الفصل الثامن
«إن مستقبل البشرية ليقوم على ما يبذله كل إنسان في الحياة التي قُسمت له من مراعاة الإنسانية الحقة في علاقته بإخوانه البشر.»
وانتشرت الأنباء من قرية أفريقية إلى أخرى حتى عمَّت جميع القرى الكائنة في أعلى النهر وأسفله، أن رجلًا أبيض أوتي القدرة على شفاء الأسقام قدم ليعيش بين القوم، وقد سمَّوه «أوجانجا» وهي كلمة تدل عندهم على «الرجل الساحر»، وأقبلوا في زوارقهم أو مجتازين دروب الغابة حاملين معهم مرضاهم للعلاج. وكان صوت ثرثرتهم وهم يتحدَّثون بلغات قبائلهم المتعدِّدة يُسمع كل صباح، ومنها قبائل «الجالوا» و«الباهوين»، وغيرها من القبائل الصغرى، على أن كلماتهم جميعًا كانت غريبةً على أذن الأوروبيين، فبدت بمقاطعها السريعة القصيرة كأنها أغنية من نغمتين فحسب.
وكانوا يرتدون ملابس من مختلِف الأنواع والأشكال والألوان، يلبس بعضهم أرديةً مسترسلة من قماش منشستر المحلى بالأزهار الزاهية وقد التفَّ بأجسامهم في طياتٍ رشيقة أنيقة، ويلبس آخرون قمصانًا أوروبية مرسلةً أو سراويل قصيرةً مهلهلة قاتمة لا تناسب أجسامهم، ولم يرتدِ بعضهم شيئًا إلا سترًا حول حِقويه من لحاء الشجر المجدول أو من جلد حيوان. وعلت وجوهَ أو أجسام كثيرين منهم شاراتُ قبائلهم وُشِمت على أشكال، وشُحذت أسنانهم حتى أُرهِفت حدودها على نحو ما كان يفعل آكلو البشر في الأزمان الغابرة.
وكان هناك رجالٌ ونساء عجائز يبس عودهم كأنهم أوراق الخريف توشك على السقوط من فوق الشجر، ولا شك أن بعضهم كانوا قد أُقصوا من قراهم ليموتوا لأنهم أصبحوا بلا فائدة لقبائلهم. وكان هناك أيضًا نسوة يحملن على ظهورهن أطفالًا مرضى يُثيرون القلق والانزعاج، أو يمسكن بأيديهن طفلًا تغشى جسمَه قروحٌ مؤلمة. وأقبل الرجال الأصحاء يسندون زميلًا لهم ضعيفًا أو محمومًا أو جريحًا عدا عليه وحشٌ من الدغل.
وأدرك ألبرت شفيتزر حقيقة الرسالة التي كان قد كتبها المبعوث الديني، ولا شك أن القوم هنا في قلب أفريقيا كانوا في أشد الحاجة إلى العون.
وقال له رجلٌ شاب: إننا جميعًا هنا مرضى.
وقال زعيمٌ شيخ من القوم: إن بلادنا تفترس أهلها.
وكان مركز البعثة الدينية خِلوًا من بناءٍ للعلاج، ولكن المرضى كانوا هنالك في حاجةٍ إلى إسعافٍ في الحال، وكان من غير المستطاع أن يُهمَل أمرهم حتى قيام هذا البناء. وكان الطبيب يعالج مرضاه في العراء، وراح يباشر عمله أمام مسكنه في الأسابيع القليلة الأولى من مقامه في البلاد. وكان الفصل المطير قد حلَّ جالبًا معه في كل عصر العاصفة المعهودة التي كانت تقتضي الإسراع بجمع كل العقاقير والأجهزة، والتماس المأوى في الشرفة حتى يستطيع الطبيب أن يمضي في عمله.
وكانت تقوم بجوار مسكن الطبيب حظيرة دجاج، كان قد أقامها مبعوثٌ ديني سابق ثم هُجرت. وكانت هذه الحظيرة صغيرةً مظلمة ليس فيها نافذة تسمح بدخول الضوء أو الهواء. وبدت كأنما تستطيع أن تطيح بها أقل هَبَّة من هَبَّات الريح، ومع ذلك فقد كان لها على الأقل سقف مصنوع من مواد مختلطة، يحمي المرءَ بعض الحماية من المطر والشمس، حتى يستطاع إقامة بناء لإيواء المرضى.
وكانت جدران الحظيرة مغطاةً بالملاط مطلية بالجير الأبيض، وأُقيمت عليها بعض الرفوف لحمل المؤن الطبية، وجُلب إليها سرير من أَسِرة الجنود. وكانت هذه هي أول مستشفًى اتُّخذ في لامبارينيه، وكان يُعَد شيئًا فاخرًا بالنسبة للمكان الذي اتُّخذ لعلاج المرضى في العراء؛ ذلك أن المطر كان من بعدُ ينساب فوق الحظيرة فيستطيع أن يمضي الطبيب في عمله مطمئنًّا يضمِّد الجراح ويعطي الدواء أو يُجري بعض الجراحات الصغيرة. أمَّا إذا ألجأته الظروف إلى إجراء جراحة من الجراحات الكبرى التي لا يمكن إجراؤها، فإنه كان يستعين بمنضدةٍ يضعها في المكان الذي ينام فيه الصبيان، وكانت زوجة الطبيب التي كانت قد تدرَّبت على التمريض ذات نفع عظيم في إعداد آلات الجراحة والضمادات.
وقد أثبت أحد المرضى الذي بقي بعد شفائه ليعمل مترجمًا أنه مساعدٌ مقتدر في الأعمال الطبية، وكان يُدعى يوسف، وينتمي إلى قبيلة «الجالوا»، وكان أهل هذه القبيلة نشطين أذكياء، يفوقون في مقدرتهم أي قوم آخرين من أهل هذه البلاد. ويقال إن زنوج «الجلا» في ولاية كارولينا الجنوبية أصلهم من هذه القبيلة.
وكان يوسف يستطيع أن يتحدَّث بلهجاتٍ ثمانٍ من لهجات الزنوج، ويُلم بعض الإلمام بالفرنسية، ويعرف شيئًا من الرطانة الإنجليزية أيضًا. وبالرغم من أنه كان لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فقد كان له أسلوب في تذكُّر شكل الكلمات على البطاقات الملصَقة على الزجاجات، ممَّا جعله لا يخطئ ولو مرةً واحدة حين يُطلَب منه أن يأتي بدواءٍ معين من فوق الرف.
وكان يوسف يعمل طباخًا في رأس لوبيز، وهنالك التقط ما يعرفه من الإنجليزية والفرنسية، وكان إذا استُدعي ليترجم ما يقوله مريض في وصف أعراض مرضه، وجد من اليسير عليه كل اليسر أن يستعمل تلك التعبيرات التي كان قد تعلَّمها في المطابخ.
فيقول مثلًا: أيها الطبيب، إن هذا المريض يقول إن أكارعه تؤلمه.
أو: إن المرأة تحس ألمًا في بيت كُلاها.
وكان الطبيب حين يستيقظ كل صباح يجد مرضاه ينتظرونه محتشدين بجوار حظيرة الدجاج، أو واقفين في ظل كوخه هو. وكان يفد إليه في كثيرٍ من الأحيان ثلاثون أو أربعون شخصًا كل يوم للعلاج، بعضهم مصابٌ بالملاريا، وبعضهم بمرض النوم، وبعضهم بأمراضٍ جلدية كالجذام والقروح أصابتهم بها لدغات الحشرات، وكان من بينهم دائمًا أناسٌ أُصيبوا بكسورٍ في عظامهم من جراء هجوم فرس النهر عليهم أو بجروحٍ أحدثتها فيها مخالب فهد، أو عضات وضربات تلقَّوها من زملائهم من البشر.
وكان المرضى الذين يعودون إلى قُراهم بعد شفائهم يروون قصصًا عجيبة، والحق أن الساحر الأبيض كان قد أوتي من القوى ما يفوق قوى سَحَرتهم أنفسهم.
وقالت امرأة بعد أن فحصها الطبيب بالسماعة ليتبيَّن علة قلبها وأعطاها عقار إصبع العذراء (الدغتليس) ليخفِّف من علتها: لقد عرف الطبيب دون أن أُنبِئه أنني أُحس بأنفاسي تكاد تنقطع بالليل، وأجد قدميَّ في بعض الأحيان متورمتين.
وكانت عقاقير التخدير التي تُعطى للمرضى أثناء الجراحات تُثير في القوم كثيرًا من العجب والرهبة.
وقالوا عنه: إنه يستطيع أن يقتل شخصًا ثم يشفيه ثم يرده إلى الحياة مرةً أخرى.
وكان الأطباء من سحرة القرية يَدَّعون أن لديهم القدرة على إحداث المرض والألم وشفائهما. وكان القوم يعتقدون أن «أوجانجا» الطبيب الأبيض عنده هذه القدرة أيضًا. وتملَّك العجبُ الطبيبَ حينما سمع بذلك وأدرك أن القوم ينظرون إليه نظرتهم إلى رجلٍ عنده مثل هذه القدرة على الخير، ومع ذلك يظنون فيه أنه يبلغ هذا المبلغ من الخطورة أيضًا.
وكان ألبرت وهيلين شفيتزر حين يفرغان من العمل في المساء أو في عصر أيام الآحاد يمضيان في نزهةٍ هادئة على الأقدام، يجوسان فيها خلال الأراضي التابعة للبعثة الدينية، حتى لقد عرفا كل شبر فيها، وقاسا طولها وعرضها بالخطوات. وكان في هذه الأراضي ممرات ضيقة تؤدي إلى قلب الغابة، حيث انتصبت الأشجار كأنها سورٌ مكين يرتفع قرابة مائة قدم فوق رءوسهم، وقد تشابكت هذه الأشجار تشابكًا مُحكمًا حتى منعت أي هبة من النسيم من أن تنساب خلالها، وكانت تنبعث من الأرض ومن أوراق الشجر المتحلِّلة ومن الغابة رائحة رطبة عفنة ممتزجة برائحةٍ حيوانية صادرة من قطط الزباد والنسانيس وغيرها من المخلوقات المختبئة بين الشجيرات.
وكان للمكان سحرٌ خاص به، وإن كان يختلف عن الألزاس الاختلاف الذي يمكن أن يقوم بينه وبين أي مكان آخر. وكانت أشعة الشمس تُوشِّي الظلال التي تضيئها أوراق الشجر وتتراقص كأنها الفراشات الذهبية، وتمرق الطيور الزاهية اللون فوق الرءوس، فيبدو منها ومضات سريعة من الأخضر والبرتقالي والأزرق المشرق، ولكن الحرارة كانت قائظةً لا يحتملها أولئك الذين عرفوا هواء الألزاس الرطيب النقي الخالص. ووجد الطبيب وزوجته أن من الخير لهما أن يطوفا مسايرَين ضفاف النهر الرملية بمجرد أن بدأ فصل الجفاف يحل والمياه تنحسر.
وقد استقرَّ رأي الطبيب خلال النزهات المسائية على الموقع الذي أراد أن يُقيم المستشفى عليه. وكانت قد وُضعت من قبلُ خطة لبناء المستشفى على الربوة العالية القائمة بجوار البناء الذي ينام فيه الصبيان، ولكنه وجد أن فسحة الأرض المتاحة هناك أضيق من أن تتسع للمستشفى الذي كان يفكِّر في بنائه. وكان المكان الذي اختاره من بعدُ يقوم على جانب النهر بالقرب من جون هادئًّا. كانت الزوارق التي تجلب المرضى تستطيع أن ترسو فيه، ويقع أسفل منحدر بالقرب من كوخه ممَّا ييسِّر عليه الوصول إليه إذا ما استدعى الأمر وجوده تلبيةً لنداء أي مريض تقتضي حالته الإسعاف السريع.
وكانت حظيرة الدجاج بطبيعة الحال مأوًى خيرًا من لا مأوى على الإطلاق، ولكنها كانت في خير حالاتها وسيلةً موقوتة لم يكن من الممكن بعدُ أن تصلح للغرض الذي استُعملت فيه. وأصبحت الحاجة ملحةً لإقامة المبنى الطبي الجديد — على أن مؤتمر المبعوثين الدينيين لم يُعقَد لإقرار الموقع وتدبير المال اللازم لهذا البناء إلا في شهر يونيو؛ أي بعد وصول الطبيب بثلاثة أشهر.
فقد خرج الدكتور شفيتزر والمبعوثان الاثنان الآخران التابعان لمركز البعثة ومضوا في صبيحة يوم قبل شروق الشمس في الرحلة الطويلة المعهودة، راكبين الزورق وصعِدوا في النهر خمسةً وثلاثين ميلًا، حيث كان يقوم المكان الذي سيُعقد فيه الاجتماع، وجلسوا على الكراسي التي تُطوى الواحد وراء الآخر بالقرب من عقدة الحبل الذي رُبط به الزورق المنحوت من الشجرة، وقد تكوَّمت في وسط الزورق مراتبهم وأَسِرتهم التي تُستعمل في المعسكرات ويمكن طيها، وزادهم من الطعام هم وملَّاحوهم. ووقف تجاه الدفة اثنا عشر رجلًا — اثنين اثنين — ليُجدِّفوا بمجاديفهم الطويلة الساق، ووقف رجلٌ آخر وحيدًا عند العقدة ليُرشدهم ويستطلع بعين ساهرة أماكن المياه الضحلة والصخور وكتل الخشب الساقطة. وراح الرجال يغنون وهم يجدِّفون مراعين أن تكون أغنيتهم وهم ماضون متفقةً مع إيقاع ضربات مجاديفهم، أجل راحوا يغنُّون عن القوم الذين كانوا يركبون في الزورق، وعن المكان البعيد في أعلى النهر الذي كانوا يقصدون إليه، وغنوا أيضًا عن الواجب الذي كان يقتضيهم أن يستيقظوا مبكرين غاية التبكير قبل أن تعلو الشمس السماء، وعن عدد الساعات التي لم يكن بدٌّ من أن يُنفقوها في التجديف حتى يبلغوا وجهتهم.
وانفلتوا خارجين من المجرى الفرعي إلى المجرى الأصلي في نفس الوقت الذي بزغ فيه النهار، وكشفت ضبابة في لون الفضة عن نفسها، وانطلقت تعلو في عمدٍ فتغشى السماء والأشجار البادية في الأفق، ولعل صباحًا من هذا القبيل سواءً بسواء هو الذي غشي العالم في بدء الخليقة. ولم يبدُ للأنظار إلا الماء والغابة والسماء، ولم تبلغ الأسماعَ أصواتٌ إلا صوت الطيور وصوت رشاش المجاديف، ولم يكن هناك أجراس ترن، ولا محركات تئز، ولا سكة حديد من السكك الضيقة تُقعقع.
وبرز من غمرة الضباب فجأةً صف من أشياءَ قاتمة تتحرَّك في الماء، ولم تلبث أن توقَّفت أغنية المجاديف لتوها، كأنما أصدر شخصٌ لها أمرًا أن تكف؛ فقد كان هذا الصف قطيعًا من أفراس النهر انطلقت تتمايل بعد أن رعت رعية الصباح الباكر، وأخذت تمرح في خشونةٍ وتستحم في النهر. وكانت هذه الأفراس ضخمة الجثة بلغ بعضها في الطول اثنتي عشرة قدمًا على الأقل من شفتها العليا إلى ذيلها، وأوشكت أن تبلغ في الارتفاع مبلغ قامة الإنسان.
وعمد الرجال في هدوءٍ وريث إلى دفع الزورق إلى جوار الشاطئ؛ ذلك أن هذه الحيوانات وإن كانت قد مضت تغوص في الماء وتخوض فيه محدِثةً رشاشًا كأنها أطفال ضخام يلعبون في حُمق ورعونة، إلا أن الزنوج الأفريقيين كانوا يعلمون جيدًا حدة طبعها حين يُزعجها مزعج، وكانت النوادر تُروى عن قدرتها على أن تقذف بزورق في الهواء كأنه كرة من المطاط، وأن فكيها يستطيعان أن ينتزعا ساق رَجُل أو ذراعه بعضةٍ واحدة.
ولم يكن شاطئ النهر بأكثر من ذلك أمنًا؛ ذلك أن التيار لم يكن قويًّا في هذا المكان، وكان من الأيسر أن يجدِّف المرء ضد التيار، ولكن رُكاب الزورق كانوا مضطرين إلى النظر بعينٍ ساهرة حيثما كانت الأشجار تتدلَّى غصونها في الماء إلى عمقٍ بعيد، بحيث تنشر مظلةً من أوراقها فوق الرءوس، ويُحتمل أن تكون حيات الأصلة ملتفةً حول غصنٍ منها، متأهبةً للانقضاض على الزورق، وربما كانت التماسيح أيضًا تتربص في المياه الضحلة.
ومن ثم فليس ممَّا يثير العجب الكثير أن يساور حياة الأفريقي دائمًا فزع، بل خوف يبلغ مبلغ الأوهام؛ فأينما اتجه يكمن خطر، في النهر أو في الدغل، بل في السماء نفسها، ويطن الناموس حامل الملاريا ويحوم فوق رءوس القوم في مطلع الفجر، فإذا اختفى بشروق الشمس أقبل ذباب تسي تسي ليحل محله، وإن لسعته لتستطيع أن تنفذ في أسمك قماش وتسبِّب مرضَ النوم والوفاة.
وأصبحت الشمس نفسها عدوًّا لا يرحم؛ فقد أشرقت من سماءٍ خالية من السحب وانعكست حرارتها وضوءُها على صفحة الماء، ثم ارتدَّا مرةً أخرى كأنهما سهامٌ محرقة تخترق الزورق. وراح الرجال يُطفئون ظمأهم بثمار الأناناس الطازجة الغضة، ويتوقَّفون عند الظهيرة للراحة في قريةٍ من قرى الوطنيين، حيث أخذ الملَّاحون يُقيمون نارًا لشيِّ الموز لغدائهم.
واستمر المؤتمر أسبوعًا، فلما انتهى عاد الطبيب ورفيقاه إلى لامبارينيه وقد أتمَّا مهمتهما. وقد وافق المؤتمر على الموقع المقترح لإقامة المستشفى وخصَّص أربعمائة دولار لتكاليف بنائه.
وكانت رحلة الإياب مع التيار، وكان ينبغي أن تكون أسرع من رحلة الذهاب، ولكن القوم لم يصلوا إلى المجرى الفرعي الذي بلغ بهم إلى مقر البعثة إلا بعد أن أرخى الليل سدوله، واضطرهم الأمر مرتين إلى عبور النهر تجنُّبًا لقطعان أفراس النهر التي كانت تتهدَّدهم، فلمَّا مضَوا يجدِّفون مسايرين حافة الماء لم يجدوا بُدًّا من السير ببطء ملتفِّين بالجسور الرملية. وكان الملاحون من حينٍ إلى حين لا يجدون سبيلًا إلا الخلاص منها ودفع الزورق عائدين إلى المياه العميقة. وازدادت أغنية المجدِّفين ارتفاعًا وهم يقتربون من البر، ثم غلظت أصواتهم صائحةً صيحة النصر. وبدت لهم الأنوار تتحرك في خطٍّ متعرج على التل المنحدر، وكانت هذه الأنوار هي مصابيح أفراد البعثة الدينية أقبلوا مرحِّبين بعودتهم.
وأحس الطبيب بالحاجة إلى المستشفى فأراد — نافد الصبر — أن يبدأ في بنائه توًّا، وراح يخط بعصًا مرهفة الحد في الطين محدِّدًا موقع كل غرفة من عنبر النوم والمكان الذي تُقام فيه الأَسِرة، وبدا له أن العمال يشتغلون ببطء لا يطاق، فتناول مجرفًا وراح يعمل بجوارهم، ثم ساعدهم على نشر الكتل الخشبية الثقيلة حسب الحجم المناسب وحملها إلى مكان البناء.
ولقَّب يوسف من قبيلة «الجالوا» نفسه بلقب «المساعد الأول للطبيب في لامبارينيه»، والحق أن الطبيب أصبح يعتمد عليه عالِمًا أنه يبذل أقصى ما في وسعه؛ فقد كان يوسف قد تعلَّم كيف ينظِّف الآلات الطبية ويناولها للطبيب ويُعِد مريضًا لإجراء جراحة، فكان يقف بجوار الطبيب أثناء الجراحة لابسًا قفازًا طويلًا من المطاط، وكان يوسف في الحالات النادرة التي يخرج فيها الطبيب وزوجته في رحلة تلبيةً لنداء مريض على مبعدةٍ من مركز البعثة، يقوم عنهما أحيانًا بالعمل ويؤدي واجباته على خير وجه. وقد حدث مرةً أن حُمل إلى الدار رجلٌ مصاب بجرحٍ فاغر، وكان يوسف هو الذي أعدَّ محلول الأوكسجين ومحلول البوريك، متعرِّفًا على الزجاجات من البطاقات الملصقة عليها وضمَّد الجرح بنفسه.
وكان لا يكل دائمًا من أن يقول — حتى في الحالات التي يعلم فيها أن الطبيب سوف يتغيَّب دقائق قليلةً فحسب ليرى مريضًا بعنبر النوم: أغلق غرفة العلاج ولا تنس.
– أغلقها دونك أنت يا يوسف؟
– أجل، أغلقها دوني أنا أيضًا؛ فالباب المغلق يرد القضاء المستعجل.
وكان يوسف على خبرةٍ وعلم بأساليب الرجل الأبيض، إلا أن بعض العادات القبَلية التي نشأ عليها كانت قد تغلغلت في صميم حياته تغلغلًا، فلم يكن من اليسير عليه أن يتخلص منها، ومن هنا دأب في كثيرٍ من الأحيان على التحدث عن شراء زوجة يتخذها لنفسه، ولو أن هذا الأمر كان يقتضيه أن يحصل على ما يُربي على مائة دولار بالفرنكات الفرنسية ثمنًا لها. وكان في ميسوره أن يتبع في ذلك طريقة الأقساط، ولكنه لم يكن يحب أن يلجأ إلى هذه الطريقة.
ويقول: لا يمكن أن تمضي حياتي في سلامٍ ووئام إذا اشتريت زوجةً بهذه الطريقة؛ ذلك أنها خليقة بألَّا تطيع لي أمرًا بحال، ولا تنفك عن السخرية بي وتقول إنني ليس لي حق عليها لأنني لم أدفع ثمنها كله.
وكانت عنده حصالة للنقود يودع فيها فائض ربحه من مالٍ يؤدَّى له نظير نوبته بالليل، أو نظير خدمات خاصة يبذلها، أو ما قد يجود به عليه من نفحات مريض أبيض عابر يعالَج في المستشفى، ولكن يوسف كان مبذِّرًا، ولم يكن من اليسير أن يقتصد وهو يجد الكثير جدًّا من الأشياء المغرية معروضةً في أسواق لامبارينيه ومخازنها التجارية؛ كالأحذية والسكر وأربطة العنق والقمصان الزاهية اللون.
ورأى يوسف يومًا زوجًا من الأحذية اللامعة الجلد حين دخل السوق مع الطبيب ليشتري بعض المؤن، وكان الحذاء جافًّا أصابه العطب من طول عرضه في واجهة حانوت بباريس، وكانت هذه البضاعة كمثيلاتها من الفضلات والنفايات الأخرى التي عزَّ بيعها في أوروبا، فشُحنت إلى أفريقيا حيث يدفع فيها الأفريقيون أكثر مما تستحق.
وراح الطبيب يفحص بعض المسامير واللوالب التي كان يريد شراءها، وإذا به يشاهد يوسف واقفًا حيث عُرض الحذاء وفي عينيه نظرة المتلهِّف، وأومأ إليه الطبيب بعينه إيماءة تحذير، ولكن يوسف لم يحفل بها، بل إن نخسةً من الطبيب في ضلوعه لم تستطع أن ترده عن لهفته، وأخيرًا قرصه الطبيب في فخذه قرصةً شديدة فهم منها يوسف ما يقصده الطبيب، وترك الحذاء الذي كان يتفحَّصه وألقى به جانبًا في إحجامٍ وتردد. وأخذ الطبيب في طريق عودتهما إلى مقر البعثة يلقي عليه محاضرةً في الاقتصاد، وبيَّن له أن الحذاء لم يكن يساوي الثمن الذي كان سيدفعه فيه. واستمع يوسف إليه عن طيب خاطر وأومأ برأسه مؤمِّنًا على كلامه، ولكنه مضى إلى لامبارينيه وحيدًا في اليوم التالي، وعاد إلى مقر البعثة يحمل حذاءً لامعًا من الجلد وحصالةً خالية من النقود. وأدرك الدكتور شفيتزر أن ثمة فروقًا طفيفة تُميِّز عادات وشعائر كل جنس من الآخر، ويجب على المرء ألَّا يأخذها مأخذ الجد الشديد. ولاحظ الطبيب أن أمهات الأطفال الذين وُلدوا حديثًا قد طلين أجسامهن وأجسام أولئك الأطفال جميعًا باللون الأبيض حتى تبدو مخيفةً في عين الأرواح الشريرة. وكان الطبيب يبلغ به الأمر إلى حد معاكستهن ويومئ لهن بومضةٍ من عينه بمجرد أن يُرزقن بمولودٍ مذكرًا إياهن بألَّا يُغفلن الطلاء.
وكان المرضى يُعطَون تذكرةً من قطعة مستديرة من الورق المقوَّى معلقةً في خيطٍ من الليف المجدول وعلى كل تذكرة رقم، فإذا احتاج أحدٌ إلى العودة إلى المستشفى استطاع الطبيب أن يراجع سِجله الذي دوَّن فيه اسم المريض وطبيعة مرضه والعقاقير التي أُعطيت له.
وأخذ القوم ينظرون إلى هذه القطع الصغيرة من الورق المُقوَّى التي كانوا يعلِّقونها حول رقبتهم ويُعنَون بالمحافظة عليها نظرتهم إلى نوعٍ من التمائم من قبيل تلك التي كان يصنعها لهم أطباء القرية السحرة لتقيهم من الأرواح الشريرة. وكانت تتدلَّى من أعناق القوم في كثيرٍ من الأحيان، مسلكة في نفس الخيط الذي يحمل التذكرة، أكياس صغيرة مُلئت بالريش الأحمر والصلصال ومخالب الفهد، بل تحتوي في بعض الأحيان على قطعٍ من جمجمةٍ بشرية لإنسان قتلوه لهذا الغرض.
وكان المصاب منهم بآلام في معدته حريًّا بأن يقول في وصف أعراض مرضه: إن الدودة ترعى في معدتي.
وكان الدواء الذي يشفيهم رقيةً سحرية تحمل الدودة، على أن تزحف مغادِرةً أجسامهم، وبدا للطبيب أن الحاجة الماسة التي تقتضي تحرير عقول هؤلاء القوم من مخاوفهم ومحرَّماتهم لا تقل عن حاجتهم إلى شفاء أجسامهم. وقد رأى كثيرًا من المخلوقات المسكينة المرتاعة قد سيطر عليها اعتقادٌ بمحرم سيطرةً جعلت هذه المخلوقات تقضي نحبها بفعل إصابتها بصدمةٍ عضوية وعقلية فحسب، لشعورها بأنها انتهكت حرمة هذا الشيء المحرم.
وقد حدث أن حُمل إلى المستشفى رجلٌ شاب أصابه فرس نهر بجرح، وكانت عقدة التحريم عنده أنه سوف يقضي إذا رأى لون دمه، وأوقف الطبيبُ النزيف وعالج الجرح حتى بدأ في الالتئام، لكن المصاب كان قد رأى دمه ولم يكن ثمة سبيل إلى إقناعه بأنه لن يموت، وأصبح الرجل فريسة مخاوفه ولم يجد الطبيب حيلةً لإنقاذه.
وكانت عقدة التحريم عند شابٍّ آخر أنه يجب عليه ألَّا يأكل الموز أبدًا، بل لا يلمس شيئًا كان قد وُضع في آنيةٍ طُبخ فيها الموز. واتفق مرةً أن علم أنه أصاب سمكًا كان قد طُهي في آنيةٍ بها بعض فضلات قليلة من الموز، وما إن سمع ذلك حتى أصابته تشنُّجات ولم يلبث أن قضى نحبه. وماتت امرأة على هذا النحو؛ كانت عقدة الحريم عندها أن مولودها الأول يجب أن يكون ذكرًا ولكنها رُزقت بأنثى.
وقد حدث في كثيرٍ من الأحيان أن أُنقذت في المستشفى حياة أشخاص بوسائلَ أخرى غير الطب؛ ذلك أن رجلين كانا يصطادان السمك من النهر وإذا بفرس نهر يهاجمهما، وقذف الوحش بالزورق في الهواء وحاول أحد الرجلين أن ينجو بجلده وأصيب الآخر بجراحٍ خطيرة؛ فقد انطلق الوحش يطارده في الماء نصف ساعة على الأقل قبل أن يستطيع آخر الأمر أن يجر نفسه جرًّا زاحفًا إلى الضفة.
وحُمل هذا الرجل إلى المستشفى بعد اثنتي عشرة ساعةً من إصابته، وبعد أن حاول الطبيب الساحر أن يشفيه بسحره ففشل، ولم يكن هناك أمل في شفائه بالرغم من العلاج الذي عولج به، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة استدار أخوه لينتقم من زميله الذي كان يصطاد معه، وكان هذا الرجل قد أتى إلى المستشفى أيضًا.
وانتحى يوسف بالطبيب جانبًا وشرح له شريعة الغاب، وكان هذا الزميل الذي كُتبت له النجاة هو مالك الزورق الذي مضى به الرجلان للصيد، وكان هو نفسه أول من اقترح بأن يذهبا للصيد؛ وبذلك عُدَّ مسئولًا عن الحادث وعن وفالة زميله، وكان ذلك هو السبب في مجيئه إلى المستشفى في صحبة ضحية هذا الحادث، وكان ذلك أيضًا هو السبب الذي جعل أقارب المتوفى يدبِّرون الأمر للعودة برفيق قريبهم إلى القرية بالقوة إذا لزم الأمر ليُحاكَم على ما أجرم.
وقال يوسف للطبيب: لتصبحن حياته في خطر إذا عاد القوم به.
ورأى الدكتور شفيتزر الخوف مرتسمًا على وجه الرجل البائس وهو يحاول التخلص من يد آسريه، فهتف الطبيب قائلًا: إني أحتفظ بهذا الرجل هنا ليعمل عندي.
وطلب من القوم أن يُطلقوا سراحه.
واحتجَّ أقارب الميت على قوله ووعدوا أن يحاكموه محاكمةً عادلة، ولكن يوسف لم يثق بكلامهم لأنه كان عالمًا بأساليب بني جلدته.
وأصر يوسف على قوله: «ليقتُلُنَّه لا محالة.»
وبقي الطبيب بجوار ضفة النهر حتى انطلق الزورق الذي يحمل القتيل وأقاربه ليستوثق من أنهم لن ينسلُّوا عائدين ويَجُرُّوا الرجل الذي نجا قوةً واقتدارًا.
ورأى الطبيب من خلال عينَي يوسف أول لمحة تضيء له أسرار هذه البلاد العجيبة، وأدرك أن هؤلاء القوم لم يفعلوا ما فعلوه مدفوعين بالقسوة، وإنما كان يحملهم على ذلك الواجب المقدس عندهم، أجل الواجب الذي يفرض عليهم أن يكفِّر المرء عن ذنبه وإن كانت مسئوليته عن وفاة آخر مسئوليةً بعيدة كل البعد. كانوا ينادون أن النفس بالنفس. وأدرك الطبيب وعقل شعورهم القوي بالعدالة، ولكنه رأى أن هذه حالة من الحالات التي يجب أن تُعرض على قضاء المركز في لامبارينيه ليفصل فيها على الوجه الذي تقضي به النظم.
وكان الأطباء الوطنيون لا يتردَّدون عن اتخاذ كل وسيلة ممكنة للاحتفاظ بسيطرتهم على الناس، وقد عرف الدكتور شفيتزر ذلك أيضًا من يوسف؛ ذلك أنه كان قد سمع برحلة صيد السمك التي اعتاد القوم أن يقوموا بها كل عام في منتصف فصل الجفاف حين تنحسر مياه نهر أوجو، فيخرج أهل القرية بأسرها إلى جسرٍ رملي على مسيرة ثلاث ساعات أو نحوها صُعُدًا في النهر، حيث يقضون هناك أسبوعين، ويقيمون عريشةً من أغصان الشجر يأوون إليها، ويأكلون السمك في كل وجبة مسلوقًا أو محمرًا أو مشويًّا، وكل ما يتبقَّى منهم يجفِّفونه ويدخِّنونه ويعودون به إلى القرية.
وقال الدكتور شفيتزر إذ ذكَّره ذلك بما جاء في التوراة من أعياد الحصاد، حين كان الناس يحتفلون أمام «يهوه»: «وأنت يا يوسف ألَا تريد أن تمضي معهم؟»
وكان يوسف مشغوفًا بصيد السمك حتى إن عينيه كانتا توشكان أن تخرجا من محجريهما عند أية إشارة إلى ذلك، ولكنه لم يُبدِ حماسةً لِمَا عرضه عليه الطبيب وشيكًا من عطلةٍ تُعفيه من العمل، وقال يوسف إنه لا يتعجَّل هذا الأمر، وإنه سوف ينتظر قليلًا ولا بأس من أن يمضي مع القوم بعد ذلك.
وأراد الطبيب أن يعرف السر في ذلك، وتبيَّن علة هذا الإحجام إذ أفصح عنه يوسف بقوله إن القوم لا يصيدون السمك في اليوم الأول، وإنما يعمد شيوخ القوم فيه إلى مباركة مكان الصيد فيصبون في الماء الروم، ويلقون فيه بأوراق شجر الطباق استرضاءً للأرواح الشريرة، حتى تدع السمك يقع في الشباك.
وقال الدكتور شفيتزر متعجِّبًا: ولكنك لا تؤمن حقًّا بمثل هذا السحر؟
وأجاب يوسف: أجل، لا أومن، ولكن إذا تجاسر أحد بكلمةٍ ينال بها من هذه العقائد، بل إذا ابتسم حين يتقرَّب القوم بالروم والطباق للأرواح، فلا مناص من أن يحل به العقاب إن عاجلًا أو آجلًا؛ ذلك أن الأطباء لا تأخذهم في ذلك مغفرة أبدًا، بل إننا في بعض الأحيان لا ندري مَن من الشيوخ هو الطبيب حقًّا.
ولم يكن يوسف ينتهز الفرص فبقي يواصل عمله بالمستشفى حتى حلَّ موعد الصيد، ثم مضى بزَورقه واستمتع به مع بقية القوم.
وحاول الطبيب في صبرٍ وتفهُّم للظروف أن يحارب مثل هذه الخرافات والمخاوف.
أما وقد توافر له بعدُ مستشفًى يأوي إليه، فقد استطاع أن يحتفظ فيه بالأطفال اليتامى ويُعنى بهم، ويغذِّيهم باللبن المحفوظ في العلب المجلوب من أوروبا حتى يستطيعوا أن يُصيبوا من طعام البالغين. وأقبل على المستشفى أيضًا العجائز الذين كانوا قد طُردوا من قراهم لمرضهم وعجزهم وبطلان نفعهم للقبيلة.
وأخذ يوسف ينصح الطبيب مرارًا وتكرارًا قائلًا: لا تئوِ هؤلاء القوم الذين تعلم أنهم لا محالة هالكون؛ فما من أحدٍ من سحرة القرية خليقٌ بأن يفكِّر في مثل هذا الأمر؛ ذلك أن مما يقضي على سمعتهم أن يموت مريض أثناء توليهم علاجه.
وكان كثيرٌ من الأشخاص المساكين المحتضرين الذين طردهم الأطباء السحرة وتخلَّى عنهم ذووهم، يحاولون بوسيلةٍ من الوسائل أن يلجئوا إلى مستشفى ألبرت شفيتزر، أو يُحمَلوا إليه خلسةً بالليل ثم يُتركوا هناك، فيقول له الطبيب: دعهم يجيئوا، فمرحبًا بهم. إن مستشفاي مفتوح لكل من يعانون آلام المرض.
وكان أولئك الذين لا يستطاع استخلاصهم من براثن الموت يعامَلون على الأقل بالحب والحنان، فيخفِّف ذلك عنهم قليلًا عندما تدركهم النهاية المحتومة. وكان الطبيب يخفِّف عنهم من الآلام باذلًا في ذلك غاية ما في وسعه.
على أن يوسف كان مصيبًا في أمرٍ واحد هو أن الطبيب كان يستطيع في أفريقيا أن يكون أمينًا مع مرضاه، فإذا علم أنه لا أمل يرجى في الشفاء بيَّن لهم ذلك في رفقٍ بدلًا من أن يمنِّيهم بالآمال الكذاب، ويخادعهم؛ ذلك أن الموت هناك في أفريقيا كان ولا يزال دائمًا شيئًا طبيعيًّا كالمولد سواءً بسواء، يستطيع الزنجي أن يواجهه في هدوء إذا جاء أجله.
والأطباء يحتاجون إلى الاحتفاظ بقوة عاطفتهم وطاقتها حتى يستطيعوا أن يبذلوا عنايتهم للجميع، ولكن الدكتور شفيتزر بقدرِ ما حاول لم يستطع أن ينتزع من نفسه ما يحس به من شفقةٍ عظيمة وقلق بالغ حيال كل مريض؛ فقد كان يشاركهم الشقاء بآلامهم وضعفهم، ويعتقد أن أية تضحية أو تعب يكابده في سبيلهم، وكل سنة أنفقها في الدرس والاستعداد للقدوم إلى هذه البلاد لا تذهب سدًى حين يرى الفرحة باديةً على أولئك الذين ابتُلوا بالقروح بعد أن ضُمِّدت قروحهم بعناية فلم يعودوا يضطرون إلى جر أقدامهم الواهنة النازفة في الطين. وكان سماعه لمناغاة الطفل يشدو راضيًا بعد أن كان يصيح من الألم أحلى عنده من أي غناء.
وكثيرًا ما كان يتردَّد في سمعه كلمة «أكيوا» ومعناها «شكرًا لك»، وكان كثيرٌ من القوم يؤثرون أن يعربوا عن تقديرهم لفضله بتقديم الهدايا، أو بذل ما يمكن أن يجودوا به من مالٍ قليل، وقد كان لِمَا بذله رجلٌ في هذا السبيل مغزًى كبير عنده؛ فقد تطوَّع للعمل من أجل المستشفى؛ ذلك أن عم صبي كان قد حُمل إلى هناك وقد غطَّت القروحُ جسمه، أنفق أربعة عشر يومًا يصنع للمستشفى صواوين من صناديق الشحن. وأبدى تاجر زنجي استعداده لأن يقوم عماله بالخدمة، فأمكن بذلك إصلاح سقف كوخ الطبيب.
وكوفئ الطبيب أعظم مكافأة على الإطلاق، حين فرغ من إجراء جراحة لمريض، فلما استفاق أحسَّ الطبيب بيدٍ تمتد إلى يده، وتشبَّث بها، واستمع بفرحٍ إلى الكلمات التي فاه بها المريض قائلًا: لم أعد أحس بالألم، أجل لم أعد أحس بألم!
وقد كتب الطبيب تقريره عن ذلك العام في ظروفٍ مثل هذه الظروف، وقال فيه: «إنه استطاع أن جلس هو ومرضاه جنبًا إلى جنب، وأن يعرفوا عن خبرةٍ معنى الكلمات؛ «كلكم إخوة»!»