أشواك السلام
«الشعوب تحب وتسالم، والقادة يفكرون ويدبِّرون، والتفكير عندهم يؤدي إلى الحذر والريبة واتخاذ التدابير، والتدابير تُورط في أخطاء، والأخطاء تُفسد جو الصفاء … وهكذا، وهكذا.»
هذه هي الفكرة التي تقوم عليها آخر مسرحية بين أيدينا حتى الآن مما كتب الأستاذ توفيق الحكيم وهي مسرحية «أشواك السلام»، وقد جرت هذه الفكرة على لسان إحدى شخصيات المسرحية الأساسية.
«أشواك السلام» إذن من المسرحيات ذات الهدف الواقعي، ولكنها مع ذلك تُعتبر من المسرحيات ذات المفتاح؛ لأنها تقوم للتدليل على فكرة، والهدف فيها ينبعث من طريق غير مباشر، عن إظهار الحقيقة التي كُتبت المسرحية للتدليل عليها أو الإيحاء بها، أي إن الهدف فيها ليس هدفًا قياديًّا مباشرًا كما هو الحال في المسرحيات الأخرى التي كتبها المؤلف في أعقاب ثورتنا الأخيرة مباشرةً كمسرحية «الأيدي الناعمة» ومسرحية «الصفقة»، عندما كانت فلسفة الثورة الجديدة في أوج توهجها، وإذا كان توفيق الحكيم يرى أن الأديب يعود بفطرته إلى القضايا الإنسانية العامة ليتخذها موضوعًا لأدبه عندما تستقر الأمور من حوله وتهدأ الفورات التي لا بد أن يجتاحه تيارها، فهل نستطيع أن نتخذ من هذه المسرحية التي تجمع بين الهدف وتجسيد حقيقة دليلًا على أن المؤلف قد أخذ يحس بالاستقرار الفكري من حوله؟ أم الأصح أن ننظر إلى هذه المسرحية الجديدة على أنها نتيجة طبيعية لتطور توفيق الحكيم الفني الذي تحدَّث عنه هو نفسه في مقدمة مسرحية «أوديب الملك»، عندما قال إنه يسعى إلى الجمع بين الرمز الفكري والمواقف الدرامية، أي الخروج بالفكرة من مجال المطلق إلى مجال الواقع المحسوس؟ وهذا هو ما فعله توفيق الحكيم في «أشواك السلام» التي يستهدف فيها السلام العالمي والأشواك التي تقوم في سبيله، فاتخذ من السلام بين الأفراد والمجتمع الواحد والأشواك التي تقوم في سبيله رمزًا وشبيهًا للسلام العالمي، وأقام جسرًا بين المجالين من إحدى شخصيات المسرحية، وهي شخصية شاب نابه يعمل في السلك الدبلوماسي وقد أعد مذكرة ضافية حارة للدفاع عن السلام وتعبيد سبله في مؤتمر دولي كُلِّف بالاشتراك فيه، وبالرغم من أمله القوي في أن تُحدث مذكرته أثرًا طيبًا في المؤتمر رأى جهده يتبدد أدراج الرياح نتيجة للحذر بل سوء النية المتبادل عند ممثلي الدول الكبرى التي بيدها تقرير السلام أو تقويضه، ولكي يوحي لنا المؤلف بما يراه من أسباب هذا الحذر وسوء النية المتبادلين أدخل نفس الشخصية في قصة خاصة تكشف عن الأشواك في حياة الأفراد لنقيس عليها الأشواك التي تنبث في حياة الدول وفي علاقات السلام، التي يجب أن تقوم بينها لمصلحة الجميع ولخير الإنسانية كلها.
فشابنا المثالي الجاد ابن مدير الغربية يختار كشريكة لحياته فتاة مثالية مهذبة هي بنت مدير الشرقية، ويتفاهم الفتى والفتاة ويتعاطفان ويفاتح الفتى أباه في خطبتها، وبالرغم من أن والد الفتى زميل منذ الدراسة لوالد الفتاة، فإن رأي كل منهما في الآخر بالغ السوء نتيجة لشائعات كاذبة وصلت لكل منهما عن أخلاق الآخر وسلوكه في الحياة؛ فنرى والد الخطيب يستمهل ابنه إلى حين عودته من المؤتمر، ويستغل هذه الفترة في تكليف أحد رجال المباحث التابعين له في جمع معلومات، أي في التجسس على الخطيبة، ومن غريب الأمر أن تخطر نفس الفكرة لوالد الخطيبة فيكلف هو الآخر أحد رجال مباحثه للتجسس على الخطيب، ويستخدم هذا الأخير إحدى الغانيات في عملية التجسس، وبينما تحتك هذه الغانية بالشاب المهذب في المطار يلتقط لها رجل المباحث صورة فوتوغرافية يعود بها إلى والد الفتاة، في حين يرى رجل المباحث الآخر الفتاة وإلى جوارها رجل مباحث الشرقية يضع في معصمها ساعة كانت قد سُرقت منها ثم استطاع استردادها، ويلتقط ضابط المباحث صورة لهما ليقدمها إلى والد الخطيب، وعندما يعود الشاب من المؤتمر يفاجئه أبوه بالصورة ولا يلبث أن يشعر بأن خطيبته هي الأخرى قد أخذت تبتعد عنه بعد أن قدَّم لها أبوها الصورة المريبة وأوهمها بانحلال أخلاق خطيبها، وأوشك الفتى والفتاة أن يُفجعا نهائيًّا في حبهما لولا حرصهما على استجلاء الحقائق، حيث التقيا واستطاع كل منهما أن يقنع الآخر بحقيقة ما حدث ويبدد شكوكه، فيعودا إلى حبهما وإلى جو الصفاء والسلام والتفاهم الذي كان سائدًا بينهما قبل أن يعكره رجال المباحث.
ونخرج من المسرحية والهدف واضح كل الوضوح في نفوسنا، فكما أن الشائعات والمعلومات المضللة هي التي أفسدت جو الحب والسلام بين أبويهما، وأنه لم تكد تُنتزع تلك الأشواك الدخيلة بالتقاء الفتى والفتاة في آخر المسرحية واستجلائمها الحقائق في إخلاص، ثم التقاء الأبوين وتفاهمهما بل تجاوبهما الأخوي إلى حد الاتفاق على أعمال حرة مشتركة بينهما بعد الخروج من الخدمة إلى المعاش؛ حتى عاد الصفاء بين الجميع وحل السلام محل الخصام. وكذلك الأمر فيما يختص بالدول، فسوء الفهم المتبادل والحذر والريبة واتخاذ التدابير الفاسدة المضللة التي تزيد الأمور سوءًا هي التي تعكر صفو السلام العالمي. وما من شك في أن الدبلوماسي الشاب قد استطاع بعد حل أزمته الخاصة أن يفسر لنفسه ما كان غامضًا عليه في المؤتمر الدولي عندما رأى حجج السلام على قوتها تبددها عُقد النفوس التي حبكتها التضليلات، وولَّدت من الحذر والشعور بالعداوة القائمة على غير أساس ما يطمس منطق العقل السليم، ويعمي المصلحة الحقيقية للإنسان.
هذه هي الأشواك التي تقوم في سبيل السلام بين الأفراد وبين الدول على السواء، وهي أشواك حقيقية واقعية تعرفها الإنسانية كلها، وتجاهد عبثًا للتخلص منها بمحاولة تقرير حرية الإعلام ووسائله الصريحة المكشوفة في النطاق الدولي، ولكن كل المحاولات لم تنجح حتى الآن؛ وذلك لأنه ما دامت بواعث الصراع على الحياة قائمة بين الأفراد وبين الدول فستظل نزعة الريبة والحذر والتكتم سائدة بينهم، ولكن هذا لا يمنع رجال الأدب والفن دعاة المحبة والسلام من كشف الأستار عن هذا الواقع المحزن للبشر، فمن البديهي أن الأفراد والشعوب على السواء لا يمكن إلا أن تحب السلامة والتآخي والتعاون على الخير، ولكن ما يحبونه شيء وما تسمح به ظروف الحياة شيء آخر بحيث يلوح لنا أن أشواك السلام لا يغرسها القادة وحدهم، بل كثيرًا ما تغرسها الحياة نفسها، وموضع البحث هو عن الأسباب التي تدفع الحياة إلى غرس هذه الأشواك، ويلوح لنا أن توفيق الحكيم لم يتعمق حتى الآن البحث عن هذه الأسباب، وفي مسرحية «أشواك السلام» نفسها ما ينطق بحيرة المؤلف على لسان شخصياته، على نحو ما نحس من الحوار الآتي بين الشاب الدبلوماسي واثنين من رجال الصحافة في المؤتمر الدولي:
هل يمكن انتزاع حصاة من القلب دون أن يسيل دم؟!
وهكذا تظل الطريقة لإزالة الأشواك مجهولة، وإن أثار المؤلف إحساسنا بضرورة البحث عنها والاهتداء إليها.
وإذا كنا قد اعتدنا على أن نعثر في هذا النوع من مسرحيات الحكيم على صراع ذي طرفين، فإن الصراع في هذه المسرحية يدور بين الحقيقة والتضليل، ولكنه لا يدور هذه المرة داخل الذهن البشري بين «المطلق من المعاني»، بل يدور في واقع الحياة؛ لأن الذهن البشري السليم لا يمكن أن يتصارع في داخله الحق مع الباطل، وإن يكن توفيق الحكيم قد حاول أن يقنعنا بإمكان قيام مثل هذا الصراع عندما جعل الباطل يتنكر في ثوب الواقع في مسرحية أوديب، وأخذ يصور صراعًا مفتعلًا بين الحقيقة وذلك الباطل، في حين يروقنا الصراع الذي يجري في واقع الحياة في «أشواك السلام» بين الحقيقة والباطل، ويهز مشاعرنا بل يبهجها بتمكينه للحقيقة من أن تنتصر على الباطل، وهو انتصار يكفي لتحقيقه الكشف عن زيف الباطل كشفًا يبدل الصورة الذهنية الكاذبة التي لدينا فتنهار من الذهن، وما ينهار من الذهن لا يبقى له أثر ولا قوة في واقع الحياة.