الفصل السابع
«ليس في الخلق من أحدٍ يستطيع أن يعيش غريبًا عن الناس كل الغربة، وأن يقيم على ذلك إلى ما شاء الله؛ فالناس للناس، ولكل إنسانٍ حقوق على أخيه الإنسان.»
ودُقَّت أجراس الكنيسة في قرية جونسباخ داعيةً إلى صلوات العصر من يوم الجمعة الحزينة سنة ١٩١٣م، وكان قد مضى اثنان وثلاثون عامًا مذ حمل رنينُها صبيًّا صغيرًا على إلقاء مقلاعه وتفريق الطيور في البستان ليحميها من حجارة رفيقه، وها هو ذا ألبرت شفيتزر يسمعها مرةً أخرى وهو رجل في الأربعين حين راح ينتظر هو وزوجه القطار في المحطة ليمضي بهما في رحلتهما إلى العالم المجهول.
وكانت السنوات التي تخلَّلت ذلك حقبةً طويلة قضاها في استعدادٍ متصل للحياة الجديدة التي كان يواجهها، ولو أنه كان خليقًا بأن يعيها في أول الأمر. وبينما كان صوت الأجراس لا يزال يتردَّد في الوادي، كان القطار المحلي الصغير يبعث صفيره المتصل الحاد الذي يبلغ الأسماع وهو ينعطف في ثنية الطريق مجتازًا الغابات. وتوالت القبلات والتصافح بالأيدي، وكلمات الوداع تلقى في اللحظة الأخيرة من الأقارب والأصدقاء الذين جاءوا لوداعهما. ووقف الطبيب وزوجه على دهليز القطار الخلفي حين استأنف سيره، وألقيا النظرة الأخيرة على أصدقائهما، وعلى القرية التي كانت تغيب عن أنظارهما بسرعة. وكانت قمة برج الكنيسة تشمخ فوق الأشجار الباسقة على جانب، وتمتد على الجانب الآخر جبال الفوج تكتسي في ارتفاعها وانخفاضها باللونين الأسمر والأرجواني، ومن تحتها ينبسط الوادي الأخضر البهيج.
وكانت هذه هي البلاد التي عرفها ألبرت شفيتزر دائمًا وأحبها دائمًا؛ بلاد الحصون القديمة تقوم على جانبَي التل، وحقول الحنطة الخُضر، والكروم المُنَسقة زُرعت في خطوطٍ مستقيمة مستوية، أجل بلاد مشرقة، بلادٌ تتعاقب عليها الفصول في مواسمَ معلومة، بلاد البنفسج الغض العذب والعشب الأصفر في الربيع وزهر الخشخاش في لون اللهيب المتألق وزهر الحنطة الأزرق يتفتَّح في الصيف، بلاد الكروم وحقول الغِلال الذهبية في الخريف، ثم تجف قشور النبات في الشتاء وتنبعث البذور من خلال القرون، ثم يُقبل الربيع مرةً أخرى ويبرز نبت الزعفران من الأرض الرطيبة.
وطاف بألبرت ذلك الطائف المعهود من الحزن الذي كان يُحس به دائمًا حين يولِّي وجهه عن مشهدٍ مألوف عنده أثير لديه. وراح في ستراسبورج يودِّع أصدقاءه القدماء من جديد، وسمع في باريس تشارلس فيدور يعزف في صلوات عيد الفصح على الأرغن القديم الحبيب، أرغن كنيسة سان سوبليسن، وكان في هذا ذكرى مواتية أتاحت لألبرت شفيتزر أن ينفض يديه من فيدور؛ فقد كان يُحس من ذلك اليوم بأن الموسيقى لن يكون لها بعدُ شأن في حياته، أجل كان قد انتهى إلى رأي بأن من الخير له أن يطلِّق الموسيقى إلى غير رجعة، وأن يترك أصابعه تتصلَّب من انقطاعه عن العزف على مفاتيح الأرغن، وكان من شأن مسلكه هذا أنْ يسَّر الأمر عليه.
وكان يوم عيد الفصح بأسره أشبه بحلمٍ رائع خليق بأن يبقى في ذاكرته أمدًا طويلًا. كانت الشمس تشرق ساطعة الضياء، وبدأ الناس وقد مسَّتهم نفحة من البهجة مرتَدِين كشأنهم الحلل التي يرتدونها في الأعياد، وأقبل صوت أجراس الكنيسة على البعد ينساب مع نسيم الربيع الدافئ، وتمثَّل ذلك للزوجين الجالسَين في القطار عصر ذلك اليوم، يطويان الأرض قاصدَين الشاطئ كأنما هو رسالة مفرحة تودِّعهما في الطريق الذي مضيا فيه. ومع ذلك فقد كان يشيع في الجو نذير عجيب، ولاحت أمارات تنبئ بحربٍ مقبلة. وكان الطبيب قد داعبه الأمل في أن يستطيع أن يزيد من أسباب التفاهم بين فرنسا وألمانيا، تَيْنِكَ الدولتين اللتين كانتا تطالبان بالألزاس كما جاهد في سبيل ذلك؛ فقد أحسَّ أنه ما من دولةٍ منهما كانت تريد الحرب فعلًا، وأن المواطنين في الدولتين كانوا يبذلون كل ما في وسعهم للحيلولة دون قيام هذه الحرب، ولكن كان ثمة أشياء بعينها تشد أعصاب الناس شدًّا كإسراع روسيا بإنشاء خطوط حديدية عسكرية تخترق بولندة، وسحب العملة الذهبية من التداول في فرنسا وألمانيا جميعًا، وإصدار أوراق النقد لتحل محلها.
وكانت باخرة الشحن الصغيرة التي تُبحر بين أوروبا وغربي أفريقيا مفلطحة البنيان، حتى تستطيع أن تمضي مصعدةً في نهر الكونغو بعض المسافة، فكانت تتأرجح وتغطس مع كل حركةٍ من حركات الأمواج مقبلةً مدبرة، تنحرف إلى هذا الجانب حينًا وإلى الجانب الآخر حينًا، كأنها جواد فحل متخطِّر فقد اتزانه.
وانبعث راكب من رُكَّابها يقول متنهِّدًا: وي، إن ذلك هو خليج بسكاي.
واستدرك آخر: لشد ما أتمنَّى أن نكون قد خلَّفنا وراءنا كل أولئك.
وراح ألبرت وهيلين شفيتزر يُنصتان في هدوء، وهما يُحسان من قلة خبرتهما بأنهما أشبه بطيور الوطن المسكينة التي لم تألف الرحلة، وقد وجدَت نفسها وسط سرب من الطيور المهاجرة، وكان الركاب الآخرون من ضباط الجيش والأطباء والموظفين والمدنيين وبعض نسوة عائدات من إجازة قضينها في وطنهن ليلحقن بأزواجهن المقيمين في أفريقيا، كانوا جميعًا من المسافرين ذوي الخبرة، يتحدَّثون حديث العليم بأمواج البحر العالية وعواصفه التي تتقاذف المركب كأنها لعبةٌ في يد طفل، وكان فيهم سمة أولي العزم المكين والنشاط الجم، ومضَوا يتحادثون لا يحفلون إلا قليلًا بالوافدَين الجديدين اللذين كانا يقومان برحلتهما الأولى، وطافت بمخيلة ألبرت شفيتزر ذكرى الدجاجات التي تعوَّدت أمه شراءها من بائعي الفراخ الإيطاليين المتجولين كل صيف لتضيفها إلى أسرابها، وراح يفكِّر كيف أخذت هذه الدجاجات تسير هنا وهناك عدة أيام خجلى مستكينة بين الدجاجات الأقدم منها والتي تفوقها خبرة، ولمَّا انقضى اليوم الثاني على ألبرت في البحر كابد عاصفةً بلغت في شدتها مبلغ أية عاصفة، قص خبرها أكثر المتمرسين خبرةً من الرحالة.
فقد هبَّت في الليل عاصفة شديدة عاتية حتى أخذت الحقائب في القمرة تندفع منزلقةً من جدارٍ إلى جدار مع كل وثبةٍ من وثبات السفينة، وانطلقت صناديق القبعات وراءها منتفضةً كأنها تفر من الأطفال ذوي الشراسة يلعبون، وحاول الطبيب أن يُمسك بها، وأوشك أن يحطِّم ساقه وهو يبذل هذا المجهود، فتخلَّى عن ذلك وعاد إلى سريره المعلَّق حيث رقد يَعُد الثواني التي تمضي بين وثبة السفينة وسقوط الحقائب، وترامى إلى سمعه من القمرات الأخرى أيضًا أصوات أشياء تتصادم في عنفٍ شديد، والأطباق في مطبخ السفينة تصلصل وتتحطم.
ومضت العاصفة تهب ثلاثة أيام وثلاث ليال، دون أن يبدو عليها أمارة من الأمارات التي تنبئ بأن حدتها قد خفَّت. فلما انقضت الليلة الأولى عمل خادم السفينة على ربط الحقائب والصناديق، فكفَّت عن الانزلاق هنا وهناك على أديم القمرة، على أن الطباخين في مطبخ السفينة لم يجسروا على إيقاد أية نار، وقدَّموا كل الطعام في الوجبات باردًا.
وبدأ الركاب يبرزون من قمراتهم بعد انقضاء اليوم الثالث على العاصفة، إذ كانت حدتها قد خفت. وأحسوا بأسباب التقارب بينهم تزداد وثوقًا بعد أن كابدوا هذه المحنة، وانبعثوا يتجاذبون أطراف الحديث الودي وهم وقوف على سطح السفينة يتطلعون إلى الشاطئ البعيد حيث غاب جبل تُكلِّل هامَتَه الثلوجُ في ثنايا السحب، وكان البحر في زرقة السماء، وراحت الأمواج يعلوها الزبَد الأبيض تلعق في رفقٍ جوانب السفينة، وكانت سمكةٌ من السمك الطيار تقفز من الماء بين الفينة والفينة كأنها طائرٌ أزرق محلقٌ ثم تغوص فيه مرةً أخرى كوميض البرق.
وبلغ الركاب ثغر داكار، وهنالك وضع ألبرت وهيلين شفيتزر خوذتيهما على رأسيهما ووطئا ثرى أفريقيا للمرة الأولى. وكان المتسكعون أمام الفنادق أو في المقاهي القائمة في المنعطفات ينظرون إليهم في غير مبالاة، ولكن الزوجين وجدا أن هذه فرصة رائعة تتيح لهما أن يسيرا مصعدَين في الشوارع الممتدة فوق التلال؛ فقد سمعا تغاريد طيور لم يسمعاها من قبلُ قط، ورأيا أشجارًا باسقة وشجيرات مزهرة لها أسماء كان عليهما أن يعرفاها. أجل لقد رأيا بؤس أفريقيا وجمالها في ذلك اليوم، رأيا رجالًا في أسمالٍ قذرة لا تكاد تستر أجسامهم، وكلابًا أشرفت على الموت جوعًا تهيم بلا غاية ولا قصد، وجيادًا كالهياكل العظمية وقد نحلت جوانبها ونصلت وران على قروحها اللون الأزرق الغامق.
وصادفا عربة نقل وُسِقت وسقًا بالأخشاب، وقد انغرزت في حفرةٍ عميقة، وراح زنجيان جثما على مقعدها المرتفع يحاولان أن يحملا الجواد على المضي، يزجرانه ويلهبان ظهره بعصًا في ضرباتٍ شديدة، وفاضت جوانح الطبيب بتلك الشفقة العظيمة التي كان يُحس بها إذا رأى أي مخلوق يقاسي ويشقى. وكان وهو بعد طفل في كولمار، إذا رأى الجواد العجوز المترهل يضرب ويساق إلى المجزر لا يملك إلا أن يشيح بوجهه، ويظل هذا المشهد ماثلًا في خياله لا يريم، أما الآن فقد كان في استطاعته أن يفعل شيئًا فصاح بالرجلين: ليس هذا هو السبيل الذي تُخرجان به عربة نقل من الحفرة.
وحملهما على أن ينزلا من مقعديهما ويساعدا على تخليص العربة، وانبعث هو يدفعها بكل قواه من الخلف. وتحرَّرت العجلة آخر الأمر واستطاعت العربة أن تمضي في سيرها.
فلما عاد ألبرت وهيلين إلى المركب قال له ضابط من ضُباط الجيش، كان قد رأى هذا المشهد وهو على مسافةٍ منهما: إذا كنت لا تود أن ترى الحيوانات يُساء إليها فلا تأتِ إلى هذه البلاد.
وسارت السفينة هابطةً تساير ساحل أفريقيا حريصةً في جميع الأحوال تقريبًا على أن يظل الساحل على مرأًى منها. ومرت بساحل الفلفل، وساحل العاج، وساحل الذهب، وساحل العبيد. وتراءت للعين الغابات الخضراء الرائعة تهبط حتى تبلغ حافة الماء، حيث كانت الأمواج تتكسَّر على الرمال مرسلةً سحبًا عظيمة من الرشاش. وبلغت السفينة ثغر بسام الكبير وثغر كوتونو، وراح المسافرون ينزلون من السفينة واحدًا في إثر واحد عند الثغر الذي يطلبه، فيودِّعه بقية الركاب وداعًا حارًّا، وكان منذ قليل قد حلَّ بينهم غريبًا: صحبتك السلامة! مع السلامة!
وكانت هذه الكلمات تنطلق من الشفاه في ابتسامة، ومع ذلك فقد كان لها معنًى جليل هنا في المناطق الحارة القائظة: «صحبتك السلامة!»
ووقف ألبرت شفيتزر على سطح السفينة يودِّع الطبيب العسكري الذي كان قد تعرَّف إليه، وكان ألبرت قد قضى مع هذا الطبيب عدة ساعات خلال الرحلة يسمع منه كل ما يمكن أن يسمعه عن أمراض المناطق الحارة وكيف يمكن علاجها، وها هو ذا يرى الآن الطبيب يخطو إلى الصندوق الخشبي لتُدليه رافعة متأرجحة إلى قاربٍ صغير كان يتراقص صاعدًا هابطًا على متن الأمواج أسفل السفينة.
وتساءل: تُرى أي لون من ألوان الحياة ينتظر أولئك القوم الذين ودَّعهم هناك فيما وراء الغابة الخضراء؟ وكيف يكون حالهم حين يعودون بعد قضاء السنوات التي لا مناص من أن يقضوها هنا؟ تُرى أيُقَدَّر لبعضهم أن يعود أبدًا؟
وبلغت السفينة ثغر ليبرفيل ورأس لوبير، وهنالك غادرها ألبرت وهيلين شفيتزر ومعهما الحقائب والأكياس وسبعون صندوقًا من المؤن.
وصاح بهما زملاؤهما الركاب الذين ظلوا على ظهر السفينة: «مع السلامة!»
وكان لا يزال أمامهما مائتا ميل يقطعانها قبل أن يبلغا مقصدهما، وحملتهما السفينة النهرية «ألمبه» ذات المجاذيف في مؤخرتها بين الراكبين في باكورة الصباح ليومٍ من أيام أبريل، وبدآ يسيران في سبيلهما مصعدَين في نهر أوجو.
وكانا قد شاهدا من قبلُ صورًا لأدغال المناطق الاستوائية بأشجارها الضخمة ونباتاتهما الزاحفة بأزهارها المشرقة تلتف وتتشابك حول جذوع هذه الأشجار وأغصانها. أما وقد تجلى هذا المشهد الآن أمام أعينهما فقد بدا لهما كأنه صورة عجيبة أبدعها خيال فنان، ثم تجلَّت فجأةً في عالم الواقع.
وألفى الطبيب أفكاره ترتد وترتد إلى المشاهد الطبيعية التي أَلِفها في الألزاس، ولم يكن نهر أوجو كنهر الراين وإنما كان مجموعةً كاملة من الأنهر تتفرع وتنثني مرةً أخرى مرتدةً مجتمعة طاوية بين ثناياها جزائر وبحيرات. وكان كل فرع منها كبيرًا يبلغ مبلغ الراين نفسه، وتحيَّر في أمره ترى كيف يستطيع هذا الملاح الزنجي أن يعرف على الإطلاق أي سبيل يسلك، ولكن الملاح راح يدير السفينة بلا خريطة ويوجِّه دفتها في ثبات العارف من مجرًى أصيل إلى قناةٍ ضيقة مجتازة بحيرة، ثم يعود أدراجه إلى المجرى الأصيل.
وكانت الأشجار الرمادية ذات الروافد النامية على حافة الماء تنثني في طيات كأنها قميص امرأة من الحرير الرمادي، حتى لَيُخَيل للناظرين أنها تتحرك. وكانت تلوح بين الحين والحين شجرة ميتة، تسمو على الشجر الآخر وأغصانها مثل الأذرع الرشيقة تتخذ أوضاعًا ثابتة، وكانت الجزائر مغطاةً بنبات النيلوفر يبلغ في نموه مبلغ قامة الإنسان، وراحت أوراقه المريشة تتماوج مع الريح، فبدت الجزائر الصغرى كأنما تسبح برفقٍ هابطةً المجرى، وطار طائرٌ من طيور البلشون البِيض ناصعًا كالثلج في تثاقل وهدوء ثم حطَّ على شجرةٍ باسقة، وانطلقت طيور أبو نقَّار صائدةً السمك تمرق فوق الماء، وراح عُقابان من عِقبان البحر يحومان عاليًا فوق الرءوس، ثم ظهر من غصن نخلة ذيلَا نسناسَين يتنوَّسان رائحَين غاديَين، وأطلَّت على الزورق في فضولٍ عيون مشرقة لنسناسَين، أجل لقد كانت هذه هي أفريقيا بحق!
وكانا يمران من حينٍ إلى حين بقريةٍ من قُرى الوطنيين، حيث انبعث أطفال أنصاف عراة ضاحكين، يخرجون من أكواخٍ أقيمت من القش والطين ليُحملقوا في ركاب الزورق، وكانت أنظارهم تقع أحيانًا على قريةٍ هجرها أهلها تمامًا، وأخذت أكواخها تتداعى أطلالًا فلا ترى فيها أية علامة من علامات الحياة.
وأبدى تاجر كان واقفًا بجوار الدكتور شفيتزر هذه الملاحظة قائلًا: لقد كانت هذه القرية حين وصلت إلى هنا أول مرة زاهرةً عامرة بالحياة.
فسأل الطبيب: وما بالها قد توقَّف ازدهارها بعد؟
فهز التاجر كتفيه واكتفى بكلمةٍ واحدة أجاب بها الطبيب: الكحول!
وكانت هذه أيضًا هي أفريقيا. وتساءل ألبرت شفيتزر أيمكن أن يبذل لهؤلاء القوم من العون ما يتغلَّب على الشرور التي جلبها عليهم أيضًا الرجل الأبيض؟
ووقف الزورق عند قرية ليتزود بالخشب، وأقبل صفٌّ من الحمالين يسيرون على السقالة وقد حمل كلٌّ منهم حِملًا من كتل الخشب فوق رأسه موازنًا إياها حتى لا تسقط.
وانبعث رجلٌ يهتف هتافًا أشبه بأغنيةٍ عند إحصاء كل عشر من الكتل، في حين أخذ رجل آخر يسجِّل علامة: سجِّل واحدًا! سجل واحدًا، سَجِّل واحدًا!
فلما تم عد الكتلة المائة غيَّر هتافه قائلًا: سجِّل صليبًا.
وخيَّم الظلام فجأةً مع غروب الشمس، وكأنما حمل معه ظلًّا لجميع أنواع الشتاء الذي تعانيه هذه البلاد. وكان الطبيب يتبيَّن له بجلاء عند مروره بكل قرية مبلغ حاجة القوم إلى العون، وأن هذا العون يجب أن يبذله أُناسٌ لا يَدَعون اليأس يتسرَّب إلى قلوبهم بحال.
وبرزت الغابة كأنها سور أسود ضخم على طول ضفة النهر، والزورق يدنو منها في بعض الأحيان دنوًّا كبيرًا حتى بدا كأنه يحف بجوانبها. ولاحت النجوم صغيرةً بعيدة في أفق الليل الاستوائي المُغَشَّى بالضباب كأنما مالت عن بروجها المعلومة، وظهرت نجومٌ جديدة في الجنوب لم يكن يراها أحدٌ قط في سماء الألزاس.
وتألَّقت على البعد البعيد ومضة من البرق الملتهب وأرسى الزورق في جوٍّ هادئ؛ لأن الليل كان قد جنَّ فلم يكن ثمة من الضوء ما يمكِّنهم من تسييره. فلمَّا بدا أول خيط من خيوط الفجر الباهتة مضى الزورق في طريقه ثانية، فلما تنفَّس الصبح ظهرت منحدرات لامبارينيه.
ودوَّى في الجو صوت الصفارة المتصل فأتى على ندائه إلى المرسى تجار لامبارينيه مبتغين الشحنة التي كانوا ينتظرونها. ولم يكد المركب يرسو حتى أقبل زورقٌ طويل رفيع منطلقًا كالسهم يدور حول جانبيه، حتى إن الرجل الأبيض الذي كان يمسك بدفته لم يستطع إلا بمشقةٍ أن يرتد إلى الخلف ليتحاشى الاصطدام بسلسلة المركب. على أن الصبيان السود الذين كانوا يجدِّفون في الزورق ظلوا يُنشدون أغنيتهم المرحة على إيقاع ضربات المجاديف، وكان هؤلاء الصبية هم تلاميذ مدرسة البعثة الدينية أقبلوا مع أستاذهم يبارون طائفةً من صبيان البعثة الذين يفوقونهم في السن جدوا وراءهم لبلوغ المرسى، وفاز الصبية الصغار في المباراة فكوفئوا على ذلك بحمل الطبيب وزوجته في زورقهم إلى مقر البعثة على مرحلة ساعة من المرسى صعدًا في النهر، وتبعهم الصبيان الكبار يحملون متاع الطبيب.
وظلَّت حمية السباق تتملك المتبارين، وحاول الصبيان الواقفون إلى المجاديف أن يسبقوا جميع الزوارق بل مركب النهر نفسه بعد أن استأنف مسيره للمرة الأخرى، وانطلقوا ينشدون أغنيتهم على ضربات المجاديف.
وأخذ الزورق الضيق الذي نُحت من جذع شجرة يتمايل من جنبٍ إلى جنب، إلا أن الصبيان ظلوا واقفين محتفظين بتوازنهم احتفاظًا كاملًا، واستطاعوا بشق الأنفس أن يتفادَوا زورقًا آخر كان يحمل ثلاث نساء زنجيات، ومع ذلك فقد ظلوا يُنشدون أغنيتهم لا يعكِّر صفوهم شيء.
وتركوا مجرى النهر الرئيسي والتفوا بالجزيرة حيث كان يقوم مقر البعثة الكاثوليكية شامخًا فوق تل، ثم ولجوا رافدًا من روافد النهر. وكان النهار قد بدأ ينصرم؛ ذلك أنهم كانوا قد قضَوا وقتًا طويلًا في حمل المتاع من المركب وإنزاله إلى زورق الصبيان الكبار. ومالت الشمس ملقيةً أشعتها على بعض البيوت القائمة على جانبٍ مرتفعٍ فوق الأرض، وأخذ غناء الصبيان يزداد ارتفاعًا ومرحًا وهم يبتغون جوًّا هادئًا يرسون الزورق فيه، وتبعهم الصبيان الكبار عن كثبٍ يغنون أيضًا، ولكن غناءهم لم يكن يعلوه ما علا غناء زملائهم من رنات الظفر.
وكان أعضاء البعثة الدينية بكامل هيئتهم ينتظرونهما عند المرسى، وانبسطت أيادٍ سود وبيض لتحيتهما، ثم حفُّوا بهما سائرين إلى بيتهما الجديد، وهو بيت خلوي صغير من طبقةٍ واحدة، يحتوي على أربع غرف صغيرة وشرفة تحيط بها من كل الجوانب. وكانوا يستطيعون أن يُطلوا من جانبٍ من جوانب البيت على النهر المتلألئ ينفرج هنا وهناك عن بحيرة توشيها جزائر خضر، وأن يلمحوا مجرى النهر الأصيل تحف به سلسلة من التلال المنخفضة تلوح قاتمة الزرقة في الضوء الخابي. وكانت تقوم على الجانب الآخر من الشرفة على مسافة تقل عن عشرين ياردةً حافة الغابة العذراء يغشاها القتام وتكتنفها الأسرار.
وألم الغسق بالمكان إلمامًا عابرًا إذ ألقت الشمس على السماء وهجًا من الضوء الأحمر والبرتقالي، ثم أقبل الظلام فجأة، ورنَّ جرس ينادي الأطفال إلى أداء صلوات المساء وإلقاء الأناشيد في فصل الدراسة، وارتفعت أصواتهم الغضة عاليةً صافية النبرات في ليل تلك المنطقة الاستوائية يشاركهم صراصير الليل وتغاريد طيور المساء. وجلس الدكتور شفيتزر على صندوق شحن في بيته الجديد، وراح يستمع في هدوء وقد تأثر أبلغ التأثر. وقبل أن ينتهي الغناء رأى شبحًا كئيبًا يزحف هابطًا في بطء على الحائط. وكان هذا الشبح لعنكبوت ضخم سام، ثم ظهرت عناكب أخرى وخنافس طيارة، كانت قد اتخذت من هذا البيت الذي هُجر أمدًا طويلًا مأوًى لها. وهنالك لم يكن بُد من أن تُطرد هذه الحشرات بالاستعانة بضوء مصباح يُنار بالزيت قبل أن يستطيع الطبيب وزوجته أن يخلدا إلى الراحة والنوم بعد طول عناء.
وظلت صراصير الليل والضفادع ماضيةً بانتظام في ترتيلها الجماعي تخالطه أصوات غريبة تنطلق من الغابة. وانبعث في الجو صوت وصياح لبعض القردة الكبيرة، وصراخ فيل يترامى إلى الأسماع عن بُعد، أو هدير فرس من أفراس النهر، فأقلق منامَ الطبيب وزوجته في ليلتهما الأولى التي قضياها في بيتهما الأفريقي.
وران الهدوء والسكون في باكورة الفجر، فلمَّا طلع الصباح بدأت أصوات النهار تنطلق، وراحت الببغاوات البرية تطير مصفرةً صارخة من مجاثمها، وطيور الخياط تُثرثر وتُنادي على أشجار النخيل، وانبعثت ملايين البعوض والحشرات الطائرة تطن طنينها الوسنان مع شروق الشمس.
وانطلق جرس يدق في السادسة صباحًا فترامى إلى الأسماع سريعًا صوت الأطفال في الفصل يقودهم مدرس من أهل البلاد يسمى أويمبو، ومعنى هذا الاسم «الأغنية»، وحل بذلك الوقت الذي يبدأ فيه الطبيب عمله، وكان المرضى منتظرين بالفعل في خارج البيت حتى قبل أن يُخرج المعدات الطبية من الصناديق التي شُحنت فيها.