مسرح الحياة
كتب توفيق الحكيم نيِّفًا وأربعين مسرحية من هذا النوع، ونشر الكثير منها في الصحف قبل أن يُجمع في «مسرح المجتمع» و«المسرح المنوَّع»، وعدد منها في فصل واحد يقترب مما يسمى «إسكتش»، أي لوحة حوارية، أو ما يشبه الحديث الصحفي، بينما يمتد عدد آخر إلى ثلاثة فصول ويتضمن قصة وبناءً دراميًّا.
و«مسرح الحياة» — كما قلنا — يستمد موضوعاته من واقع حياة الأفراد أو حياة المجتمع، ويستهدف الكشف عن حقيقة نفسية أو اجتماعية أو نقد اتجاه نفسي أو أخلاقي أو اجتماعي.
والشرط الأساسي لنجاح مثل هذا المسرح هو قدرة المؤلف على إيهامنا بأنه يصور واقعًا فعليًّا لينقده أو يكشف عن حقائقه الدفينة، ونحن نقول «الإيهام بالواقع» لأن الأدب لا يمكن أن يكون تصويرًا آليًّا للواقع، ولا مرآة ينعكس فيها ذلك الواقع بما فيه من تفصيلات مبتذلة فاقدة الدلالة أو تفكك وانسياب أو سطحية وتمويه، بل يختار المؤلف من حصيلة ملاحظاته لهذا الواقع العناصر التي يؤلف بينها ليخلق منها الصورة التي توهمنا بأنها صورة واقعية؛ لأنها تنجح في إقناعنا بصدقها، فالنجاح في الإيهام بالواقع لا مقياس له غير النجاح في إقناع القارئ أو المشاهد بصدق الصورة، والمؤلف الذي يريد أن ينجح في هذا العمل يجب أن يبدأ من الواقع لا من فكرة يريد تجسيدها في صورة درامية فيتخيل لها من الأحداث غير المقنعة ما يتخذه وسيلة لهذا التجسيد، فالبعد عن الواقع أو اصطناعه على نحو غير مقنع يهدد العمل القصصي أو الدرامي بالخروج من الواقعية إلى الكاريكاتيرية، فتأتي الشخصيات كأنها دمى من ورق تنقصها الحياة الذاتية التي تضمن لها الخروج من بين دفتي الكتاب أو من على خشبة المسرح لتنطلق خالدة في أذهان البشر، مثل شخصيات هملت وعطيل وشيلوك وهرباجون وألسست وغيرها من الشخصيات الروائية الخالدة. ومن الغريب أن نلاحظ أن الممثلين قد خلقوا في عالمنا العربي الحديث بعض هذه الشخصيات مثل «كشكش بك» و«بربري مصر الوحيد»، بينما لم يخلق الأدب المسرحي حتى الآن شخصيات استقرت صورتها في نفوس الناس وأصبح لها وجود مستقل، حتى لأذكر أنني عندما صورت عددًا من النماذج البشرية التي خلدها كبار الأدباء العالميين، وجدت مشقة كبيرة في أن أعثر على مثل هذه النماذج في أدبنا العربي القصصي والدرامي الحديث، واغتبطت عندما وجدت في شخصية «إبراهيم الكاتب» — لا إبراهيم عبد القادر المازني — شخصية يمكن اعتبارها من النماذج البشرية الباقية.
وأما إذا كانت نقطة البدء عند المؤلف المسرحي هي فكرة، فإن نجاحه في التأليف يتوقف عندئذٍ على شرطين جوهريين؛ أولهما: أن تكون الفكرة من الأفكار التي تُعتبر من معالم الطريق في تقدُّم الإنسانية المستمر، بحيث تظل تلك الفكرة محتفظة بقيمتها حتى ولو تغيرت الظروف والملابسات التي أوحت بها، وأن يكون إحساس الأديب من الصدق والعمق بحيث يستطيع تبنِّي الفكرة التي لا بد أن يُكتب لها الانتصار والبقاء؛ لأنها تمثل مرحلة في تطور البشر وتقدمهم المستمر، حتى ولو كانت تلك الفكرة لا تزال تلقى في عصره مقاومة بحكم العادة أو العرف الفاسد أو الخوف من المجهول. والشرط الثاني هو أن يؤتى المؤلف من قوة الخيال ما يستطيع بها أن يخلق صورة قصصية درامية تتجسد فيها فكرته، وتقنع القارئ أو المشاهد بفضل مشاكلتها للواقع الفعلي وعدم استحالة وجودها في هذا الواقع.
وعلى أساس هذه المبادئ العامة نلاحظ أن عددًا من مسرحيات الحياة عند توفيق الحكيم لا نستطيع أن نقتنع به؛ لأن الفكرة التي ابتدأ بها أفسدت الصورة الدرامية، فنحن مثلًا لا نقتنع باستقالة «النائبة المحترمة» من عضويتها في البرلمان بعد أن رفضت مساومة وزير الأشغال لها على ترقية زوجها الموظف بوزارته مقابل تدخُّلها لصالح الوزير في استجواب مقدم ضده، ونحن لا نقتنع بأن «المرأة الجديدة» ترفض الحب الزوجي وتطلب الصداقة فحسب، ونحن قد نقتنع بأن الطمع في ثراء الزوجة أو ثراء أهلها كثيرًا ما يكون الدافع إلى الزواج، ولكننا لا نقتنع بالصورة الدرامية التي جسَّد فيها المؤلف هذه الفكرة عندما صوَّر المعلم كندوز الجزار وهو يكتب عمارته لكل بنت من بناته حتى تتزوج، ثم يعود فيستردها منها ليكتبها للبنت التالية وهكذا، فهذه الصورة الشاذة أقرب إلى الكاريكاتير منها إلى الصورة التي تمثل داءً متفشيًا في المجتمع، وكذلك الأمر في مسرحية «أريد أن أقتل» التي تبدو لنا الصورة الدرامية فيها أيضًا كاريكاتيرية غير مقنعة، ربما كان الدافع إليها الحرص على إثارة الضحك لإظهار تناقض فاقع بين موقفين متتاليين.
هذا، ومن الواجب أن نلاحظ هنا أيضًا أن فن توفيق الحكيم في «مسرح الحياة» قد تطور تطورًا حسنًا في الفترة الأخيرة من إنتاجه، على نحو ما تطور من جهة أخرى فنه المسرحي فيما يختص بما يسمِّيه المسرح الذهني، فمسرح الحياة عنده لم يتغير في وظيفته ليصبح مسرحًا هادفًا فحسب، بل تغيَّر أيضًا في أدائه الواقعي، وقد عبَّر توفيق الحكيم بنفسه عن هذا التطور الذي أحس بضرورته في «البيان» الذي نشره في آخر مسرحية «الصفقة»، حيث يقول عن مشكلة الأداء الواقعي: «وهذه المشكلة خاصة بنا وبمسرحنا، وهي المسئولة إلى حدٍّ ما عن التخلف الملحوظ في الفن المسرحي، فالمسرحية التي اعتاد جمهورنا التصفيق لها إما أن تكون مضحكة مغرقة في الإضحاك بالنكات اللفظية والحركات المفتعلة والشخصيات الكاريكاتيرية، وإما أن تكون مبكية غاية الإبكاء بالكلمات المفجعة الجوفاء والمواقف التي تستجدي الدموع والتأثر السريع مجرد استجداء. وفي الحالين نحن بعيدون عن المسرح الحقيقي، فإذا استطعنا أن نستدرج جمهورنا فنجعله يعتاد تذوُّق النوع الطبيعي الذي لا يهدف إلى إضحاك أو إبكاء، ذلك النوع الذي يعرض علينا الحياة في حقيقتها والأشخاص في واقعهم، إذا استطاعت مسرحية مثل «الصفقة» لم تُكتب لتُضحك أو لتُبكي أن تُرضي الجمهور بإخراج طبيعي وتمثيل واقعي بلا نكتة ولا مبالغة؛ فإن هذه التجربة قد تملأنا أملًا في المستقبل.»
ونحن قد لا نُقر توفيق الحكيم على ما في هذا الرأي من إسراف يمكن أن يجرِّد المسرحية من قدرتها على كسب اهتمام الجمهور والتأثير فيه، ولكننا لا نستطيع إلا أن نؤيد دعوته إلى تقريب المسرح من حقيقة واقع الحياة، والبعد به عن الافتعال والطابع الكاريكاتيري، كما تلاحظ أنه هو نفسه وقع غير مرة في هذه الأخطاء التي ينتقدها، ونحمد له تنبيهه إليها ومحاولته تجنبها بقدر المستطاع في مسرحياته الأخيرة التي ربما كانت خير ما كتب في النوع الواقعي، مما دعانا إلى أن نفصل هذه المسرحيات الأخيرة عما سمَّيناه «مسرح الحياة» عند الحكيم لنُدخلها تحت ما نفضِّل تسميته ﺑ «المسرح الهادف»، وهو المسرح الذي لا بد أن يرتبط بحقيقة الواقع الكائن أو الذي كان كائنًا قبل أن يسعى إلى توجيه هذا الواقع وقيادته نحو ما هو أفضل.
وعلى أي حال فالذي يعتز به توفيق الحكيم من إنتاجه المسرحي في فترة ما قبل الثورة الأخيرة، ويرى فيه أصالته المتميزة ليس ما سمَّيناه «مسرح الحياة» وما سمَّاه هو ﺑ «مسرح المجتمع» و«المسرح المنوع»، وإنما هو إنتاجه في مجال ما سماه «المسرح الذهني»، ونرى أن عددًا من مسرحياته أجدر بأن يسمى «المسرح التجريدي»، وهو الفن الذي سنتحدث عنه الآن.