الفن عند توفيق الحكيم
الآن وقد استعرضنا أمهات المسرحيات التي كتبها توفيق الحكيم وحللناها، وناقشنا القضايا التي تعرضها وأوضحنا طابعها العام ومكانها في تطور مفهوم الفن المسرحي عنده؛ نستطيع أن نجمع في هذا الفصل الأخير المفاهيم العامة لهذا الفن عند المؤلف، وتطور تلك المفاهيم والأصول التي استند إليها في تأليفه، والطرق التي حاول أن يحل بها مشكلات هذا الفن، مع مناقشتنا لكل ذلك.
الأدب والتمثيل
وأول مشكلة عرض لها توفيق الحكيم وعرضت له هي أنه وجد عند نشأته الأدبية الأولى — كما قال — في عالمنا العربي تمثيلًا، ولكنه لم يجد أدبًا تمثيليًّا يُقرأ ويُدرس في المدارس والمعاهد والجامعات كما هو الحال في البلاد الأوروبية، بل إن شاعرنا الكبير أحمد شوقي نفسه عندما كتب مسرحياته الشعرية كتبها للتمثيل أولًا لا لكي تُطبع في كُتب؛ لأن الفكرة التي كانت سائدة عندئذٍ هي أن المسرحيات تُكتب لتُمثل ويشاهدها الجمهور في دور التمثيل لا لتُطبع وتُقرأ.
ولم يستطع توفيق الحكيم في أول حياته الأدبية وقبل سفره إلى فرنسا أن يفلت من هذه الفكرة السائدة، فأخذ يكتب لفرقة عكاشة مسرحيات من النوع السائد عندئذٍ وهو النوع الفكاهي حينًا والغنائي حينًا آخر، وكان كل ما يحرص عليه الحكيم عندئذٍ هو أن يرى هذه المسرحيات تُمثَّل أمام الجمهور لا أن يراها مطبوعة في كُتب يقرؤها الناس ويتوارثونها جيلًا عن جيل كجزء من تراثهم الأدبي، بدليل أن بعض تلك المسرحيات الأولى أو معظمها لم يُطبع حتى اليوم، مثل مسرحية «الضيف الثقيل» الفكاهية الرمزية، ومسرحية «علي بابا» الغنائية.
وفي مثل هذه المسرحيات كان الهدف الأول للمؤلف ولصاحب الفرقة التمثيلية هو إرضاء الجمهور وتقديم ما يعجبه، لا ما يرضي الفن ويحترم أصوله الصارمة التي تجعل منه أدبًا وتضمن له الخلود، بل لقد كانت شخصية الممثل أو الممثلين هي التي تتحكم أحيانًا كثيرة أكثر من التأليف، فكانت المسرحيات تُكتب لشخصية الريحاني في دور «كشكش بك» عمدة كفر البلاص، أو علي الكسار في «بربري مصر الوحيد بواب العمارة عثمان.»
وفي مثل هذا الجو لم يكن بد للمؤلف من أن يعالج الموضوعات التي تشغل الجمهور وتثير اهتمامه — أي المسائل الجارية — حتى ليقترب المسرح عندئذٍ من الصحافة إلى حد بعيد، فإذا انتشر الكوكايين وضج من هول أخطاره العقلاء وقادة الفكر، كتب محمد تيمور مسرحية «الهاوية» لينفر من هذا السم الفتاك، وإذا انتشر الزواج من الأجنبيات وما ينجم عنه من أخطار اجتماعية كتب «أنطون يزبك» مسرحية «الذبائح» لإظهار تلك الأخطار، وإذا اختلف الناس في شأن سفور المرأة وتصايح المحافظون من أخطاره الأخلاقية والاجتماعية الموهومة، كتب توفيق الحكيم مسرحية «المرأة الجديدة». وبالرغم من أن التأليف المسرحي عند نهاية الحرب العالمية الأولى كانت أصوله الفنية قد أخذت تتضح ويطالب بها النقاد المؤلفين، بل ويكتب أحدهم في الصحف محاكمات أدبية خيالية للمؤلفين الذين يتهاونون في تلك الأصول مرضاةً للجمهور وسعيًا وراء الكسب التجاري مثلما فعل محمد تيمور؛ فإن التأليف المسرحي بوجه عام لم تستقم له تلك الأصول، فكانت المسرحية تبدو أحيانًا كثيرة أقرب إلى الاستعراض منها إلى التأليف الدرامي السليم القائم على بناء فني محكم وشخصيات مرسومة في دقة وحوار درامي عميق، ومنها ما كان يخرج إلى حد المبالغات التي تجعل المسرحية أقرب إلى الكاريكاتير منها إلى الصورة الفنية للحياة، على نحو ما كان واضحًا في فن اﻟﭭﻮدفيل الذي شاع عندئذٍ مقتبسًا عن فرنسا بواسطة أمين صدقي وبديع خيري، أو كانت الفكرة أو الهدف يدفعان المؤلف إلى اصطناع أحداث غير مقنعة لإبراز فكرته أو هدفه على نحو ما لاحظنا في مسرحية «المرأة الجديدة» لتوفيق الحكيم، حيث لا نجد ترابطًا منطقيًّا بين الأحداث ولا بناء يجعل من كل حدث نتيجة لِما سبقه ولا تماسكًا في بناء الشخصيات، بحيث نستطيع تحديد أبعادها النفسية من خلال الأحداث التي تشتبك فيها، وكل ذلك فضلًا عن الحرص المسرف على التماس النكات اللفظية القائمة على اللعب على الألفاظ واصطناع هذا اللعب.
وسافر توفيق الحكيم إلى باريس وهناك لم يشاهد تمثيلًا فحسب، بل أخذ يقرأ أدبًا تمثيليًّا توارثه الأوروبيون عن اليونان والرومان القدماء، ثم عن الشعراء والناثرين في لغاتهم القومية الحديثة، وعاد توفيق الحكيم — كما قال في كتابه «زهرة العمر» — وهو مصمم على أن يكتب أدبًا تمثيليًّا يُقرأ سواء مُثِّل أم لم يُمثَّل، بل ويزعم أنه كان يكتب مسرحياته التي سمَّاها ذهنية دون اهتمام بإمكانيات تمثيلها، ويقول: «إن هدفي اليوم هو أن أجعل للحوار قيمة أدبية بحتة ليُقرأ على أنه أدب وفكر.» فبصرف النظر عن هذه النظرية من الناحيتين الأدبية والفنية، فإن من واجبنا أن نقرر نجاح توفيق الحكيم في هذه المحاولة؛ إذ نلاحظ أننا قد أصبحنا نعترف اليوم بفضل شوقي والحكيم وتيمور وغيرهم من كُتَّابنا المعاصرين في وجود شيء اسمه الأدب التمثيلي، يُقرأ ويُدرس في المدارس والمعاهد والجامعات، وتُنَاقش أصوله ويُربط بالأدب التمثيلي العالمي وتاريخه منذ المصريين واليونان القدماء حتى اليوم.
وإذا كان توفيق الحكيم قد أسرف أو غالط في دعوته إلى تأليف مسرحيات لتُقرأ لا لتُمثل، فإن هذا الإسراف أو المغالطة كان لهما ما يبررهما في بيئتنا المحلية، بل وكان لهما نفعهما وجدواهما في اقتلاع تلك الفكرة الضارة التي كانت تزعم أن المسرحيات تُكتب ليتسلى بها الجمهور في دور المسرح ولا تعرف طريقها إلى المطبعة، وبالتالي إلى القراءة والدراسة كنصوص أدبية من فن أدبي رفيع ينظر إليه العالم المتحضر على أنه قمة الفنون الأدبية وأعمقها تأثيرًا وأكبرها مشقة في التأليف.
ومع ذلك فالظاهر أن توفيق الحكيم لم يكن قد استقر بعد على هذه النظرية المسرفة عندما كتب أولى مسرحياته الذهنية وهي «أهل الكهف»، ولو أنه كان قد استقر عليها لأفصح عنها في مقدمة يضيفها إلى المسرحية على نحو ما جرت عادته، وإنما طالعنا له هذه النظرية فيما بعد وفي المقدمة التي كتبها لمسرحيته بجماليون، ومنها نستطيع أن نحس بأن الذي دفعه إلى هذا الإسراف إنما كان كبرياء الفنان الذي كان يتوقع لمسرحيته «أهل الكهف» على خشبة المسرح مثل ما صادفت من النقاد وأساتذة الأدب عندما قرءوها وكتبوا عنها في الصحف، مثل الدكتور «طه حسين» الذي حيَّا ظهورها بمقال حار نشره فيما بعد في الجزء الثالث من كتابه «حديث الأربعاء».
لقد تساءل البعض أولًا: هل يمكن لهذه الأعمال أن تظهر كذلك على المسرح الحقيقي؟ أما أنا فأعترف بأني لم أفكر في ذلك عند كتابة روايات مثل «أهل الكهف» و«شهرزاد» ثم «بجماليون»، ولقد نشرتها جميعًا ولم أرضَ حتى أن أسميها مسرحيات، بل جعلتها عن عمد في كُتب مستقلة عن مجموعة «المسرحيات» الأخرى المنشورة في مجلدين حتى تظل بعيدة عن فكرة التمثيل، لهذا دُهشت وتخوفت يوم فكروا في افتتاح الفرقة القومية عند إنشائها برواية «أهل الكهف»، ولقد راجعت القائمين بالأمر عندما سألوني الإذن في تمثيلها، فلما طمأنوني تركتهم يفعلون دون أن أحضر تجربة من تجارب الإخراج، بل لقد لبثت ممتنعًا عن مشاهدة تمثيلها حتى آخر ليلة، فذهبت مخدوعًا بقول من قالوا إنها نجحت، فماذا رأيت؟! رأيت ما توجست منه: إن هذا العمل لا يصلح قط للتمثيل على الوجه الذي ألِفه أغلب الناس، فالممثلون يعرضون مواقف وأزمات لا يرى الجمهور أن مثلها مما يُكتب للمسارح لإثارة العواطف، لقد خرجت تلك الليلة وأنا أشك في عملي، وأومن بصواب رأي الناس.
الكهف بالرقيم، ظلام لا يُتبين فيه غير الأطياف، طيف رجلين قاعدين القرفصاء، وعلى مقربة منهما كلب باسط ذراعيه بالوصيد.
وهكذا في تقديمه الفصول الثلاثة الأخرى التي يجري الفصل الثاني منها في بهو الأعمدة بقصر الملك وكذلك الفصل الثالث، بينما يعود بنا المؤلف إلى الكهف في الفصل الرابع والأخير، ونحن نلاحظ عند عدم تغيُّر المكان من فصل إلى فصل الانتقال مع ذلك من حدث إلى آخر، أي من حلقة إلى حلقة من حلقات التطور الدرامي للمسرحية، وذلك بينما نرى توفيق الحكيم يعدل عن تقسيم مسرحيته إلى فصول — أي إلى أحداث — في المسرحية التالية وهي «شهرزاد» التي يقسمها إلى مناظر فحسب؛ لأن تركيزه الأساسي كان على الحوار بين الشخصيات ومضمون هذا الحوار لا على الأحداث وتسلسلها والحركة الدرامية فيها. ومع كل ذلك، فإننا نرى توفيق الحكيم يعود ثانيةً بعد ذلك إلى الأصل التقليدي، ويعلن في مقدمة مسرحية «أوديب الملك» أنه لا يريد في سنة ١٩٤٩ أن ينهج المنهج الذي كان يسلكه منذ عشر سنوات، بل يود أن يحتفظ لمسرحيته بقوتها الدرامية ومواقفها التمثيلية، وإن كنا قد لاحظنا لسوء الحظ أن مسرحيته تلك لم تستطع أن تقنعنا لا من الناحية الدرامية ولا من الناحية الذهنية الخالصة.
ومن هذا الاستعراض التاريخي نستنتج أن توفيق الحكيم لم يقصد قط إلى إهمال الناحية التمثيلية عند تأليف مسرحياته، وإنما ساقه كبرياء الفنان في فترة من فترات حياته إلى المناداة بفكرة المسرحية التي تُكتب للقراءة فحسب. ولتوفيق الحكيم من الثقافة الأدبية والفنية الواسعة ما يؤكد في ضميره الفني أن الأدب المسرحي كله ومنذ أقدم عصوره حتى اليوم مقترن بالتمثيل، وأن نفث الحياة في النص الأدبي بواسطة التمثيل هو الذي يعطي هذا النص كل قيمته، بل إن القارئ نفسه لا يستطيع أن ينفعل عند قراءة المسرحية ويستوعب جميع معانيها وإيحاءاتها ما لم يتخيلها ممثلة أمامه وهو جالس في مقعده، ومن المؤكد أن ضعف الخيال عند الكثيرين من القراء هو الذي يجعلهم يضيقون بقراءة المسرحيات ولا يُقبلون عليها مثلما يقبلون على قراءة القصص التي يغنيهم فيها المؤلف بوصفه وتحليله وتدخُّله المباشر أو غير المباشر في الأحداث عن مشقة الخيال وتصور المواقف واستشعار معانيها وإيحاءاتها بعون ذلك الخيال، وتوفيق الحكيم لا يمكن أن ينسى أيضًا أن عمالقة الأدب المسرحي قد كانوا من المتصلين بفن التمثيل والإخراج العارفين بإمكانيات المسرح ووسائله، فكان «سوفوكليس» و«موليير» و«شكسبير» مثلًا ممثلين لا مؤلفين فحسب، وكان «إبسن» مديرًا للمسارح لا مؤلفًا فحسب، ولا شك أن خبرتهم بالمسرح وبفن التمثيل قد أعانتهم عونًا قويًّا على الاحتفاظ بالقيمة الدرامية لمؤلفاتهم المسرحية، أي بقدرتها على التأثير في الجماهير وجذبهم إليها، وفي تاريخ توفيق الحكيم ما يُشعر بأنه خالط في صدر شبابه رجال التمثيل والمسرح قدر مخالطته للمؤلفين والأدباء.
- (١) مسرح الحياة: الذي كان توفيق الحكيم يكتبه في مطلع حياته في فترة اشتغاله محررًا صحفيًّا بجريدة «الأخبار» ما بين عامي ١٩٤٣ و١٩٥١، وقد جمع أخيرًا ما أنتج في هذا الاتجاه المجلدين «مسرح المجتمع» و«المسرح المنوع»، وهو في كل هذه المسرحيات ينقد بعض أوضاع حياتنا الاجتماعية أو اتجاهاتنا الأخلاقية أو النفسية من وجهة نظره الخاصة إلى الحياة ورأيه فيها، وإن كنا نلاحظ أن قليلًا جدًّا مما نُشر في هذين المجلدين من مسرحيات لا يدخل فيما نسمِّيه «مسرح الحياة»، بل ينبغي أن يُسلخ منها ليُضم إلى ما نسميه المسرح الذهني أو المسرح التجريدي، مثل مسرحية «لو عرف الشباب» التي تقوم على فرض علمي هو إمكان عودة الشيوخ إلى الشباب، واستعراض النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك، والفصل فيها بما يراه المؤلف من رأي.
- (٢) المسرح الذهني: وهو الذي وصفه توفيق الحكيم نفسه عندما قال في مقدمة مسرحيته بجماليون: «إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكارًا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز.» ومن هذا النوع سلسلة مسرحياته الكبيرة التي وقفنا عندها في الفصول السابقة وحللناها وناقشنا القضايا التي تعرضها. ويُخيل إلينا أن عبارة «المسرح الذهني» لا تنطبق عليها دائمًا؛ لأن الصراع في بعضها لا يجري داخل الذهن البشري السليم؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يجري صراع داخل هذا الذهن إلا إذا كان لكل من طرفي هذا الصراع جذوره وأسبابه في هذا الذهن، وأما إذا كان أحد طرفي الصراع لا يمكن أن يكون له سند في الذهن البشري، فإن الصراع لا يمكن أن يقوم ولا ينبغي له أن يقوم، وإذا افترضنا قيامه فلا تجوز تسميته بالصراع الذهني بل بالصراع التجريدي، أي الصراع الذي يقوم بين معانٍ مجردة بصرف النظر عن النتائج المثيرة للاشمئزاز التي قد تنتج عن قيام مثل هذا الصراع في ذاته، ولقد رأينا مثلًا فاقعًا لذلك في مسرحية «أوديب الملك» التي حاول فيها بطلها أوديب أن يغري أمه جوكاستا باستمرار معاشرته معاشرة الأزواج بعد ظهور حقيقة صلته بها وهي صلة الابن بالأم، وذلك بحجة الصراع بين الواقع والحقيقة، فمثل هذا الصراع يمكن أن يسمَّى تجريديًّا، ولكن لا نستطيع أن نسميه ذهنيًّا؛ لأن أحد طرفيه — وهو الواقع المزعوم — لا يمكن أن يقوم له وجه أو قوة على الصراع داخل أي ذهن بشري سليم.
- (٣) المسرح الهادف: وهذا هو الاتجاه الثالث والأخير الذي اتجه إليه توفيق الحكيم متأثرًا بفلسفتنا الثورية الأخيرة وكصدى لهذه الثورة، على نحو ما أحسسنا في عدد من مسرحياته التي كتبها بعد عام ١٩٥٢، مثل «الأيدي الناعمة» و«الصفقة» و«أشواك السلام»، التي لا يسعى فيها إلى مجرد الكشف عن إحدى حقائق الحياة التي يؤمن بها، أو نقد أحد جوانب الضعف في حياتنا، بل يسعى إلى تعميق فكرة قيادية في حياتنا الجديدة وتجسيدها في صورة درامية أمام المشاهدين أو القراء.
ولما كانت المقاييس الفنية التي نستطيع بواسطتها الحكم على إنتاج المؤلف لا بد أن تختلف بالضرورة من فن من هذه الفنون الثلاثة إلى فن آخر، فمن الخير أن نفرد لكل منها حديثًا خاصًّا بالأصول الفنية المتعلقة به.