اللغة الثالثة التي اخترعها توفيق الحكيم
ثار في أحد مجالسنا الأدبية جدل شديد حول اللغة التي كتب بها الأستاذ توفيق الحكيم مسرحيته الشعبية الأخيرة «الصفقة».
كان لا بد لي من تجربة ثالثة لإيجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى، وهي في نفس الوقت مما يمكن أن ينطقه الأشخاص ولا ينافي طبائعهم ولا جو حياتهم! لغة سليمة يفهمها كل جيل وكل قطر وكل إقليم، ويمكن أن تجري على الألسنة في محيطه، تلك هي لغة هذه المسرحية؛ قد يبدو لأول وهلة لقارئها أنها مكتوبة بالعامية، ولكنه إذا أعاد قراءتها طبقًا لقواعد الفصحى فإنه يجدها منطبقة على قدر الإمكان، بل إن القارئ يستطيع أن يقرأها قراءتين: قراءة بحسب نطقه الريفي فيقلب القاف إلى جيم أو إلى همزة تبعًا للهجة إقليمه، فيجد الكلام طبيعيًّا، مما يمكن أن يصدر عن ريفي. ثم قراءة أخرى بحسب النطق العربي الصحيح، فيجد العبارات مستقيمة مع الأوضاع اللغوية السليمة … إذا نجحت في هذه التجربة فقد يؤدي ذلك إلى نتيجتين؛ أولاهما: السير نحو لغة مسرحية موحدة في أدبنا تقترب بنا من اللغة المسرحية الموحدة في الآداب الأوروبية. وثانيهما، وهو الأهم: التقريب بين طبقات الشعب الواحد وبين شعوب اللغة العربية، لتوحيد أداة التفاهم على قدر الإمكان دون المساس بضرورات الفن.
وقال أحد الحاضرين: إن هذه اللغة الثالثة التي اخترعها أو أراد اختراعها الأستاذ توفيق الحكيم لن تستطيع الحياة أكثر مما استطاعت الإسبرانتو، وهي تلك اللغة التي اخترعها بعض العلماء في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ووضعوا لها قاموسًا ضخمًا، وأرادوا أن تصبح لغة دولية يستعملها العالم كله كوسيلة للتقريب بين الشعوب، وعلى أمل أن يكون هذا التقريب عاملًا من عوامل السلام الأبدي وعدم العودة إلى الحروب مرة أخرى.
وإذا كان بعض الأفراد هنا وهناك قد حاولوا أن يتعلموا تلك اللغة، فإن هذه المحاولات ظلت محدودة، وانتهى الأمر بأن ماتت الإسبرانتو داخل معجمها الضخم.
وأضاف أديب ثانٍ أن اللغة لا تُخترع وإنما تنشأ نشأة طبيعية وفقًا لمطالب الحياة، وتتطور تبعًا لقوانين عضوية ولغوية ثابتة يعرفها علماء اللغة تمام المعرفة، وما نسمِّيه لغة عامية اليوم ليست وليدة فساد طرأ على اللغة الفصحى، بل هي تطور للغة الفصحى في أقطارها المختلفة وفقًا لقوانين صوتية ونحوية مطردة، وقد استقرأ المستشرقون هذه القوانين وسجلوها كقواعد عامة للهجات العامية التي تشكلت في كل إقليم عربي تبعًا لعوامل يمكن استجلاؤها في سهولة، ولعل هذه الخصائص المحلية أوضح ما تكون في حركات المد التي هي في الحقيقة أحرف صامتة، ثم في النبرات التي هي مواضع الارتكاز الصوتي، وقد وُضعت بالفعل كُتب لنحو كل من هذه اللهجات العامية في بلاد العرب المختلفة، فهناك نحو للهجة المصرية، ونحو للهجة العراقية، ونحو للهجة المغربية … وهكذا.
وإذا كان علماء اللغة قد تحققوا من أن المصطلحات العلمية ذاتها لا يمكن أن تروج وتنتشر وتدخل في معاجم اللغات الحية إذا اخترعتها المجامع اللغوية، ولم تنشأ نشأة طبيعية نتيجة للضرورات العلمية التي تدفع رجال كل علم إلى خلقها، ونادوا بأن تُقصر المجامع اللغوية مهمتها على تسجيل المصطلحات التي يخلقها أهل كل علم وفن، فكيف يمكن أن تُخترع لغة ثالثة يُكتب لها النجاح والانتشار؟!
وأضاف أديب ثالث أن نشأة اللغة نشأة طبيعية وفقًا لمطالب الحياة والأدب لم يجعل من اللغة وسيلة للتعبير الذهني كرموز الجبر فحسب، بل أكسب كل لغة ظلالًا وإيحاءات وشحنات عاطفية اكتسبتها من تكرار مرورها خلال النفس البشرية وتلوُّنها بألوان تلك النفس، حتى أصبحت لكل لغة طبيعية قدرة على الإيحاء والإثارة والتحريك لا تملكها أية لغة مصطنعة تُستعمل كرموز ذهنية أو وسائل لنقل المعنى فحسب من نفس إلى أخرى.
ولما كان الأدب لا يهدف إلى نقل المعاني فحسب بل يتطلع إلى ما خلف المعاني من ظلال وإيحاءات وشحنات عاطفية، فإنه لا مفر للأدب من أن يستعمل لغة طبيعية لديها كل هذه الإمكانيات التي اكتسبتها عبر الزمن وبفضل رحلاتها المستمرة المتجددة خلال النفس البشرية.
هذا هو مجمل الاعتراضات التي أثارها أو يمكن أن يثيرها زملاؤنا الأدباء والأساتذة ضد هذه المحاولة التي قام بها توفيق الحكيم في مسرحية «الصفقة».
ولكننا نلاحظ أن كل هذه الاعتراضات إنما تنهض فيما لو كانت لدينا لغة عربية موحدة أراد توفيق الحكيم أن يهجرها إلى لغة جديدة يخترعها اختراعًا، ونحن في الواقع لا نمتلك مثل هذه اللغة الحية المفهومة من الجميع، فلغتنا الفصحى قد نشأت وتجمدت في عصر وبيئة يخالفان عصرنا وبيئتنا، ولأسباب شتى لم تتطور تلك اللغة، ولم يتسع صدرها لكثير من مطالب الحياة العصرية ولبعض فنون الأدب التي أخذناها عن الغرب، كفن الأدب المسرحي الذي لا بد فيه من لغة سهلة قريبة المنال وثيقة الصلة بواقع حياتنا الشعبية، فإذا كانت لدينا عدة لهجات عامية في أقطار العرب المختلفة، فإن استعمال هذه اللهجات في أدب كالأدب المسرحي أو القصصي كفيل بأن يوسع الهوة بين شعوبنا العربية، في الوقت الذي ننادي فيه بتوحيد هذه الشعوب كضرورة حيوية، وندعو فيه إلى القومية التي تُعتبر اللغة الموحدة أهم مظاهرها.
هذا الوضع اللغوي الشاذ في مواجهة الضرورة هو الذي دعا الأستاذ توفيق الحكيم إلى محاولة الكتابة بهذه اللغة الثالثة، ونحن نقول ثالثة تجوزًا لأنها في الواقع ليست غريبة عن اللغة العربية الفصحى غرابة تستحق معها أن تُسمَّى «إسبرانتو عربي»، وإنما في حقيقتها لغة عربية تكاد تكون فصحى بمفرداتها ووسائل تعبيرها ورسم أصواتها، على أن يكون هذا الرسم مجرد رمز يمكن لأصحاب كل لهجة أن ينطقوا به وفقًا للتطور الصوتي الذي حدث في اللهجة، وإذا كان توفيق الحكيم قد عدل عن استخدام أداة النفي المطردة في لهجتنا المصرية — وهي الشين أو مش — ليستخدم أدوات النفي الفصحى، فإن هذا الاستخدام إذا كان قد أحدث بعض القلقلة فإنه من الواجب اغتفار هذه القلقلة في سبيل الأهداف الكبيرة الأخرى التي تسعى إليها هذه المحاولة.
والمحاولة بعد ذلك تُعتبر محاولة حية، لا بفضل المفردات أو وسائل التعبير فحسب، بل بفضل الاتجاه النفسي الذي نحسه فيها، فهو اتجاه الشعب في تفكيره ومعتقداته، وبذلك استطاع أن ينقذ ما يجب أن تملكه لغة فن شعبي كالمسرح من ظلال وإيحاءات وشحنات عاطفية أو أحاسيس عقلية. ولنقتبس من حوار هذه المسرحية الفريدة فقرة قصيرة نتبين فيها خصائص هذه اللغة، ولتكن هذه الفقرة جزءًا من الحوار الذي يدور بين بعض الفلاحين من جهة والبيك ووكيله من جهة أخرى، حول تنازل البيك عن مزاحمة الفلاحين في شراء الأرض التي ستبيعها الشركة البلجيكية:
وواضح من هذا الحوار أن مفرداته كلها عربية فصيحة، وأن الجمل قد رُكبت تركيبًا عربيًّا مستقيمًا في جملته، وإن تكن بعض الألفاظ قد استُخدمت بمعناها الشعبي مثل كلمة «نوبة» بمعنى مرة، وهو تطور أو انتقال لغوي سهل الإدراك. كما أن الكاتب قد استعاض بالتنغيم الصوتي عن مأزق استخدام أداة الإشارة الفصيحة «هذه» التي توضع قبل الاسم في الفصحى، وأداة الإشارة العامية «دي» التي توضع بعد الاسم في لهجتنا المصرية، فلم يقُل: «هذه النوبة» و«النوبة دي». كما أنه استغنى عن «الشين» التي تُستخدم في لهجتنا العامية كمقطع مكمل للنفي، ومع ذلك استقام له النفي بأداته الفصيحة في عبارة: «على الله ما يكون بعدها رجوع.» وإن كنا نلاحظ أن هذه «الشين» قد أخذت تسقط أحيانًا في بعض عباراتنا الشعبية المنفية، حتى ليمكن القول بأن عبارة: «على الله ما يكون بعدها رجوع» قد أصبحت الآن من التعبيرات العامية الدارجة، نتيجة لتطور عكسي ملحوظ نحو العودة إلى الفصحى نتيجة لانتشار التعليم. وفي كل هذا ما يدل على أن توفيق الحكيم لم يحاول خلق «إسبرانتو» عربي، بل سار في اتجاه التصور العكسي المذكور، محاولًا التقريب بين الفصحى والعامية على نحو تتحقق معه ميزة اللغتين، وهي محاولة تستحق التجربة بل التشجيع؛ لأن نجاحها قد يحل مشكلة عويصة في فن كبير كفن المسرح الذي لا يزال يجاهد في سبيل التغلب على العقبات التي تقف في سبيله، وفي مقدمتها عقبة اللغة والتأرجح بين قطبيها، وبخاصة إذا ذكرنا أن محاولة توفيق الحكيم لم تحرم لغته الثالثة من إمكانياتها الفنية المختلفة، فهي تجمع إلى القدرة على التعبير والإيحاء ذلك القرب الواجب من الشعب وعقليته، فضلًا عن ذلك التعبير الشعبي الذي يُكسبها نكهة خاصة أليفة.
وفي اعتقادي أن هذه المحاولة لن تفشل وأنها خليقة بأن تصيب النجاح عند جميع الطبقات بمستوياتها الثقافية واللغوية المتباينة، وعلى أية حال فالتجربة هي خير وسيلة للمعرفة الأكيدة والحكم الصحيح.