مشكلة اللغة
كانت ولم تزل مسألة اللغة التي يجب استخدامها في المسرحية المحلية موضع جدل وخلاف، وقد كثر الكلام حول العامية والفصحى، وقد سبق لي أن خضت التجربة مرتين في محيط واحد، محيط الريف المصري؛ كتبت مسرحية «الزمار» بالعامية، وكتبت مسرحية «أغنية الموت» بالفصحى، فما هي النتيجة في نظري؟ أشك في أن المشكلة قد حُلَّت تمامًا، فاستخدام الفصحى يجعل المسرحية مقبولة في القراءة ولكنها عند التمثيل تستلزم الترجمة إلى اللغة التي يمكن أن ينطق بها الأشخاص، فالفصحى إذن ليست هنا لغة نهائية في كل الأحوال، كما أن استخدام العامية يقوم عليه اعتراض وجيه، وهو أن هذه اللغة ليست مفهومة في كل زمن ولا في كل قُطر بل ولا في كل إقليم، فالعامية إذن ليست هي الأخرى لغة نهائية في كل مكان أو زمان.
كان لا بد لي من تجربة ثالثة لإيجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى، وهي — في نفس الوقت — مما يمكن أن ينطق به الأشخاص ولا ينافي طبيعتهم ولا جو حياتهم … لغة سليمة يفهمها كل جيل وكل قطر وكل إقليم يمكن أن تجري على الألسنة في محيطه؛ تلك هي لغة هذه المسرحية، قد يبدو لأول وهلة لقارئها أنها مكتوبة بالعامية ولكنه إذا أعاد قراءتها طبقًا لقواعد الفصحى فإنه يجدها منطبقة على قدر الإمكان، بل إن القارئ يستطيع أن يقرأها قراءتين: قراءة بحسب نطق الريفي فيقلب القاف إلى جيم أو إلى همزة تبعًا للهجة إقليمه، فيجد الكلام طبيعيًّا مما يمكن أن يصدر عن ريفي، ثم قراءة أخرى بحسب النطق العربي الصحيح فيجد العبارات مستقيمة مع الأوضاع اللغوية السليمة … إذا نجحت في هذه التجربة فقد يؤدي ذلك إلى نتيجتين؛ أولاهما: السير نحو لغة مسرحية موحدة في أدبنا تقرب بنا من اللغة المسرحية الموحدة في الآداب الأوروبية، وثانيتهما، وهي الأهم: التقريب بين طبقات الشعب الواحد وبين شعوب اللغة العربية بتوحيد أداة التفاهم على قدر الإمكان دون المساس بضرورات الفن.
وقبل مناقشة القضايا الخطيرة التي يثيرها توفيق الحكيم في هذا النص، أحب أن أضع تحت نظر القارئ فقرة من الفصل الأول من هذه المسرحية «الصفقة»؛ ليتبين القارئ ما يقصده توفيق الحكيم باللغة الثالثة التي كتبها بها:
هذا، ولقد سبق لي أن أيدت هذه المحاولة في مقال منشور لي في كتابي «قضايا جديدة في أدبنا المعاصر»، ولكنني عندما أمعنت النظر في طريقة أداء الممثلين لنص توفيق الحكيم وفي النص نفسه تبيَّن لي أن الممثلين قد أدوها باللغة العامية، وأن النص وإن يكن قد كُتِب باللغة الدارجة بين الطبقات المتعلمة إلا أنه مع ذلك أقرب إلى العامية منه إلى الفصحى في كثير من ألفاظه مثل «دبح الدبيحة» وغيرها، وفي تراكيبها أيضًا، فضلًا عن أنه إذا كان الإملاء يلتزم إملاء الفصحى فهذه ظاهرة عامة عند كتابة العامية التي لم تستقر حتى الآن على طريقة في إملائها الكتابي، فكلمة «قال» مثلًا تُكتب بالقاف ومع ذلك تُنطق عند إحساس القارئ بأن النص عامي همزة أو جيمًا، وهذا ما فعله الممثلون ويستطيع القارئ أن يفعله.
وإذا كان من الحق أن كُتابنا الكبار لا يزالون مترددين حتى اليوم بين اللغتين، حتى رأينا كاتبًا كالأستاذ «محمود تيمور» يعيد كتابة «أبو علي عامل أرتست» الذي كتبه بالعامية في صدر حياته فيكتبه ثانيةً بالفصحى بعنوان «أبو علي الفنان»، كما رأيناه يكتب بعض كُتبه الأخرى مرتين؛ مرة بالفصحى ومرة بالعامية، وينشر النصين معًا، ورأينا توفيق الحكيم نفسه يترجم مسرحيته «لو عرف الشباب» إلى العامية عندما قررت الفرقة القومية تمثيلها، وأصبحت في نصها العامي الجديد مسرحية «عودة الشباب»، كما رأينا الأستاذ «يوسف وهبي» يقوم بترجمة مسرحية «الأيدي الناعمة» من الفصحى إلى العامية قبل عرضها على المسرح؛ فإننا نعتقد أن الحل النهائي لهذه المشكلة سيأتي نتيجة للتطور الطبيعي الذي تسير فيه حركة التعليم العام والثقافة في بلادنا، حيث نلاحظ أن اللغة العامية آخذة في الارتفاع شيئًا فشيئًا إلى مستوى الفصحى واتساع قاموسها باتساع الآفاق الثقافية لعامة الشعب الذي يستخدم هذه اللغة، وكان استخدامه لها مقصورًا في عصور الجهل والأمية على التعبير عن حاجات الحياة المادية المحدودة والحياة العقلية والعاطفية البالغة الفقر والضيق. ومن المؤكد أن القضاء على الأمية ونشر الثقافة العامة بين طبقات الشعب سيحل المشكلة برفع مستوى اللغة العامية وإثرائها، وبخاصة بعد أن تطورت اللغة الفصحى نحو السلاسة واليسر وتخلصت من الألفاظ القديمة المهجورة ومن التعقيدات اللفظية والمحسنات البديعية السقيمة، ومن الممكن أن يستمر هذا التطور خطوات أخرى تزيد الفصحى يسرًا وسلاسة دون أن تُفقدها شيئًا من غناها وممكناتها الجمالية بين يدي الكُتاب ذوي الموهبة الحقة.