ربط وتقديم
انتهيت في الحلقة السابقة من محاضراتي عن المسرح النثري في أدبنا المعاصر، من الحديث عن رواد هذا المسرح النثري الذي لم يظهر في عالمنا العربي إلا متأخرًا عن المسرح الشعري، الذي طبع به مارون نقاش فننا التمثيلي منذ أول نشأته، متأثرًا في ذلك بما شاهده في إيطاليا من فن الأوبرا الذي راقه، وأحس بأنه لا بد أن يروق الشعب العربي الذي يحب الطرب عن طريق الغناء والموسيقى أكثر مما يمكن أن يروقه فن التمثيل الخالص، الذي سمَّاه مارون بالإيطالية بفن «البروزا»، أي فن النثر.
وظل الطابع الغنائي غالبًا غلبةً ساحقة على ما تقدِّمه المسارح العربية في الشام ومصر، إلى أن استطاع أن يستقل فن التمثيل بذاته عن الفنون الأخرى، وباستقلاله أخذ يظهر شيئًا فشيئًا المسرح النثري، وبخاصة بعد أن عاد ممثِّلنا الكبير جورج أبيض من بعثته التمثيلية في فرنسا سنة ١٩١٠، وأخذ يقدِّم عددًا من المسرحيات العالمية التي يستقل فيها فن التمثيل عن غيره من الفنون، وإن يكن جورج أبيض نفسه قد اضطر أحيانًا كثيرة تحت ضغط البيئة أن يعود إلى المسرح الغنائي مع الشيخ سلامة حجازي حينًا ومع غيره حينًا آخر. وبالرغم من كل ذلك، فقد عثرنا على عدد من كُتاب المسرحية النثرية الكبار، أمثال إبراهيم رمزي وفرح أنطون وأنطون يزبك ومحمد تيمور، ودرسنا لكل واحد من هؤلاء مسرحية أو أكثر كنموذج لأنواع المسرحيات النثرية التي ظهرت في مصر منذ مطلع هذا القرن حتى قيام الحرب العالمية الأولى.
وبالرغم من أن شاعرنا العربي الكبير أحمد شوقي قد عاد إلى كتابة المسرحيات شعرًا، ابتداءً من سنة ١٩٢٧، بعد أن كان قد هجر هذا الفن على إثر تأليفه للطبعة الأولى من مسرحية «علي بك الكبير»، التي كتبها في فرنسا سنة ١٨٩٣ أثناء دراسته بها، وأنه بعودته إلى هذا الفن الشعري قد أوجد ما يصح أن نسمِّيه حقًّا في أدبنا العربي المعاصر ﺑ «الشعر التمثيلي»، ثم تابَعَه في ذلك نفرٌ قليل مثل الشاعر عزيز أباظة؛ نقول: إنه بالرغم من ذلك فإن المسرح النثري هو الذي ينمو ويزدهر ويغزر إنتاج أدبائنا المعاصرين له، وبخاصة الأديبان الكبيران توفيق الحكيم ومحمود تيمور، اللذان أتاحت لهما ظروف الحياة الانقطاع للأدب والتوفر على إنتاجه، وإذا كان هذان الأديبان الكبيران قد جمعا في إنتاجهما الأدبي بين الرواية الطويلة والقصة القصيرة والمسرحية النثرية، دون أن يتخصَّص أيٌّ منهما في فن أدبي بذاته، فإننا نلاحظ مع ذلك أن الطابع القصصي هو الذي غلب على إنتاج الأستاذ محمود تيمور، وبخاصة في مجال القصة القصيرة الذي يُعتبر من أبرز أعلامه، بينما غلب الطابع المسرحي على توفيق الحكيم وغزر فيه إنتاجه، حتى لَنراه يفضِّله كقالب لعدد من الموضوعات التي عالجها.
ويغلب على الظن أنه قد كان الأجدر بها أن تُصب في قوالب أخرى من قوالب الأدب، كقالب القصة أو السيرة اللذين يلوحان أكثر مواتاةً لتحريرِ موضوعٍ كسيرة النبي محمد مثلًا، وهي التي عالَجَها الدكتور محمد حسين هيكل في قالب سيرة تاريخية دقيقة، وعالَجَها الأستاذ عباس محمود العقاد في صورة تحليلية نفسية ضمن سلسلة «عبقرياته»، وعالَجَها الدكتور طه حسين في كتابه القصصي «على هامش السيرة» وكتابه القصصي الآخر «الوعد الحق»، في حين فضَّل توفيق الحكيم القالب المسرحي أو القالب الحواري الخالي من كل مقومات الدراما الفنية، والذي لا يمكن أن يخطر على بال أحد أن يعرضه على خشبة المسرح؛ لأن كتاب «محمد» لتوفيق الحكيم وإن يكن مقسَّمًا إلى ثلاثة فصول وخاتمة — يضم كل منها عددًا من المناظر التي تبلغ في الفصل الأول ستة وثلاثين، وفي الثاني عشرين، والثالث ثلاثة وعشرين، وفي الخاتمة ثمانية مناظر! — إلا أن كل هذه الفصول والمناظر لا يرتبط بعضها ببعض بأية رابطة سببية، بل هي مجرد استعراض لحياة النبي في صورة مناظر طويلة أو قصيرة، بحيث نستطيع أن نقتطعَ أي منظر منها ونقرأَه، وإذا به لا يعدو أن يكون خبرًا تاريخيًّا صاغه المؤلف في صورة حوار. ولنضرب لذلك مثلًا بالمنظر السادس من الفصل الأول:
المنظر السادس
(عند أبي بكر وقد جلس إليه عثمان بن عفان.)
وواضح أن هذا المنظر إنما يستهدف شيئًا واحدًا هو أن يحدثنا عن الطريقة التي اهتدى بها عثمان إلى الإسلام بفضل أبي بكر.
المألوف في كُتب السيرة أن يكتبها الكاتب ساردًا باسطًا محللًا معقِّبًا مدافعًا مفندًا.
غير أني يومَ فكَّرتُ في وضع هذا الكتاب قبل نشره عام ١٩٣٦، ألقيت على نفسي هذا السؤال: إلى أي مدًى تستطيع تلك الطريقة المألوفة أن تُظهِر لنا صورة بعيدة — إلى حدٍّ ما — عن تدخُّل الكاتب، صورة ما حدث بالفعل وما قيل بالفعل دون زيادة أو إضافة توحي إلينا بما يقصده الكاتب أو ربما يرمي إليه، عندئذٍ خطر لي أن أضع السيرة على هذا النحو الغريب.
فعكفت على الكُتب المعتمدة والأحاديث الموثوق بها، واستخلصت منها ما حدث بالفعل وما قيل بالفعل، وحاولت على قدر الطاقة أن أضع كل ذلك في موضعه كما وقع في الأصل، وأن أجعل القارئ يتمثل كل ذلك كأنه واقع أمامه في الحاضر، غير مبيح لأي فاصل حتى الفاصل الزمني أن يقف حائلًا بين القارئ وبين الحوادث، وغير مجيز لنفسي التدخل بأي تعقيب أو تعليق، تاركًا الوقائع التاريخية والأقوال الحقيقية ترسم بنفسها الصورة.
كل ما صنعتُ هو الصب والصياغة في هذا الإطار الفني البسيط، شأن الصائغ الحذِر الذي يريد أن يُبرِز الجوهرة النفيسة في صفائها الخالص، فلا يخفيها بوَشْيٍ متكلف، ولا يغرقها بنقش مصنوع، ولا يتدخل إلا بما لا بد منه لتثبيت أطرافها في إطار رقيق لا يكاد يُرى.
هكذا يبرر توفيق الحكيم اختياره للقالب الحواري في كتابة سيرة محمد، ومن المؤكد أن طبيعة هذا الموضوع كان لها دخلٌ كبير في تفضيله لهذا القالب؛ وذلك لأن صياغة هذا الموضوع في قالب سيرة تاريخية كان يتطلب من المؤلف فصلًا في كثير من الأقوال والأفعال التي تُنسب إلى النبي في كُتب السيرة وكُتب التاريخ، التي لم يُكتب أقدمُها إلا بعد وفاته بسنين طويلة أدت إلى اختلاط الصحيح منها بغير الصحيح. وما من شك في أن مثل هذه العملية النقدية يمكن أن تُعرِّض المؤلف لكثير من الجدل والمناقشة، وبخاصة فيما يتعلق ببعض الخوارق التي نُسِبت إلى النبي في عصور لاحقة. وتوفيق الحكيم رجل حذِر بطبعه لا يحب أن ينزلق إلى مواضع الحرج والخلاف وتحمُّل مسئولية الرأي التي تُعتبر جسيمة دائمًا فيما يتعلق بشئون الدين، وبخاصة في بيئاتنا الإسلامية المتزمتة؛ ولهذا آثر القالب الذي لا يتطلب من المؤلف تدخلًا بوصف أو تعقيب أو مرافعة أو تفنيد؛ أي القالب الذي يمكن أن يصبح موضوعيًّا خالصًا على نحوِ ما يقرِّر توفيق الحكيم نفسه. كل هذا صحيح، ولكننا نلاحظ أن توفيق الحكيم لم يفضِّل القالبَ الحواري في كتابة سيرة محمد وحدها، بل لجأ إلى نفس القالب في التعبير عن آرائه في كثير من مشاكل الحياة العامة والخاصة، بل نراه يلجأ إلى نفس القالب في أجزاء كثيرة مما كتب من قصص طويلة أو قصيرة على نحوِ ما نرى في «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» والمجموعتين اللتين صدرتا من قصصه القصيرة، وكل ذلك فضلًا عن التجائه للحوار أحيانًا كثيرة لاتخاذه وسيلةً يصوِّر بها أخلاق وعادات وأمزجة طوائف معينة من الناس، على نحوِ ما نشاهد في كتابه «أهل الفن» الذي صوَّر فيه العوالم في القاهرة، «والزَّمَّار» في الريف، و«الشاعر» في مونمارتر.
وأبعد من كل ذلك في الدلالة على شغف الحكيم بالقالب الحواري وتفضيله له كوسيلة للتعبير عما يشغله من رأي، أو يعِنُّ له من خواطر وانطباعات؛ ما كتبه في مقدمة كتابه «بجماليون» من أنه لم يكتب هذه المسرحية لا هي ولا «أهل الكهف» ولا «شهرزاد» لتُمثَّل على خشبة المسرح على النحو الدرامي المألوف، بل لتُقرأ أولًا وقبل كل شيء. «إذا لم يكن بد من تمثيلها على المسرح، فلا بد لها من إخراج خاص في مسرح خاص، إخراج يُلتجَأ فيه إلى وسائل أخرى من موسيقى وتصوير وأضواء وظلال وحركة وسكون وطريقة إيماء وإلقاء … وكل ما يُحدِث جوًّا يهمس بما تهمس به تلك المعاني المطلقة. والصعوبة في مثل هذه الروايات هي إبقاء الشعر أو الفلسفة يشيعان في جو المسرح كما شاعا في جو الكتاب.»
وواضح من هذه الأسطر أن توفيق الحكيم لا يريد أن يستخدم الحوار كوسيلة مسرحية درامية فحسب، بل يريد استخدامه كوسيلة مطلقة للتعبير، غير مُقيَّد بفنية المسرح.
من كل ما تقدَّم يتضح أن توفيق الحكيم قد انتهى في نظرته للحوار إلى رأي أوسع من أن يَقصره على الدراما، وهو في هذا لم يأتِ بدعًا، ومنذ القِدم استُخدِم الحوار كوسيلة لتمحيص الحقائق وعرض وجهات النظر المختلفة في الموضوع الواحد، على نحوِ ما كان يفعل سقراط قديمًا في حياته اليومية، ثم دَوَّنه أفلاطون تلميذه في محاوراته الخالدة. ولكن الذي يقبل الجدل في رأي الحكيم هو دعوته إلى كتابة مسرحيات للقراءة فحسب، فهذه قضية كبيرة سوف نعرض لها فيما بعدُ عندما نصل إلى المرحلة التي استقر فيها الحكيم على هذا الرأي خلال تطوُّر مفهومه للأدب المسرحي؛ وذلك لأنه قد ابتدأ حياته شغوفًا بالمسرح بمعناه التقليدي، بل متأثرًا أكبرَ التأثر بفنون الأدب المسرحي التي كانت سائدة في بيئة القاهرة في فترة شبابه الأولى، ولم يتجه نحو المسرح الذهني إلا بعد عودته من فرنسا سنة ١٩٢٧؛ ولذلك يتحتم أن نقف قليلًا عند حياة الحكيم ومراحل تكوينه الفني وتطوُّر نظرته إلى فنون المسرح المختلفة.