناس، على الرغم مما فُطر عليه من تحفُّظٍ في إظهار ما يُحس به في أعماقه، وبدا له أن هؤلاء الناس يحاولون أن يقتحموا جميع المغاليق والحُجب التي تستر نفسه، ويكشفون عنها، وكأنما كانوا يدقون المعاول في قلبه، وكان أقل ما يكون استنكارًا لأولئك الذين كانوا يعاكسونه في رحمةٍ قائلين: إنه رجلٌ شاب لامع وإن كان قد مسَّت عقلَه لوثةٌ خفيفة.

وقال ألبرت بينه وبين نفسه: «لا عليَّ؛ فإن مثل هذه الأمور لا بد أن تحدث.»

ولم يكن ثمة جدوى من إظهار الغضب، وراح يعلِّل ذلك قائلًا: ما الذي يدعو رجلًا وقف نفسه على عدم فعل شيء ذي قيمة أن ينتظر من الآخرين أن يرفعوا الأحجار عن طريقه، ولو أنهم ألقَوا في طريقه بمزيد قليل من الحجارة لكان من الخير له أن يتقبل الأمر في هدوء؛ لأن هذه العقبات نفسها خليقة بأن تمنحه القوة اللازمة لاقتحام هذا الطريق.

ومضى ألبرت في سبيله بذلك العناد المأثور من الألزاسيين؛ ذلك أنه كان يعرف الطريق الذي يسير فيه، وما من شيءٍ كان يستطيع أن يحوله عنه. صحيح أنه كان في بعض الأحيان يمد بصره إلى سنوات العمل والإعداد الطوال التي كانت تنتظره فيشعر باليأس ونفاد الصبر، إلا أنه كان يبادر فيفكر في هانيال وهاملكار اللذين كانا قد أعدا العدة للزحف على روما متوسلَين إلى ذلك بغزوهم البطيء الشاق لإسبانيا.

وأحس ألبرت أكثر مما أحس من قبلُ بأن الأمر يقتضيه أن يرسم خطةً لإنفاق أيامه ولياليه، حتى تتهيأ له فسحة من الوقت يستطيع أن يؤدي فيها كل ما كان عليه أن يؤديه، وبدأ أولًا يتبين في نفسه حالةَ من يحس بالتعب، فأخذ يحارب الإعياء حربًا لا هوادة فيها، وكان في أيام التحصيل يواتيه الدرس بالفطرة؛ لأنه خرج من أسرةٍ من الموسيقيين والقساوسة، فشب وترعرع في هذا الجو، ولكنه ألفى نفسه فيما يتعلق بدراسة الطب في عالمٍ آخر يقتضيه أن يتعلم ليُكيف نفسه بالظروف الجديدة؛ ذلك أنه كان في الفلسفة وفي التاريخ، وهما المادتان اللتان كانتا من أيسر العلوم عليه، لا يجد حدًّا للحجج التي تُساق في تأييد بعض الأقوال أو تفنيدها، وكثيرًا ما كان الجواب الصحيح لا يستطيع أن يعلمه أحد أبدًا. أما في علمَي الكيمياء والطبيعة فإن كل قول لا مناص من إثباته. وكان ألبرت — كشأنه دائمًا — إذا بدا له شيء عسير اتخذ حياله موقفًا يشبه التحدي، ويصبح البحث عن حلٍّ له رياضةً لديه، وكما أن سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا قد غادروا السفينة حيث كانوا يُصلحون شباكهم حين ناداهم المسيح، كذلك ترك ألبرت شفيتزر حياته الأولى المألوفة إلى حياته الجديدة، فاستقال من منصب ناظر الكلية اللاهوتية وترك المكان الذي عاش فيه مذ كان طالبًا. وفي يوم ثلاثاء الغفران، وكان يومًا مطيرًا، ساعده الطلبة على الانتقال إلى غرفٍ في الطبقة العليا من بيت رأس الكنيسة اللوثرية في الألزاس، وكان نور المصباح يتألق من نوافذ هذه الغرف في بعض الأحيان الليل بطوله. وفي صبيحة اليوم التالي خرج ألبرت شفيتزر ليحضر دروسه في الطب، ويلقي محاضراته في الفلسفة بالجامعة، مع أن النوم لم يكن قد زار جفونه إلا لِمامًا في الليلة السابقة. وكان في هذه الأيام حين يفرغ من الدروس يجد نفسه وقد وقف في كنيسة القديس وليم ليتجاذب أطراف الحديث مع إرنست مونش عازف الأرغن وليعزف على الأرغن بنفسه، وما إن يقضي ساعةً في عزف موسيقى باخ حتى يحس بالسكينة والاطمئنان بفضل قدرة مقطوعات هذا الموسيقار العظيم على شفاء النفس.

وأخذ ألبرت في هذا الحي الذي يقوم فيه سكنه الجديد يروح ويغدو كأنما كان واحدًا من هذه الأسرة. وكان إذا وجد في بعض الأحيان ساعةً يستطيع أن يخلو فيها من عمله اليومي الزاخر بالنشاط، جلس إلى البيانو ليعزف للكونتيس فون إيرلاخ العجوز، التي كانت تعيش هناك هي وبناتها الثلاث وزوج ابنتها. وكانت هذه الكونتيس تعشق الموسيقى عشقًا وأخذت تُحس بعدُ، وقد طعنت في السن ووهنت قواها وأصبحت عاجزةً عن الحركة في يسر، أنها تفتقد أكثر من أي شيء آخر الكونشيرتات التي كانت قد ذهبت للاستماع إليها مرة. وكانت تُحب التحدُّث عن الأيام الخالية وعن الأمور التي وقعت منذ وقتٍ طويل، وعن الناس الذين عرفتهم حين كانت تعيش في بيت أخت الإمبراطور فردريك الغرندوقة لويز أميرة بادن.

وقد حدث مرةً أن سار بها الشاب شفيتزر إلى نافذة غرفتها لأنها كانت عاجزةً عن أن تسير وحدها، سار بها إلى حيث يستطيعان أن يُطلا من هذه النافذة ويريا أول طائرة طارت محلِّقةً فوق ستراسبورج، وعَجِبا من الطريقة التي طارت بها مسفةً وهي تمر بالبيت، ثم مرقت صاعدةً في طبقات الجو حتى اختفت عن الأنظار.

وقالت الكونتيس العجوز: ما أعجب الحياة التي عشتها! فقد رحت في شبابي أتناقش في اسم الفاعل واسم المفعول مع ألكسندر فون هامبولت، وها أنا ذا الآن أشهد الإنسان وهو يغزو الفضاء.

وكانت تحب أن تتحدث عن عمها الذي كان ضابطًا في خدمة المستعمرات الهولندية، وتقول عنه إنه لم يُصَب بالحمى طوال السنين التي قضاها في المناطق الحارة.

ومضت تقول: ذلك أنه كان يلبس دائمًا خوذة، وأنك إذا ذهبت إلى أفريقيا فلا مناص لك من أن تتعهَّد بألَّا تخرج من بيتك أبدًا عاري الرأس بالنهار حتى بعد أن تغرب الشمس.

وقد اضطُر ألبرت إلى أن يصارع الظروف المالية التي ألمَّت به في أوائل عهده بالدروس الطبية؛ ذلك أن المصدر الأكبر لموارده المالية كان قد انقطع بعد استقالته من منصب ناظر الكلية اللاهوتية، ولكن شهرة ألبرت شفيتزر كانت قد نمت في الموسيقى وفي الكتابة، وكأنما كان حاله حال من مُدت له أسباب الإغراء لتفتنه عن ذلك الأسلوب من الحياة الذي كان قد اعتزمه لنفسه. وكان ألبرت وهو في باريس قد ألَّف هو وستة آخرون من الموسيقيين جمعية أنصار باخ، وها هو ذا الآن قد طُلب منه أن يعزف كونشيرتات، لا في باريس فحسب، بل في غيرها أيضًا من أرجاء فرنسا، وكذلك في ألمانيا، وفي إسبانيا حيث عزف أمام الملك والملكة في مدريد. وكان كتابه الأخير: «البحث عن المسيح في ضوء التاريخ» قد أقبل عليه القراء إقبالًا عظيمًا، وأثنى عليه الكاثوليك والبروتستانت على السواء، واستُقبلت النسخة الألمانية من هذا الكتاب استقبالًا حسنًا.

وكان ألبرت قد أوتي الموهبة على الصداقة، فكان أولئك الذين يلقَونه بل أولئك الذين لم يعرفوه إلا من كتاباته يُحِسون بالفطرة صدقه وعظمة روحه. وانضم أصدقاء جدد إلى أصدقائه القدماء الذين ظلَّ ألبرت دائمًا مقيمًا على الولاء لهم، وكان من أولئك كوزيما فاجنر أرملة الموسيقار المعروف فاجنر وولداها رومان رولان الكاتب ولويس ميليه وغيرهما من كُتاب العصر وموسيقييه.

وقد كتبت كارمن سلفا ملكة رومانيا تثني على ألبرت لأنه زاد من معزتها لموسيقيها المحبب باخ، ودعته إلى قضاء أيام عطلته في قصرها حيث لا يكون أمامه من عملٍ إلا أن يعزف على الأرغن ساعةً أو نحوها كل يوم من أجلها، ولكن أيامه كانت مشحونةً بالعمل إلى حد أنه لم يكن ليجد فسحةً من الوقت للعطلات.

وكان من بين الأصدقاء الجدد أيضًا هيلين بريسلاو الابنة الشابة الجميلة لأحد أساتذة التاريخ في جامعة ستراسبورج. وكانت هذه الفتاة نفسها أيضًا طالبةً بهذه الجامعة، كما كانت تفهم وتقدِّر ما استقرَّ عليه ألبرت شفيتزر من قرار.

ودخل ألبرت امتحانه الأخير في الأسبوع السابق على ميلاد المسيح سنة ١٩١١م؛ أي بُعيد سبع سنين من بلوغه سن الثلاثين.

ولم يكن يدري وهو خارجٌ في الظلام الذي يغشى الجو في مستهل الشتاء هل كان هذا الأمر شيئًا واقعًا أم كان يحلم بأن ذلك الوقت الطويل الذي قضاه في الاستعداد قد انتهى وأصبح الهدف قريبًا يراه رأي العين. وسار الأستاذ الجراح الذي امتحنه بجواره وراح يقول له مرارًا وتكرارًا وكأنما صوته يترامى إلى الأسماع من بعيد: «إنك لن تستطيع أن تتغلب على كل هذا إلا بفضل ما تنعم به من صحةٍ سابغة.»

وكانت السنة التي تلت ذلك حافلةً بالمشاعر المختلطة؛ ذلك أن ألبرت كان قد تأهَّب أو كاد للبدء في حياته الجديدة، ولكن كان أمامه تلك الفسحة الأخيرة التي يودِّع فيها حياته الأولى، فتخلى عن المحاضرات التي كان يلقيها في الجامعة وترك منصبه، منصب القس في كنيسة القديس نيقولاس، وأحس بطائفٍ من الحزن لمجرد التفكير بأنه سوف يكف أبدًا عن التدريس، وسوف ينقطع دوامًا عن الوعظ. وشخص إلى باريس ليتولى العمل في المستشفى ويزداد درسًا لطب المناطق الحارة. وقد كان أيضًا من الخير له آنئذٍ أن يقطع صلته بستراسبورج؛ ذلك أنه كان يعلم أنه خليق بأن يستشعر الألم والأسى في كل مرة يمر فيها بالكنيسة الصغيرة الكائنة بجوار نهر إيل، أو يتطلع إلى نوافذ حجرة المحاضرات الأخرى القائمة إلى الشرق من مدخل بناء الجامعة الكبير.

وكانت هيلين بريسلاو في هذه الأثناء تُعِد نفسها أيضًا لهذه الحياة الجديدة، ذلك أنهما كانا قد اعتزما الزواج في يونيو المقبل حين يعود الدكتور ألبرت إلى ستراسبورج، وكانت خير معين له في جميع مخطوطاته وتصحيح تجارب الطبع الخاصة بكتبه، وها هي ذي الآن بدأت تتدرَّب لتُصبح ممرضةً تعينه على عمله في أفريقيا.

وكان شهر العسل بالنسبة لهما حافلًا بالمشاغل؛ فقد كان أمامهما أعمال كثيرة لا مناص من أدائها، وكان الوقت الذي تحدَّد لرحيلهما يقترب، وقضيا الأشهر الباقية في جونسباخ في البيت مع والدي ألبرت.

وقام الزوجان بعدة رحلات من جونسباخ ليشتريا مئونتهما ويؤدي ألبرت كونشيرتاته الأخيرة، ولكن كان يطيب له دائمًا أن يعود إلى تلك القرية الهادئة الآمنة التي شهدت ملاعب صباه، وأن ينعم بالإقامة مع أسرته، ويعود إلى رؤية أصدقائه الذين شبَّ وترعرع معهم.

وفي أقل من عام جمع ألبرت ما يكفيه من مالٍ بفضل الكونشيرتات التي عزفها والمحاضرات التي ألقاها، وبفضل ما أبداه أصدقاؤه من جودٍ وسخاء، واستطاع بهذا المال أن يُقيم مستشفًى في أدغال أفريقيا ويُنفق عليه ويكفل بقاءه سنتين.

وساهم في ذلك أيضًا جمهور المصلين الذين كانوا يؤمِّنون كنيسته الصغيرة، كنيسة القديس نيقولاس، كما كان لزملاء الدكتور ألبرت من أساتذة الجامعة نصيب في ذلك أيضًا.

وانتهت أخيرًا المتاعب المنهِكة التي لقياها وهما ماضيان أيامًا بطولها يشتريان ما يحتاجان إليه ويطلبان ما يريدان بالاعتماد على القوائم التي تُصدرها محلات البيع. وامتلأ سبعون صندوقًا من صناديق الشحن وأُغلقت أغطيتها بإحكام، ووُضعت على كل صندوق قائمة مفصَّلة بما يحتويه من عقاقيرَ وضمادات وجميع المواد اللازمة لإقامة مستشفًى من العدم. واشتُريت تذكرتان للسفر على الباخرة حتى ثغر جنتيل في أفريقيا الفرنسية الاستوائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤