القدرة والحكمة: «سليمان الحكيم»
اليوم في نهاية عام ١٩٤٨ والطبعة الثانية موشكة على الظهور، يُخيل إليَّ أن مسرحية سليمان الحكيم قد غدت رمزًا لذلك الصراع الدائر على مسرح الدنيا … إن الجني المنطلق من القمقم هو المتسلط الساعة على النفوس … إن القوة عمياء ما نالها أحد حتى اندفع يدوس بها الآخرين … وإن القدرة مغرية ما ملكها أحد حتى بادر إلى استخدامها فيما ينبغي ولِما لا ينبغي … إن أزمة الإنسان الآن وفي كل زمان هو أنها تتقدم في وسائل قدرتها أسرع مما تتقدم في وسائل حكمتها.
بنيت هذه القصة على كُتب ثلاثة: القرآن والتوراة وألف ليلة، وقد سرت فيها على نهجي في أهل الكهف وشهرزاد وبجماليون من حيث استخدام النصوص القديمة والأساطير الغابرة استخدامًا يُبرز صورة في نفسي لا أكثر ولا أقل.
وبالفعل استخدم الحكيم ما ورد في القرآن عن ملكة سبأ وعن الهدهد والجن والقصر الممرد الذي شاده سليمان لبلقيس وسخَّر الجن في تشييده وإحضار أحد الجن لعرش بلقيس من سبأ إلى أورشليم في طرفة عين، كما استخدم ما ورد في ألف ليلة عن الصياد والقمقم الذي كان سليمان قد سجن فيه أحد الجن، وهو الجني داهش بن الدمرياط الأداة الرئيسية للقدرة في يد سليمان. وأما التوراة فروحها الشعرية سائدة في المسرحية كلها، بل لقد أخذ توفيق الحكيم من نشيد الإنشاد لسليمان صفحات بأكملها، والظاهر أن إعجاب توفيق الحكيم بالروح الشعرية المرهفة والصور المبتكرة في هذا النشيد لا حد لها، لنراه يعيد كتابته وينشره في كتاب مستقل سنة ١٩٤٠، ثم يعود إلى الاقتباس منه في هذه المسرحية حيث نراه على لسان سليمان في التغني بجمال بلقيس ما قاله سليمان في الفاتنة شولميت في نشيده، مثل قوله: «ما أجمل قدميكِ وساقيكِ! … إن حبك أشهى من الخمر، وشذاك أطيب من كل عطر. شفتاك تقطران العسل يا حماتي (يشم طويلًا)، ثيابك يتضوع منها أريج مثل أريج لبنان، أنتِ جنة مغلقة، أنتِ نافورة انبثق ماؤها على صورة فردوس عرس فيه الزمان وتدلت العناقيد ورقصت الزهور والرياحين من مرمر وعود وناردين وكل شجر يُجعل منه البخور، ما أجملك يا حبيبتي! عيناك مثل بحيرات حشبون، وثدياك أيلان بل توءمان من بطن غزالة، وعنقك برج من عاج، وشعرك كأنه الأرجوان قد شدت خصلاته وثاق ملك! … أنتِ نخلة وثدياك العناقيد … فليكن مثل عناقيد الكرم، وعطر أنفاسك مثل رائحة التفاح، وفمك مثل أطيب الخمر …»
وأما الهدف أو الفكرة التي استخدم المؤلف كل هذه المادة الأولية لإبرازها فهي كما قال هو نفسه: «إغراء القدرة لمالكها على إساءة استخدامها، واعتقاده أنه يستطيع أن يصل بها إلى كل شيء حتى ولو كان هذا الشيء هو امتلاك القلب البشري.» فسليمان بالرغم من تمتعه بألف جارية حسناء من كافة الأجناس يضمهن قصره، فإنه يريد قلب بلقيس التي راعه جمالها، ويسخِّر في ذلك الجن داهش بعد خروجه من القمقم، فيفتنُّ داهش في إدهاش بلقيس بإحضار عرشها من سبأ وتشييد قصر لها أرضيته من بلور تحسبه بلقيس ماء، غير أن بلقيس كانت تحب أحد أسراها واسمه «منذر»، وقد اصطحبته معها في زيارتها لسليمان لأنها لا تطيق فراقه، وهي الأخرى تحسب لكونها ملكة أن منذر سيستجيب لحبها، بينما منذر يحب في الحقيقة وصيفتها المتواضعة الجميلة شهباء التي تكتم حبها له مضحية بنفسها في سبيل ملكتها بلقيس، وعندما يحس سليمان بأن قلب بلقيس مشغول بحب منذر يستخدم الجن داهش ليسترد هذا القلب، وافتنَّ داهش في استخدام قدرته فيسحر منذرًا تمثالًا حجريًّا يضعه داخل حوض من البلور، ويوحي إلى بلقيس بأن منذر لن يعود إنسانًا كما كان إلا إذا ملأت الحوض بدموعها، ولا تتردد بلقيس في ذرف هذا الدمع حتى يمتلئ جزء كبير من الحوض ويوشك ماء الدمع أن يصل إلى قلب منذر، غير أن الجني يوحي إلى سليمان عندئذٍ بأن يصرف بلقيس عن الحوض، ثم يدخل الجني مع شهباء في حوار يشجعها فيه على إعلان حبها لمنذر وذرف الدمعتين اللتين ستصلان إلى قلبه وبها تعود إليه الحياة، ويكون للجني ما أراد، ولا يكاد منذر يعود إنسانًا حتى يعلن حبه الحار لشهباء، وتعلم بلقيس بهذا الحب فتستسلم للأمر الواقع، ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تمنح سليمان غير صداقتها، ثم ترحل عائدة إلى مملكتها تاركة سليمان جالسًا على مقعد ومتكئًا على عصاه في سبات يحسبه أتباعه من الإنس والجن نوعًا عاديًّا، بينما هو الموت الذي لم تظهر حقيقته إلا بعدما أكلت الأَرَضة عصاه فتهشمت وسقط سليمان كله ترابًا، وبذلك انهزمت القدرة الغاشمة التي أفلتت من زمام الحكمة فضلت، وظنت أنها قادرة على كل شيء حتى أكلتها الأرضة في النهاية. ولعلنا نستطيع أن نستشف فكرة المسرحية كلها من هذا الحوار الهادئ الذي يجري بين سليمان وبلقيس في المنظر السادس منها:
هذه هي مسرحية «سليمان الحكيم» التي كانت نواتها القصصية تجري في مجال المعجزات الدينية، وقد أراد توفيق الحكيم أن يتخذ من هذه المعجزات ظواهر لقدرة الإنسان الخارقة، ثم ليُظهر عجز هذه القدرة أحيانًا كثيرة، وقد اختار لإظهار هذا العجز القلب البشري، وعلى نحو أخص عاطفة الحب التي لم يَقُل أحد إنه من الممكن أن تُنال بالقوة حتى ولو استُخدمت تلك القوة بمنتهى الحكمة. فنقص الحكمة أو القصور في استخدامها ليس بسبب المأساة التي نزلت بسليمان، وغاية ما يتصل بالحكمة في هذه المأساة هو أنها لم تبصِّر صاحب القدرة بالمدى الذي يستطيع فيه استخدام قدرته بحيث لا يمدها إلى مجال القلب وعواطف البشر. والبحث عن الحب ليس شرًّا في ذاته ولا لوم على الإنسان إذا سعى إليه بكل وسيلة، وإنما يُلام الإنسان إذا استخدم قدرته لأغراض شريرة، وعندئذٍ تصح المقابلة بين القدرة والحكمة وتستقيم القضية العامة التي تحدَّث عنها المؤلف في تعقيبه على الطبعة الثانية لهذه المسرحية، وهي قضية ازدياد قدرة الإنسان بنسبة تفوق كثيرًا ازدياد حكمته مما يُنزِل بالإنسانية كلها الكوارث والمحن، على نحو ما نشاهد اليوم من التهديد باستخدام قوى التدمير التي اكتشفها العلم الحديث في إبادة البشر وتدمير كنوزهم وثرواتهم الطارف منها والتليد.