توفيق الحكيم والمسرح
بمراجعة تاريخ توفيق الحكيم المتصل اتصالًا وثيقًا بإنتاجه الأدبي، يتضح لنا أن نزعته الفنية قد استيقظت في نفسه منذ حداثته الأولى، وغالَبت جميع العقبات التي قامت في سبيلها، وظلت تكافح حتى حقَّقت نفسها؛ فتوفيق وُلِد بالإسكندرية سنة ١٨٩٨ في رأي المؤرخين لحياته، وفي سنة ١٩٠٢ فيما يؤكِّد هو نفسه، وقد وُلِد من أم تركية الأصل صارمة متزمتة، ومن أب مصري كان يعمل وكيلًا للنائب العام، ثم قاضيًا، فمستشارًا، وكانت هذه الأسرة ميسورةَ الحال تحرص على أن تنشِّئ ابنَها تنشئةً علمية، فأخذت تُعِده لكي يتبع خطوات أبيه في السلك القضائي الذي كان ولا يزال يتمتع بوجاهة اجتماعية خاصة في مجتمعنا العربي؛ ولذلك أُلحِق «توفيق» بعد إتمام تعليمه العام بمدرسة الحقوق، وحصل على ليسانس القانون في سنة ١٩٢٤، ولكنه لم يكن شغوفًا بدراسة القانون قدرَ شغفه بالفنون الأدبية وبخاصة فن المسرح، وكان أبواه يعترضان على هذا الاتجاه أعنف الاعتراض، ولكنه لم يأبه لاعتراضهما، وبخاصة بعد أن تحرَّر من رقابة والدَيْه القاسية بانتقاله إلى القاهرة حيث توجد مدرسة الحقوق، وإقامته مع بعض زملائه الطلبة واشتراكه وإياهم في الحركة الوطنية الكبيرة التي شبَّت في مصر سنة ١٩١٩ مُطالِبةً بإلغاء الحماية البريطانية على مصر، وإعلان استقلالها، وتقرير الحكم النيابي الديمقراطي فيها.
إنها ترمز إلى معنى الاحتلال في صورة عصرية انتقادية، فقد كانت تدور حول محامٍ هبط عليه ذات يوم ضيفٌ ليُقِيم عنده يومًا، فمكث شهرًا، وما نفعتْ في الخلاص منه حيلةٌ ولا وسيلة. وكان المحامي يتخذ من سكنه مكتبًا لعمله، فما إن يغفل لحظةً أو يتغيَّب ساعة، حتى يتلقَّف الضيوفَ الوافدين الجدد، فيُوهِمهم أنه صاحب الدار ويقبض منهم ما يتيسَّر له قبضه من مقدم الأتعاب، فهو احتلال واستغلال، وأحدهما يؤدي دائمًا إلى الآخر.
ومعنى ذلك هو أن توفيق الحكيم قد استخدم الرمز ليعالج قضية كانت تحزب قومه عندئذٍ، وما أظنه كان يستطيع غير الرمز في ظل الحكم العُرفي الغاشم وسيطرة الإنجليز المحتلين وبطشهم، ولكن كتابته لهذه المسرحية الرمزية تدل قطعًا على انفعاله بأحداث عصره الكبرى واستجابته لها؛ أيْ إن نظرته إلى رسالة المسرح كانت نظرةَ المستجيب لأحداث الوطن المحلية وقضاياه الكبرى، ولا أدل على ذلك من أن نراه يَمدُّ رسالةَ المسرح إلى القضايا الاجتماعية الراهنة أيضًا، فيكتب لفرقة عكاشة سنة ١٩٢٣ وهو لا يزال طالبًا بكلية الحقوق مسرحيته الثانية «المرأة الجديدة»، التي نشرها في سنة ١٩٥٢ مع مسرحية «جنسنا اللطيف» ومسرحية «الخروج من الجنة» ومسرحية «حديث صحفي» في مجلد واحد، ثم أعاد نشرها أخيرًا في مجلده الكبير «المسرح المنوَّع». وهو يعالج فيها قضية اجتماعية كانت حِدَّتها قد خفَّت عندئذٍ، وبخاصة بعد خروج المرأة المصرية سافرةً إلى مجال الكفاح الوطني العنيف، ومع ذلك يلوح أنها كانت لا تزال موضعَ جدلٍ بين فئات المجتمع المصري المختلفة، ونعني بها قضية السفور التي يقف منها الحكيم موقفًا رجعيًّا محافظًا، ولكنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بموقفه من المرأة بوجه عام، وهو موقف شغل قدرًا كبيرًا من اهتمام الحكيم ومن إنتاجه المسرحي مما يتطلَّب أن نُفرِد له فيما بعدُ فصلًا خاصًّا.
ولما كان جمهور المسرح لا يزال شغوفًا بالمسرح الغنائي شديدَ الإقبال عليه، فقد استجاب توفيق الحكيم في تلك المرحلة الأولى من حياته الأدبية إلى رغبة الجمهور ورغبة أصحاب الفرقة التمثيلية، فكتب أيضًا مسرحيةً بعنوان «علي بابا» كُتِبت بعض أجزائها في صورة زجل عامي، وإن يكن نصُّها هو الآخَر مفقودًا لم نستطع العثور عليه.
ومن هذه المسرحيات الثلاث التي ابتدأ بها توفيق الحكيم إنتاجَه الأدبي، يتضح في جلاء أنه كان خاضعًا عندئذٍ خضوعًا تامًّا لتطورات الفن السائدة في عصره؛ فاثنتان منها تتخذان الطابع الكوميدي السائد عندئذٍ، وثالثتهما تتخذ الطابع الغنائي الذي كان الجمهور لا يزال متعلقًا به. والواقع أن توفيق الحكيم كان غارقًا عندئذٍ وسط بيئة المسرح المصري، مخالِطًا لأهله عن قرب، مما أفزع والديه اللذين كانا يشاركان البيئة المصرية المحافِظة في نظرتها المرتابة إلى المسرح وأهله، فلم يرَ الوالدان خيرًا لابنهما من أن يُبعِداه عن هذا الوسط، بل عن مصر كلها بإرساله إلى باريس لمواصَلة دراسة القانون بجامعتها والحصول على درجة الدكتوراه، ولكن توفيق الحكيم خيَّب ظنَّ والديه هذه المرة أيضًا، وبدلًا من أن يدرس القانون انصرف إلى الأدب والمسرح وخالَطَ الأوساط الأدبية والفنية في باريس، على نحوِ ما نطالع في الكتابَيْن اللذين سجَّل فيهما ذكريات تلك الفترة الخصبة من حياته، وهما «عصفور من الشرق» و«زهرة العمر»، وخلال هذه الفترة اتصل عن قرب بفنون الأدب العالمية، وخاصة الأدب الفرنسي، فساقه طموحه الأدبي المستيقظ نحو الارتفاع بأدبه عن مستوى الملابَسات السياسية والاجتماعية العارضة، وعن مَطالِب جمهوره العاجلة، لكي يتجه نحو الأدب الإنساني العام الذي تمثَّل في مسرحياته الذهنية التي تُعتبَر نقطةَ الانطلاق في مجده الأدبي.
وأحس والداه أن ابنهما لم يغيِّر في باريس الاتجاهَ الذي سلكه في مصر، فاستدعياه في سنة ١٩٢٧؛ أيْ بعد ثلاث سنوات فقط من إقامته هناك، وعمل توفيق الحكيم بعد عودته من باريس وكيلًا للنائب العام في المحاكم المختلطة في الإسكندرية لمدة عامين من سنة ١٩٢٧ إلى ١٩٢٩، وفي تلك الفترة لم يُتَح للحكيم الاتصال بالشعب المصري عن قرب وتعرُّف مشاكله، باعتبار أن عمله عندئذٍ كان مقصورًا على الجاليات الأجنبية المستوطنة في مصر، والمتمتعة بالامتيازات التي جعلتها لا تخضع للقوانين والنظم الأهلية، بل تخضع لما كان يُسمَّى بنظام القضاء المختلط. وإنما استطاع توفيق الحكيم أن يتصل بالشعب المصري ومشاكله بعد أن انتقل سنة ١٩٢٩ من القضاء المختلط إلى القضاء الأهلي، الذي عمل فيه لمدة أربعة أعوام وكيلًا للنائب العام في مدن طنطا ودمنهور ودسوق وفرسكور، وخلال هذه الفترة جمع الملاحظات التي استخدمها في كتابة كتاب يُعتبَر من خير كُتبه، وهو «يوميات نائب في الأرياف» الذي صدر سنة ١٩٣٧ في صورة قصة، كما أنه استخدم الملاحظات التي جمعها في نفس الفترة في كتابٍ له صدر سنة ١٩٥٣ باسم «ذكريات في الفن والعدالة».
وفي سنة ١٩٣٤ انتقل توفيق الحكيم من السلك القضائي إلى وزارة المعارف العمومية ليعمل بها مديرًا للتحقيقات، وظل يعمل في هذه الوزارة حتى نُقل منها إلى وزارة الشئون الاجتماعية عند إنشائها في سنة ١٩٣٩، وتولى في هذه الوزارة وظيفة مدير مصلحة الإرشاد الاجتماعي، ولكنه طوال عمله موظفًا في الحكومة كان أكثر انشغالًا بالأدب وشئونه من الوظائف وأعبائها، حتى لنراه يُحاكَم تأديبيًّا لإهماله شئون الوظيفة، ويُحكَم عليه بخصم نصف شهر من مرتبه، وفي النهاية يستقيل من وظيفته الحكومية سنة ١٩٤٣ ليعمل في الصحافة بجريدة «أخبار اليوم»، التي نشر بها سلسلة من المسرحيات الاجتماعية التي يُخيَّل إلينا أن مقتضيات الصحافة قد دفعته إليها دفعًا. وظل توفيق الحكيم يعمل في هذه الصحيفة حتى عاد إلى الحكومة في سنة ١٩٥١ مديرًا عامًّا لدار الكُتب، وإلى هذه الفترة ترجع سلاسل المقالات التي جمعها فيما بعدُ في كتابٍ باسم «تأملات في السياسة» و«حماري قال لي» و«شجرة الحكم»، ومجموعات قصصه القصيرة و«فن الأدب» و«عصا الحكيم».
وعندما أُنشِئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب سنة ١٩٥٦، نُقل إليه توفيق الحكيم كعضو دائم متفرغ بدرجة وكيل وزارة، حتى كان عام ١٩٥٩ حيث عُيِّن مندوبًا مقيمًا للجمهورية العربية المتحدة لدى اليونسكو في باريس.
ولكن فترة إقامته هناك لم تَدُم طويلًا؛ إذ فضَّل العودة إلى القاهرة في أوائل سنة ١٩٦٠ عضوًا متفرغًا في المجلس الأعلى كما كان من قبل.