«الصفقة» بين الإنسانية والشعبية

حضرت مع المستشرق الروسي الأستاذ عبد الرحمن سلطانوف مسرحية «الصفقة» للأستاذ توفيق الحكيم في مسرح الأزبكية حيث مثلتها الفرقة المصرية الحديثة، وقد أُعجب بها الزميل الروسي إعجابًا كبيرًا، ورأى فيها تحولًا كبيرًا واستجابة واسعة من أديبنا الكبير توفيق الحكيم للتيار الشعبي الذي ساد في بلادنا والعالم العربي المعاصر.

والواقع أن توفيق الحكيم يُعتبر من أكثر كُتابنا الكبار مرونة فكر واتساع أفق ومجاورة لتيار الفكر في عصرنا حتى ولو ادعى التعادلية، ورفض — في عناد وإصرار — أن ينحاز بكليته إلى تيار معين؛ وذلك لأن باطنه أكثر مرونة من ظاهره، وحقيقته أسهل استواء من عقله وإرادته، وربما كان هذا هو السبب في تنويع اتجاهاته المسرحية والأدبية ذلك التنوع الواسع الذي يمتد من الذهنية والرمزية إلى سيكولوجية المجتمع ثم إلى الشعبية الواقعة الحية.

ومسرحية «الصفقة» ليست أول مسرحية يستجيب فيها توفيق الحكيم لحركتنا الشعبية الأخيرة، فقد سبق أن قدَّم للمسرح المصري مسرحية «الأيدي الناعمة» التي عالج فيها أولئك المترفين الذين اضطرتهم الثورة إلى أن ينفضوا عنهم غبار الكسل والاستعلاء ليعملوا كما يعمل جميع العاديين من الناس لكسب قوتهم الشريف.

ولكنه إذا كانت الأيدي الناعمة قد عالجت مشكلة نتجت عن الثورة بالنسبة لفئة من الناس، ورسمت حلًّا لهذه المشكلة، فإن مسرحية «الصفقة» قد عالجت مشكلة اجتماعية محزنة كانت سائدة قبل الثورة، وتفوقت مسرحية «الصفقة» لأنها لم تصور تلك الحالة تصويرًا آليًّا سطحيًّا كما تفعل الصحافة أحيانًا أو كما يفعل بعض المؤرخين، بل صورتها تصويرًا إنسانيًّا عميقًا هو الذي يستحق الإبراز في هذه المسرحية وقبل أي شيء آخر.

لقد عرفنا وعرفت الإنسانية كلها وسجَّل التاريخ مدى ما كان عليه الفلاح المصري من ظلم واستغلال نتيجة لحرمانه من الأرض، ولكننا لم نكن قد كشفنا بعد عن العوامل النفسية المتراكمة التي زادت هذه الحالة استفحالًا وتأصلًا.

نعم إن ظلم الإقطاعيين وتأصلهم وجشعهم وترفهم المنحل كان سببًا في خلق هذه الحالة، ولكنه لم يكن السبب الوحيد، بل أضيف إليه سبب آخر لا يقل قسوة وهو استخذاء الفلاحين أنفسهم وسيطرة الأوهام عليهم وهلعهم البالغ من قسوة الإقطاعيين وبطشهم، وهذا هو العنصر الإنساني الهام الذي جعله توفيق الحكيم من المحركات الإنسانية لمأساة «الصفقة» التي صاغها في صورة بكائية.

وتقوم مأساة «الصفقة» على قصة قطعة أرض أرادت إحدى الشركات أن تبيعها، فجمع أهل القرية التي تقع فيها تلك القطعة المال اللازم لشرائها وتوزيعها بينهم، وبينما هم يُعدون العدة لاستكمال الصفقة وإجراءاتها وإذا بهم يسمعون عن وصول إقطاعي الناحية «حامد بك أبو راجية» إلى محطة القرية، فيتسلط عليهم الوهم فورًا بأن هذا الإقطاعي قد حضر ليعاين الأرض قبل أن يذهب إلى الشركة ويستحوذ عليها، وذلك بالرغم من أن هذا الإقطاعي لم يكن له أي علم بهذه الصفقة ولا تفكير في شرائها، وإنما قد أتى لبعض شئونه الخاصة. ويتشاور الفلاحون في الطريقة التي يتخلصون بها من منافسة هذا الطاغية، ويعلن أحدهم استعداده لقتله، ولكنهم لا يأخذون بهذا الرأي خوفًا على حياتهم، وينتهي بهم الأمر إلى جمع مبلغ من المال — مالهم العصبي — ليقدِّموه للإقطاعي الطاغية فدية لصفقة الأرض، ولكن الإقطاعي يتظاهر أول الأمر بالتعفف وعزة النفس والاستعلاء، ولكنه لا يكاد يعلم بوجود الصفقة وبسبب تقديم المال إليه حتى يكشر لهم عن نابه ويأبى التسليم لهم بالصفقة حتى بعد أن زادوا له في الفدية، ويساومهم في أعز ما يملكون وهو عِرضهم، فيطلب الفتاة القروية الجميلة مبروكة التي لمحها بين أهل القرية، بحجة استخدامها خادمة لابنه الصغير، وهنا يجتمع أهل القرية ويتشاورون في هذه الفدية الجديدة الفادحة، وبخاصة أن مبروكة كانت مخطوبة لمحروس أحد شبان القرية، ولكن قوة الشعب وإيجابيته واستيقاظ وعيه لا تلبث أن تظهر في شخصية الفتاة مبروكة التي تقرر الذهاب مع الإقطاعي إلى قصره وهي واثقة من نفسها ومن قدرتها على أن ترد كيد الطاغية في نحره، وأن تشغله عن الصفقة مدة اليومين اللازمين لإنجاز إجراءاتها، وكان لها ما أرادت، فإنها لم تكد تستقر بقصر الإقطاعي حتى تظاهرت بأنها مصابة بمرض الكوليرا الذي يُعتبر القيء من أهم أعراضه، ونجحت الحيلة وحاصر بوليس الصحة القصر مدة يومين لا يخرج منه أحد ولا يدخل إليه أحد، حتى ركب الوهم عقل «حامد بك أبو راجية» الذي رأى أن يتخلص من الفتاة المريضة خوفًا على حياته وحياة أسرته، فعادت مبروكة إلى قريتها عَوْد الفاتحين الغزاة وكأنها جان دارك المصرية التي خلَّصت قريتها من ظلم الإقطاعي وردَّت عنها الكيد.

وتُختم المسرحية بإعلان نبأ انتهاء الصفقة لفلاحي القرية ثم زواج «مبروكة» من محروس.

•••

لقد سبق أن حدث مرارًا مثل هذا الصراع بين الفلاحين والإقطاعيين على تملُّك الأرض وسيلتهم الأولى والوحيدة للإنتاج، وباستطاعة أي مؤرخ يقلِّب أوراق الصحف المصرية الحديثة أن يجد أمثلة كهذا الصراع، ولكن الجديد في صفقة توفيق الحكيم هو استخدامه الناجح للعناصر النفسية التي عملت في تحريك هذه المأساة، ثم في إظهاره لإيجابية الشعب الناتجة عن الوعي الجديد، وقدرة هذا الشعب على أن يكون — ممثَّلًا في فتاة ريفية عادية — قادرًا على استخدام العنصر النفسي أيضًا وحيل الذكاء في هذه المعركة الطاحنة، معركة الأرض والصراع على تملُّكها كوسيلة للإنتاج، بل الوسيلة الوحيدة التي تضع حدًّا لاستغلال الإنسان للإنسان ذلك الاستغلال المزري الذي كان سائدًا في الريف المصري.

وبفضل استخدام الحكيم لهذه العناصر النفسية على أساس من الخيال الواقعي السليم، استطاع المؤلف أن يعطي مسرحيته قيمة إنسانية خالدة وقيمة درامية بالغة الطرافة.

أما القيمة الإنسانية فتأتي من أن الناس — وبخاصة في ظروف معينة — قد تتحكم فيهم الأوهام أكثر مما تتحكم الحقائق، على نحو ما رأينا فلاحي القرية يهلعون من وصول حامد بك أبو راجية إلى محطة قريتهم قبل أن يتبينوا حقيقة الدافع إلى قدومه، على نحو ما رأينا حامد بك يهلع ويتخلخل كيانه من خطر الكوليرا الموهوم.

وأما القيم الدرامية فتأتي من تلك المفاجآت المحكمة التي استطاع الحكيم — بخيال موفق — أن ينفث بفضلها الحركة والتوثب المتجدد والتشويق الحاد في مسرحيته عندما كشف لنا عن سوء الفهم الذي تسرب إلى الفلاحين، والانقلاب الذي طرأ على حامد بك عندما أدرك حقيقة تلك الجرأة التي أظهرتها مبروكة، والتي لم نعرف علام تستند إلا بعد أن تكشفت الأمور عن تلك الحقيقة البارعة التي لجأت إليها في تصنُّع مرض الكوليرا.

وهكذا جمعت هذه المسرحية بين الشعبية والإنسانية والقيم الدرامية في كل ما يكون مسرحية ناجحة ذات قيمة باقية.

هذا، ولقد أحس مخرجنا القدير فتوح نشاطي بالطابع الواضح في مسرحية «الصفقة»، فركز عليه اهتمامه وغلَّبه في أسلوب إخراجه، مستجيبًا للتيار الشعبي العام الآخذ في السيطرة على كافة فنوننا؛ ولذلك رأيناه يغلِّب اللهجة الشعبية على حوار المسرحية الذي كتبه المؤلف على نحو يمكن أن يُنطق بالعامية أو بالعربية، ولكن العامية التي أُخرجت بها المسرحية قد خلت مع ذلك من كل ابتذال، كما طعَّم المخرج المسرحية بعدة أغانٍ ورقصات شعبية قد كان من الممكن أن تصل إلى مستوى أرفع من ذلك وأجمل، ولكن المخرج له عذره لأنه لا يستطيع أن يخلق شيئًا من العدم، وفنوننا الشعبية لا تزال مجهولة غير مدروسة ولا مسجلة حتى يجد المخرج في رصيدها ما يمكن أن يختاره ويتحمل مسئولية هذا الاختيار.

وإذا كانت لنا بعض الملاحظات على الإخراج فهي تنصبُّ بنوع خاص على طريقة فهم المخرج لطبائع أهل الريف الذين ليسوا من السذاجة إلى الحد الذي أظهرهم فيه، بل هم قوم علَّمتهم مصاعب الحياة شيئًا غير قليل من الحيطة والدهاء، ولكن الأسلوب المسرحي قد ساق المخرج فيما يبدو إلى بعض المبالغة في إظهار سذاجتهم، فمن غير المعقول مثلًا أن يجتمعوا للتشاور في مصير مبروكة على قيد خطوات من حامد بك أبو راجية، الذي يظل في مكانه فترة طويلة إلى جوارهم متظاهرًا بالتلهِّي في مطالعة صحيفة بين يديه، كما أن الحركات التي يأتي بها المُرابي «الحاج عبد المعبود» في عد نقوده وتسليمها للفلاحين يبعد بها الإخراج المسرحي بُعدًا كبيرًا عن واقع الحياة في الريف.

وجاء التمثيل متمشيًا مع نظرة المخرج إلى المسرحية، وهي النظرة التي تحتاج إلى تقريب أكثر من واقع الحياة الريفية في الحركة والسكون والإشارة بل والثياب أحيانًا، وذلك بالرغم من أن المؤلف قد شفع مسرحيته ببيان أوضح فيه أنه قد حرص في مسرحيته على أن يدنيها أكثر ما يستطيع من واقع الحياة الريفية، وأن لا يلتمس أي نجاح ظاهري عن طريق المبالغة والاستثارة المسرحية، بل إنه ليصرح بأنه يسعى في هذه المسرحية إلى أن يستدرج جمهورنا ويجعله يعتاد تذوُّق النوع الطبيعي الذي لا يهدف إلى إضحاك أو إبكاء، ذلك النوع الذي يعرض عملية الحياة في حقيقتها والأشخاص في واقعيتهم حتى يرضي الجمهور بإخراج طبيعي وتمثيل واقعي بلا نكتة ولا مبالغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤