المجتمع المصري في مسرح توفيق الحكيم
عُرف الكاتب الأستاذ توفيق الحكيم بأنه رائد ما نسمِّيه بالمسرح الرمزي أو المسرح الذهني؛ وذلك لأن أول مسرحية ناضجة عُرف بها كانت مسرحية «أهل الكهف»، وهي مسرحية ترمز إلى أن الحياة ليست شيئًا مجردًا قائمًا بذاته، بل هي مجموعة من العلاقات الاجتماعية والإنسانية، حتى إن أهل الكهف عندما بُعثوا إلى الحياة وعادوا إلى مدينتهم لم تَعُد الحياة بالنسبة إليهم شيئًا ذا قيمة يدعو إلى الاحتفاظ بها؛ وذلك لأن الدنيا كانت قد تغيرت وزال ما كان يربطهم بالحياة من مال أو ولد أو حبيبة، فهم غرباء عن تلك الحياة لا يصلهم بها شيء، ولذلك تراهم يؤْثرون العودة إلى كهفهم واستئناف ثبات الموت. ثم تابع الحكيم هذا الاتجاه الذي أصاب فيه النجاح الأدبي فأخرج مسرحية «شهرزاد» التي ترمز إلى تعطُّش النفس البشرية إلى معرفة المجهول، وإمكان طغيان هذا الظمأ على غيره من غرائز الحياة ومواضع الاهتمام فيها، ثم مسرحية «بجماليون» التي ترمز إلى الصراع بين الفن والحياة في نفس الفنان وتوزعه بينهما، وتلاها مسرحية «الملك أوديب» التي يقول «الحكيم» إنها تعالج مشكلة ما يسمِّيه بالصراع بين الواقع والحقيقة. وأخيرًا مسرحية «إيزيس» التي وإن يكن الحكيم قد حاول أن ينتقل بها من مجال الأسطورة والمسرح الذهني إلى مجال الواقع الإنساني والمسرح الدرامي، إلا أنها مع ذلك لم تتخلص من الطابع الذهني، ولا يزال طابعها المميز هو معالجة مشكلة الصراع بين الخير والشر.
وفي الوقت الذي كان فيه كثير من النقاد يأخذون على الحكيم هذا الاتجاه الذهني في مسرحياته، ويعيبون عليها عدم نجاحها على خشبة المسرح لطغيان الحوار الذهني فيها على عناصر الدراما المثيرة، ثم التجريد في موضوعاتها وبُعدها عن واقع حياتنا ومجتمعنا ومشاكله الواقعية المحددة في ذلك الوقت؛ كان الأستاذ الحكيم في فترة خروجه من العمل الحكومي قد تعاقد مع إحدى المجلات الأسبوعية على التحرير المنتظم فيها، واختار أديبنا لهذا التحرير سلسلة من المسرحيات القصيرة أو المتوسطة رأى أن يتناول فيها عددًا من مشاكل المجتمع المصري الحية، مثل مشكلة المرأة، وفساد الحياة السياسية، والدولاب الحكومي، وطغيان التيار المادي، وحياة الريف المصري، وقد رمى من ذلك هدفين؛ أولهما: أن يقدِّم للصحيفة مسرحيات خفيفة حية تثير اهتمام جمهرة قرائها، وثانيهما: أن يرد عمليًّا على النقاد الذين أخذوا يتهمونه بالإيغال في المسرح الذهني والهروب من واقع حياته وحياة مجتمعه إلى عالم الأساطير والموضوعات المجردة.
وأسفرت هذه الفترة من حياة الحكيم عن ذلك المحصول الكبير من المسرحيات ذات الطابع الاجتماعي، وقد بلغ عددها إحدى وعشرين مسرحية جمعها فيما بعد وطبعها تحت عنوان «مسرح المجتمع».
ولما كانت لائحة المعهد العالي للفنون المسرحية تقضي على طالب الدبلوم في قسم النقد والبحوث الفنية بأن يتقدم ببحث عن موضوع من مواضيع الأدب التمثيلي أو فنون المسرح، وكان أحد الطلبة في الأعوام السابقة قد تقدَّم ببحث عن «المسرح الذهني عند توفيق الحكيم»؛ فقد رأينا في هذا العام أن يتقدم طالب آخر ببحث عن «المجتمع المصري في مسرح توفيق الحكيم»، وبالفعل تقدم الطالب حسين أبو المكارم لهذا البحث، وناقشته منذ أيام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة الجامعة.
وقد أسفر هذا البحث عن أن اهتمام توفيق الحكيم بمشاكل المجتمع أقدم من اهتمامه بالمسرح الذهني؛ إذ إنه قد قدَّم لفرقة عكاشة وهو لا يزال مغمورًا في سنة ١٩٢٣ مسرحية بعنوان «المرأة الجديدة»، عالج فيها مشكلة السفور التي كانت تشغل عندئذٍ أذهان الناس، وأوضح فيها ما قد ينجم عنها من فساد الأسرة المصرية وانحلالها، ثم أعاد طبعها في هذا العام. ثم تناول البحث سبع عشرة مسرحية اجتماعية.
واشتدت المناقشة حول طابَع هذه المسرحيات وقدرتها على البقاء والاحتفاظ باهتمام الناس.
فأما عن طابعها فيتراوح بين الأدب والصحافة؛ وذلك لأنها تتناول موضوعات تعالجها المقالات الصحفية، ولكي تخرج من الصحافة إلى الأدب لا بد أن تتوافر لها عناصر أدبية وفنية خاصة، بل وعناصر إنسانية تعطيها قيمة باقية، وهذه العناصر هي البناء المسرحي، وجودة الحوار، والتعمق في الكشف عن العوامل الكامنة خلف تلك المشاكل أو المستترة في حناياها، وذلك حتى يتوفر لها ما يسمِّيه الحكيم نفسه بالتعادل بين العرض والتفسير.
ثم إن هذه المسرحيات يعالج بعضها مشاكل عابرة يُخشى أن تفقد تلك المسرحيات قيمتها واهتمام الناس بها بزوال تلك المشاكل وفقدان الاهتمام بها، وذلك مثل مشكلة السفور ذاتها، حيث نلاحظ أن هذه المشكلة قد حلها الزمن ولم يَعُد لها وجود؛ لأن المرأة قد أسفرت بالفعل دون أن تنهار الأسرة المصرية، بحيث يمكن القول بأن مسرحية «المرأة الجديدة» قد أصبحت وثيقة تاريخية ولم تَعُد أدبًا حيًّا يثير الاهتمام، وهذا هو الشأن في كل ما يسمِّيه النقاد ﺑ «أدب الملابسات»، وإن كنا نلاحظ أن هناك من أدب الملابسات ما لا يزال حيًّا خالدًا محتفظًا بقيمته مثل كوميديات «أرستوفان» أو «موليير» مثلًا، حيث نرى هذين العملاقين يعالجان في الكثير من مسرحياتهما مشاكل اجتماعية ظهرت في عصرهما ثم اختفت بعد ذلك، كالحذلقة اللغوية عند نساء المجتمع في عصر لويس الرابع عشر، تلك الحذلقة التي سفَّهها «موليير» في مسرحية «المتحذلقات المضحكات» التي لا تزال تُمثل حتى الآن محتفظة بقيمتها.
ولقد خُيل إليَّ ونحن نناقش مسرح المجتمع عند الحكيم أنه لو حضر الرجل مناقشتنا لثار بنا ثورة كبيرة قائلًا: «لقد احترت معكم أيها الأساتذة والنقاد، فإذا كتبت مسرحيات ذهنية تعالج مشاكل إنسانية فلسفية عامة خالدة لُمْتموني وقلتم إن هذه المسرحيات لا تصلح للتمثيل، كما أنها لا تثير عامة الناس لطابعها المجرد وبُعدها عن معالجة مشاكل حياتنا الواقعية. وإذا كتبت المسرحيات الاجتماعية قلتم إنها أقرب إلى الصحافة منها إلى الأدب، وإنها كثيرًا ما تعالج مشاكل عابرة لن تلبث أن تزول ويزول بزوالها اهتمام الناس!»
أما نحن فنقول للحكيم: «نحن لا نريدك صحفيًّا يذوي إنتاجه مع غروب شمس يومه، بل نريدك أديبًا يضيف إلى التراث الإنساني شيئًا خالدًا ذا غناء دائم الحياة والنفع والإثارة.»
ثم اتفق لي بعد ذلك أن لاقيت الأستاذ الحكيم وحدثته ببعض ما جرى في هذه المناقشة، وأبديت له بعض ما أحسست به خلالها من أن مسرحه الذهني الذي يعيبه البعض قد يكون أصلب قيمة وأقدر على البقاء داخل التراث الأدبي من كثير من مسرحيات المجتمع التي يُخشى أن تفقد الاهتمام بها بزوال المشكلات التي تعالجها، وضربت له مثلًا بمشكلة السفور، ووافقني أديبنا على هذا الرأي.
ولكني مع ذلك ما زلت أرى أن من الممكن أن يعالج الأديب أو الفنان الموهوب مشاكل الحياة والمجتمع في قصص أو مسرحيات أو قصائد باقية القيمة، وذلك بفعل الغوص وراء حقائق الإنسان والمجتمع، ثم بفضل الصورة الأدبية أو الفنية التي يأخذها ذلك الإنتاج، ومَنْ هنا لا يطرب حتى اليوم لصرخات الحرية ومجادلة الطغيان التي كان يطلقها خطيب كديموستين لاستثارة الأثينيين ضد غزو المقدونيين لوطنه، أو صيحات مصطفى كامل أو سعد زغلول التي لا نظن أن قيمتهما ستزول بزوال الاحتلال، أو أن طربنا منهما سيضعف بعد تحررنا من الاستعمار.
وكم كان شيقًا أن نلاحظ التغيير لم يطرأ على بعض المشاكل كمشكلة السفور فحسب، بل وطرأ أيضًا على توفيق الحكيم وبخاصة في موضوع اشتُهر به وهو «عداوته للمرأة»! ففي مسرحيتي «المرأة الجديدة» و«النائبة المحترمة» نرى الحكيم سيئ الظن بالمرأة التي يرى في سفورها مدعاة للانحلال وانهيار الأسرة، وفي اشتغالها بالسياسة إضافة فساد جديد إلى الحياة السياسية في العهد الماضي. وذلك بينما نراه في آخر مسرحياته تاريخيًّا وهي مسرحية «إيزيس» يعرض هذه البطلة في ثوب نبيل رائع فعَّال، «فإيزيس» تتفانى في إنقاذ زوجها «أوزوريس» رمز الخير، ثم في إنقاذ ولدها «حوريس»، وتلعب في كل ذلك دورًا إيجابيًّا فعَّالًا، كأن الحكيم قد خشي ألا نفطن الفطنة الواجبة إلى هذه الإيجابية من خلال المسرحية، فحرص على أن يذيلها بتعقيب يوضح فيه كيف أن «إيزيس» المصرية قد بزَّت بكثير بنيلوب اليونانية التي يقول هوميروس إنها كانت امرأة نبيلة وفية لزوجها «أوليس»، ومع ذلك يقصر جهدها على المقاومة السلبية؛ إذ طلبت إلى الأمراء الذين تكالبوا على الزواج منها أثناء غيبة زوجها الذي ظنوا أنه قد مات وأخذوا يتطلعون إلى عرشه، طلبت إليهم أن يمهلوها حتى تفرغ من تطريز ثوب كانت تنقض في الليل ما تنجزه منه في النهار؛ وبذلك طال الزمن حتى عاد زوجها وأنقذها من أولئك الخطَّاب الطامعين، وذلك بينما نرى «إيزيس» إيجابية في دفاعها، فهي تجوب المياه والقفار بحثًا عن زوجها، وتناضل في سبيله نضال الأبطال.
وهكذا يبدو مدى التغيير الذي طرأ على نظرة الحكيم إلى المرأة فلم يَعُد عدوًّا لها بل أصبح من كبار المشيدين ببطولتها.
فما السر في كل هذا؟
هل هو اكتمال نصف دين الأستاذ الحكيم، وما كان بعد ذلك من العيش في «التبات والنبات» وإنجاب البنين والبنات؟