المسرح الذهني والتجريدي
رأينا فيما سبق كيف نشأت نظرية مسرح القراءة عند توفيق الحكيم، كما رأينا نظريته في محاولة خلق أدب مسرحي لذاته وبصرف النظر عن تمثيله بعد أن عجز فن التمثيل الذي عرفه عالمنا العربي منذ منتصف القرن الماضي عن أن يخلق هذا الأدب ليضيفه إلى تراثنا الأدبي العام.
وبالرغم من أن الآداب العالمية كلها قد استطاعت أن تخلق في تراثها فن الأدب التمثيلي مع المحافظة على طابعه الدرامي الذي يجعله صالحًا للتمثيل ويجذب إليه الجماهير، مثل مسرحيات سوفوكليس وشكسبير وراسين وموليير وإبسن وتشيكوف وشو وغيرهم؛ فإن توفيق الحكيم قد رأى أن خير وسيلة لخلق أدب تمثيلي في لغتنا العربية هو أن يجعل للحوار قيمة أدبية بحتة ليُقرأ على أنه أدب وفكر. والحكيم بهذا الاتجاه قد تحسس في نفسه وعرف الملَكة البارزة التي يتمتع بها، وهي ملَكة الحوار، فهو من أقدر كُتابنا المعاصرين على إدارته، وهو يجمع بين الصفتين اللتين تعطيان حواره قيمة أدبية فنية لا شك فيها، وهما: الروح الشعرية التي تعبق بسحرها بعض محاوراته، مثل «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«بجماليون»، ثم روح السخرية المرهفة التي تُبرز المفارقات الدقيقة في المواقف والسلوك ومشاعر النفس البشرية. وهو بعد ذلك يملك القدرة على بلورة بعض القضايا الإنسانية العامة وإبراز ما بينها من صراع يقول إنه يجريه داخل الذهن البشري؛ ولذلك سمى هذا النوع من المحاورات ﺑ «المسرحيات الذهنية».
والمشكلة التي يثيرها هذا النوع من المسرحيات هي هل حتم عليها أن تُقرأ في مقعد ولا تُعرض على مسرح، بحيث ينطبق عليها ذلك الاصطلاح الذي أطلقه عليها أحد النقاد الفرنسيين عندما سمَّاها «المسرح في مقعد»، ورأى في تأليفها عجزًا عن تحقيق الوظيفة التقليدية المسلَّم بها للأدب المسرحي، وهي التأثير في الجماهير عن طريق التمثيل الذي ينفث فيها الحياة ويفتح لها مغاليق النفوس ويعينها على استيعاب كل معانيها وأهدافها، فضلًا عن تطهيرها بإثارة الانفعالات القوية فيها أو الضحك المُسقِط للهموم أو ادخار طاقتها الفعلية وتعويضها بالرؤية الخيالية عما لا تستطيع أن تعيشه فعلًا في واقع الحياة، فضلًا عن الوظائف الجديدة للمسرح خاصةً والأدب عامةً في مثل وظيفة القيادة عن طريق الإيحاء، وضرب المثل للقدوة بعرض التجارب البشرية مجسمة أمام الأنظار.
والشيء الذي لا شك فيه هو أن توفيق الحكيم لا يمكن أن يقلل من أهمية التأثير الدرامي على الجماهير بواسطة أدبه، فهذا مطمع مشروع، بل ومرغوب فيه من كل أديب وفنان، ولقد رأينا توفيق الحكيم نفسه يفصح عن هذه الحقيقة ويبدي هذه الرغبة في المقدمة التي كتبها لمسرحية «أوديب الملك»، حيث أبدى رغبته في أن يجمع في هذه المسرحية بين العناصر الدرامية والمواقف التمثيلية من جهة، والحوار الذهني أو التجريدي بين ما سمَّاه الحقيقة والواقع من جهة أخرى، ولكنه لسوء الحظ لم ينجح في هذه المحاولة، والظاهر أن كلًّا مُيسَّر لما خُلق له.
وإذا كانت الإحصاءات الرسمية تُثبت أن مسرحيات توفيق الحكيم لم تجذب إليها أكبر عدد من الرواد رغم براعة حواره، فما هي الأسباب الفنية وغير الفنية التي يمكن أن نفسر بها هذه الظاهرة؟
ونبدأ فنعترف بأنه ربما كان هناك دخْل للمستوى الثقافي العام لجمهور المسرح الواسع، من حيث عدم اهتمامه الاهتمام الكافي بالحوار الذهني وتفضيله ما ألِفه من قبل على خشبة المسرح من مواقف ميلودرامية عنيفة أو هزلية صاخبة أو غنائية مطربة، وهو الجمهور القلِق الشقي بالحياة الذي اعتاد أن يلتمس في المسرح ما ينسيه همومه أو يُسرِّي عنه أو يُدخل البهجة على نفسه، كما قد يكون من الحق أيضًا أن نُقر لتوفيق الحكيم بما رآه وفصَّله في مقدمة مسرحية «بجماليون» من أن هذا النوع من المسرحيات يحتاج إلى إخراج خاص ووسائل خاصة لجذب الجمهور إليه، حيث يسجل رأي المخرج الفرنسي العجوز «رينيه بو» في مسرحية «شهرزاد» بأنها قصيدة لكي تنجح يجب أن يقدمها المسرح الفرنسي بذكاء ورهافة ذوق، ويفسر الحكيم هذا الرأي بأن الصعوبة في إخراج مثل هذه المسرحيات إنما هي في إبقاء الشعر أو الفلسفة يشيعان في جو المسرح كما شاعا في جو الكتاب، وفي النهاية يتمنى توفيق الحكيم أن لو كان هذا المخرج المرهف لا يزال في عنفوان قوته لكي يُخرج بنفسه «شهرزاد» على نحو ما أخرج مسرحيات إبسن ثم مسرحية «سالوميه» للكاتب الإنجليزي «أوسكار وايلد» الذي كان عندئذٍ في السجن، فلما علم أن «رينيه بو» شارع في إخراج روايته لم يكتم فرحه ففاض به على صفحات كتابه «من الأعماق». ويختتم الحكيم هذا التعليق بقوله: «من سوء حظي أن الشيخوخة قد أقعدت هذا الفنان العظيم وأقصته عن المسرح منذ زمن بعيد، أتُراه كان يُخرج «شهرزاد» لو أنه قرأها وهو في أوج نشاطه الفني؟ من يدري؟ ربما كان يفعل، ولو أنه فعل لكان هو المجد.» ومعنى هذه العبارة الأخيرة هو أن توفيق الحكيم يرى بالبداهة أن المجد الذي لا مجد بعده هو نجاح مسرحياته على المسرح لا قراءة الناس لها.
ونحن بعد كل ذلك لا ينبغي أن نقتصر في تفسير الظاهرة على تحميل الجمهور أو المخرجين مسئوليتها، بل لا بد أن ننظر نظرة موضوعية في الأسباب الفنية التي لها دخْل أكيد في تفسيرها.
وأهم تلك الأسباب فيما نرى هو أن الجمهور أو الإنسان بوجه عام لا يمكن أن ينفعل ويتأثر بالتجارب التي يراها على خشبة «المرسح»، إلا إذا كان الإنسان بلحمه ودمه وأعصابه طرفًا في الصراع الذي يجري أمامه، فلا بد لنا — كما قال أرسطو منذ أقدم العصور — من أن نستشعر الشفقة بالإنسان والفزع من المأساة التي تنزل به لكي ننفعل ونتأثر وتتطهر نفوسنا. وسر عظمة سوفوكليس في مسرحيته التي تقصفت دون النجاح في معارضتها جميع الأعلام، هو أنه أجرى صراعه العاتي بين الإنسان البريء المظلوم وبين الحقيقة المدبرة ضده في الظلام لتسحقه، فنحن نتعاطف معه ونشاركه مأساته ونشفق عليه ونفزع لهول كارثته المرتقبة، ومن هنا تأتي القوة الدرامية للمسرحية وتأثيرها الجبار على المشاهدين، وأما عندما يأتي توفيق الحكيم ليُجري الصراع بين ما يسمِّيه «الواقع» و«الحقيقة» أخذًا بما يسميه «المطلق من المعاني»، فنحن لا نتأثر ولا ننفعل ولا نشفق ولا نفزع، بل نشمئز من البطل نفسه عندما يحاول باسم الواقع أن يستمر في معاشرة أمه معاشرة الأزواج، فضلًا عن أن ما يسميه الحكيم واقعًا لا يمكن أن يُقتنع بوجوده لأنه غير موجود في أذهاننا أو ضمائرنا، ولا يمكن أن يوجد كحقيقة يمكن أن يعترف بها إنسان، وأي وجود مادي لا قيمة له ولا قوة ولا تأثير ما لم يكن له وجود داخل النفس البشرية، أي ما لم تكن له صورة ذهنية في نفوسنا.
ولقد يقال إن المسرح الإغريقي القديم في أوج عظمته لم يكن الإنسان طرفًا في الصراع الذي يجري فيه، بل كانت الآلهة وأنصاف الآلهة هي أطراف الصراع في كثير من المسرحيات الخالدة، وجوابنا على ذلك هو أن الإغريق لم يعرفوا التجريد في تصور آلهتهم، وديانتهم توصف بحق بأنها أوضح مثل في تاريخ البشرية لما يسمَّى بالديانة الناسوتية، أي الديانة التي تصور أصحابها آلهتهم على شاكلة الإنسان مع فارق في نسبة القوة والجبروت أو الذكاء والحيلة؛ ولذلك اتصفت آلهتهم بجميع صفات البشر بل ونقائصهم، بحيث كان الإغريقي القديم يرى في شخصيات الآلهة التي تُمثل على خشبة المسرح صورة لنفسه ولتجارب حياته وما ينتابه فيها من محن ومآسٍ، حتى اعتُبر هذا المسرح إنسانيًّا خالصًا بل المثل الصافي للأدب الإنساني رغم مظهره الديني الخارجي.
وهكذا يتضح لنا كيف أن ما يسمِّيه توفيق الحكيم بالمسرح الذهني قد كان من الممكن أن يحتفظ مع ذلك بطابعه الدرامي المؤثر الذي يجذب الجماهير، لو أن المؤلف حرص على أن يكون دور الإنسان وموقفه في الصراع الذي يجريه داخل هذه المسرحيات واضحًا بارزًا، حتى يتعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان وينفعل بصراعه ويهتز له، ويتأثر بهزيمة أخيه الإنسان هزيمة ظالمة عندما لا تتكافأ القوى أو تتآمر الظروف فتقهر الإنسان رغم شجاعته وإخلاصه وصلابته في الصراع. وأما أن يبدو الصراع منفصلًا عن الإنسان وجاريًا بين المطلق من المعاني، فإن المسرحية تتعرض عندئذٍ لخطأ جسيم وهو أن تتحول إلى مجرد مناقشة عقلية خالية من العناصر الدرامية والمواقف التمثيلية التي تثير الاهتمام وتحرك الراكد من المشاعر والتأملات.
وتركيز توفيق الحكيم اهتمامه على العناصر الفكرية الداخلة في الصراع الذي يجريه صرفه عن الاهتمام الواجب بالأحداث والمواقف، حتى لتجد بعض مسرحياته تكاد تخرج عن صورة المسرحية إلى صورة الحوار الخالص الذي تتجادل فيه الشخصيات، مثلما نلاحظ في مسرحية «شهرزاد» التي تكاد جميع مناظرها تدور حول مناقشة قضية ذهنية واحدة، هي: هل يستطيع الإنسان أن يفلت من نداء الحياة، أي نداء الجسد والقلب؟ وتنتهي المناقشة بأن من يريد أن يصبح عقلًا خالصًا يصبح كالشعرة التي تشيب وتبْيضُّ ولا يعود لها من علاج غير انتزاعها. والحوار في هذه المسرحية شعري ممتع وجوها ساحر، ولكن المسرحية خلت أو كادت من المواقف التمثيلية، والعناصر الدرامية الحية المثيرة.
وهي بحق من نوع «المسرح في مقعد» لأنها ممتعة عند القراءة، ولكني أخشى ألا يجد فيها المشاهد عند رؤيتها على المسرح شيئًا جديدًا لم يجده عند قراءتها.
ونحن بعد ذلك ننظر في نتائج الصراع الذي يجريه توفيق الحكيم بين المطلق من المعاني، فنراه يقضي بالغلبة للمعاني السلبية التي توصد أبواب الأمل أمام التقدم البشري وأمام إرادة الحياة مما يصيب المشاهد بخيبة أمل لا مبرر لها، ولا يمكن أن يُقر أسبابها ودوافعها غير الرومانسي الهارب من الحياة المسترخي الذي يفضِّل الأحلام على الحقائق والاسترخاء والراحة على العزم والكفاح في معارك الحياة، فأهل الكهف يعودون إلى الموت دون أي كفاح إيجابي في سبيل استئناف الحياة وتجديد روابطها، بل ومن بذل منهم بعض الجهد مدفوعًا بالوهم ينتهي به الأمر أيضًا إلى الموت بالكهف وتصحبه إليه حبيبته الجديدة برسكا، بحجة أن شبح الحقيقة المزعوم قد حال بين مشلينا وبرسكا وبين واقعهما الجديد. والشيخ في مسرحية «لو عرف الشباب» ينتهي بالعودة إلى شيخوخته بعد عودته إلى الشباب، ويموت قبل أن يحقق الأمل الذي ربط المؤلف بينه وبين الشيخوخة وهو تأليف الوزارة الجديد. والطبيب الرومانسي العاطفي يفضِّل في «رحلة إلى الغد» الحياة الرومانسية الحالمة التي تستعذب شقاء الحياة الحاضرة على حياة المستقبل التي سيستطيع فيها العلم أن يقي الإنسان مشقات الكفاح في الحياة من أجل لقمة العيش، وما من شك في أن تغليب توفيق الحكيم لكل هذه المعاني السلبية إنما يرجع إلى مزاجه الرومانسي الدفين وإلى خوفه المستمر من المغامرة في عالم المجهول والتعرض لمشقات الكفاح في الحياة، وإيثار الدَّعَة والتأمل الحالم على الكد والنَّصَب ومغالبة الصعاب، وهذه هي طبيعة الفنان الذي سحرته حياة الفن منذ مطلع شبابه، وذلك الفن الذي تلقَّى — كما يقول — إشعاعاته الأولى عن الأسطى حميدة الإسكندرانية التي أهداها كتابه «أهل الفن»، ثم غذَّى هذا الإحساس عالم العوالم في القاهرة والشاعر في مونمارتر على نحو ما نحس من مطالعتنا لكتاب أهل الفن، وعلى نحو ما نحس من مشاعر المؤلف الرومانسية المشعشعة في بعض قصصه ومسرحياته، مثل قصة «راقصة المعبد» ومسرحية «رصاصة في القلب».
هذا ومن الحق أن نسجل لتوفيق الحكيم ما قرره هو نفسه من مرونة طبعه وقدرته على التكيف، في مقال له بعنوان «الحياة هدف وإرادة»، المنشور في أحد كُتبه الأخيرة وهو كتاب «أدب الحياة»، وهذه القدرة على التكيف هي التي مكَّنته من أن يتطور بفنه نحو الحياة التي يعيشها مجتمعه ويحاول أن يساهم في تطويرها، فنتج عن ذلك اتجاهه الأخير الذي سميناه الاتجاه نحو المسرح الهادف.