الفن والحياة: «شهرزاد»
وقبل أن يستقر توفيق الحكيم في بجماليون على تغليب الفن على الحياة، ويؤكد أن الإنسان يستطيع أن يعيش للفن وبالفن وحده منعزلًا عن الحياة؛ كان قد صفَّى مشكلة أخرى خطيرة في مسرحية «شهرزاد» التي كتبها في سنة ١٩٣٤، أي بعد مسرحية «أهل الكهف» مباشرةً، وتلك القضية هي: هل في استطاعة الإنسان أن يعيش بالعقل وحده وللعقل، وأن يكرس حياته للبحث عن المعرفة والتماسها في فجاج الأرض متخلصًا من نداء القلب ونداء الجسد اللذين يرمزان للحياة الحية النابضة؟ وقد وجد توفيق الحكيم في قصة ألف ليلة وليلة وعاء لمعالجة هذه القضية، ومن المعلوم أن قصة ألف ليلة وليلة قد استهوت أفئدة الكُتاب والفنانين في العالم أجمع، ولعلها أوسع المؤلفات العربية تأثيرًا في فناني الغرب والشرق. وإذا كان رواد المسرح في عالمنا العربي مثل أحمد أبو خليل القباني وغيره، قد اتخذوا من بعض تلك الليالي موضوعات لمسرحياتهم، فإن الاتجاه الحديث في أدبنا المعاصر لم يكن نحو الليالي ذاتها بقدر ما كان نحو القصة في أصل نشأتها ومحاولة تفسيرها في ضوء الثقافة والعلم الحديثين، فكتب توفيق الحكيم «شهرزاد»، وكتب الأستاذ علي أحمد باكثير مسرحية «سر شهرزاد»، وكتب الأستاذ عزيز أباظة مسرحيته الشعرية «شهريار»، وأما الدكتور طه حسين في كتابه الذي ظهر في سلسلة «اقرأ» بعنوان «أحلام شهرزاد» فقد أضاف ليلة جديدة إلى الليالي الألف والواحدة، حيث قص وناقش في كتابه أحلام فتاة عصرية، ثم اشترك مع توفيق الحكيم في مناقشة تفسير الحكيم لهذه القصة في مسرحيته وذلك في كتاب «القصر المسحور».
وتوفيق الحكيم لا يصور لنا في أحداث كيف حُلت عقدة شهريار الملك الذي ضبط في إحدى الليالي زوجته الأولى «بدور» متلبسة بالزنا مع أحد عبيده فقتلهما معًا، ثم قرر أن ينتقم من جميع النساء بالزواج كل ليلة من عذراء يقتلها عند الصباح ليتزوج غيرها في الليلة التالية، حتى زُفَّت إليه في النهاية شهرزاد التي احتالت للإفلات من القتل بأن تقص على شهريار قصة تترك لها بقية الليلةَ التالية أو تصلها بقصة أخرى، وبذلك امتدت حياتها ألف ليلة وليلة كانت خلالها قد حملت من شهريار وأنجبت طفلًا في القصة الشعبية، وعندئذٍ عز على شهريار أن يقتلها ويحرم منها طفلها فكف عن وحشيته واستبقاها حية. ولم يَرُق أدباءنا المعاصرين هذا الحل الشعبي للعقدة، فراح كل منهم يتصور لهذه العقدة سببًا أو أسبابًا يختار على أساسها نوع الحل الذي يرتضيه ويتمشى مع مزاجه الخاص ونوع ثقافته.
فالحكيم لا يعرض لحقيقة السبب الذي تولدت عنه عقدة شهريار، مما يحملنا على أنه يسلِّم بوقوع الخيانة الزوجية التي ترويها القصة الشعبية، كما أنه لا يصور لنا في أحداث كيف برئ شهريار من عقدته، فمسرحيته تبتدئ عند آخر مرحلة في بُرْء شهريار حيث لا نعلم عن وحشيته غير آخر مراحلها وهو أمره بقتل زاهدة العذراء دون أن نتبين لذلك سببًا، ثم تكليفه أحد السحرة بتعذيب إنسان بغمسه حتى فتحة فمه في برميل مليء بزيت السمسم وإخراجه منه بعد ذلك ليجف في الهواء، دون أن نتبين أيضًا أية حكمة من هذا التعذيب، إلا أن تكون مجرد إشارات إلى ما كان قد انحدر إليه شهريار من وحشية فظة غليظة، وفيما عدا ذلك يقدِّم لنا توفيق الحكيم شهريار وقد أصبح عقلًا خالصًا بعد أن مر من مرحلة الحيوانية الجسدية إلى مرحلة العاطفية القبلية لينتهي إلى مرحلة العقل الصافي، حيث يقول: «شبعت من الأجساد، شبعت من الأجساد، لا أريد أن أشعر، أريد أن أعرف.» كما يقول: «لقد استمتعت بكل شيء وزهدت في كل شيء.» وأما كيفية تطوره من مرحلة إلى أخرى من هذه المراحل، فيكتفي المؤلف بأن يخبرنا بها إخبارًا، مثل قوله على لسان الوزير: «أليست قصص شهرزاد قد فعلت بهذا الهمجي ما فعلته كُتب الأنبياء بالبشرية الأولى؟!» وقوله أيضًا لشهرزاد: «وأي فضل يا مولاتي! فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء!» إشارة إلى فضل شهرزاد في حل عقدة شهريار وتخليصه من وحشيته بقصصها الممتعة المثيرة للتأمل والتفكير. ولقد صوَّر المؤلف مراحل هذا التطور في حوار سريع بين شهرزاد وشهريار يجري على النحو الآتي:
وأما سبب هذا الشقاء فهو أن شهريار بتخلصه من الجسد والقلب قد تخلَّص من آدميته وأصبح كالمعلق بين السماء والأرض، وقد صوَّر المؤلف هذا الشقاء في حوار يُجريه بين شهرزاد وشهريار حيث تقول شهرزاد: «كل البلاء يا شهريار أنك ملك تعس فقد آدميته وفقد قلبه.» فيرد شهريار قائلًا: «إني براء من الآدمية، براء من القلب، لا أريد أن أشعر، أريد أن أعرف.» وقد استحالت شهرزاد في المسرحية إلى رمز المعرفة الكلية الشاملة التي لا تكشف عن نفسها النقاب ولا تسلِّم أسرارها لأحد، وإنما قدمت لشهريار في كل ليلة نتفة من ذاتها، وشهريار يلخص بنفسه ما التقطه من فُتاتها بقوله: «قد لا تكون امرأة! … من تكون؟ … وإنني أسألك مَن تكون؟! هي السجينة في خدرها طول حياتها تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض، هي التي ما غادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين. هي البكْر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال، وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسافلة. هي الصفية، لم يكفِها علم الأرض فصعدت إلى السماء تحدِّث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلية العجيبة كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين قضتها كأضرابها في حجرة مسدلة السُّجف؟! ما سرها؟! … أعمرها عشرون عامًا أم ليس لها عمر؟! أكانت محبوسة في مكان أم وُجدت في كل مكان؟! … إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف أهي امرأة تلك التي تعرف ما في الطبيعة كأنها الطبيعة؟!» وما إن أيقظت شهرزاد في نفس شهريار هذا النهم العارم إلى المعرفة، حتى ظن أنه لن يصيب ما يريد من تلك المعرفة إلا إذا أفلت من إطار المكان وضرب في فجاج الأرض، ولكن أنى له بهذا الإفلات وهو مشدود إلى مكانه بروابط الجسد والقلب؟! فهو يُعد العدة للسفر ولكنه لا يذهب بعيدًا، بل يعود إلى شهرزاد كالطفل المسكين رغم ما توهَّمه من أنه قد أصيب بمرض الرحيل وأصبح سندبادًا آخر على نحو ما أوضح هو نفسه في الحوار الذي يجري بينه وبين شهرزاد على النحو التالي:
بل ويعلنها أنه يحس في نفسه الآدمية بزوال صفة المكانية، ومع ذلك يعجز شهريار عن أن يفلت من إطار المكان بروابطه القوية، كما عجز أهل الكهف من قبل عن أن يفلتوا من إطار الزمن وروابطه، فنراه يعود إلى مكانه بل إلى حِجْر شهرزاد قائلًا لها: «دعيني أتوسد حِجْرك كأني طفلك أو زوجك! هل أنا حقًّا زوجك؟! لست أصدق! قُولي: إن هذا صحيح، ضعي ذراعيك حول عنقي، ذراعاكِ من فضة يا شهرزاد! أريد أن أعلم أن هذه الكنوز هي لي. لِمَ لا تحدثينني عن حبك لو أنك تحبينني قليلًا؟ لكنك لا تحملين لي شيئًا من الحب.» فتجيبه شهرزاد في تهكم خفي: «أراك قد عدت إلى القلب والحب.» وإذا بشهريار يكشف عن بؤسه واهتزاز ثقته بنفسه في قوله: «شهرزاد، أحس الآن كأني سعيد … لكن لي رغبة أن أعرف مكاني من قلبك، يساورني أحيانًا قلق … يُخيل إليَّ أنك عظيمة … عظيمة … عظيمة، ولا يمكن أن تنزلي إلى حب مثلي.» فتمكر به شهرزاد من جديد وتسأله: «ألم تَعُد بك رغبة أن تعرف من أنا؟» وإذا به ينهار ويعود إلى رأس أمره وكأنه قد أصيب بنكسة كلية فيجيبها بقوله: «بي رغبة أن ألثم جسدك الفضي الجميل.» وهكذا يظل شهريار الذي يريد أن يصبح عقلًا خالصًا معلقًا بين السماء والأرض، فهو يريد ولكن الحياة تأبى ما يريد. وفي النهاية يرى المؤلف وترى معه شهرزاد أن شهريار بمحاولته الخروج من رحاب الحياة قد أصبح كالشعرة التي أصابها بياض الشيخوخة ولم يَعُد لها علاج غير الاقتلاع لكي تُتم الحياة دورتها المستمرة التجدد، وانصراف شهريار في آخر المسرحية صامتًا كاسف البال هو رمز هذا الاقتلاع من الحياة. وبذلك يغلِّب توفيق الحكيم نداء الحياة على إرادة المعرفة في مسرحية «شهرزاد»، بينما غلَّب إرادة الفن على نداء الحياة بعد ذلك في بجماليون، ولا غرابة في ذلك فالحكيم في جوهره النفسي فنان قبل كل شيء، بل وفنان رومانسي مشعشع.
والظاهر أن توفيق الحكيم مولع بتجسيد نواحي الحياة الإنسانية أو بمعنى أدق اتجاهات النفس البشرية، التي يفصل بعضها عن بعض ويجرِّدها في شخصيات مسرحية، فهو في مسرحيته هذه يجسد النزعة الجسدية في شخصية عبدٍ والنزعة العاطفية في شخصية الوزير قمر، ويجعل شهرزاد تنعكس في كل منهما حسب طبيعته، فهي بالنسبة للعبد جسد وبالنسبة للوزير قلب، وأما بالنسبة لشهريار الشقي المعذب فهي كل ذلك أو حائرة بين كل ذلك؛ لأنها حينًا عقل خالص غامض، وحينًا جسد يود أن يلثمه، وحينًا قلب يود أن يعرف مكانه فيه؛ لتردده الحائر بين إرادته الخاصة وإرادة الحياة. وبالرغم من الغموض الذي ينجم عن هذا التجسيد في بعض المواقف، فإننا عند التأمل لا نلبث أن ندرك مهارة المؤلف في استخدام هذه الرموز المجسِّدة للإيحاء بنزعات شهريار المتضاربة المتأرجحة، فالعبد الذي يلج على شهرزاد مخدعها أثناء غياب زوجها ويختفي خلف ستارة سوداء عند قدومه؛ ما هو إلا رغبة شهريار الجسدية وقد سبقته بالعودة إلى شهرزاد حتى يعود هو بشخصه، والوزير قمر الذي انتحر قبل نهاية المسرحية إنما انتحاره رمز لانقضاء الحياة داخل شهريار، وتمهيد لاقتلاعه من تلك الحياة كما تُقتلع الشعرة التي حل بها الشيب.
على هذا النحو حل توفيق الحكيم عقدة شهريار النفسية، وعلى هذا النحو أوضح أن الحل الذي انتهى إليه شهريار قد كان فيه حتفه النهائي؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش عقلًا خالصًا وأن يهجر الحياة دون أن تموت فيه الحياة، ومن حُسن الحظ أن هذه الحياة نفسها قد أثبتت للحكيم بعد سنوات طويلة من المكابرة أن الفن هو الآخر لا يستطيع أن يقوم بوأد الحياة ولا ينبغي أن ينفصل عنها، بل لا جدوى له في الانفصال عنها كما توهَّم الحكيم في مسرحية بجماليون.
وأما أديبانا الآخران المعاصران علي أحمد باكثير وعزيز أباظة، فقد تناول كلاهما هذه القصة الشعبية على أساس آخر، فنقطة البدء عندهما أن شهريار لم تخنه زوجته الأولى «بدور» فعلًا، وإنما خُيل له ذلك نتيجة لضعف جنسي كان يتوهمه في نفسه، فالعبد الذي ضبطه شهريار مع زوجته في مخدعها كان عبدًا خصيًّا، يفصح علي أحمد باكثير عن سر استدعاء الزوجة له في مخدعها برغبتها في تحريك غيرة زوجها الجنسية، فانقلبت الحيلة خيانة زوجية فعلية في وهم شهريار، فكان ما كان من قتله للزوجة والعبد ثم انتقامه من كافة النساء. ولجأ باكثير في حل عقدته إلى الطريقة الفرويدية المعروفة بأن جعل شهرزاد تعيد تمثيل نفس المأساة مع عبد خصي يعرفه شهريار حق المعرفة، وما إن دهم شهريار شهرزاد مع العبد وتبيَّن أنه كان واهمًا حتى أخذت عقدته تنحل، وبخاصة بعد أن أوضحت له شهرزاد أن خيانة زوجته الأولى المزعومة لم تكن إلا مجرد وهم منه كالوهم الذي أوشك أن يطغى على نفسه بالنسبة إليها.
وأما الشاعر عزيز أباظة فلم يلجأ في حل عقدة شهريار إلى إعادة تمثيل المشهد الذي أصيب منه بتلك العقدة كما فعل علي أحمد باكثير، بل اكتفى بطريقة الإيحاء فأوجد في مسرحية «شهريار» إلى جوار شهرزاد شخصية أخرى هي أختها دنيازاد، واتخذ من شهرزاد رمزًا للعاطفة ومن دنيازاد رمزًا للشهوة الجسدية، وجعل الفتاتين تتنازعان شهريار وكلًّا منهما تحاول أن تجذبه نحوها، فشهرزاد تشيد بإنسانيته ورقة مشاعره، ودنيازاد تحرك من غرائزه وتعرض مفاتنها وتوحي إليه بكافة السبل بالثقة في نفسه كرجل، وما تزال به الفتاتان حتى تُبددان مُركَّب النقص الذي كان يعاني منه، وإذا به في النهاية لا يعدل عن وحشيته الفظة فحسب، ويصاب بما يشبه التصوف الأخلاقي والديني، ويعلن في النهاية عزمه على الرحيل إلى الأرض المقدسة بالحجاز بعد أن انحلت عقدته.
كان لا بد من شاعر لكتابة هذه المسرحية، وأن يكون هذا الشاعر شرقيًّا دقيق الحس خصب القريحة كتوفيق الحكيم؛ ليرود الصعب في مثل هذا العمل بهذا الوشْي الفني العربي البارع، الذي لا يزال يدهش ذهننا الديكارتي بعض الدهش قبل أن يفتنه كل الفتون.