«السلطان الحائر»: بين الفن والتاريخ
بهذا العنوان كتب أستاذنا العالِم المحقق أمين الخولي بمجلة «المجلة» بحثًا جلَّى لنا فيه الوجه التاريخي للعالِم الإسلامي عبد العزيز بن عبد السلام المولود سنة ٥٧٧ هجرية في عهد صلاح الدين الأيوبي، والذي عاصر سائر سلاطين الدولة الأيوبية ونفرًا من سلاطين المماليك البحرية حتى توفي سنة ٦٦٠ هجرية ودُفن بالقاهرة. وكانت حياته مشاركة في الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية في الشام ومصر، ووُلِّي في دمشق والقاهرة جميعًا التدريس والإفتاء والقضاء، وصادم فيهما جميعًا السلاطين مصادمة قوية فعالة، وهاجر من دمشق إلى القاهرة بسبب هذه المصادمات سنة ٦٣٧ﻫ، وهمَّ بالهجرة من القاهرة بسبب هذا التصادم أيضًا فلحقه السلطان وترضَّاه.
وعدَّد أستاذنا مواقف بطولية كثيرة لهذا الفقيه الإسلامي الذي عُرف باسم «العز»، وكان لا يقبل مهادنة في أي مبدأ من مبادئ الشرع الحنيف حتى ولو استدعى الأمر مصادمة السلاطين وعلية القوم، وهذه الشخصية هي شخصية قاضي القضاة في مسرحية «السلطان الحائر» للأستاذ توفيق الحكيم، وفكرة هذه المسرحية مستمدة فيما يبدو من موقف تاريخي مشهور لهذا العالِم عندما تولى القضاء في مصر، وقد سجل أستاذنا الخولي هذا الموقف في مقاله كما ورد في المراجع التاريخية بقوله على لسان أحد المؤرخين الثقات: «فإنه لم يثبت عنده عن جماعة من أمراء الدولة من المماليك البحرية أنهم أحرار، بل هم أرقَّاء لبيت المال، فصمم على ألا يصحح لهم بيعًا ولا شراءً ولا زواجًا، فتعطلت مصالحهم وأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلسًا ويُنَادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي …» وبالرغم من أن هؤلاء الأمراء كان من بينهم نائب السلطنة، فإن هذا القاضي الصُّلْب صمم على تنفيذ رأيه، وعقد المزاد لبيع كل هؤلاء الأمراء وحصَّل القاضي ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير.
ويقابل أستاذنا الخولي بين الصورة التاريخية الناصعة لهذا القاضي الإسلامي الجليل وبين الصورة التي رسمها له توفيق الحكيم في مسرحيته، حيث ظهر أن القاضي لم يتمسك بمبادئه حتى النهاية بل قلق وبات الليل ساهرًا، وحرَّض المؤذن على أن يؤذن للفجر في نصف الليل، وانتهى به الأمر إلى الجلوس منكسرًا بجانب محفَّة السلطان، وقد أظهر المخرج هذا القاضي الجليل العز بن عبد السلام — فيما يرى أستاذنا الخولي — في صورة مجاذيب الباب الأخضر عند الحسين، فعلى رأسه شيء أشبه بالماجور، وعليه لفافة خضراء سمجة، وله لحية مسرفة الطول قبيحة.
وبالرغم من أن أستاذنا الخولي قد قرر في عمق ووضوح مدى حرية الأديب أو الفنان إزاء التاريخ وحقه في استكمال الصورة الفنية التي يختارها من أحداثه وإعادة تفسيرها واستخراج دلالتها، فإنه لم يستطع أن يُقر توفيق الحكيم على ما فعل بهذا القاضي الجليل العز بن عبد السلام هو والمخرج، ثم يقول: «وللعز بن عبد السلام في نفسي وفي التاريخ الصورة التي قدمتها، وأكتفي بأن أسأل: أهكذا أيها المؤلف …؟! أهكذا أيها المخرج؟!»
وأنا أقر أستاذنا المحقق على الحدود التي رسمها لحرية الأديب أو الفنان إزاء التاريخ عندما يلجأ إلى أحداثه، كما أشكر له بحثه الدقيق القيِّم عن تاريخ القاضي عبد العزيز بن عبد السلام، والصورة المشرفة التي صوَّرها لتلك الشخصية الناصعة، وكان باستطاعتي أن أقره على نقده للصورة التي تعاون الأستاذ توفيق الحكيم مع المخرج على إبرازها أمام الجمهور لهذه الشخصية الجليلة في مسرحية «السلطان الحائر»، ولكن الذي يمنعني من ذلك هو اختلافي الجذري مع أستاذنا المحقق أمين الخولي في النظرة إلى طبيعة هذه المسرحية.
فأنا لا أعتبر مسرحية «السلطان الحائر» مسرحية تاريخية بالرغم من أن المؤلف قد اختار لها إطارًا تاريخيًّا يقرِّب رموزها من الممكن ولذلك اختار لها فترة حكم المماليك، ولكنه لم يقصد قط إلى كتابة مسرحية تاريخية بالمعنى الدقيق المفهوم لهذا النوع من المسرحيات، وإلا لرأيناه يكتب أسماء شخصياتها بأسمائهم التاريخية الفعلية، وإذا كان البرنامج الذي أذاعه المسرح القومي في حفلات العرض قد أشار إلى حادثة القاضي العز بن عبد السلام وموقفه التاريخي المشهور من الحكام المماليك في عصره وتصميمه على بيعهم في مزاد الرقيق قبل أن يستردوا حريتهم وحقوقهم المدنية والسياسية، فإن هذه الإشارة لا تنهض ضد المؤلف، ولا ينبغي أن يُرتكز عليها في تحديد طبيعة هذه المسرحية التي أعود فأقول: إنني لا أعتبرها مسرحية تاريخية؛ لأن العبرة بما ورد في نصوص المسرحية ذاتها. وما دام المؤلف لم يورد اسم العز بن عبد السلام بالذات كما لم يورد اسم السلطان ولا غيره من الأسماء، بل اكتفى بتحديد الوظائف الاجتماعية لكل من شخصياته فجعلها السلطان وقاضي القضاة، فإنه بعمله هذا قد خرج من نطاق التاريخ وأصبحت له حرية مطلقة في التصرف في تلك الشخصيات الرمزية وفي الصورة التي يرسمها لكل منها وفقًا للهدف الذهني الذي قصد إليه.
فتوفيق الحكيم في مسرحية «السلطان الحائر» إنما يعالج مشكلة ذهنية قائمة في عصره وإن اتخذ لها إطارًا تاريخيًّا عامًّا يدني — كما قلنا — أحداثها من الممكن، والقضية كما يراها توفيق الحكيم في عصرنا الحاضر هي حيرة الإنسانية كلها وترددها بل وتخبُّطها بين القوة والقانون أو السيف والشريعة؛ وذلك لإحساس الإنسانية كلها بأن المناداة بالتمسك بالقانون والشريعة والاحتفاظ لهما بالكلمة العليا في توجيه مصاير البشر تمسُّك يلوح لنا اليوم في وضوح ظاهريًّا فحسب، إذ لا تلبث القوة أن تتسلل ببطشها وإرهابها وسلطانها الساحق إلى ضمائر الداعين إلى التمسك بالقانون والشرع فتتلفها؛ ولذلك لم يكن له بد من أن يصور قاضي القضاة رمز الشرع والقانون في هذه الصورة المتناقضة التي نرى مثيلاتها اليوم في العالم كله. وعلى أساس هذا المفهوم الذي أوضحه المؤلف في نصوص مسرحيته وأحداثها تصوَّر المخرج هذه الشخصية، وأبرزها في الصورة شبه الكاريكاتيرية التي تتفق مع سلوكها المتناقض الذي يتظاهر بالتمسك بالشرع والقانون ويصمم على بيع السلطان نفسه في المزاد وعتقه بعد ذلك لتصحيح وضعه كحاكم، وفي نفس الوقت يتحايل على الشرع ليعجِّل بعتق السلطان ويضمن له بقاءه في الحكم، على أن يستكين بعد ذلك بجانب محفَّته ظانًّا أنه قد أرضى ضميره بهذا التحايل الشكلي على الشرع والقانون. وتلك هي في صميمها المشكلة الكبرى التي تشعر بها الإنسانية اليوم حين ترى حقوقًا تُقرر للإنسان وللمواطن وللشعوب والدول، ومع ذلك كثيرًا ما لا نرى في تلك الحقوق غير أشباحها المضللة أو تنفيذها الصوري المفضوح.
وعلى هذا الأساس أستميح لنفسي أن أقول لأستاذنا العالِم المحقق إن كل ما أثبته في بحثه القيِّم صحيح، ولكنه صحته مرتبطة بالنظر إلى مسرحية «السلطان الحائر» على أنها مسرحية تاريخية، في حين أنها في حقيقتها ورغم إطارها التاريخي أو وحيها مسرحية رمزية ذهنية، وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن نأخذها بالأصول السليمة التي قررها أستاذنا للمسرحية التاريخية، وحدد في دقة الموقف الذي يجب على مؤلف هذا النوع من المسرحيات التاريخية أن يلزمه إزاء أحداث التاريخ وشخصياته الخالدة المعالم.