التخطيط الذي وصلت إليه وسط أحراش توفيق الحكيم
استبقيت هذا العام لإجازتي السنوية — وهي لا تتجاوز شهر أغسطس — تحرير الكتاب المطلوب مني لمعهد الدراسات العربية العليا عن مسرح توفيق الحكيم، واعتبرت مجرد فراري من حر القاهرة واستنشاقي لنسيم البحر واستماعي لهدير أمواجه ورؤيتي لأفراد القبيلة وهم يمرحون ويلعبون ويسبحون؛ إجازتي المستحقة.
وبالرغم من معرفتي القديمة بتوفيق الحكيم وأدبه، فإنني أحسست هذه المرة بحاجة ماسة إلى إعادة تخطيط أدب الحكيم إذا أردت أن أحسن توجيه الشبان من تلاميذي في دراسة إنتاج هذا الأديب العزيز. وذلك أنه إذا كان الحكيم قد تحدَّث هو نفسه عما سمَّاه «مسرح المجتمع» في إنتاجه، وجمع المسرحيات التي كتبها من هذا النوع في الفترة التي تقع بين أواخر الحرب العالمية الأخيرة وبين قيام ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ في مجلد واحد كبير، كما نشر ما يسمِّيه بمسرحياته الذهنية كل منها في كتاب مستقل؛ فإنه من جهة أخرى قد جمع عددًا كبيرًا من مسرحياته التي كتبها في صدر حياته في مجلد سمَّاه «المسرح المنوع»، وفيه المسرحيات الذهنية مثل «لو عرف الشباب» التي تقوم على فرض علمي هو إمكان عودة الشيوخ إلى الشباب بعقار طبي، ثم دراسة النتائج الاجتماعية والإنسانية التي يمكن أن تترتب على هذا الفرض والفصل فيها برأي، كما أن فيه المسرحيات الاجتماعية والسياسية والنفسية وغيرها، كل ذلك فضلًا عن أن توفيق الحكيم أخذ ينشر بعد الثورة في كُتب خاصة مسرحيات اجتماعية أيضًا مثل «الأيدي الناعمة» و«الصفقة»، وإن اختلفت في اتجاهها الفكري عن مسرحياته الاجتماعية السابقة.
وبعد إعادة قراءة هذا الإنتاج الضخم والنظر فيما كتبه الحكيم من خواطر ومقالات أدبية ثقافية ونقدية، ومحاولة حصر اتجاهاته الفكرية والفنية؛ خُيل إليَّ أنه من الممكن فهم أدب توفيق الحكيم والتخطيط له إذا كشفنا عن بضع حقائق دفينة في نفسه وفي تكوينه الثقافي والفني.
المزاج والإرادة
فالذي لا شك فيه أن توفيق الحكيم رومانسي «مُشَعْشِع» بمزاجه الفطري، وأن هذا المزاج قد غذته ظروف حياته الأولى عندما كان يدفعه الكبت الشديد الذي لاقاه في بيئة الأسرة — وبخاصة من جانب والدته التركية المتزمتة النافرة من الاختلاط بالبيئة المصرية — إلى الهروب من واقع الحياة والائتناس بالأوساط الفنية المتحررة من وطء التقاليد، على نحو ما نحس من حديث الحكيم عن العوالم وزمار الريف ثم شاعرنا مونمارتر بباريس في كتابه «أهل الفن»، بل وذهب الحكيم إلى أبعد من كل ذلك فعقد مع شيطان الفن عهدًا فصَّل بنوده في فصول كتابه «عهد الشيطان»، ووهب بمقتضاها هذا الشيطان حياته على نحو ما فعل من قبله «فاوست» مع «ميفستوفيليس» وإن اختلفت بنود العهدين اختلافًا كبيرًا، ففاوست وهب حياته للشيطان مقابل تمكينه من التمتع بكافة لذَّات الحياة وإدراك أسرارها، وبينما تعاقد الحكيم مع الشيطان على أن يهب حياته للفن من أجل الفن ومجد الفن وخلود الفن، موليًا ظهره للحياة الأرضية ومصدر الإلهام. وما دام الحكيم قد عقد مثل هذا العقد فقد أخذ يجالد نفسه لكي يفي بشروطه التي تعارض مزاجه الفطري معارضة واضحة، ومن هنا نراه يحاول إقناع نفسه بعداوته للمرأة حتى اشتُهر بذلك، وصدر عن هذه العداوة المدَّعاة في عدة من مسرحياته، مثل «المرأة الجديدة» و«حديث صحفي» و«النائبة المحترمة»، وساقه في هذا الاتجاه ضغط البيئات المحافظة التي كانت لا تزال لها السيطرة في مجتمعنا، وإن لم يمنعه ذلك من استمرار الحلم بالمرأة ورسم الصورة المثالية لها في نفسه على نحو ما نطالع في مسرحية «الخروج من الجنة»، أو الهيام بها والذوبان في مفاتنها على نحو رومانسي صارخ في قصة «راقصة المعبد» مثلًا.
ثم انتهت آخر الأمر إلى ما سمَّاه الحكيم ﺑ «التعادلية» التي تريد أن تقيم توازنًا بين كافة ملَكات النفس وقيم الحياة، وهذه التعادلية لا وجود لها إلا في إرادة الحكيم، وأما أدبه الذي يُعتبر مرآة لنفسه وللتيارات المتصارعة فيها فلا تكاد تلمح فيه تلك التعادلية.
وأما عن التخطيط الممكن لمسرح توفيق الحكيم وسط البلبلة التي أحدثها بطريقة نشره لإنتاجه المسرحي، فيُخيل إلينا أننا نستطيع هذا التخطيط لو قسَّمنا مسرحه إلى ثلاثة أقسام: مسرح الحياة، والمسرح التجريدي، والمسرح الهادف.
أما مسرح الحياة فيشمل جميع المسرحيات التي كتبها توفيق الحكيم مستمدًّا موضوعاتها من حياتنا المعاصرة، بهدف نقد بعض جوانب تلك الحياة النفسية أو الاجتماعية من وِجهة نظره، التي يصدر فيها في الغالب الأعم عن الرأي السائد بين جمهرة المجتمع الأميل إلى المحافظة والخائف من التجديد، رهبة من المجهول أو خلودًا إلى الراحة والاستقرار كمجتمع زراعي تلك سماته العامة، على نحو ما أوضحنا عن موقفه من النهضة النسائية الحديثة.
والمسرح التجريدي هو ما سمَّاه توفيق الحكيم نفسه بالمسرح الذهني، مثل مسرحيات «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«لو عرف الشباب» و«سليمان الحكيم» و«بجماليون» و«رحلة إلى الغد»، ونحن نفضِّل تسميته ﺑ «المسرح التجريدي».
فتوفيق الحكيم يقيم هذه المسرحيات على فروض وخلق للقضايا مع قيم مضادة، وإذا كان الحكيم قد برع في وضع هذه الفروض وخلق القضايا الفكرية، كما برع في إدارة الحوار بين تلك الفروض؛ فإنه لم يُعنَ نفس العناية بخلق الشخصيات واتخاذها مستقرًّا للقيم التي تعبِّر عنها، بحيث ينجح في إيهامنا بأن هذه القيم موضوعية نابعة عن تلك الشخصيات لا مملاة عليها من المؤلف.
ومن هنا جاءت شخصياته أقرب إلى الرموز التي تحمل «المطلق من المعاني» منها إلى الشخصيات التي تستطيع إقناعنا بأنها حية نابضة، على نحو ما نحس عند من يُطلق على مسرحياتهم اسم «المسرحيات الذهنية» مثل إبسن وبرنارد شو، وهذا هو ما يدعونا إلى تفضيل تسمية هذه المسرحيات عند الحكيم باسم المسرحيات التجريدية بدلًا من المسرحيات الذهنية.
وبعد الثورة الأخيرة التي بشَّرت بسياسة اجتماعية إيجابية جديدة، كان لا بد أن ينفعل توفيق الحكيم بهذه السياسة، فهو شديد التأثر بالتيار الاجتماعي الغالب دائمًا، بحيث يمكن اعتبار أدبه صدى للحياة، فرأيناه ينتقل بمسرح الحياة عنده خطوة كبيرة إلى الأمام تجيز لنا أن نقول إنه قد انتقل إلى ما يسمَّى اليوم بالمسرح الهادف، وهو المسرح الذي يسعى إلى قيادة المجتمع نحو القيم الجديدة المتطورة وتعميقها في نفسه، وكل هذا واضح في المسرحيات الأخيرة التي كتبها الحكيم بعد الثورة، مثل مسرحية «الأيدي الناعمة» التي تمجد العمل وترى فيه المصدر الوحيد لكسب العيش، ومسرحية «الصفقة» التي تحاول أن تتفق وثقة الشعب في نفسه وقدرته على هزيمة أعدائه، فتجد في إحداها التنديد بالإقطاع، والتغلب على الأوهام والخوف والفزع، التي كان عهد الإقطاع الطويل قد غرسها في نفوس عامة الشعب. وفي مسرحية «أشواك السلام» يكشف الحكيم عن العقبات التي يقيمها رجال المخابرات في سبيل عرقلة السلام بين الدول بل وبين أفراد المجتمع الواحد، ويرى أن كشف هذه الأضاليل يُعتبر أساسًا لإقامة السلام والمحبة والإخاء بين البشر أفرادًا ودولًا.
هذه خلاصة موجزة للتخطيط الذي استطعت أن أصل إليه وسط أحراش توفيق الحكيم بعد طول الروية والاستجمام.