«السلطان الحائر»: بين السيف والقلم
لقد كنت آخذ على مسرح توفيق الحكيم الذهني أنه يُجري الصراع فيه بين ما يسمِّيه هو نفسه ﺑ «المطلق من المعاني» كالإنسان والزمن في «أهل الكهف»، والحياة والفن في «بجماليون»، والعقل والجسد في «شهرزاد»، والحقيقة والواقع في «أوديب الملك»، وأمثال ذلك من المجردات التي لا ننفعل بها ولا نحس بحرارة الحياة فيها، عاطفية كانت تلك الحرارة أم فكرية.
وعندما تحوَّل توفيق الحكيم بعد ثورتنا الأخيرة من المسرح الذهني الرمزي إلى الواقعي الحي المتجاوب مع ثورتنا العاتية في مسرحياته الكبرى الجديدة، مثل «إيزيس» و«الأيدي الناعمة» و«الصفقة»، فرحنا جميعًا إذ رأينا أديبنا الكبير يستجيب لثورة الشعب ويضع عبقريته الدرامية في خدمتها وتعميق مفاهيمها التقدمية الخيِّرة في النفوس.
ولكنني مع ذلك كنت لا أزال أتمنى أن لو استطاع أديبنا الكبير أن يضع طاقته الفذة في استخدام الرموز الذهنية في خدمة واقع الحياة الإنسانية المعاصرة، على نحو يمزج الرمز بالواقع فيُخرج لنا ما يصح أن نسمِّيه ﺑ «الواقعية الرمزية»، التي تجمع بين قوة الرمز وخلوده وبين واقع الحياة ومشاكلها الحية النابضة، حتى رأيت أخيرًا أحدث إنتاج لكاتبنا الفذ على خشبة مسرحنا القومي وهي مسرحية «السلطان الحائر»، فرأيت فيها أروع تحقيق للأمنية التي كنت أتمناها.
من المعلوم أن توفيق الحكيم قد كتب هذه المسرحية أثناء إقامته في باريس في الفترة الأخيرة ممثلًا لجمهوريتنا العربية المتحدة لدى هيئة الثقافة الدولية المعروفة باسم اليونسكو. وهو يقول في المقدمة القصيرة التي قدَّم بها مسرحيته للقراء إن الذي أوحى له بفكرتها هو ما أحسه أثناء إقامته في باريس من صراع دولي عنيف بين القانون ممثلًا في هيئة الأمم المتحدة، والقوة العسكرية ممثلة في القنابل الذرية والهيدروجينية، ولكن الفكرة في الواقع أوسع وأعمق وأشمل من الصراع الدولي الحاضر؛ لأنها أزلية خالدة لا ترتبط بزمان ولا مكان، بل هي مشكلة إنسانية خالدة خلود الإنسان والمجتمع القومي والدولي على السواء؛ ولذلك استحقت أن تُعالج على أساس الرمز. وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد اختار لتجسيدها أحداثًا تاريخية تبدو اليوم غريبة كل الغرابة عن عالمنا الإنساني المعاصر، الذي لم يَعُد يعرف رق الأفراد فضلًا عن رق السلاطين، كما كان الحال في وطننا مصر أثناء حكم المماليك عندما كان يتداول عليه رقيق معتَق بعد آخر، حتى جاء يوم ذاع فيه أن أحد السلاطين لم يعتقه سيده قبل موته فظل رقيقًا كما كان، والرقيق لا تجوز له الولاية شرعًا، فاحتار السلطان في البحث عن وسيلة لتصحيح وضعه الشرعي، وتردد بين إعمال السيف والخضوع للقانون؛ نقول إنه بالرغم من غرابة مثل تلك الأحداث على عالمنا العربي المعاصر، فإن غرابة هذه الأحداث لم تشغلنا في شيء عن جدية القضية التي تعرضها المسرحية وحيوية واقعيتها، فلا أهمية للطريقة التي خلق بها المؤلف هذه القضية وإنما المهم هو طريقة علاجها، والتصوير البارع لتلك الحيرة التي وقع فيها السلطان بين السيف والقانون. وإذا كان السلطان قد أرغمه قاضي القضاة الممثل للشرع والقانون على أن يخضع للقانون الذي قد يتحدى رغبات السلطان ولكنه يحمي في النهاية حقوقه، فإنه لم يلبث أن تبيَّن وتبين معه الشعب كله التحايل الذي يستطيعه ممثلو القانون أنفسهم على أحكامه، عندما رأينا قاضي القضاة يفتي ببيع السلطان كملك لبيت المال في المزاد العلني، مع اشتراط عتق المشتري له بمجرد رسوِّ المزاد عليه، بما في ذلك من تناقض جذري في نظر القانون نفسه، الذي لا يمكن أن يعلِّق الشراء على شرط التنازل عن الشيء المشترى، مما يتناقض جذريًّا مع عملية الشراء ذاتها، ولكن هكذا أفتى قاضي القضاة ممثل القانون.
وكم كانت سخرية الحكيم نافذة ورائعة عندما رأيناه يُرسي المزاد على غانية لم تقبل عتق السلطان إلا بعد أن يقضي معها في بيتها ليلة، على أن يكون العتق وقت ارتفاع صوت المؤذن بصلاة الفجر، وإذا بقاضي القضاة ممثل القانون يتدخل مرة أخرى لكي يجبر المؤذن على أذان الفجر في منتصف الليل. وهكذا أبرز الحكيم نكبة القانون نفسه برجاله القائمين على أمره، وقدَّم لنا الأساس القوي الذي يُبرز حيرة السلطان بين السيف والقانون، وكل ذلك في روح ساخرة لاذعة وحركة درامية حية ينفعل العقل بدلالتها، كما ينفعل القلب بمأساة البشر الذين لا يدرون أين وكيف الخلاص: أهو في السيف الذي قد يغري السلطان ولكنه يعرِّضه لأهول الأخطار، أم هو في القانون الذي يستطيع أن يحميه في النهاية وأن يحمي البشر أجمعين لولا العبث به والتحايل عليه خدمة للسلطان نفسه، مما يوقع البشرية البائسة كلها في دور كأنه حلقة مفرغة من النار الكاوية للحياة؟
ولقد خُيل إليَّ أن هذه المسرحية العظيمة قد تحوَّل فيها كل لفظ وكل موقف وكل شخصية إلى رمز كبير يرمز لحقيقة من حقائق الحياة العميقة الكاوية، كما خُيل إليَّ أن كل ممثل اشترك في أدائها قد فهم كل رمز من رموزها وأبرز معناه على نحو يحرك كل عقل، ويهز كل قلب شاهد هذه المسرحية التي أعتبرها بنصها وإخراجها وتمثيلها قمة تستطيع أن تصمد في المقارنة لأروع وأعلى القمم العالية في الأدب المسرحي على إطلاقه.