توفيق الحكيم في مهب الرياح
(١) المؤلف المسرحي والأساطير
لقد اغتبطت أيما اغتباط بما لاحظته من اهتمام النقاد بمسرحية إيزيس لأديبنا الكبير توفيق الحكيم، وإن كنت قد أشفقت عليه من تلك الرياح التي أخذت تتجاذبه هو ومخرج مسرحيته القدير الأستاذ نبيل الألفي.
وأنا لا أريد أن أناقش كل ما أثير حول هذه المسرحية من آراء كثير منها لا غناء فيه، وإنما أقف عند قضية عامة لا بد من إيضاحها لأنها لا تمس إيزيس وتوفيق الحكيم فحسب، بل تمس جميع المسرحيات والقصص التي يمكن أن يستقي أدباؤنا مادتها من الأساطير.
وهذه القضية هي إلى أي مدى يحق للأديب أن يغيِّر من وقائع الأسطورة فضلًا عن بعض مراميها؟ ويدعوني إلى مناقشة هذه القضية الهامة ما أبداه بعض نقادنا المثقفين ثقافة واسعة، مثل الدكتور لويس عوض، من آراء لا أستطيع أن أقره عليها، وأخشى أن تستقر في أذهان نقادنا الشبان.
وهذه الآراء تذهب إلى أن الأديب ليس من حقه أن يغيِّر من وقائع الأسطورة ولا أن يتصرف في دلالتها، على نحو ما فعل الأستاذ الحكيم عندما جعل إيزيس تحمل من أوزوريس فعلًا لا من روحه على نحو ما جاء في الأسطورة القديمة التي يرى فيها الدكتور لويس عوض شبيهًا بقصة العذراء، ويرى في إيزيس وأوزوريس وحوريس ثالوثًا يشبه الثالوث المسيحي المقدس المكون من الأب والابن وروح القدس، أو على نحو ما فعل عندما جعل حوريس هو الذي يُحاكم بدلًا من إيزيس كما ورد في الأسطورة القديمة، وجعل ماضيه هو الشعب لا إله الأعماق «توت» كما ورد في الأسطورة القديمة أيضًا. وفي الحق إني لا أدري إلى أي أساس يمكن أن يستند مثل هذا الرأي، مع أن الذي نعرفه جميعًا هو أن الأدباء العالميين لم يبيحوا لأنفسهم حق التصرف في الأساطير ودلالتها فحسب، بل وأباحوا لأنفسهم حق التصرف في التاريخ نفسه، حتى لنرى أكبر أديب فرنسي تخصص في كتابة القصص التاريخية وهو ديماس الأب، يقول في هذا الصدد: «التاريخ؟ من يعرفه؟ إن هو إلا مشجب أعلق عليه لوحاتي!»
وها هو برنارد شو لا يغيِّر في أحداث أسطورة بجماليون الشهيرة فحسب بل ويعرض عن جميع وقائعها، ليصوغ قضية جديدة من واقع الحياة لا تحتفظ من الأسطورة اليونانية القديمة إلا ببعض دلالتها.
فبجماليون في الأسطورة القديمة فنان صنع تمثالًا جميلًا لامرأة سمَّاها جالاتيه ثم راقه جمالها، فطلب إلى كبير الآلهة «زيس» أن ينفث الحياة في التمثال حتى يتزوج جالاتيه التي خلقها بفنه، ويتم له ما يريد، ولكنه يعود بعد ذلك فيندم على ما طلب، ويضرع إلى الإله من جديد أن يحيل جالاتيه إلى تمثال من جديد، وفي كل هذا رمز لِما يعانيه من حيرة وتردد بين الفن والحياة. وجاء برنارد شو الاشتراكي فجعل من بجماليون رجلًا من أرستقراطية لندن يتبنى بنتًا من السوقة ويتولى تربيتها وتهذيبها حتى أصبحت فتاة مهذبة تستهوي الفؤاد، وأحبها بوعي منه أو بغير وعي، وطلب الزواج منها، وفي كل هذا ما يرمز إلى أنه ليس هناك إنسان متخلف سوقي بطبيعته، وإنما المجتمع هو الذي يحكم عليه بالتخلف والسوقية، حتى إذا أتاحت له الظروف خروجًا من هذا التخلف والسوقية أصبح إنسانًا مهذبًا راقيًا سوي الفؤاد.
هذا هو ما فعله برنارد شو بأسطورة بجماليون، ومع ذلك لم نرَ أو نسمع ناقدًا يعيب شو لتصرُّفه في هذه الأسطورة على هذا النحو وإهداره وقائعها الأسطورية، بل رأيناهم يُجمعون على الإشادة بعبقرية شو وقدرته الخارقة على أن يستخدم الأساطير في عرض ما يريد من رأي ودلالة على نحو فني واقعي رائع، بل لقد سبق لي أنا نفسي أن أخذت على الأستاذ الحكيم منذ أكثر من عشرة أعوام أنه لم يستطع أن يعالج أسطورة بجماليون في مسرحيته التي استقاها منها علاجًا واقعيًّا، وأن يحيل شخصياتها الأسطورية إلى أناس ينبضون بالحياة وتتمدد أبعادهم النفسية والاجتماعية وقسمات حياتهم على نحو ما فعل شو مثلًا، وباستطاعة من يريد أن يراجع هذا المقال أن يجده في كتابنا «في الميزان الجديد».
وفي اعتقادي أن الأستاذ الحكيم قد استجاب لما وُجِّه إلى مسرحه الرمزي الذهني من نقد نزيه، وأنه قد تطور في إنتاجه الأدبي نحو الواقعية الحية التي دعا إليها أو على الأقل قد أخذ يعود إلى إنتاجه الواقعي الذي طالعنا به في مستهل إنتاجه الأدبي الخصيب في قصة «عودة الروح»، وجاءت مسرحية إيزيس دليلًا على هذا التطور أو تلك العودة إلى اتجاهه المبكر.
فتوفيق الحكيم في مسرحية «إيزيس» قد أراد — وله مطلق الحرية فيما أراد، بل وله الشكر على ما أراد — أن ينزل بالأسطورة القديمة من غياهب السماء إلى وضح الأرض، وهو لا يريد أن يرى في إيزيس إلهة خرافية تحمل من نسر يرمز لروح أوزوريس على نحو ما ترمز الحمامة لروح القدس في المسيحية، بل يريد أن يجعل منها المرأة المصرية كما كانت في عهد الفراعنة وكما لا تزال حتى اليوم على نحو ما أوضح في «عودة الروح»، حيث نرى باشمهندس الري يجمع الأدلة والبراهين ليثبت أن مصر القديمة لم تمت بل لا تزال حية في مصر الجديدة، وعلى أساس هذا الفهم لم يَعُد هناك مجال لأن نسأل توفيق الحكيم لماذا جعل من النقاب الذي ترتديه إيزيس مجرد حجاب تستتر به بدلًا من رمز للأسرار التي كانت تحتويها إيزيس في الأسطورة القديمة؟
ولقد حرص توفيق الحكيم نفسه على أن يلفتنا إلى وِجهة نظره التي اختارها في معالجة هذه الأسطورة، وذلك في تذييل ألحقه بمسرحيته المطبوعة قارن فيه بين إيزيس التي يرى فيها نموذجًا للمرأة المصرية، وبين بنيلوب التي جعل منها شاعر اليونان الخالد هوميروس في «الأوديسا» نموذجًا للمرأة اليونانية، وإذا كانت المرأتان متفقتين عند المؤلف المصري والمؤلف اليوناني في الوفاء للزوج وفاءً أمينًا كاملًا، فإن المرأة المصرية عند كاتبنا الكبير قد تميزت عن المرأة اليونانية الهوميرية بأنها امرأة إيجابية فعالة لا سلبية صابرة، فبينلوب اليونانية نراها ترفض الزواج من الخطَّاب الذين حاولوا إيهامها بأن زوجها لن يعود، ولكنها لا تقاومهم مقاومة إيجابية بل تلجأ إلى حيلة سلبية، فتعدهم بأنها ستختار منهم زوجًا بمجرد أن تنتهي من ثوب أخذت تطرزه، وكانت تنقض بالليل ما تطرزه بالنهار حتى تطيل الزمن لعل زوجها يعود، فرارًا من إلحاح الخاطبين. وذلك بينما المرأة المصرية عند توفيق الحكيم لا تقنع بالقرار في عقر دارها انتظارًا لعودة زوجها أو معرفة أنبائه، بل تخرج لتبحث عنه في شجاعة وتخوض في سبيله الأهوال وتقطع الفيافي والقفار، ولا ترهب الطاغية «طيفون» وأذنابه بل تجالدهم جميعًا في صلابة وحزم، وحتى عندما تفقد زوجها نهائيًّا لا يتسرب اليأس إلى قلبها بل تستمر في كفاحها وفي تنشئة ابنها حوريس حتى يبلغ أشده، وينتقم لأبيه، وينتزع المُلك من طيفون الطاغية المغتصب، وتستخدم في ذلك كافة السبل حتى نراها تحارب الشر في واقعية صامدة.
ولقد كان من المتوقع أن يصيب الأستاذ نبيل الألفي مخرج «إيزيس» ما أصاب مؤلفها الكبير توفيق الحكيم، فوجد نفسه هو أيضًا في مهب الريح، ولا غرابة في ذلك فموقف المُخرج من المسرحية قد كان شديد الشبه بموقف المؤلف من الأسطورة القديمة، وكما أن النقد قد حير الحكيم بين الواقع والرمز فإنه قد أنزل أيضًا نفس الحيرة بالمخرج.
ولما كان نبيل الألفي من شبابنا المجتهدين المثقفين، فإنه بلا ريب قد درس الأسطورة القديمة كما درس المسرحية التي طُلب إليه إخراجها وقارن بينهما، وأحس بما أراد المؤلف من إنزال وقائعها من غياهب السماء — كما قلنا — إلى وضح الواقع الحي، كما استقرت بنفسه بعض الرموز من ثنايا الأسطورة القديمة، وظهر كل هذا في طريقة إخراجه للمسرحية. وفي هذا تفسير لبعض ما لفظ به نفر من النقاد عندما انتقدوا مثلًا ظهور شبح أوزوريس في ختام المسرحية مطلًّا من السماء ليبارك روح جهاد زوجته الوفية إيزيس وابنه الناهض حوريس وانتصارهما، زاعمين أن آلهة المصريين القدماء لم يكونوا يطلون من السماء، وناسين أو متناسين أن المؤلف نفسه قد أراد — وله مطلق الحرية كما قلنا فيما أراد — أن ينقل الأسطورة إلى الحياة الإنسانية المعاصرة في وطننا الذي يؤمن بأن الأرواح تطل من السماء، وكذلك الأمر فيما حرص المُخرج على أن ينقذه من بعض رموز الأسطورة القديمة، مثل ذلك الرمز الجميل الخالد الذي يقول بأن الرجل الخيِّر لا يمكن أن يبتلعه الفناء، بل لا بد أن يخلد في آثاره، وقد أبرز المخرج الموهوب هذا الرمز عندما اختار شجرة عاتية إلى جوار قصر ملك بيبلوس، وإذ بنا نشاهد في داخلها ذلك الصندوق الذي احتوى أوزوريس عندما غدر به طيفون رمز الشر وأغلق عليه ذلك الصندوق وألقى به في مياه النيل ليبتلعه الفناء، ولكنه لم يَفْنَ ولا يمكن أن يفنى بل خلد في آثاره من نبت وخير، على نحو ما خلد من اليونان «بروميثيوس» الذي نقم عليه زيس لأنه أتى البشر بقبس من نار الشمس كرمز للحضارة ووسائلها المثمرة.