مسرح المجتمع
وأول ما لفت نظري وأنا أراجعها بعد ثلاثين عامًا بالتقريب، هو موقفي من حركة سفور المرأة التي نشطت في ذلك الحين، ذلك الموقف الذي يَنُمُّ عن خوف وقلق، وكان مصدر الخوف والقلق كما سجَّلته المسرحية راجعًا إلى ناحيتين: أثر السفور في فكرة الزواج عند الشبان من الجنسَيْن، وأثر الاختلاط السافر في الزوجية المستقرة وحياة الأسرة. وقد كان القلق والخوف على الشبان من أن ينصرفوا عن الزواج ما دامت المرأة قد خرجت لهم سافرة، وأن يجدوا في تقارُب الجنسَين وسهولة الاتصال بينهما ما يُطفِئ رغبةَ التلاقي عن طريق الزواج، كما كان الخوف والقلق من السفور في الأسرة واختلاط زوج هذه بزوجة ذاك أو بغيرها، أن يؤدي الأمر إلى انهيار الحياة الزوجية. وما من شك عند قارئ الحاضر في أن بعض تلك المخاوف لم يكن لها محل، فالأيام قد أثبتت أن سفور المرأة لم يؤثر في فكرة الزواج بصورة تدعو إلى الانزعاج، أما تزعزُع الحياة الزوجية العصرية من أثر الاختلاط فقد يكون موضعَ اعتذار، وإني أترك تقدير هذا الخطر ودرجته للمَعْنيين بالإحصاء الاجتماعي في مجتمعنا الحديث. على أن من الإنصاف لحركة المرأة الجديدة في ماضيها وحاضرها أن نعترف بأن الكثير من مخاوف اللحظة قد لا تحقِّقه ظروف الغد، فالتندر على مطامع المرأة السياسية اليومَ قد يكون تجنِّيًا مُسرِفًا عندما نرى في المستقبل أن الأوضاع الجديدة قد استقرت دون أن يقع مما توهَّمنا شيءٌ ذو خطر، لقد تعوَّدنا اليومَ منظرَ المحامية والصحفية والأستاذة والموظفة، وما من شيء يمنع من تعوُّدنا غدًا منظرَ النائبة والشيخة والوزيرة، كثير من أفكارنا الحاضرة سيبدو غريبًا في عين المجتمع الذي سيُولَد بعد ثلاثين عامًا.
هذا هو ما يقوله توفيق الحكيم في تبرير موقفه من المرأة في مسرحية «المرأة الجديدة»، ومن الواضح أنه يعتذر في المقدمة أو يكاد يعتذر عن ذلك الموقف الذي أثبت التطور الاجتماعي في بلادنا عدم صحته.
ونحن بالبداهة لا نعارض بل نحبذ معالَجةَ الأديب لقضايا عصره، حتى ولو كانت قضايا تبدو عارضة موقوتة، بل ولا نخشى على مثل هذا الأدب من الفناء لزوال المشاكل التي يعالجها، والآدابُ العالمية مليئةٌ بالروائع التي صدرت عن مُلابَسات العصر، ومع ذلك ثبتت على الزمن وأصابت الخلود؛ لأن أصحابها أيَّدوا فيها القضايا الإنسانية الخالدة أو المتمشية مع تطور الزمن وتقدُّمه المستمر، وكأنهم يستشرفون خُطى المستقبل الصاعد، حتى أصبحت أعمالهم الأدبية من معالم زحف الإنسانية المستمر نحو التقدم والتحرر والتحضر، على نحو ما زلنا نطالع في خطب زعماء الوطنية الخالدين، من أمثال ديموستين وروبسبير ومصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهم، بينما ابتلع الزمن — أو كاد — خُطبَ مَن هادَنوا أعداء الوطن أو سلَّموا في حريات الشعوب وقضاياها التقدمية، فأصبحت تلك الخُطب لا تُقرأ إلا كمجرد وثائق تاريخية ميتة لا يحفل بها إلا المؤرخون، ومن هذا النوع مسرحية «المرأة الجديدة» التي يعترف مؤلِّفها نفسه بأن الزمن القصير قد تخطَّاها وأثبت خطأَ موقفِ المؤلِّف من القضية التي تعالجها.
وواضحٌ ما في هذه الافتراضات من مغالَطة، فالمرأة الجديدة كالمرأة القديمة لا يمكن أن تنفر من الحب أو ترفضه قانعةً بالصداقة، والمرأة الجديدة ليست من البَلَه بحيث تسلِّم زوجها لأية امرأة أخرى بغفلتها المسرفة، والزواج الذي تريده المرأة الجديدة لا يمكن أن نفكِّر في أن تصل إليه بمثل هذه الطرق الاحتيالية الهابطة. ونحن لا ندري من المسرحية كيف ذهبت ليلى إلى شقة سليمان بك مقتحِمة، ولا لماذا ذهبت على وجه التحديد، كما أننا لم نتبين بوضوح كيف تعلَّق سامي بليلى، وعلى أي نحوٍ صادَقَها واختلط بها، كما أننا لا ندري سر اقتحام عدد من الشخصيات الأخرى في هذه المسرحية، مثل شخصيات علي وشاهين صديقَيْ محمود بك اللذين لم نتبيَّن لهما دورًا واضحًا في تطوير أحداث المسرحية، مما يبرِّر قولنا بتفكُّك بنائها الدرامي، كما أننا لا نطيق صبرًا على ذلك اللعب الطويل في الحوار على «شقة» حياة سليمان بك وأثاثها والشقة التي يستأجرها، مما يقطع بأن الحكيم لم يكن قد وصل بعدُ إلى تلك المهارة الطبيعية الفائقة التي أدار بها حواره في مسرحياته اللاحقة بعد نضجه الفني، تلك المهارة التي حملت النقَّاد على أن يُقِرُّوا للحكيم بتفوُّقه الظاهر في كتابة الحوار بطريقة سَلِسة طبيعية تُدنِيه من واقع الحياة وتلقائية الفكر.
المرأة الجديدة
ومن الغريب أننا نلاحظ أن معظم المسرحيات الأخرى التي عالَجَ فيها توفيق الحكيم قضية المرأة الجديدة تبدو غير مُقنِعة وقائمة على مغالَطة منطقية، فمسرحية «جنسنا اللطيف» ذات الفصل الواحد، التي كتبها الحكيم في عام ١٩٣٥ بناءً على طلب السيدة «هدى هانم شعراوي» لِتُمثَّل في دار الاتحاد النسائي، تتلخَّص فكرتها في أن مجدية الطيارة وكريمة المحامية وسامية الصحفية يجتمعن على مصطفى زوج مجدية لكي يَحمِلْنَه قَسرًا على الطيران مع زوجته مجدية في رحلة إلى العراق. وهو إذا كان قد سخر في هذه المسرحية من الرجل، إلا أنه قد أظهر من ناحيةٍ أخرى ما يمكن أن تؤدي إليه نهضةُ المرأة وسيطرتها من العبث بمصير الرجل، وحمله على ما يكره أو ما ليس من شأنه ولا عمله، كالطيران إلى العراق، وهو الذي لا علاقة له بفن الطيران على الإطلاق.
وهو في مسرحيته «النائبة المحترمة» المنثورة في مسرح المجتمع، يبدو غير مُقنِع على الإطلاق، فالمسرحية تقع في منظرَين؛ نرى في أولهما الزوجَ عبد السلام حمودة وهو يسهر إلى جوار طفله، بينما زوجته النائبة المحترمة مشغولة في البرلمان، وفي المنظر الثاني نرى النائبة المحترمة وقد عادت بعد طول انتظارٍ إلى بيتها، ولكنها لم تكد تعود حتى اتصل بها وزير الأشغال تليفونيًّا مستأذنًا في زيارتها، ويأتي الوزير فنعلم أنه قد أتى لكي يطلب إليها أن تعمل على أن يسحب نائبٌ زميل لها في الحزب استجوابَه للوزير عن مشروع جبل الأولياء، وفي أثناء ذلك يعلم الوزير أن زوجها عبد السلام أفندي موظفٌ منسي بالدرجة الخامسة في وزارته، ويلمِّح للنائبة المحترمة بمساوَمتِها على ترقيته إذا استجابت لطلبه، ولكن النائبة ترفض أن تخون مبدأها وحزبها في سبيل ترقية زوجها المنسي، وبذلك ينتهي الموقف فيما كنا نتوقَّع، ولكننا لا نلبث أن نُفاجَأ في نهاية المنظر بالنائبة المحترمة تُعِد استقالتها من المجلس دون أن نتبيَّن سببًا لهذه الاستقالة، ودون أن نقتنع بأن مثل هذه المساوَمة تقتصر على المرأة النائبة، ولا يشترك في أمثالها النواب من الرجال الذين كثيرًا ما كانوا يساومون الوزراء على ترقية قريب أو نسيب، وبذلك يضيع الهدف الذي قصد إليه المؤلف إذا كان هذا الهدف هو معارَضته لاشتغال المرأة بالسياسة أو دخولها البرلمان، متابعة لفلسفته العامة المُمعِنة في المحافَظة من الناحية الاجتماعية، بل فلسفته العامة في الحياة التي ترى أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، ولا خير للإنسان في أن يحاول تغيير حاضره أو مجالَدة الزمن على نحوِ ما سوف نرى بالتفصيل عند حديثنا عن مسرحه الذهني.
والشيء الغريب حقًّا هو أن توفيق الحكيم لم يصوِّر علاقة الفنان بالمرأة، وحيرته بين المرأة والفن، على نحوٍ يبدو معقولًا ومُقنِعًا إلا في مسرحية ذهنية، ومن خلال أسطورة إغريقية قديمة هي أسطورة «بجماليون» التي كتبها سنة ١٩٤٢؛ أيْ قبل زواجه ببضع سنوات، وفي فترة متقدمة من عمره، يلوح أن أزمته النفسية بالنسبة للمرأة كانت قد بلغت فيها أقصاها، فهو يتقدم في السن ويزداد إحساسه بحاجته إلى المرأة وحنوها، وهو لا يزال خائفًا من المرأة مزعزعَ الثقة متمسكًا بالأسطورة التي خلقها عن نفسه كعدو للمرأة، ومع ذلك راغب فيها متشوِّق إليها، وإن حاول عبثًا أن يُسكِت نزعات روحه باسم الفن وضرورة التفرغ له في برجه العاجي بعيدًا عن متاعب الحياة الزوجية ومشاغلها الممِضَّة. وفي هذه الفترة كتب مسرحية بجماليون التي نقتصر هنا على إبراز مضمونها، وعلاقة هذا المضمون بحياة توفيق الحكيم الخاصة، ونظرته إلى مشكلة العلاقة بين المرأة والفنان.
وتقول الأسطورة اليونانية القديمة إنه قد كان في بلاد اليونان نحَّات عبقري اسمه بجماليون، صنع يومًا تمثالًا رائعَ الجمال لفتاة اسمها جالاتيا، وراقه جمال التمثال حتى أحبه حبًّا يشبه العشق. ولا تقول الأسطورة طبعًا هل كان هذا الحب نتيجةً لظمأ جنسي عند الفنان، أم كان امتدادًا لذاته باعتبار أن التمثال من خلقه وجزء من نفسه يحبه كما يحب الإنسان ولده كامتداد لذاته. وتناوَلَ توفيق الحكيم هذه الأسطورة وأضاف إليها شخصياتٍ أسطوريةً إغريقية أخرى ليتخذ من مجموعها وسيلةً لتصوير أزمته النفسية، أو أزمة الفنان بوجه عام بالنسبة للمرأة، ويوضِّح الحيرة والتردُّد اللذين يمكن أن يُصِيبا الفنان، والنزعات المتعارضة التي تصطرع في نفسه، فزعم أن بجماليون قد طلب إلى كبير الآلهة زيوس أن ينفث الحياةَ في تمثال جالاتيا الحجري، ليتحوَّل إلى فتاة من لحم ودم تزوَّجَها بجماليون عن حب وهيام، ولكنه لم يلبث أن فُجِع في حبه عندما رأى جالاتيا تُعجَب بشاب مدلَّل بجماله الهيكلي الخاوي، وهو نرسيس، وتهرب معه تاركةً زوجَها الذي لا يزال مشغولًا بفنه، وتثور ثائرة بجماليون ويعذِّبه الشقاء، فيعود إلى الإله ضارِعًا أن يردَّ جالاتيا تمثالًا حجريًّا كما كانت، بل يبلغ به الغضب أن يحطِّم التمثال بعد أن استجاب الإله لرغبته، وكأنه ينتقم من هذا التمثال لأنه أثار غريزةَ الحياة في نفسه، وردَّه أول الأمر مقهورًا إلى المرأة.