توفيق الحكيم بين فنون المسرح المختلفة
إنها مسرحيات منوَّعة في أسلوبها وفي أهدافها؛ ففيها الجِدِّي والفكاهي، وفيها ما كُتِب بالفصحى والعامية، وفيها النفسي والاجتماعي والريفي والسياسي ونحو ذلك.
إنها رحلة في جهات مختلفة خلال أكثر من ثلاثين سنة، وإن القارئ أو الناقد لَيعجب ولا شك لهذه الرحلة في كل جهة على مدى سنة!
لكأنها رحلة مسافر يبحث عن شيء.
أهي رحلة إنسان يبحث عن نفسه؟
أهي رحلة فنان يبحث عن فنه؟
قد يكون كل هذا، وقد يكون شيئًا آخر من هذا.
إن أي مؤلف مسرحي معاصر لنا ينتمي إلى أي أدب أوروبي، يعمل اليوم وقدمه مستقرة فوق تجارب ألفين من السنين، تجارب راسخة في أدب بلاده منذ عهد الإغريق، فإن أي أدب مسرحي أوروبي إنما يقوم على آثارٍ امتدت على الأجيال منذ نحو ألفَيْ سنة، مطبوعة منثورة في لغة بلاده، ينقلها جيل مع ما ينتجه كل جيل وما يبدعه، كأنها سلسلة فكرية طويلة متصلة تحمل كل الأنواع والاتجاهات والابتكارات، وتحاول حل كل العُقَد وكل المشكلات الفكرية والفنية واللغوية والأدبية.
وأما في بلادنا ولغتنا وأدبنا فميدان التجربة في التأليف المسرحي ضيق محدود؛ لأن أدبنا العربي لم يعترف بالأدب المسرحي قالبًا أدبيًّا إلى جانب المقامة والمقالة إلا منذ سنوات قلائل، كما أننا لم ننقل إلى لغتنا من أدب المسرح قديمه وحديثه إلا منذ سنوات قلائل أيضًا، فمؤلفنا المسرحي المعاصر ينهض إذن على فراغ أو على شبه فراغ من تجارب قليلة ضئيلة لم ترسخ بعدُ في لغته وأدبه، ويعمل وخلفه فجوة هائلة لم تملأها جهودُ السابقين على مدى الأجيال.
وهنا إذن سر رحلتي القَلِقة في كل الجهات.
ويظهر أن الحروب وما تثيره في الأمة من هزات اجتماعية تُرغِم المشتغل بالفن على الاستقاء من هذا النبع، وتدفعه إلى الاستيحاء مما يضطرب فيه هذا المجتمع. هكذا كان الحال أيضًا بالنسبة إلى الحرب العالمية الأولى؛ فقد كان المجتمع المصري وقتئذٍ يهتز لأمرَيْن: الخلاص من الاحتلال، والتخلص من الحجاب.
ولكن الحروب ما يكاد يختفي شبحها ويسكن تأثُّرها وتنقشع غيومها، حتى يطيب أحيانًا للفن أن ينطلق من جو المسائل القومية إلى جو المسائل الإنسانية؛ لهذا ما كادت الحرب العالمية الأولى تبعد شُقَّتها وتهدأ هزتها باتجاه المجتمع المصري إلى التغير الهادئ والتطور الطبيعي، حتى اتجهت إلى مصدر آخر هو الإنسان في أفكاره الثابتة في كل زمان، كان ذلك منذ عام ١٩٢٨ حيث أخذت في كتابة تمثيليات «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«الخروج من الجنة» و«نهر الجنون» … إلخ. واليوم عند خروجنا من الحرب العالمية الثانية — أيْ بعد نحو خمس سنوات أو أكثر قليلًا — مضى المجتمع المصري يضطرب في هزات اجتماعية جديدة لم تكن ملحوظة على هذا النحو في عام ١٩١٨ أو عام ١٩١٩، وقد اتجه أكثر الناس إلى نشاطهم الداخلي في مضمار التقدم الشخصي أو المنافسة العامة، فأصبح للمال وسلطانه والسعي إلى طرائق جمعه وتدعيمه الأهميةُ الكبرى، فعرفتْ مصر طرازًا حديثًا من الناس هم رجال الأعمال والشركات وأثرياء الحرب، كما كان للنُّظُم الحديثة وسرعة التقلُّبات السياسية ومقتضيات الحياة أثرٌ في تصرفات الناس، فنجم عن ذلك كله أنماطٌ من الأخلاق تساير رغبة الطموح وتتابع سرعة الوصول. كما أن المرأة لم تَعُد تقنع بالسفور، بل سعت في أن يكون لها مكانٌ بارز في السياسة والحياة العامة، وأن تكون لها حريةٌ أوسعُ وإرادة أقوى، وغير ذلك كثير مما جدَّ على المجتمع المصري من اتجاهات وشخصيات كانت هي الموحِي لما في هذا الكتاب من صور وحوادث وأناس. وإن الحقيقة لتقتضينا التصريح بأنه ما من قصةٍ هنا خلا منها مشهد على الأقل انتُزِع بالفعل من واقع الحياة، حتى ما قد يبدو أحيانًا أنه عجيب. إن الحياة أجرأ من الفنان.
وواضح من هذه الفقرات أن توفيق الحكيم يريد أن يوحي إلينا — كما قلت — بأن انتقاله بين فنون المسرح المختلفة إنما كان استجابةً لظروف الحياة العامة التي أحاطت به، وتطوُّر تلك الظروف.
والآن أي التفسيرين نقبل؛ التفسير الأول الذي يقول فيه الحكيم إنه قد تنقَّل بين فنون المسرح المختلفة بوحي إرادته التي انطلقت تجوب الآفاق لملء الفراغ أثناء بحث الفنان عن نفسه وعن فنه، أم التفسير الذي يُخضِع هذه الظاهرة لتأثير المجتمع وأحداثه وتفاعل الفنان معه؟
والجواب عن هذا السؤال لا يكمل إلا إذا جمعنا بين التفسيرَيْن، بل أضفنا إليهما تفسيراتٍ أخرى يمكن أن نعثر عليها في تاريخ حياة توفيق الحكيم الشخصية كإنسان وكفنان، وتاريخ تكوُّن ثقافته الفنية وتطور تلك الثقافة.
فمما لا شك فيه مثلًا أن المرأة قد لعبت في حياة توفيق الحكيم الشخصية والفنية دورًا كبيرًا منذ أن عرف المرأة لأول مرة في شخصية أمه القوية المسيطرة، ثم في شخصية الفتاة القاهرية سنية التي حرَّكت عواطفه وعواطف أبناء عمه الذين كان يسكن معهم محسن في قصة «عودة الروح»، ثم في شخصية بائعة التذاكر في شباك مسرح الأوديون بباريس، على نحوِ ما نطالع في الحوار الغزلي البارع الذي سجَّله بالفرنسية أثناء وجوده بباريس ثم نقله إلى العربية الأستاذ أحمد الصاوي محمد، ونُشِر بعد ذلك في «المسرح المنوع» كمسرحية، أو على الأصح كحوار غزلي من فصل واحد بعنوان «أمام شباك التذاكر».
صحت في يوم من أيام الربيع، هبَّ فيه على وجهي نسيمٌ لطيف، ووقعتْ فيه عيني على أغصان تتمايل وأزهار مفتحة تتضاحك:
أيها الشيطان، يا شيطان الفن، يا سجَّاني وجلَّادي، أطلِقْني من أغلالك قليلًا، إني أريد الحب، إني أريد المرأة! فابتسم شيطاني ولم يزد على أن قال ساخرًا: المرأة مخلوق تافه.
– كلا!
– بلى! إنها ليست جديرة بك أيها الفنان الخلَّاق.
إنها مخلوق تافه، صُنِعت من ضلع تافه من أضلاع آدم.
وخرجت من الجنة وأخرجت آدم بسبب تافه، فهي في الحقيقة ما وُجِدت إلا لتحشو ثغرات الحياة وتسد فراغ الأيام.
– ولكن هذه هي التي تُدخِلنا النعيم.
– وهي التي تُخرِجك منه، وقد أخرجت آدم من قبلُ بالفعل، فاحذر أن تقبل جنةً ونارًا من صُنع المرأة! واحرص كلَّ الحرص على أن تكون سيد نفسك، وأن تصنع نفسك جحيمًا ونعيمًا لا تعرفهما المرأة. إن جنتك لا ينبغي أن يكون فيها حية ولا تفاح، فهي جنة هادئة صافية، جنة الفكر والتأمل والخلق والإبداع، إذا دخلتها امرأة حلَّت فيها الفوضى، وانفرطت عقود دُرها المنظوم، وتحطَّمت تماثيلها المرمرية. أما جحيمك فهو مملوء بعذاب الشك والقلق الفكري وعذاب القصور عن إدراك الجمال الفني، آلام لا تفهمها المرأة كذلك، ولا يمكن أن تعترف بها، فأنت ترى أن في نفسك منطقة مقدَّسة، لا أسمح ولا ينبغي أنت أن تسمح لامرأة بالدنو منك.
– ولكني أتوق أن أعيش لحظةً مع امرأة.
– تستطيع دائمًا مع شبح امرأة، ولكن أي امرأة؟! إن تلك التي سمحت لك بإدخالها جنتك ينبغي أن تكون امرأة لا ككل النساء، إنها النور بغير مصباح، وهي قطرات النشوة بغير خمر، وهي عروس لها جسم المرأة وكل شيء جميل في المرأة، متدثِّرة في رداء من خيالك الذهبي، وكل ما هو جميل في نفسك قد أسبغته أنت عليها حُللًا رائعة … هي ملكة جنتك التي توحي إليك بخير ما تُخرِج وما تبدع!
فالمرأة التي لها شأن في حياتك هي كما ترى ينبغي أن تكون من صُنع يدك ومن مخلوقات رأسك.
– إن الحقيقة أحيانًا أبرع من الخيال، وإن الحياة لَقديرة أحيانًا أن تقذف إلى سطحها بلؤلؤة في شكل امرأة تسطع من بين ملايين أصدافها، فلماذا أيها الشيطان لا تسمح لي مرةً بما سمحت به للآخرين؟!
– لا أستطيع أن أسمح لك، ولست أنت وحدك، فلقد وجدت هذه الأسطر الدامغة في ورقة منفصلة بين مخلَّفات بيتهوفن: «الحب، وليس غير الحب هو وحده الذي يستطيع أن يجعل حياتي سعيدة. آه يا إلهي! دعني أجدها أخيرًا تلك التي في مقدورها أن تدعم فضائلي، تلك التي قد سُمِح لي أن تكون زوجتي.»
ومات بيتهوفن ولم يسمع له.
– لماذا؟
– لأنك أيها الفنان عبقرية خالقة، وُجِدت لتخلق وتعطي لا لتسأل وتأخذ.
– مثل الطبيعة؟
– نعم، أنت والطبيعة سيان، كلاكما يعيش في الحرمان، وكلاكما سر وجوده أن يعطي ولا يأخذ.
– آه! ولكن الطبيعة قوية جبارة، أما أنا فآدمي مسكين، إنها لا تتألم، أما أنا فأتألم إذ أرى الحياة تزول من تحت قدمي ولم يُسمَح لي بحظٍّ قليل من الهناء الذي يسخى به على بقية الآدميين.
– الآدميين؟! ومَن قال إنك منهم أيها الفنان؟! عندما كُتِب عليك أن تضع على منكبيك رداء العبقرية والخلق، خُلِع عنك في الحال بعض خصائص الآدميين.
وواضح من هذا الحوار العنيف بين الفنان وشيطانه إلى أي مدًى كانت مشكلة المرأة وعلاقة الحكيم بها كفنان وكإنسان تشغل باله، بحيث كان من الطبيعي أن يصبح موضوع المرأة محورًا هامًّا في اهتمامات توفيق الحكيم؛ وبالتالي في الموضوعات التي اتخذها أساسًا لعدد كبير من مسرحياته خلال حياته كلها تقريبًا.
حتى بعد أن خرج من هذه الأزمة الطاحنة بالزواج المتأخر في سنة ١٩٤٦، وأصبح له ولد وبنت، ولم يَعُد يزهو بأنه عدو المرأة ولا يُمعِن في محارَبتها في مسرحياته والتهوين من دورها في الحياة، أو السخرية من نهضتها واقتحامها في شجاعةٍ وإخلاصٍ الكثيرَ من ميادين الحياة العامة. وقد اتضح هذا التطور في موقف الحكيم خلال مسرحياته العديدة التي تمتد من «المرأة الجديدة» في سنة ١٩٢٣، إلى «جنسنا اللطيف» و«حديث صحفي» و«الخروج من الجنة» و«النائبة المحترمة»، ثم «إيزيس» في المرحلة الأخيرة من إنتاجه.
وواضح أن مثل هذا الموضوع الذي يشغل جزءًا هامًّا من إنتاج توفيق الحكيم المسرحي لا يرتبط أو لا يكاد يرتبط بمشكلة عامة، بقدر ما يرتبط بمشكلة خاصة في حياة الحكيم الشخصية.
وكذلك الأمر في انتقال الحكيم من المسرحيات ذات الطابع المحلي إلى المسرحيات ذات الطابع الإنساني العام، التي يسمِّيها ﺑ «المسرحيات الذهنية»؛ لأن الصراع يجري فيها داخل الذهن البشري بين ما يسمِّيه ﺑ «القِيَم المطلَقة»؛ فمن المؤكد أن هذا الاتجاه لا يرجع إلى استقرار ظروف حياتنا العامة في بعض الفترات فحسب، بل يرجع على الأرجح إلى تأثر الحكيم ببعض اتجاهات الأدب العالمي، وبخاصة في فترة إقامته بباريس وما تلاها، على نحو ما هو واضح في عدد من المقدمات التي كتبها لمسرحياته الذهنية، مثل مقدمة «أوديب ملكًا» ومقدمة «بجماليون».
لعل أول مَن كشف لي عن جمالها تلك اللوحة الزيتية «بجماليون وجالاتيا» بريشة جان راوكس المعروضة في متحف اللوفر، ما إن وقع بصري عليها منذ نحو سبعة عشر عامًا حتى تركت نفسي فكتبت وقتئذٍ قطعة «الحلم والحقيقة» المنشورة في كتابي «عهد الشيطان»، وكنت آمل أن أعود يومًا إليها فأضع كلَّ ما خامَرني منها في عمل أكبر وأرحب، ومرت الأيام واتجهت إلى قصص القرآن وألف ليلة وليلة، وكدت أنسى قصة اليونان حتى ذكَّرني بها برنارد شو يومَ عُرِضت مسرحية بجماليون في شريط من أشرطة السينما منذ عامين، عندئذٍ تيقَّظتْ في نفسي الرغبة القديمة، فعزمت على كتابة هذه الرواية وقد فعلت.
ومن المؤكد أيضًا أنه لولا سفر توفيق الحكيم إلى فرنسا وبُعده لفترة من الوقت عن التيارات المحلية التي كانت سائدة في بيئتنا المسرحية، ثم اتصاله بالآداب العالمية، ومعرفته بما سمَّاه بالمسرح الذهني عند روَّاده الكبار من أمثال إبسن النرويجي، ثم برنارد شو الأيرلندي، وغيرهما؛ لَمَا اتجه نحو هذا النوع من المسرحيات مهما زعم أن استقرار الحياة في بلادنا هو الذي دفعه نحو هذا الاتجاه، فحياتنا العامة لم تعرف الاستقرار منذ مطلع هذا القرن، بل منذ دخول الإنجليز المحتلين بلادنا في سنة ١٨٨٢ حتى اليوم، وكانت حياتنا سلسلة ثورات متصلة على اختلاف في النِّسَب فحسب.
هذا الكتاب يعرض من صور الأشخاص والأوضاع والأخلاق ما صدر عن وحي المجتمع المصري في أعوامه التي تمخَّضت عنها الحرب العالمية الأخيرة.
ويضم هذا الكتاب عشرين قصة وقصة تمثيلية عصرية، منها ما يقع في فصل، ومنها ما يقع في منظرَيْن، ومنها ما يقع في أربعة فصول. ويبدو من تاريخ الآداب العالمية أن التمثيلية ذات الفصل الواحد كان لها فضل في تصوير المجتمع في أوضاعه العديدة المختلفة، فقد استخدمها لهذه الغاية موليير وديموسيه وماريفو وتشيخوف وتورجنيف وجوته وشيللر وفرتر ودودلي ووايلد وشو … إلخ، فالعمل على إقرارها أيضًا في الأدب العربي لما يمكِّن لهذا الأدب العريق في أساليب أدائه وينوِّع له في وسائل تعبيره.