عودة الشباب
تعرض الفرقة القومية الآن بمسرح الأزبكية مسرحية «عودة الشباب» لتوفيق الحكيم، وهي ليست مسرحية جديدة لأن توفيق الحكيم كتبها منذ سنوات ونشرها في المجلد الضخم «مسرح المجتمع» باسم «لو عرف الشباب»، وإنما الجديد هو أن توفيق الحكيم قد ترجمها من الفصحى إلى العامية ترجمة شبه حرفية وغيَّر عنوانها.
بل إن المسرحية ليست جديدة في فكرتها على توفيق الحكيم نفسه؛ لأنه كان قد سبق إلى علاج نفس الفكرة، ولكن على نحو أكثر نجاحًا في مسرحيته الأولى الكبيرة «أهل الكهف»، فكلتا المسرحيتين تقوم على فكرة واحدة هي محاولة الإفلات من إطار الزمن، ثم تدبُّر النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك، وفي النهاية عودة إلى ذلك الإطار خوفًا من هول تلك النتائج، وتسليمًا بحتمية التزام كل كائن بشري مكانه في الصف، وإلا تعقدت الحياة بل وفقدت مضمونها.
فمسرحية «أهل الكهف» تقوم على فكرة دينية خارقة هي نوم أهل الكهف وكلبهم قطمير، ثم صحوهم من هذا النوم الطويل وما ترتب على هذا الصحو من نتائج، حيث وجد كل منهم أن الحياة لم يَعُد لها معنى بعد ذلك؛ لأن الحياة ليست جوهرًا في ذاته، بل هي مجموعة الروابط والعلاقات التي تقوم بين كل منا وبين ما يحوطه من ناس وأشياء، فهذا واحد من أهل الكهف صحا يبحث عن بيته فلا يجده بل يجد مكانه سوقًا عامة، وهذا آخر يبحث عن غنمه فلا يجدها، وهذا ثالث يلقى فتاة فيحسبها حبيبته الأولى ولكنه لا يلبث أن يتبين أنه قد شُبِّه له، وهذه كل مظاهر الحياة ووسائلها قد تغيرت بما فيها النقود التي كانوا يتعاملون بها. وعندما تيقن أهل الكهف من أن الحياة التي يعرفونها قد ماتت فعلًا، لا يرون بدًّا من أن يعودوا هم بأنفسهم إلى الكهف ليستأنفوا نومهم الأبدي، بل ويُلحقوا بهم الكلب قطمير في ذلك؛ لأن هذا القانون العام لا ينطبق عليهم وحدهم، بل ينطبق على الحيوانات أيضًا التي قُدِّر لها أن تلتزم هي الأخرى مكانها في الصف، وإلا فقدت حياتها كل معنى بل وكل طاقة على الاستمرار.
ومسرحية «عودة الشباب» تقوم على فكرة علمية خارقة أو لا تزال خارقة حتى اليوم، هي اكتشاف عقار يعود بالإنسان إلى الخلف، أي يرد الشيوخ إلى الشباب، وبذلك يخرجهم هو الآخر من إطار الزمن، وإن يكن خروجهم هذه المرة إلى الخلف لا إلى الأمام كما خرج أهل الكهف، ولكن النتيجة في الحالتين واحدة وهي الخروج من الصف، ثم محاولة تدبُّر النتائج التي قد تسفر عن ذلك، وما تؤدي إليه هذه النتائج من عودة أيضًا إلى الصف كما عاد أهل الكهف تمامًا؛ لأن توفيق الحكيم التعادلي المسالم المحافظ ليس في طاقته ولا في مزاجه ما يدعوه إلى دفع شخصياته نحو الصمود في مثل هذا التمرد على إطار الزمن أو رتابة الزمن؛ ولذلك نرى الشيخ الذي يرده العقار إلى الشباب في هذه المسرحية، يعود راضيًا بل متلهفًا إلى شيخوخته كما كان ليرديه الموت على خشبة المسرح يوم استدعائه لتأليف الوزارة.
ومسرحية «أهل الكهف» استطاعت القصة الدينية التي رواها القرآن عن تاريخ المسيحية في أيام اضطهادها الأولى — كما روتها الكُتب المسيحية — أن تمد توفيق الحكيم بهيكل متناسق للأحداث، بينما لم يجد توفيق مثل هذا الهيكل عندما كتب «عودة الشباب» فاضطرب هذا الهيكل بين يديه، حتى لنظن أول الأمر أن الدكتور طلعت قد أعطى صدِّيق رفقي باشا الشيخ الفاني حقنة من إكسير الحياة الذي أعاد إليه شباب العشرين، وتجري أحداث المسرحية على هذا الأساس. حتى إذا أشرفت على نهايتها وأراد المؤلف لبطل مسرحيته أن يعود إلى شيخوخته كما كان لتجنب النتائج المسرفة التي رتَّبها المؤلف على العودة إلى الشباب؛ لم يجد توفيق الحكيم وسيلة إلى هذه الخاتمة غير انتقال مفتعل يعود بنا إلى مشهد الانقلاب الأول، حيث نعلم أن صديق باشا رفقي لم يأخذ حقنة إكسير الحياة، بل أخذ حقنة عادية ضد الجلطة القلبية، نام على أثرها نومة رأى فيها حلمًا تضمَّن جميع المشاهد التي عُرضت علينا منذ عودته إلى الشباب حتى صحوه وارتداده إلى الشيخوخة من جديد.
على أننا قد نستطيع التسليم بهذه الطريقة التي لم يكن لها من مبرر ما دام المؤلف قد أراد أن ينقلنا إلى عالم الخوارق العلمية، كما نقلنا من قبل في «أهل الكهف» إلى عالم الخوارق الدينية، وبخاصة وأننا اليوم في عصر المعجزات العلمية. ولكن الذي نستطيع التسليم به هو خروج المؤلف على كل منطق في دراسته للنتائج التي يمكن أن تترتب على المعجزة الأولى وإلا فقدت المسرحية كل قيمتها الذهنية، فالأديب المفكر من حقه أن يتخذ نقطة للبدء فرضًا خياليًّا يفترضه أو معجزة علمية أو دينية يتخيلها أو يسمع بها، ولكن من واجبه بعد إرساء هذا الفرض أن يلتزم منطق الحياة الدقيق ليستطيع بعد ذلك أن يقنعنا بأنه ليس في الإمكان خير مما كان، على نحو ما يريد توفيق الحكيم في مسرحيتيه المذكورتين.
وفي هذه الحقيقة يتلخص الفارق الكبير بين «أهل الكهف» و«عودة الشباب»، ففي «أهل الكهف» منذ أن صحا النوام لم يحدث إلا ما يتمشى أو يمكن أن يتمشى مع منطق الحياة، وكل ما أصاب أهل الكهف من اضطراب وحيرة جاء طبيعيًّا متمشيًا مع منطق الحياة ذاتها، وأما ما حدث بعد عودة صديق باشا رفقي إلى الشباب في «عودة الشباب» فأغلبه كاذب مفتعل لا يمكن أن يتمشى مع أي منطق، وإلا فما الداعي لأن يصاب الدكتور طلعت حرب بالجنون أو ما يشبه الجنون لمجرد أن عاد الشباب إلى الشيخ الفاني، مع أن هذه النتيجة كانت هدفه الأسمى من جميع أبحاثه العلمية هو وأستاذه الذي لم نره، وقد جرب الإكسير الجديد من قبل على عدد من الأرانب واغتبط بنجاح تجاربه عليها؟
ثم هل يُعقل أن تخفى شخصية صديق باشا رفقي بعد عودته إلى الشباب حتى على زوجته وبنته الشابة نبيلة؟ بل هل يُعقل أن تعود لصديق باشا رفقي حيوية الشباب العارم ثم تكبت حكمة الشيوخ هذه الحيوية بدعوى أن جسم صديق باشا وحده هو الذي عاد إلى الشباب دون روحه، بل دون أن يحدث على الأقل صراع بين حيوية الشباب وحكمة الشيوخ في نفسه؟! وباستطاعتنا أن نناقش في ضوء المنطق جميع الأحداث الأخرى التي تلت العودة إلى الشباب، مثل إعلان وفاة الباشا بعد تجمد أمواله في البنك وعجز ذويه عن التعرف عليه، وما من شك في أن هذه المناقشة لا بد أن تنتهي بنا إلى الجزم بأن مسرحية «عودة الشباب» ليست من نوع المسرح الذهني الجيد الذي حمدناه لتوفيق الحكيم في مسرحية «أهل الكهف»، بل هي مجرد «فانتازيا» غير متسقة الخيال فاقدة أهم أساس لمثل هذا المسرح الذهني الجيد، الذي قد تكون نقطة البدء فيه أسطورة أو معجزة، ولكنه لا بد أن يلتزم منطق الحياة في أدق خطواته حتى يستطيع أن يؤيد بعد ذلك ما يشاء من حقائق تلك الحياة وفقًا لمعتقدات المؤلف، عن طريق ما يسمِّيه المناطقة ﺑ «الدليل العكسي».
ومسرحية «عودة الشباب» نحس فيها بتخلخل البناء الفني، ويكفي للتدليل على ذلك ما نحس به في وضوح من أن الانتقال من فصل إلى آخر ليس انتقالًا طبيعيًّا بحيث ينبثق كل فصل عن سابقه ويُبنى عليه كما تُبنى اللبنة فوق الأخرى، بل نرى شخصيات المسرحية يدعو بعضهم بعضًا، أو على الأصح يحملهم المؤلف على أن يدعو بعضهم بعضًا إلى الانتقال من فصل إلى آخر، وبخاصة في الانتقال من الفصل الثالث إلى الفصل الرابع والأخير الذي افتعل فيه المؤلف الخاتمة، بحيث نسمع أحد الممثلين وهو صديق باشا نفسه يدعو زملاءه إلى العودة إلى مكان المشهد الأول في منزل سعادته ليساعدوا الدكتور طلعت على استرداد عقله وتذكُّره كل ما حدث، وإذا بنا نُفاجأ لا بشفاء الدكتور فحسب، بل وبأن كل ما حدث لم يكن إلا حلمًا.
وأما عن الأداء التمثيلي فقد أحسست هذه المرة بأن فن التمثيل قد وصل عندنا إلى خير مما وصل إليه حتى اليوم فن التأليف المسرحي، فجميع مسرحياتنا المحلية نلاحظ أن ممثلينا ومخرجينا ينجحون غالبًا في أن يجعلوا منها شيئًا تروق مشاهدته، بينما لا يزال التأليف المسرحي يتعثر حتى بين كبار أدبائنا، ولعل السبب في ذلك أن فن التمثيل قد قَدُمَ به العهد في بلادنا وأخذت أصواته تثبت وتتضح، بينما لا يزال ما يمكن أن نسمِّيه بالأدب التمثيلي في أولى مراحله.