براكسا أو مشكلة الحكم
ولتوفيق الحكيم مسرحية فريدة كتبها ليبشِّر برأي سياسي معين؛ لذلك تتميز بطابع خاص لم نألفه عنده، وهو الذي رأيناه يتجنب مسئولية الرأي الشخصي ويفضِّل أن يكون أدبه صدى لحياة مجتمعه متجاوبًا مع الرأي الغالب في بيئته استجابة لقدرته على التكيف، وهي تلك القدرة التي لفتنا هو نفسه إلى تمتعه بها في إحدى مقالاته الأخيرة المنشورة في كتابه «أدب الحياة»، أو أخذًا بفلسفته الخاصة بسلوك الحياة التي أخذ بها نفسه في حياته العملية ثم حاول أن يصوغها في نظرية عامة في كتابه «التعادلية».
وهذه المسرحية الفريدة التي لم نرَ بدًّا من أن نفرد لها حديثًا خاصًّا هي مسرحية «براكسا أو مشكلة الحكم» التي نشرها في سنة ١٩٣٩م، وهي مسرحية أخذ فكرتها الخيالية من رائد الكوميديا الأكبر شاعر اليونان القدماء «أرستوفان» في مسرحية «مجلس النساء»، التي عُرضت في الأعياد الدينية بأثينا القديمة سنة ٣٩٢ق.م.
كتب «أرستوفان» تلك المسرحية في وقت أصيبت فيه أثينا بهزيمة منكرة في حربها الضروس ضد إسبرطة، وانهارت ماليتها، واضطربت أمورها، وأخذ اليأس يتسرب إلى نفوس المواطنين فيُضعف اهتمامهم بمصير وطنهم، وإذا بنا نرى هذا الشاعر المحافظ العنيد يغيِّر من منهجه في كتابة الكوميديا فلا يعود يتناول الواقع السياسي والاجتماعي بالنقد المر العنيف، بل ينفض يده نفضًا تامًّا من واقع مدينته ليتصور فرضًا خياليًّا فيه معنى اليأس من محاولة إصلاح ما هو واقع فعلًا في المدينة المجيدة التي انهزمت وأسباب تلك الهزيمة، ولكنه لا يقترح أو يوحي بحلول عملية لتلك الأزمة الطاحنة، بل يقدم مجرد دعاية سياسية كبيرة يُضحك بها المواطنين، ويُسرِّي عن بعض همومهم إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا، وهذا الفرض الخيالي هو استيلاء النساء على السلطة وتولِّيهن شئون المدينة وإلزام الرجال البيوت بعد أن فشلوا في الحكم.
ومسرحية «مجلس النساء» لا تُعتبر على هذا الأساس من مسرحية أرستوفان الممتازة؛ لأن قوة مسرحياته الأخرى إنما تأتي من شدة ارتباطها بالحياة في عصره وواقع تلك الحياة والرغبة العنيدة في توجيهه لها وقيادتها وفقًا لآراء أرستوفان التي نراها نحن اليوم مسرفة في المحافظة والرجعية بل والأذى أحيانًا، بدليل هجومه العنيف على سقراط في مسرحية «السحب» وعلى الشاعر يوربيدس في مسرحية «الضفادع»، لأنهما من رواد التحرر الفكري ودعاة التمسك بمنطق العقل والشعور الإنساني، ولكننا مع ذلك لا نستطيع إلا أن نُعجب بشجاعة الرجل وقوة شاعريته وأستاذية فنه الكوميدي، ولكننا نلاحظ أنه في سنة ٣٩٢ عندما كتب مسرحية «مجلس النساء» وكانت السن قد تقدمت به فأضعفت من حيويته في الكفاح من أجل آرائه السياسية والاجتماعية والدينية ومن أجل مدينته وشعبه، وبخاصة بعد أن أخذ يحس بأنه لم يستطع بكفاحه أن يقي وطنه شر الانهيار الداخلي والخارجي، وعجز عن أن يحمل أمة الإغريق كلها على أن تُوقف تلك الحرب اللعينة التي دامت أربعين سنة بين المدينتين الإغريقيتين الكبيرتين أثينا وإسبرطة، وكانت نتيجتها النهائية إضعاف بلاد الإغريق كلها والتمهيد لوقوعها فريسة هينة في يد المقدونيين بقيادة ملكهم فيليب أول الأمر، ثم ابنه الإسكندر الأكبر من بعده، لينتقل حكمها بعد ذلك إلى الرومان فالأتراك، وتظل بلاد الإغريق مستعمرة حتى منتصف القرن الماضي عندما استطاعت أن تسترد استقلالها بعد ألفي عام أو يزيد من السيطرة الأجنبية.
يفترض أرستوفان في كوميديا «مجلس النساء» أن إحدى نساء الريف الأثيني واسمها «براكسا جورا» حرضت زميلاتها من النساء على أن يتنكرن في ملابس أزواجهن أثناء نومهم عند الفجر ويضعن لحى مستعارة، ويخرجن من بيوتهن عند الفجر وبيد كل منهن عصا زوجها ليتوجهن إلى دار المجلس النيابي بأثينا (الإكليزيا)، وفي المجلس تصعد براكسا جورا إلى منصة الخطابة لتنتقد فساد الحكم السائد وعجز الحكام عن إدارة شئون المدينة، وتقترح في النهاية أن يُعد المجلس قرارًا بمنح السلطة للنساء لتولي الحكم، ولما كان عدد الرجال المواطنين الذين حضروا الجلسة قليلًا لأنهم عندما استيقظوا لم يجدوا ملابسهم التي استولت عليها زوجاتهم، فقد توفرت من النساء المتنكرات في زي الرجال أغلبية وافقت على الاقتراح، وتولى النساء فعلًا حكم المدينة بزعامة براكسا جورا، وأصدرن قانونين خطيرين: يقتضي أولهما ملكية الدولة لجميع وسائل الإنتاج وقيامها بتوزيع الدخل القومي على المواطنين والتكفل بجميع حاجياتهم وتوفير الرخاء لهم، ويقضي القانون الثاني بشيوعية النساء بين الرجال، على شرط أن تكون الأولوية في معاشرة الرجال للدميمات منهن، ويُجري أرستوفان تطبيقًا لهذين القانونين بعض المشاهد المضحكة التي ترتبت على ذلك، مثل معارضة أحد المواطنين أول الأمر في التخلي عن ماله الخاص قبل أن يتأكد مما سينتهي إليه تطبيق ذلك القانون، ولكنه لا يكاد يُدعى للوليمة العامة حتى تتبدد مخاوفه ويوقِّع صك التنازل وهو يهرول إلى الوليمة، ومثل تعارك ثلاث نساء دميمات مع فتاة جميلة بسبب شاب وسيم يريد الفتاة بينما تتمسك النساء الدميمات بحقهن في الأولوية التي يقررها القانون، وتنتهي هذه المعركة أيضًا بدق ناقوس الوليمة العامة، بل وتنتهي المسرحية كلها على نحو يُشعرنا بأن الشاعر لم يقصد من كل هذا إلى شيء إيجابي، بل انحصر هدفه في إشعارنا بإفلاس الرجال في حكم المدينة، وأما ما عدا ذلك من حكم النساء والقانونين اللذين أصدرنهما ونتائجهما فكله عبث فكاهي لا يستهدف شيئًا غير الإضحاك.
وأخذ توفيق الحكيم الفكرة الخيالية عن أرستوفان ليستخدمها في تجسيد عدد من الآراء التي كانت تراوده حوالي سنة ١٩٣٩م، مثل رأيه في فساد الحكم الديمقراطي ونظام الأحزاب والتكالب على المغانم الشخصية وتضحية المصالح العامة في سبيل المنافع الخاصة، ومثل رأيه السيئ في المرأة وعدم قدرتها على النهوض بالمسئوليات الكبيرة فضلًا عن الصغيرة.
ففي مسرحية «براكسا أو مشكلة الحكم» المقسمة إلى ثلاثة فصول يصور المؤلف كيف استولى النساء بزعامة براكسا على الحكم، وعلى نفس النحو الذي صوَّره أرستوفان في مسرحيته، ولكن الحكيم لا يلبث بعد ذلك أن يستقل عن أرستوفان استقلالًا تامًّا، فالنساء لا يصدرن القانونين اللذين تحدَّث عنهما أرستوفان بل يكتفي الحكيم بأن يضعهن مباشرةً أمام مسئوليات الحكم، فيأتي وفد إلى براكسا طالبًا إعدام كل مدين يمتنع عن سداد دينه خنقًا أو شنقًا، ثم يأتي وفد آخر مطالبًا بنفس العقوبة للدائنين الذين يطالبون بديونهم، ولا يقوى ضعف النساء ممثلًا في براكسا على رفض مثل هذه الطلبات، بل إن براكسا نفسها مشغولة كامرأة بجمالها وزينتها عن مشاكل الحكم، وكل اهتمامها مُنصب على انتظار زيارة قائد الجيش الوسيم «هيرونيموس» (لهذا الاسم عند تحليله لغويًّا معنى القانون المقدس في اللغة الإغريقية القديمة)، وما إن يأتي هذا القائد ويخلو ببراكسا للنظر في شئون الدولة حتى ترتمي بين أحضانه وتضع السلطة بين يديه، لينفرد بالحكم المطلق ويضع في السجن الفيلسوف أبقراط الذي كان ينافق براكسا ويطري جمالها، بل ويسجن براكسا نفسها بتهمة أن ضعفها قد أدى إلى الفوضى. وفي الفصل الأخير تلتقي بالفيلسوف في السجن ويجتمع معها «هيرونيموس» ويتداول الثلاثة في الأمر، ويقترح الفيلسوف بالاتفاق مع براكسا أن يتكون مجلس الحكم من الثلاثة، باعتبار براكسا رمزًا للحرية والرفق، وهيرونيموس رمزًا للقوة والنظام، والفيلسوف رمزًا للعقل الذي يقيم التوازن بين القوتين الأخريين، ولكن هيرونيموس لا يرضى هذا الحل ويأمر بأن توضع الأغلال في أقدام براكسا هي الأخرى، وأن تظل في السجن مع الفيلسوف لينفرد هو بالحكم كسلطة مطلقة. وهذا هو الحل الذي حرص الحكيم على أن يختم به مسرحيته، موحيًا إلينا بأنه لا صلاح للحكم في بلادنا، ولا سبيل لحل مشكلته بعد فساد النظام الديمقراطي عندئذٍ غير حكم الفرد القوي المسيطر.
هذا هو المضمون السياسي الذي حاول توفيق الحكيم تجسيده في هذه المسرحية، وهو المضمون الذي يلوح أنه المحور الأساسي فيها، وأما المضمون الاجتماعي الآخر الخاص برأي الحكيم في المرأة وضعفها، فواضح أنه مضمون ثانوي لم يركز عليه المؤلف بل اكتفى بالإيحاء به إيحاءً عابرًا.
هذا، ومن الواجب أن نلاحظ أن الرأي السياسي الذي يجسده المؤلف في هذه المسرحية ليس جديدًا عليه ولا وليد الظروف المحددة التي كتب فيها هذه المسرحية، بل هو رأي قديم سبق أن عبَّر عنه توفيق الحكيم نفسه في قصته الكبيرة «عودة الروح»، حيث يرى أن الشعب المصري لا تنقصه غير القيادة القوية الحازمة ليأتي بالمعجزات، فهو يؤيد بذلك مبدأ الحكم المطلق ويفضله على الحكم الديمقراطي القائم على تعدد الأحزاب، بعد ما شاهده من فساد تطبيق هذا النظام في بلادنا.
هذا ومن الممكن لمن يريد أن يعثر على كثير من آراء الحكيم بهذا الصدد في كتابيه «شجرة الحكم» و«تأملات في السياسة».