الفصل التاسع
«إن السبل التي لا مناص لنا من أن نسلكها لنبلغ الغاية المنشودة قد يغشاها ظلام، ولكن الوجهة التي يجب أن نولِّي وجوهنا شطرها واضحة جلية.»
وحلَّت فصول، وأدبرت فصول، ولكنها لم تكن هي الفصول التي ألِفها في الألزاس من قبلُ ألبرت وهيلين شفيتزر، الفصول التي تتفتَّح فيها الأزهار وتورق الأشجار ويثمر النبت؛ فقد كان لا يغشاها ذلك الغسق الطويل المتلبِّث المعهود في الصيف حين تبدو الشمس وكأنها تأبى أن تغرب، وتظل حمرة وهجها باقيةً في السماء ساعات. ولم يكن يحل بهذه البلاد الأفريقية شتاء يطالع المرء فيه تأجج النيران وهي تشتعل في الخشب فيُسمع له قعقعة، ولا رقائق الثلج تسقط على زجاج النوافذ رفيقةً حانية؛ فقد كان النهار يمضي في الوطن الأفريقي معتدلًا دافئًا لا تغشاه برودة قط، وتتفتح الأزهار طوال السنة في الأماكن المكشوفة حيث تغاديها الشمس بأشعتها. وكانت الغابة كعهدها كثيفةً خضراء خضرةً رصينة، لا تتقلَّب ولا تتحول أبدًا، فترى على الشجرة الواحدة براعم جديدةً وأزهارًا وثمارًا ناضجة في آنٍ. وكان القوم لا يقيسون الوقت كما يقيس الناس، وإنما يقيسونه بفصول الجفاف وفصول الأمطار.
وكان وصول ألبرت وهيلين شفيتزر إلى أفريقيا أول مرة قرابة نهاية الفصل المطير، وما إن انتهى شهر مايو حتى كانت الأمطار قد كفَّت عن الهطول، وأصبحت السماء لا لون لها ولا سحب فيها، وأشرقت الشمس كئيبةً من خلال ضبابة معتمة في بياض اللبن غشيت الجو بفعل الحرارة، ورأيا النهر تنحسر مياهه، وبدت جزائر الرمال التي كانت مختفيةً حتى ذلك الحين كأنها عظام حيوان هزيل جائع. وكان هذا هو الوقت من السنة الذي يمكن أن تشاهد فيه التماسيح غافيةً كأنها عددٌ عديد من الكتل الخشبية منتشرةً على ضفة النهر. وتجمَّعت أفراس النهر في أواخر الليل على جزيرتها المفضَّلة، حيث كانت القناة تتصل بالمجرى الأصيل لتخوض في الماء وتنخر وتمرح. وكان هذا أيضًا هو الوقت من السنة الذي يأخذ فيه الأطفال الوطنيون الصغار في السعال والخنان، ويشكو الرجال الكهول من آلام الروماتزم التي تصيب عظامهم؛ ذلك أن الليالي تكون قرَّةً في فصل الجفاف، فكان الزنجي في كوخ قريته لا ينام إلا قليلًا، وهو يتخذ حصيرًا من القش سريرًا له على أديم الأرض الصلدة القذرة، لا يغطِّيه إلا الخرق القليلة التي يرتديها أثناء النهار.
وقد جرت العادة عند بعض القبائل أن الرجل منهم يقول حين يمضي إلى النوم بالليل: «إني لماضٍ أثني رجلَي حتى تصبحا أربعًا.»
ولكنه كان يقول في وقدة الظهيرة حين يستطيع أن يعوِّض ما فاته من النوم في المساء بقيلولة الظهر: «إني لماضٍ أبسط رجلَي.»
واستمر فصل الجفاف أربعة أشهر حتى بداية أكتوبر، ثم وافت الأمطار لتبقى الثمانية الأشهر الأخرى من السنة. وكانت الريح تهب وقتذاك كل مساء تزأر خفيفة، تهز الأشجار وتتلاعب بها. وهطل المطر نافذًا يروي الأرض ويبلِّل الأديم القذر لجميع أكواخ القرية متغلغلًا فيه، بل إن الشمس حين بزغت في صباح اليوم التالي كان الجو لا يزال تغشاه رطوبة شديدة، فتألَّقت على الشجيرات قطرات من المطر بقيت من الليلة السابقة. وربا النهر سريعًا وبدت أشجار المانجو، وأشجار النخيل، وأشجار الأوكوم بجذوعها الغبراء، وكأنما تركت حينذاك ضفة النهر العالية حيث كانت تقوم منذ يوم أو بعض يوم فحسب، ماضيةً إلى النهر كالأطفال يتمايلون في الماء، وانغمست أغصانها بعيدًا في النهر، فكان منها عريشة خضراء تظلِّل الزورق المار من تحتها.
وحلَّ فصلٌ آخر من فصول الجفاف وها هو ذا الآن يؤذِن بزوال. وكان هذا الفصل هو ثاني فصل شهده الطبيب وزوجته منذ وصلا إلى أفريقيا، وكان الأوان قد آن للبدء في تدبير أمر عطلة يعودان فيها إلى وطنهما في الألزاس، واستقرَّ عزمهما على أن يرحلا قبل حلول الفصل المطير التالي؛ ذلك أنهما بعد أن قضيا سنتين في منطقة خط الاستواء أصبحا في حاجةٍ إلى أن يستجمعا قوتهما ويستردا صحتهما في جوٍّ أطيب وأرطب.
وكانت قد مرت بالطبيب منذ وصوله أوقات كثيرة أحس فيها بخيبة الأمل والسخط، وفكَّر في أنه لا يزال أمامه بعدُ أمور جمة يجب أن ينهض بها، ولكنه كان يعود بذاكرته في شيءٍ من الرضا ناظرًا إلى كل ما تحقَّق في الستة عشر شهرًا الماضية؛ فقد كان المستشفى الصغير قد أُقيم من لا شيء، وعولج ألفان من المرضى وشُفوا من عللهم قبل أن يُحس الطبيب أو يكاد أن الأمور قد استقرَّت في المستشفى. وكان كل يوم يجيء بمرضى جدد، واستشعر حقًّا بأن الأمر كان يستأهل قدومه إلى هذا المكان. ولم تكن التضحيات التي كان قد أعدَّ نفسه لتحمُّلها بقدر ما توقع.
كان قد أتى إلى قلب أفريقيا ليعيش منسيًّا مغمورًا لا يعرفه أحد إلا المرضى والمحتاجون الذين أقبلوا ينشدون عونه. وكان قد راض نفسه على أن يتخلَّى عن ثلاثة أمور كانت في نظره عظيمة الأهمية؛ ألَا وهي محاضراته وعظاته، والموسيقى التي كان يحبها ويُؤثرها.
على أن جمعية الموسيقار باخ في باريس كانت قد وهبت له بيانو ليحمله معه حين غادر أوروبا، وكان هذا البيانو مخطَّطًا بالمعدن لحمايته من الأرضة والعفن، وله ما للأرغن من دوَّاساتٍ حتى يستطيع أن يمضي في العزف عليه. وظل الطبيب مدةً طويلة لا يأنس في نفسه الإقبال على لمسه. وكان حين حمل البيانو من المرسى وهو بعدُ في صندوق شحنه يرقب ذلك في قلقٍ واهتمام. وكان ثمة عدد غفير من الحمالين حتى بدا للأعين أن صفين من الأرجل والرءوس قد ثُبتت على كل جانب، واستوثق أن البيانو قد فُك عنه بعناية الصندوق الذي شُحن فيه، ولكنه حين حُمل إلى البيت ووُضع في مكانه نظر إليه الطبيب لحظةً ثم أشاح بوجهه عنه، وقال بينه وبين نفسه ما سبق أن قاله وهو يُغادر أوروبا لَخيرٌ له أن يترك أصابعه وقدميه حتى تتصلب من عدم المرانة؛ فقد كانت أمامه هنا أعمالٌ كثيرة جدًّا تقتضي الأداء وسوف لا يُتاح له فسحة من الوقت للموسيقى.
وحدث في ليلةٍ أن تعب من عمل نهاره فجلس إلى البيانو وبدأ يتحسَّس مفاتيحه وأخذ يعزف فوجة باخ وهو لا يكاد يعرف ما يفعل، وأخذ يدير بقدميه دواسات البيانو كأنما هو أرغن، ومضى يعزف ويعزف في ذلك السكون الموحش الذي كان يريم على بيته القائم في الغابة، ولم يجد ثمة ما يدعوه إلى التخلي عن الموسيقى، ورأى أنه خليقٌ بأن يفيد من وقت الفراغ الذي يُتاح له حتى وإن كان نصف ساعة فحسب يقتطعه من مشاغل نهاره محاوِلًا أن يجعل أداءه الفني عميقًا كاملًا ما وسعه، فيتناول في المرة الواحدة مقطوعةً واحدة لا غير من باخ أو مندلسون أو فيدور أو سيزار فرانك، ويدرسها بعناية حتى يُحيط بأدق تفصيلاتها، ويُتابع دراسة هذه المقطوعة، واحدةً واحدة حتى يحفظها جميعًا عن ظهر قلب. ولم يكن هناك ما يحمله على العجلة بعد؛ فلا حفلات موسيقية تقتضيه الإعداد لها، ولا مواعيد مُقرَّرة يضطر الأمر إلى الوفاء بها. كان يستطيع إذن أن ينعم بوقته في هدوء، ومن ثم أصبح للموسيقى في نفسه معنًى أكبر ممَّا كان لها من قبلُ قط، وكان إحساسه هذا مجرد بداية ردته إلى عملٍ كان قد شرع فيه قبل ذلك بوقتٍ طويل، وظن أن الواجب يفرض عليه أن يتخلَّى عنه. وانبعث مرةً أخرى مدفوعًا بهذه الرغبة المتجددة، يعمل في الطبعة الأمريكية للمجلدات التي كان قد كتبها عن موسيقى باخ.
وكان الدكتور شفيتزر قبل أن يُسمح له بالمجيء إلى أفريقيا قد حُمل على أن يتعهَّد بأن يمارس الطب فحسب، ويكف عن الوعظ، وقد تحقَّق هذا؛ لأن بحثه عن الحق قد أدَّى به إلى الإدلاء في كتبه ببعض الأفكار التي كان أعضاء مجلس البعثات الدينية في باريس يَعُدونها مسرفةً في التحرر.
وقطع الطبيب على نفسه هذا العهد بقوله: «لألزمن الصمت كالعجماوات.»
ولكنه وجد أن الرجال الذين كانوا قد وفدوا إلى أفريقيا للتبشير بين أهلها بالمسيحية لم يكونوا بمستطيعين أن تردَّهم عن سبيلهم مسائل خاصة بالعقيدة؛ ذلك أنهم رأوا أن لا بد لهم أن يرجعوا إلى البساطة المتمثِّلة في الإنجيل إذا أرادوا أن يفهمهم من يستمع إليهم، ولم يمضِ على الطبيب بعد وصوله وقت طويل حتى طلبوا منه أن يُشارك في الصلوات، ووجد أنه لم يعد مضطرًّا للتخلي من الوعظ.
وكانت تجربة محبَّبة بالنسبة للطبيب أن يعرِّف القوم بدينٍ يقوم على الحب بعد أن كانوا لا يعرفون إلا دينًا واحدًا يقوم على الخوف والقسوة. وأية سبيل كان في مقدوره أن يلتمسها لهدايتهم خيرٌ من التمثل بكلمات المسيح في موعظة الجيل أو أقوال بولس الرسول؟
وكان المدرس أويمبو الذي يحمل اسمُه معنى «الأغنية» يساعده بتفسير مواعظه بلغة الشعب، فكان يأتي في مساء السبت إلى بيت الطبيب ويدرس معه الموعظة جملةً جملة ويناقشانها، فإذا وجدا فيها تعبيرًا لا يستطيع القوم أن يفهموه مثل «كَرْمة» أو «حقل من القمح»، اقترح عليه أويمبو أن يعدل عنه إلى شيءٍ مألوف لديهم.
وكانت ثمة صلة ترتبط بين هذين الرجلين اللذين أقبل أحدهما من قريةٍ صغيرة في أعماق الغابة، وأقبل الآخر من كراسي الأستاذية في حواضر أوروبا. وكان الدكتور شفيتزر ينظر إلى أويمبو نظرته إلى رجلٍ من خيرة من لقي من معارفه الكثيرين، ويرى أنه يندر أن يجد المرء شخصًا أُحسنت تسميته كما أُحسنت تسمية أويمبو؛ ذلك أن أويمبو قد جعل من حياته أغنيةً عذبة.
وكان كثيرون من شباب أفريقيا بعد أن يتلقَّوا علومهم في مدارس البعثات الدينية، لا يفكِّرون إلا في شيءٍ واحد هو أن يغادروا قراهم الوطنية ويبحثوا عن وظيفةٍ دينية في الحكومة، أو يعملوا صيارفةً في محل تجاري في حاضرةٍ من الحواضر. ولكن أويمبو كان قد أدرك حاجات قومه وآثر أن يبقى فيما أخذ به نفسه من عمل؛ لأنه أراد أن يُساعد قومه على الارتفاع بحياتهم، ولو أنه كان يُمنح مرتَّبًا قليلًا نظير قيامه بالتعليم في مدرسة من مدارس البعثات الدينية، كما أن عمله لم يكن سهلًا يسيرًا. وكان أمثاله أويمبو وزوجته التي لا تقل عنه ذكاءً وأولادهما الثلاثة الذين نشئوا نشأةً طيبة، كفيلين بأن يجعلوا مستقبل أفريقيا مستقبلًا مأمولًا، ولئن قُيض لأفريقيا أُسَر كثيرة مثل أسرة أويمبو لاستطاعوا أن يجعلوا من أفريقيا قارةً عظيمة، وكان الأفريقيون يسألون الطبيب في كثيرٍ من الأحيان: تُرى كيف حال هذه البلاد؛ بلاد البيض؟ وإلى أي حدٍّ تختلف عن بلادنا؟
وكان الخلاف بينهما في بعض النواحي أشد من أن يستطيع معه الطبيب أن يبيِّنه لهم، ولكن المرء إذا تدبَّر حال رجال من الوطنيين مثل أويمبو لوجد أن هذه البلاد وتلك تتشابه تشابهًا كبيرًا في غير ذلك من النواحي.
وحدث مرةً في رحلةٍ قاموا بها على متن زورق أن سأله الرجال الذين جلسوا إلى المجاديف هذا السؤال ثانية: تُرى كيف حال البلاد التي أتيت منها؟
فأجاب الطبيب وهو ينظر إلى الغابة المظلمة القاتمة رابضةً كالسور الأخضر المرتفع على ضفتي نهر: إن لدينا من ناحيةٍ نيرانًا عظيمة تشب في الغابات أحيانًا عندما تكون الريح شديدةً والأمطار قليلة.
وروى الطبيب كيف تشتعل الأشجار الحية، وتضرب نيرانها في الجو ويمتد اللهيب سريعًا من شجرةٍ إلى شجرة حتى تضطرم الغابة كلها بالنيران، وهذا شيءٌ لا يستطيع أن يتصوره أولئك الذين يعيشون في مثل هذا الجو المليء بالرطوبة أو يكادون؛ فإن من العسير هنا حتى في فصل الجفاف إشعال كتل الخشب التي كانت قد اقتُطعت وادُّخرت حين سُويت الأرض لزراعة الموز، ولكن ما أعجب أن يحدث هذا للأشجار الحية! كيف يمكن أن تشتعل أبدًا؟
وقال الطبيب وقد تألَّقت عيناه بومضة؛ ذلك أنه كان عندئذٍ قد عرف من لغتهم ما يمكِّنه من أن يفهم الأغنية التي كانوا يغنُّونها عن مبلغ ما يلاقونه من مشقة: «وثمة ناحية أخرى هي أنه يوجد في بلادنا من يخرجون في زورق لمجرد النزهة.»
فسأله الرجال: أيفعلون ذلك حتى إذا لم تضطرهم الحال إلى القيام برحلة؟ وإذا لم يكن عندهم بضاعة يقتضيهم الأمر نقلها؟
وهل ثمة سبب آخر يمكن أن يحمل المرءَ على أن يخرج في زورقٍ ويجدِّف؟
وأجاب الطبيب: إنهم يفعلون ذلك لِمَا فيه من رياضةٍ لأنهم يريدون التريُّض.
وضحك الرجال لمجرد التفكير في أن قومًا يبلغ بهم الحمق أن يمارسوا عملًا بدنيًّا كالتجديف لتسيير زورق دون حاجة تضطرهم إلى ذلك؛ لا شك أن الطبيب يبالغ في القول.
وأرادوا أن يزدادوا علمًا فسألوه: وما هي الفروق الأخرى؟
وفكَّر الطبيب في يوسف الذي كان لا يزال يضع النقود في حصَّالته ليدخر مالًا يشتري به زوجة، ولا يزال يُنفقه في شيءٍ لا يمكن أن يرد نفسه عن شرائه.
وقال الطبيب: إن الرجال يتزوَّجون هناك دون أن تضطرَّهم الحال إلى شراء زوجاتهم بالمال.
وهزَّ القوم رءوسهم لقوله، وظنوا أن هذا لا يمكن أن يكون حقًّا، ورأوا أنه كان يداعبهم ويسخر منهم بنكته لأنه كان يعتقد أن هذا هو غاية علمهم، وهل سمع أحدٌ قط برجلٍ تزوَّج دون أن تضطره الحال إلى أن يدفع لأسرة زوجه ما تطلبه من مال!
وكانت أوروبا تبدو بعيدةً عن أفريقيا آنئذٍ كل البعد في صيف عام ١٩١٤م، ولم يكونوا قد سمعوا عنها أية أنباء منذ بداية شهر يوليو، وها هو ذا شهر أغسطس قد مضى بعضه الآن، ولكن لم يهتمَّ أحدٌ كثيرًا بهذا الأمر؛ لأن الزوارق كانت بطيئةً والبريد يستغرق أسابيع حتى يبلغهم. وكان القوم في قلب أفريقيا لا يعنيهم الوقت إلا قليلًا في تلك الأيام، وكل يوم يمضي كسابقه يقضونه في علاج المريض وتغذية الأطفال وكسوتهم وتعليمهم. وإذا بالأنباء تأتي منذرةً بقيام حرب، حرب يُحس بها الناس في جميع أرجاء العالم بل في أقصى أطرافه!
وكان الطبيب قد أعد دواءً لامرأة مريضة في رأس لوبيز، وبعث به مع يوسف إلى المخزن القائم في لامبارينيه، راجيًا القوم هناك أن يبعثوا به إلى المريضة في الزورق عند قيامه برحلته التالية هابطًا النهر.
«إن القوم في أوروبا يعبِّئون الجيوش، والراجح أن الحرب قد نشبت بالفعل، ويجب علينا أن نضع زورقنا تحت تصرُّف السلطات؛ ولذلك لا نستطيع أن نحدِّد الوقت الذي يقوم فيه برحلته التالية إلى رأس لوبيز.»
وجاءت الأنباء في اليوم التالي بأن الحرب أُعلنت، وفي هذا المساء نفسه أُعلِن الدكتور شفيتزر وزوجه أنه يجب عليهما الآن أن يعدا نفسيهما أسرى حرب.
وقد كانت الألزاس في يومٍ من الأيام جزءًا من الجمهورية الفرنسية، إلا أن الألمان كانوا قد استولوا عليها قبل مولد الدكتور شفيتزر بخمس سنوات، وعُدَّ هو وزوجته لذلك في زمرة المواطنين الألمان، ونُظر إليهما وهما يعيشان هنا في مستعمرةٍ فرنسية على اعتبار أنهما من رعايا الأعداء، وأُبلغا بأنه لا مانع من أن يُسمح لهما بالبقاء في البيت الذي كانا يشغلانه بشرط ألَّا يتصلا أي اتصال بالبيض أو السود. وأُنفِذ جنود من الوطنيين مرتدين السراويل والقمصان الزرقاء الخاصة بالبحارة، واضعين على رءوسهم الطرابيش الحمراء ذات الزر إلى مقر البعثة الدينية؛ ليقفوا على بابها حراسًا ويتثبَّتوا من أن أفرادها يطيعون الأوامر.
ووجد الطبيب أن ممَّا يدعو إلى العجب أن يستيقظ في باكورة الصباح وهو يعلم أنه يجب عليه أن يبقى في البيت لعجزه عن أن ينزل إلى المستشفى؛ ليعرف كيف كان حال المرضى بالليل. وكان يجد نفسه في كثيرٍ من الأحيان جالسًا إلى البيانو يسرِّي عن نفسه ويتساءل هل يقيَّض له بعدُ أن يرى أوروبا، وإذا قُيض له ذلك فكيف تكون حال أوروبا؟ وراح يفكِّر في شباب فرنسا وألمانيا وقد رقد كثيرٌ منهم في الخنادق جرحى يعانون الآلام. أهذا هو الطريق الذي سيقت إليه الحضارة وهل هو بداية سقوطها؟ وبدأ يسجِّل الأفكار التي تدور برأسه وإن كان يعلم أن ثمة احتمالًا أن يُنزع منه كل ما كتبه لأنه أسير حرب.
ولم يكن الأفريقيون بقادرين على أن يُدركوا السبب الذي دعا إلى تحديد إقامة طبيبهم المفاجئ، وأخذوا يعنِّفون الحراس الوطنيين وتساءلوا ما الذي يقصدونه بإقامة أنفسهم سادةً على الطبيب العظيم، يحدِّدون له ما يفعل وما لا يفعل؟ وكذلك فعل الأوروبيون فاحتجوا أيضًا لأنهم لم يجدوا سببًا وجيهًا يدعو إلى حرمانهم من خدمات الطبيب الوحيد القائم بالعمل في رقعة تبلغ مئات الأميال، وكان من النادر أن يمر يوم دون أن يجد قائد المنطقة نفسه مضطرًّا إلى أن يبعث إلى الحراس رسالةً يوصيهم فيها بأن يسمحوا لحاملها بأن يلقى الطبيب لأنه في حاجةٍ إلى علاج. وظلَّت الحال على هذا المنوال ثلاثة أشهر حتى تدخَّل الرجل المؤمن شارل فيدور المقيم في باريس فأطلق سراح ألبرت وهيلين شفيتزر، وأخذ العملُ في المستشفى يسير سيرته الأولى.
وأخذت أنباء الحرب تصل بانتظام لا بأس فيه، وكانت الرسائل تُبعث من رأس لوبيز أو من ليبرفيل بالبرق إلى قائد المنطقة في لامبارينيه كل أسبوعين. وكان القائد يبعث بدوره بالأنباء إلى المخازن وإلى مراكز البعثات الدينية الكاثوليكية والبروتستانتية يحملها جندي وطني.
وفي يومٍ من الأيام بدأ يوسف يشكو وهو يُساعد الطبيب في تضميد جروح مريض: لقد ارتفع ثمن كل شيء الآن.
وأجاب الطبيب: يجب ألَّا نتحدَّث على هذا النحو يا يوسف، ألَا ترى أمارات القلق باديةً على وجوه الطبيب وزوجه وغيرهما من أعضاء البعثة الدينية؟ إن للحرب في نفوسنا معنًى أكبر من ارتفاع الأسعار، فإننا جميعًا محزونون من أجل إخواننا الذين يُصابون بالجراح ويموتون في ساحة المعركة.
ونظر يوسف إليه مُتعجِّبًا كأنما أدرك للمرة الأولى معنًى كان خافيًا عليه.
وتواترت الأنباء بأن الرجال البيض الذين كانوا قد تركوا هذه المنطقة من أفريقيا ليخوضوا غمار المعارك الدائرة في أوروبا قد قُتلوا في الحرب واحدًا بعد الآخر.
وهتف أفريقي شيخ متعجبًا حين سمع بأن عشرةً منهم قد قُتلوا: أهكذا يُقتل مثل هذا العدد الكبير في الحرب؟
ولم يفطن الرجال إلى أن عدة آلاف من بلادٍ أخرى قد قُتلوا على هذا العدد، ثم أردف: لمَ لا تجتمع قبائلهم لتدبير حل لهذا؟ وكيف يُتاح لهم بأية حال أن يدفعوا الفدية عن كل هؤلاء القتلى!
وكان الرجل الشيخ يعلم أن الحال قد جرت في الحروب الوطنية التي وعتها ذاكرته منذ شبابه بأن كل من يُقتل فيها سواء أكان من المنتصرين أم من المنهزمين يدفع الطرف الآخر ديته، وكان ثمة شيء آخر اهتم له الرجل؛ فقد تساءل: من الذي يدعو الأوروبيين الذين لا يأكلون القتلى الذين يسقطون في ساحة المعركة إلى قتل هذا العدد الغفير، إلا إذا كانوا مدفوعين إلى ذلك بالقسوة، والقسوة وحدها؟
وكان يُقبل على الطبيب أناسٌ آخرون حائرين يسألون كيف يقتل البيض الآن بعضهم بعضًا في حين أن دينهم يحض على المحبة. ولم يحاول الدكتور شفيتزر أن يفسِّر لهم الأمر أي تفسير.
ولم يملك إلا أن يُجيبهم بقوله: إننا حيال شيء فظيع يعجز المرء عن فهمه.
وفي عيد ميلاد المسيح الذي حلَّ وقتذاك حُملت إلى البيت شجرة نخيل صغيرة بدلًا من شجرة الميلاد التي تُجلب في هذا العيد، وتدلَّت من أغصانها حُلي زاهية وأُوقدت الشموع في الغسق، فأضفت على جو الغرفة وهجًا رقيقًا يبعث على الانشراح والسرور، وكان ضوءُها يضطرب في نسيم الليل ملقيًا ظلالًا تتراقص على الجدران وفي الأركان.
واستطاع الجمع الذي التأم شمله في مركز البعثة الدينية من المواطنين الفرنسيين والألمان والأفريقيين أن ينسوا الحرب لحظةً قصيرة ويتغنَّوا بأناشيد عيد الميلاد ويتبادلوا الهدايا الصغيرة. وكانت أشجار المانجو وأشجار قطن الحرير القائمة خارج الدار يصدر منها حفيفٌ رقيق والريح تُداعب أغصانها، وانطلق نهر أوجو يجري ساكنًا وقورًا، وكانت النجوم ترسل ضوءها الشاحب على أديم الثرى؛ نجوم الدب الأكبر ونجوم صليب الجنوب وعناقيد النجوم التي تتألَّف منها المجرة. وفي مثل هذه الليلة الهادئة الساكنة سواءً بسواء، وفي مكانٍ إلى الشمال من ذلك لا يبعد كثيرًا عن هذا المكان، انطلقت الملائكة منذ زمنٍ بعيد تشدو للرعاة وهم يرعَون قطعانهم: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.»
وأطفأ الطبيب الشموع حينما احترقت إلى أنصافها.
وسألته زوجته: ولكن لمَ فعلت ذلك؟
وأجاب الدكتور شفيتزر: إن هذه الشموع هي كل ما لدينا، وخيرٌ لنا أن ندَّخرها للعام المقبل.
– للعام المقبل؟
وهزَّت رأسها هزة حزن وأسًى، فمن يدري ما الذي يأتي به العام المقبل؟
وأحسَّ الطبيب بمبلغ ما كان في عمله من رحمة؛ إذ استطاع أن يخفِّف الآلام ويُنقذ الأرواح البشرية، على حين وجد عددٌ غفير من الناس أن الواجب يقتضيهم أن يُنزلوا بغيرهم الشقاء والموت. وكانت شحنةٌ من المؤن الطبية غادرت أوروبا قُبيل إعلان الحرب تحاول أن تشق طريقها إلى لامبارينيه.
وكان معنى هذا أن العمل في المستشفى يمكن أن يمضي في طريقه؛ لأن هذه الشحنة كانت تشتمل على عدة صناديق من العقاقير والضمادات، على أن هذه الشحنة كان ينبغي أن تكفيهم وقتًا طويلًا، فمن يدري متى يستطيعون أن يبعثوا إليهم بشحنةٍ أخرى؟
وكانت مشكلة الغذاء أكبر من مشكلة الدواء؛ ذلك أن قطعانًا من الفيلة كانت تتجوَّل في البلاد تأكل الموز وتطأ نبات المانيوق، وكان في استطاعة قطيع من عشرين فيلًا أن يدمِّر مزرعةً بأسرها في ليلة واحدة ويصيب القرية بالجوع عدة أشهر، ولم يكن أحدٌ يدري متى يصل هذا القطيع؛ ذلك أن الفيلة وإن كانت ضخمة الجثة بطيئة الحركة، إلا أنه كان لها أسلوبٌ في السير ملتزمةً الصمت كأنها الريح الهامسة. وكانت تستطيع أيضًا أن تحجب آثار أقدامها عن العيون؛ فترفع بخراطيمها الأغصان وتقذف بها وراءها، تختفي نهارًا في المستنقعات التي في أعماق الغابة، وتُقبل بالليل إلى الأماكن التي استطلعتها من قبل.
وقد شكا بعض الأهالي الأفريقيين ذات يوم حين كانوا يركبون متن زورق مع الطبيب، وقالوا: لو أننا كنا الآن مع السيد كاديار لأصاب لنا ببندقيته زوجًا من النسانيس أو بعضًا من الطيور نأكل لحومها، ولكنك تمر بتمساحٍ مقتربًا منه أشد القرب، ولا تبادر أبدًا حتى بلمس بندقيتك، ولا يمكن بحالٍ أن يمر بنا حادث ونحن في صحبتك.
ورأى الدكتور شفيتزر طيور الماء تدور وتحوم في خفةٍ ورشاقة، وتمرق مروق السهم فوق سطح النهر ولا يستطيع أن يحمل نفسه على اقتناص طير واحد منها، أو يُطلِق النار على نسناس يتمايل على الأغصان العالية لشجرةٍ من الأشجار فيصبح هدفًا سهلًا لأي صياد. وكان يحدث في كثيرٍ من الأحيان أن يكون نسناسٌ منها مجروحًا فحسب، فيقع في الكلأ حيث لا يمكن أن يناله أحد. وأسوأ من هذا أن يقع في أسر الأغصان الكثيرة الأوراق، ويموت هناك موتًا بطيئًا مؤلمًا، ولو استطاع المرء أن يجد جثته فإن من المحتمل أن يجد أيضًا نسناسًا وليدًا يصيح صياحًا متقطِّعًا ويتشبَّث بأمه الميتة تشبثًا يثير في النفس الحسرة والأسى.
وأحس الناس في جميع أرجاء العالم بالحرب الدائرة في أوروبا، فلا يُستثنى من ذلك أقصى الأماكن في قلب أفريقيا، ولم يتأثر القوم هناك بارتفاع الأسعار وندرة الغذاء ونقص العمل في مضارب الخشب فحسب، بل سرعان ما سيق أهل نهر أوجو إلى الخدمة العاملة حمالين في مستعمرة الكاميرون العسكرية.
وكان ألويز الطباخ يسأل كل مرة يأتي فيها البريد: ألَا تزال الحرب دائرةً أيها الطبيب؟
– أجل يا ألويز لا تزال الحرب دائرة.
وهمس ألويز هازًّا رأسه: أوه، لا، لا، أوه! لا لا لا! أوه، لا لا لا؟
وفي نجومو، وهي قريةٌ بين رأس لوبيز ولامبارينيه، حُملت طائفةٌ من الحمالين على ظهر مركب بخاري نهري إلى المركز الذي حُدِّد لهم، ووقف الطبيب الذي كان قد استُدعي إلى هناك ليعالج زوجة أحد رجال البعثة الدينية على ضفة النهر، ليرى المركب وهو يغادر نجومو. واحتشد جمعٌ من النسوة يولولن نائحات على أبنائهن وأزواجهن الذين حُملوا بعيدًا عنهن، ورأين المركب وهو يتحرَّك ببطء ماضيًا في سبيله حتى غاب على البعد آخر أثر من آثار دخان المركب، فلما اختفى المركب عن أنظارهن ذهبن إلى حال سبيلهن، وبقيت امرأة منهن جلست وحيدةً على حجر، وراحت تبكي في سكونٍ على ذلك الشيء الذي لم تستطع أن تفهم له علةً ولا سببًا. وشخص الدكتور شفيتزر إليها وأمسك بيدها محاولًا أن يفكِّر في كلماتٍ يسرِّي بها عنها، ولكنها مضت تبكي كأنها لم تسمعه أو تشعر حتى بوجوده، وإذا به يشعر هو الآخر أنه يبكي لبكائها متوجِّهًا إلى النهر الخالي والشمس الغاربة.
وكان قد أقبل في هذه الرحلة على مركبٍ بخاري صغير يجر ناقلةً مشحونة بالبضائع، ومضى وهو جالسٌ على سطح هذه الناقلة يفكِّر كيف كانت الأمم المتحضِّرة في هذا العالم تشن بعضها الحرب على بعض، وما الذي يمكن عمله ليحول دون تدمير الحضارة التي أقيمت خلال السنوات الماضية جميعًا تدميرًا كاملًا شاملًا؟ ولم يكن الحل أن يُدير المرء ظهره للعالم، ويستغرق في التفكير في القضايا العليا؛ فنحن إلى ذلك نعيش في هذا العالم كما أننا جزء منه. وإذا كان الإنسان يتقدَّم من الناحية الروحية فإن ذلك يجب أن يتم بالتسليم بما وقع في هذا العالم لا بإنكاره؛ فنحن محتاجون إلى مثلٍ نعمل في سبيله، أجل محتاجون إلى شيءٍ يجعل هذا العالم مكانًا للعيش أفضل ممَّا هو عليه، لكن شعلةً مثل الإنسان تشتعل في الدرك الأسفل، ولا مناص من التماس منهج جديد للتفكير يعود بنا إلى مثل الحضارة الحقة.
وبينما كان الطبيب يفكِّر في هذه الأمور رفع بصره فوجد قطيعًا من أفراس النهر يستحم في النهر ويقفز، وتفرَّقت أفراس النهر؛ إذ دنا المركب، كل فريق في سبيل، وكان ذلك في ساعة الغروب حين ألقت أشعة الشمس على النهر وشاحًا من الذهب المتألق، وبدت السماء بأسرها كأنما اقتنصت حرارة النهار، وأمسكت بها واستبقت حمرة اللهيب لحظات قليلةً قبل أن تغيب.
«أنا حياة تريد أن تحيا في غمرة حياة تريد أن تحيا.»
كانت هذه الفكرة تراوده منذ كان طفلًا حتى قبل أن يستطيع أن يجد الكلمات التي تعبِّر عنها؛ ذلك أن كل مخلوق حي عند إرادة الحياة مثله سواءً بسواء، وكل مخلوق حي له هذا الحق.
«احترام الحياة». ولقد واتته هذه العبارة على غير انتظار دون أن يبحث عنها؛ فلو أن كل إنسان يستطيع أن يحترم الحياة هذا الاحترام بحيث لا يقتصر احترامه لها عليه فحسب، بل يتعداه إلى الآخرين أيضًا، لكان لنا أن نأمل في قيام حضارة مجيدة في المستقبل.
فلما عاد الطبيب إلى مركز البعثة وإلى مستشفاه القائم هناك، بدأ يعاود تأليف كتابه الذي كان قد بدأه حول الحضارة والأخلاق، فكان يجلس كل مساء حين يفرغ من العناية بالمرضى إلى منضدته القائمة بجوار باب الشبك المؤدِّي إلى الشرفة، وقد رقد تحتها ظبي وليد متكوِّمًا تحت قدميه مستسلمًا لنومٍ هادئ، وراحت كلبته كارامبا تنبح خارج الدار نباحًا خفيفًا من حينٍ إلى حين كلما سمعت صيحةً غريبة تنبعث من الغابة، لعلها كانت صيحة غوريلا أو فهد يبحث عن فريسة، لا لشيءٍ إلا لتُشعر الطبيب أنها يقظى تقوم بالحراسة. وأخذ الطبيب في مكانه هذا الذي خلا فيه بنفسه إلا من ضوء مصباح زيتي يلقي وهجه الحاني على الأوراق التي أمامه، يسجِّل الأفكار التي كانت تدور في رأسه منذ وقتٍ طويل.
«إن وراء إرادة الحياة التي تتملَّكني رغبةً متأججة في أن أحيا حياةً أخرى، وأن أبلغ ذلك السمو الخفي بإرادة الحياة الذي نسميه اللذة، يساورني في الوقت نفسه خوفٌ من الدمار، ومن ذلك الهبوط الخفي الذي يصيب إرادة الحياة ونسميه الألم، أجل إن هذه الأشياء التي تلازم إرادة الحياة تحيط بي، سواء استطاعت أن تفصح لي عن نفسها أم ظلت بكماء لا تفصح ولا تُبين.»
وانبعثت ريح المساء تهب رفيقةً من خلال الباب المصنوع من الشبك، وراحت صراصير الليل تصر صريرًا ملحًّا خارج الدار، وأشجار النخيل تتمايل في حفيفٍ هامس، واستيقظ الظبي النعسان، ومدَّ الطبيب يده تحت المنضدة ليربت عليه، وألقى نظرةً على الساعة، وكان الواجب يقتضيه قبل أن تبلغ التاسعة أن يهبط إلى المستشفى ليمر مروره الأخير على المرضى ويستوثق من أنهم ينعمون بالراحة، ولعل كثيرين منهم كانوا ينتظرونه في مراقدهم تحت الكلل (الناموسيات)؛ ليستمعوا إلى كلماته وهو يمر بهم قائلًا: طابت ليلتكم، وأرجو لكم نومًا هنيئًا.
إن المثل الأعلى ﻟ «احترام الحياة» ينطوي على كل ما يمكن أن نصفه بالحب والولاء والعطف، سواء في الشقاء أو الهناء أو الكفاح.
وقد سمَّى ذلك: «الوحدة المباركة في الغابة العذراء»، وهل كان يستطيع أبدًا أن يوفيها حقها من الشكر على ما كانت تعبِّر عنه من معنًى في نفسه!
وأقبل عيد ميلاد المسيح مرةً أخرى، واحترقت أنصاف الشموع التي ادُّخرت من العام الماضي حتى الذُّبالة فوق شجرة النخيل المزدانة.
وأخذ المالَ الذي جلبه الطبيب معه، وظنَّ أنه يكفي للإنفاق على المستشفى سنتين، يتضاءل سريعًا، وتتراكم الديون عليه، وشحَّت المؤن الطبية إلى حدٍّ يبعث على الأسى، وندر الغذاء. صحيح أنه كان لديه بعض علب اللبن المحفوظ لإطعام الأطفال، فلما نفد لم يدرِ أحد متى يمكن أن يرسَل إليهم منه المزيد.
وترك يوسف المستشفى؛ إذ لم يكن المستطاع أن يُدفع له المرتب الذي كان يتقاضاه.
وقال يوسف: إن كرامتي لا تسمح لي بالعمل نظير أجر أقل ممَّا كنت أتقاضاه.
وعاد الرجل ليعيش مع أبويه في القرية التي وُلد فيها، وكانت تقوم على جزيرةٍ عبر مجرى النهر، وحمل معه حصالةً كان قد ادَّخر فيها أربعين دولارًا من ثمن الزوجة التي كان يريد شراءها، ولكن هذا القدر من المال أنفقه يوسف رويدًا رويدًا كسابقه في شراء أشياء كان يحتاج إليها أو أشياء استهوته في حوانيت لامبارينيه. وكانت الحياة الزوجية لا تزال بعيدةً في ضمير المستقبل بالنسبة إليه.
وترك أويمبو أيضًا مركز البعثة الدينية وفي كنفه زوجة وثلاثة أطفال في طور النمو، وكان من العسير عليه أن يدبِّر أموره في حدود المرتَّب الصغير الذي يتقاضاه المدرس، فلم يجد بعدُ بُدًّا إزاء ارتفاع الأسعار وانخفاض مرتبه بقدر ما تيسَّرت حال البعثة الدينية أن يعتزل العمل في البعثة ويبحث عن عملٍ آخر.
ثم حلَّ عيد ميلاد آخر، والحرب لا تزال دائرة، وزُيِّنت شجرة النخيل الصغيرة بالحُلي، ولكن القوم لم يجدوا شموعًا لتضيئها. أجل كان هذا هو عيد ميلاد المسيح الثالث الذي حلَّ منذ نشبت الحرب، ولم تتردَّد بعدُ ولا إشاعة تبشِّر بالسلام، وظلَّ المرضى يُقبلون وانضم إلى زمرتهم عددٌ من الأوروبيين قِوامهم أعضاء بعثات دينية من مراكزَ أخرى، وباعةٌ وتجار أخشاب حالت الحرب دون رجوعهم إلى ديارهم، وكثيرًا ما كان الطبيب يتخلَّى عن سريره لمريضٍ، وينام على جزء من الشرفة حُجِب بحاجز.
وكان وقت الظهيرة الذي يفرغ فيه الطبيب من العمل بين الغداء والساعة الثانية مساءً التي يحل فيها موعد استئناف العمل في المستشفى، هو الوقت الذي يُنفقه الطبيب في الموسيقى، فيتمرَّن على قطع باخ المعدة للأرغن حتى يشعر بأنه يستطيع أن ينفذ إلى صميم معناها في يُسرٍ واستيعاب أكثر. وكان يمضي في تأليف كتابه في المساء بعد العشاء حتى تبلغ الساعة التاسعة، ويحل موعد نزوله لأداء زيارته المسائية للمستشفى، وكان الكتاب قد بدأ بعدُ يكتمل، وكان قد سماه «فلسفة الحضارة».
وآذن الفصل المطير بالزوال وحلَّ الوقت الذي يبدأ فيه النمل الزحاف زحفه. وكان يخرج مرتين في العام، في أول الفصل المطير وفي آخره، يتقدَّمه خمس نملات أو ست، بنظامٍ كامل على نحو ما يفعل الجنود في تشكيلاتهم. وتتخذ النمل السود الضخمة المحاربة مراكز للحراسة، معترضةً طريقًا أو رابضةً في مكانٍ مكشوف، وقد اصطفَّت صفوفًا على جانبَي الطابور الزاحف. وتقف ساعات موليةً ظهورها للموكب الزاحف، تواجه برءوسها ذات الفكوك القوية، التي تكاد تبلغ في حجمها بقية أجسامها، أيَّ عدو يُحتمل أن يهاجم الموكب. وكانت النمال الصغيرة تمر سريعًا وهي آمنة بفضل هذه الحماية، تحمل صغارها معها وتندفع في عجلةٍ شديدة، حتى ليحدث أحيانًا أن تجد نملةٌ محاربةٌ نفسَها قد جُرفت مع النمل المندفع كأنها قطعةٌ من الخشب يحملها تيار النهر المتدافع، ثم تسترد توازنها وتعود إلى مكانها الأول.
ولهذه النمال أسلوب تقصد به صفوفها فجأة، وتتفرَّق كأنما تلقَّت إشارةً خفية بذلك، فلا تلبث أن تُصبح في غمضة عين كتلةً سوداء مائجة تنتشر على أديم الأرض ملتهمةً كل كائن حي يعجز عن الهروب فيصبح في متناول يدها، من صراصيرَ في العشب إلى حياتٍ تعجز عن الزحف السريع بعيدًا عنها، وخنافس وضفادع وفئران وقطط من قطط الزباد … كل هؤلاء يقع فريسةً لها. بل إن العناكب الكبيرة في الأشجار لا تستطيع الهرب؛ لأن النمال تزحف صاعدةً حتى تبلغ أعلى فرع فيها، فإذا حاول عنكب أن ينجو منها قافزًا إلى الأرض، وجد أخوات لها على الأرض متأهِّبةً للانقضاض عليه.
وكان بيت الطبيب يقع في طريق زحفها نصف الحَوليِّ، وقد هبَّ أكثر من مرة مستيقظًا بالليل على صوت نذير من كتاكيت حظيرة الدجاج تنطلق مقرقِرةً نابشة الأرض بأقدامها. وكانت إذا سكنت أصوات الليل الأخرى فجأة، وصمتت طيور الليل والصراصير والضفادع، علم أيضًا أن النمال استأنفت زحفها من جديد، فلا يجد بدًّا من أن ينطلق سريعًا ليفتح باب حظيرة الدجاج حتى يُتيح للكتاكيت الهرب، وتتناول زوجته في هذه الأثناء البوق من فوق الحائط وتنفخ فيه ثلاث مرات، فيهب لمساعدتها من يستطيع النهوض من مرضى المستشفى، أو ممن يلازمونهم من أقاربهم. وتُملأ الدلاء من ماء النهر وتُمزج بمطهِّر الليزول، وتُرش حول البيت وتحته على ضوء المصابيح، وتندفع النمال المحاربة إلى الدفاع زاحفةً فوق الطبيب والرجال الذين يعملون معه. وكانت عضتها ضاريةً تنغرس فكوكها في اللحم، وتتعلَّق به تعلُّقًا شديدًا حتى إنه لو أفلح المرء في انتزاعها انتزاعًا يفصل أجسامها عنها فإن فكوكها تبقى مغروسةً في اللحم، ولا مناص من انتزاعها فكًّا فكًّا.
وكانت النمل إذا شمَّت رائحة الليزول تمضي إلى مكان آخر في صفوف زاحفة تحميها النمل المقاتلة، لتتفرَّق مرةً أخرى حيث تأمن شر الهجوم.
وكان الأفريقيون يعرفون هذه المخلوقات حق المعرفة، فما إن يلمحونها وهي تقترب حتى يحمل أفراد الأسرة جميعًا حصيرهم الذي ينامون عليه ويغادرون الكوخ تاركيه للنمل يفعل به ما يشاء؛ ذلك أنهم يعلمون بأن الأمر سينتهي بهم حين تمضي النمل إلى حال سبيلها بالعودة إلى بيوتهم، فيجدونها قد تطهَّرت من جميع ما فيها من الديدان والصراصير والفيران، بل من حيَّاة المامبا التي قد تكون كامنةً في السقف المقام من الطين والقش.
وكتب الطبيب يقول: «على أن العالم يمدنا بقصةٍ رهيبة لإرادة الحياة المتنازعة فيما بينها، فتحافظ حياةٌ على نفسها على حساب حياةٍ أخرى، وتدمر حياةٌ حياةً أخرى. وإنما هي نظرية الإنسان بإرادة غيره في الحياة، بتفكيره في إرادته هو في الحياة.»
ومضى يكتب: «بل إن الإنسان إذ يحترم حياة الآخرين يجد نفسه في كثيرٍ من الأحيان مضطرًّا إلى الحياة على حساب إنسانٍ آخر. وإن المرء ليُضطر مرارًا وتكرارًا إلى أن يُحمِّل نفسه وِزر تدمير حياة أخرى، أو إصابتها بالضر؛ لينقذ حياته أو حياة مخلوق آخر، ويحاول أن يتجنَّب هذه الضرورة حينما استطاع ذلك، وتصبو نفسه إلى الاحتفاظ بإنسانيته، وأن يخفِّف عن الآخرين بعض شقائهم.»
وبدأت تظهر على زوجة الطبيب آثار ثلاث سنين وأكثر قضتها في المناطق الحارة؛ لا تصيب من الطعام إلا ذلك القدر الضئيل الذي كانت تسمح به الحرب. وكان الطبيب أيضًا محتاجًا إلى قسطٍ من الراحة وتغيير الهواء. وقدَّم تاجر أخشاب، كانت زوجته قد عولجت في المستشفى وشُفيت، إلى ألبرت وهيلين شفيتزر كوخًا يقوم عند مضاربه بالقرب من رأس لوبيز على مصب نهر أوجو. وكان هذا الكوخ مأوى الرجال الذين كانوا موكَلين بأطواف الخشب، ثم خلا من ساكنيه حينما نشبت الحرب وتعذَّر شحن الأخشاب.
وأفاد هذا التغيير الطبيب وزوجه، وأنعش قواهما الهواء الطيِّب الخالص الذي كان يهب من البحر. وكان السمك وافرًا في الجون، فأتاح لهما أن يأكلا في عشائهما كل يوم سمك الرنكة الطازج.
وكان قليلٌ من العمال قد بقوا هناك؛ ذلك أنه كان لا يزال بعدُ أطواف من الخشب في الجون. وخرج الدكتور شفيتزر مع هؤلاء العُمال ليشاركهم في عملهم، وراح الرجال يفكون رباط الكتل الخشبية الثقيلة من شجر الأوكوم التي كانت مشدودةً بعضها إلى بعض، ويُدحرجونها على أديم الأرض اليابسة حتى يأمنوا عليه شر الدود الثاقب. وكان يمضي وقتٌ طويل قبل أن تُحمل شحنة من هذه الكتل مرةً أخرى على ظهر المراكب إلى مصانع أوروبا وأمريكا التي تصنع منها خشب الألواح.
وخرج الطبيب ذات مساء في نزهةٍ على الأقدام، ومرَّ بطائفةٍ من الأكواخ المهجورة التي شُيدت حين كان عدد العمال في هذا المكان أكثر من ذلك بكثير، ووجدها الآن تتهاوى أطلالًا، تستخدمها القبائل التي كانت تمر بهذا المكان مضاجع يلتمسون فيها المأوى بليل. وانطلق الطبيب ينادي لعله يجد كوخًا منها قد سكنه بالمصادفة ساكن، فلم يجبه أحد. وهنالك فتح بابه ليستوثق فألفى في الكوخ الأخير رجلًا يرقد على أديم الأرض القذر ورأسه يكاد يكون مدفونًا في الطين والرمل، وقد غشيه النمل.
وكان الرجل لا يزال يتنفس، ولكن الطبيب أدرك لأول وهلة أنه كان فريسةً لمرض النوم، وقد تُرك هناك ليقضي نحبه؛ إذ عجز عن أن يذهب إلى أكثر مما ذهب.
وجثا الدكتور شفيتزر بجوار الرجل وفعل كل ما في وسعه ليُطهِّره ويُريحه في ساعاته الأخيرة؛ فقد رأى من خلال باب الكوخ المفتوح زُرقة ماء الجون الصافية تزهو في إطارٍ من الغابات الخُضر. لقد كان مشهدًا ساحرًا في جماله، تسكب عليه الشمس الغاربة ضوءها المتألق الذهبي. وكان ممَّا يروع النفس ويهزها هزًّا أن يرى المرءُ بلمحةٍ واحدةٍ مثل هذا الجمال والبؤس الذي لا دافع له، وهنالك آمن الطبيب بأن هذه هي أفريقيا في كامل شعرها ونثرها.